الاحتكام إلى الشارع الفرنسي


فئة :  مقالات

الاحتكام إلى الشارع الفرنسي

السؤال الذي يطرح اليوم على المجتمع الفرنسي، هو أيّ أفق لنضاليته من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية التي تنادي بها الوسائط المدنية والنقابية والحزبية، في ظل المنزلق الخطير الذي يؤسس له الشارع الفرنسي، أمام ظهور وسيط جديد ممثل في أصحاب السترات الصفراء؟

في البدء، لا يمكننا إلا أن نقر بأن هذا الوسيط، قد عمل في أدبياته - وإن كانت غير منظمة بالشكل المطلوب، انسجاما مع واقع الفضاء التنسيقي المدني أو السياسي في فرنسا الأنوار- على رفع درجة منسوب المطالب الاجتماعية، باعتماد آليات الضغط الكبرى، التي لم تنحصر في العصيان المدني، أو الارتهان إلى المتعارف عليه في عاصمة الدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، ومنها الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، بل تجاوزت كل هذه الأدبيات، مفضلة الاحتكام إلى الفوضى، الخلاقة أو غيرها، ضدّا على المنظومة القانونية والمسطرية، التي طالما جعلت منها فرنسا، المنفذ الوحيد لتحقيق المطالب وإقرار الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية والمدنية، معتمدة في ذلك مسارها الانتقالي الديمقراطي المهم بعد الثورة الفرنسية، التي شكلت فترة تحولات سياسية واجتماعية كبرى في التاريخ السياسي والثقافي لفرنسا وأوروبا بوجه عام، وتركت نتائج واسعة النطاق من حيث التغير والتأثير في الدول والشعوب الأوروبية.

عملت حركة أصحاب السترات الصفراء على رفع درجة منسوب المطالب الاجتماعية، باعتماد آليات الضغط الكبرى مفضلة الاحتكام إلى الفوضى الخلاقة

وهي الثورة التي يبدو أنها بعيدة في أدبياتها عن تمظهرات الفوضى التي أحدثها أصحاب السترات الصفرات، التي جعلت فرنسا اليوم وتحديدا في عاصمتها باريس، مشدودة إلى حجم الخسائر المادية التي تعرضت لها محلات وواجهات شوارع الأنوار بعد يوم غاضب لأصحاب السترات الصفراء، المنتصرة للقيادة غير المنظمة، التي تنفي مسؤوليتها عن ذلك، رغم الاحتكام إلى النزول للشارع الذي يسجل الفعل مع سبق الإسرار والترصد.

إن الذهاب إلى عمق الإشكالية يعيد التساؤل حول المسارات الفعلية التي أسست لهذا الاحتكام، ويدفعنا بالفعل إلى تعميق السؤال والعمل على ضرورة طرحه، قبل التفكير بصوت عال مع شركائنا بفضاء الأنوار، في الدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان وسبل تحقيق الكرامة والعدالة الاجتماعية والحرية، عما العمل، وكيف يمكن الخروج من المأزق الذي يدعو إلى الكشف والمكاشفة في ملف اجتماعي دقيق وثقيل في الضفة الشمالية.

فهل الأمر يتعلق بضعف الوسائط الاجتماعية أو بتحديات مجتمعية لفرنسا الأنوار المنفتحة على مختلف الجنسيات، أم إن الأمر يتعلق بتحولات إقليمية ودولية، تجعل أوروبا، وفرنسا في قلبها مطالبة بتحديد فهمها وتصورها حول علاقة الأنا بالآخر داخل مجتمعها من جهة، وداخل المحيط الجهوي والإقليمي والدولي من جهة أخرى. في هذا المضمار، يجد مفهوم الهجرة واللجوء أهميته القصوى التي تتطلب إيجاد قوانين تنظيمية ملائمة، رهينة بعمل كل السلط التشريعية في دول العالم من أجل تفعل ميثاق مراكش للهجرة واللجوء الذي ينتصر لأهمية الإنسان واعتباره العمود الفقري لحل لكل الإشكاليات المطروحة، أم إن الأمر تحديدا يتطلب فهما جديدا للدولة والمجتمع، يعي فيه الجانبان أهمية إيجاد بدائل حقيقية وتصورات مجتمعية تعمل على رفع الحيف عن الطبقات الاجتماعية المتضررة، من خلال استصدار قوانين جديدة تعمل على تحقيق عدالة بين جميع الفرنسيين من مختلف الجنسيات.

قد تعيدنا هذه التساؤلات إلى ما يقارب العقدين الماضيين، عندما احتد النقاش حول الفهم العميق للديمقراطية وحقوق الإنسان، وهو الزمن الذي ارتكزت فيه النخب الفكرية والثقافية خصوصا - في أحيان كثيرة -على ثنائية الأنا والآخر والتقدم والتأخر، والدول المتقدمة والدول النامية، والشرق والغرب، والضفة الشمالية والجنوبية.

وإن كان البعض من هذه النخب، قد فطنت إلى الخلل في هذا التركيز الذي ارتمى في التقنية والمنهجية، حد التموقع في الأبعاد الأفقية للعلاقة بين الأنا والآخر، فإن نخبا أخرى رأت أن المسافة بينهما بإمكانها تحقيق التنافر والتباعد بين الجانبين، وهو ما اصطلح عليه بـ "صدام الحضارات" الذي يستبعد حوارها أمام حجم الاختلاف من جهة، وحجم المسافة الزمنية الفاصلة عن تقدم الآخر وتطوره، في ظل ما وصل إليه هذا الأخير من تطوير في مجال الصناعات في كافة الميادين.

أصحاب السترات الصفراء هي مجموعات تبلورت عن حركة ولدت من رحم مواقع التواصل الاجتماعي، ضد الزيادة في أسعار الوقود والضرائب المفروضة

إن كل هذه التساؤلات التي لا تغيب المعطيات التاريخية، لتستوقفنا عند عمق التحولات وأبعادها عندما تجد فرنسا الأنوار أمام تظاهرات أصحاب السترات الصفراء، لا تختلف عن شارع بورقيبة أو الميدان في مصر، ذات مرور غاضب لشباب عربي، تواق إلى عدالة اجتماعية بعدما أتقل كاهله، ووجد نفسه غير قادر على عيش كريم وسط التصاعد الصاروخي للقمة العيش. باريس الأنوار التي أسقط زجاج واجهات محلاتها، والتي لم تفكر يوما في إخفاء معالم جمال أحدث "الموديلات"، بعدما حرصت عاملة النظافة على تلميعها، لتعود مع صفوف التدافع لأصحاب السترات الصفراء كي تنتقم، ربما، من لمعان زجاجي، جعل من خشونة يديها ممرّا سهلا لتسريب الألم إلى كثفيها، ومنها إلى مختلف أعضاء جسدها.

وبناء على ذلك، فإن ما أطلق عليهم أصحاب السترات الصفراء - وهي المجموعات التي احتجت ذات صبيحة بقرية صغيرة تسمى "سين ومارن" في ضواحي باريس لتعم بعد شوارع عاصمة الأنوار ضد الزيادة في أسعار الوقود والضرائب المفروضة عليه، هي مجموعات تبلورت عن حركة ولدت من رحم مواقع التواصل الاجتماعي، ليصل عدد المحتجّين في أول يوم لها حسب وسائل الإعلام بنحو 300 ألف متظاهر في مئات المواقع والمدن، أهمها العاصمة الفرنسية باريس، وهم يرتدون سترات صفراء "حيث يتوجب وبموجِب القانون الفرنسي على جميع سائقي السيارات حملُ سترات صفراء في السيارة وارتداؤُها في حالات الطوارئ"، معلنين عن مطالبهم بتجميد الضرائب التي يعتبرونها مضرة بالطبقة العاملة، كما عن استيائهم من التفاوت الاقتصادي والاجتماعي.

لقد سجل نوفمبر السنة الماضية، في فرنسا، إعلان الحقيقة، التي طالما اعتقدت فرنسا أنها لا تدخل في دوائرها، والمتعلقة بالاحتكام إلى الشارع بحجم العنف الذي تصاعد حد الانفلات، عندما أذهلت، الحركة النخب الفرنسية المنظرة للضفة الجنوبية بقراءات الصالونات أن الجنوب جنوب والشمال شمال، من خلال تمكن أصحاب السترات الصفراء من إشعال فتيل المظاهرات في فرنسا لتمتد إلى والونيا وبعض الأجزاء من دولة بلجيكا.

ولم يكن أبطال الحركة إلا هؤلاء الذين طالما عبروا بالقوانين المتاحة عن الضرر الذي لحقهم، لكن برهنوا وبالفعل الملموس أن حجم القرارات التي مسّت القدرة الشرائية للمواطن الفرنسي، لم تضع في الاعتبار أن تفاقمها وتصاعدها لسد الخصاص الاقتصادي الذي ألقى بظلاله على أوروبا منذ الأزمة المالية التي عمت العالم وأوروبا على الخصوص، سيؤشر عن ثورة دفينة ليس بالضرورة أن تنهل من قواعد اللعبة السياسية أو المدنية التي اشتغلت على العمل المؤسساتي في ظل الانتقالات التي عرفها البلد بعد الثورة الفرنسية، مما يستدعي الوعي بدقة المرحلة وراهنيتها، وضرورة تغيير الرؤى التقليدانية في تحليل أوضاع الشعوب وحراكها، واحتجاجها، غير الآبه بأن هناك حدودا لتنظيمه، وهو ما سجلته بالفعل شوارع باريس الأسبوع الماضي، عندما اختارت أن تجعل من نهاية أسبوع له دلالاته القيمية في حياة الفرنسيين إلى يوم بدلالات مختلفة، جعلت من بعض الفرنسيين، الساكنين في مربع الأنوار باطمئنان كبير، يقرون أن الظلام سيبدد هذه الأنوار، بإطفاء آخر مصباح في شوارعها.

وهو الواقع الذي وقفنا عن قرب، عند حدته، عندما اندلعت اشتباكات بين متظاهري السترات الصفراء والشرطة الفرنسية في العاصمة باريس، حيث أطلقت الشرطة الغاز المسيل للدموع لتفريق المتظاهرين الذين يحتجون على عدد من سياسات الرئيس إيمانويل ماكرون، لكن أصحاب السترات الصفراء اختاروا في مشهد رهيب، أن يجعلوا من مرورهم بين مبنى الجمعية الوطنية وبرج إيفل، مرورا ببصمات العنف التي حولت شوارع باريس المعنية إلى باريس الجديدة، التي تضع أقدامها في ممرات الفوضى والعصيان المدني، وتؤسس لتوسيع الهوة بين من يدعون إلى تطبيق القانون لردع قيادات الحراك، وبين من يدعون إلى تحكيم العقل بفتح حوار جدي وهادف للخروج من الأزمة، التي عمل الصامتون على خطورتها، إلى دفع الغاضبين إلى تحطيم واجهات المتاجر والمصارف وإحراق نحو عشر سيارات، بينها سيارة تابعة لقوة مكافحة الإرهاب، هؤلاء اللذين علقوا على خروج وزير الداخلية الفرنسي كريستوف كاستانير، وتنديده عبر تويتر بـما سماه "الهجمات مرفوضة"، التي قال عنها إنها تثير الاشمئزاز والقرف، بالقول إن "وزير الداخلية عاشق للتعبير من أعلى برج إيفل، وإن حدود نظره لا تصل إلى ما وقع في تولوز وبوردو وديجون وكاين، ومرسيليا، ومونبيلييه، وميتز، وليل، وسانت إيتيان، وإن موقعه لا يمكنه من تفهم كل تلك الشعارات التي لا يمكنها إلا أن تختار الأسوأ في غياب حوار جدي يؤسس لأجندة واضحة ترفع الحيف الذي لحق الحق في العيش الكريم، كما تعود على ذلك صناع ثورة الأنوار". ليظل السؤال عالقا أمامنا هل بالضرورة أن نبني أسوارا بيننا، عندما يشتد الغضب أم إن الأمر يتطلب حوارا بين كل ضفاف العالم انتصارا لمفهوم الإنسان التواق إلى تحقيق العدالة الاجتماعية والكرامة والعيش المستحق، برفع الظلم عن المجالات في كافة بقاع العالم.