التطرّف الديني من منظور ثقافي


فئة :  مقالات

التطرّف الديني من منظور ثقافي

تثير مسألة "التطرّف" عدّة إشكاليات تتعلّق بدلالات هذا المصطلح وسياقاته الثقافيّة والسياسيّة وخلفياته الصريحة والضمنيّة، ولعلّ ما زاد في ضبابيّة هذا المفهوم كثرة استعماله وندرة ما كتب فيه من بحوث علمية دقيقة، فكثرة الاستعمال قد تفقد المصطلح دلالاته ومعانيه المخصوصة. فمنذ عقود من الزّمن والنّاس غرباً وشرقاً يتحدّثون عن التطرّف، ويقترحون التعاريف، ويصنّفونه إلى أنواع وأقسام، ويحذّرون منه ويبحثون عن حلول لتجاوزه وتذليل الصعوبات المتعلّقة به، ولكن ما المقصود بالتطرّف؟

التطرّف عند أهل اللّغة الوقوف في طرف الطريق والابتعاد عنه، وتطرّفَ في أفكاره بالغَ فيها، ويقابله في هذا المستوى من الدلالة التوسّط. فالتطرّف موقف انفعاليّ تجاه الثقافة والجماعات والأفراد، وهذا الموقف غالباً ما يكون عدائيّاً. ولكن قبل أن نتعمّق أكثر في دلالات التطرّف، لا بدّ أن نتحدّث عن المستويات الممكنة للتطرّف، فقد يشمل هذا السلوك الأفراد والجماعات والمؤسسات والحكومات، كما يشمل عدّة مجالات تتعلّق بالدّين والفكر والسياسة والاقتصاد، ولعلّ أهمّ هذه المجالات ما تعلّق منها بالتطرّف الدينيّ وما ارتبط به من خلفيات ثقافية، فالتطرّف الدينيّ أصبح حديث الساعة، وتحوّل إلى شبح مفزع يخيف المسلمين وغيرهم على حدّ سواء، وازداد التطرّف الدينيّ شيوعاً وانتشاراً بعد ثورات الربيع العربيّ، وما لحقها من تغيّرات اجتماعية وسياسيّة وما نتج عنها من فوضى، وانتهى الأمر بظهور حركات دينيّة متطرّفة في تونس وليبيا وسوريا والعراق، تقتّل النّاس وتدمّر العمران والمعمار، وتحرق المزارع، وتقطّع الرؤوس، وساهم التطرّف الدينيّ الرّاهن في تشكيل صورة قاتمة عن الإسلام والمسلمين انعكست أساساً في وسائل الإعلام الغربيّ، واستُغلّت هذه الصورة من قبل أطراف سياسية متطرّفة في أوروبا وأمريكا لتشويه صورة الإسلام وتنفير الناس منه.

ولنا أن نعترف منذ البداية أنّ التطرّف الدينيّ يعكس أزمة خطيرة عاشها الفكر الإسلاميّ (ومازال)، وآية ذلك أنّ "نشوء التطرّف لا يأتي من فراغ، بل هو نتيجة خلل ما يصيب منظومة القيم والمبادئ التي تحكم العلاقة الإنسانية في بعض وجوهها"[1]، وهذا يعني أنّ التطرّف حركة تمرّد على "المنوال النموذجي" الذي يوجّه ثقافة الشعوب وجهة متوازنة ومطمئنة، ولئن كانت المجتمعات المتقدمة راسخة في مناويلها المرجعيّة، فإنّ المجتمعات الإسلامية تعيش مخاضاً ثقافياً وتحوّلات اجتماعية وسياسية عصيبة، وهذا الأمر يجعل من المنوال المرجعيّ هشّاً غامضاً قابلاً لعدّة تأويلات، ويجعل من الهويّة المنبثقة عنه هويّة مضطربة وعنيفة وربّما قاتلة في بعض الأحايين. وعلى هذا الأساس لا يمكن الفصل بين مسألة "التطرّف" وإشكالية الهويّة. وما التطرّف في حقيقته إلاّ تحوّل في طبيعة الهويّة ذاتها، إذ تحوّلت من هويّة مبدعة تبحث عن سبل الحياة إلى هويّة قاتلة تجلب الدمار والخراب، وآية ذلك "أنّ الهويّة يمكن أيضاً أن تقتل وبلا رحمة"[2]، إذ قد ينتج عن بعض الهويّات فكر دمويّ وخطاب إقصائيّ وعنف رهيب، و"النزاعات الوحشية قد تتغذّى من وهم الهويّة"[3]، ولكن كيف تستحيل الهويّة مجالاً للتطرّف؟ وكيف تحوّلت الثقافة الإسلامية من ثقافة حياة وإبداع إلى ثقافة موت وشقاء؟

اقترن التطرّف في الثقافة الإسلاميّة قديماً وحديثاً بما يسمّيه روّاد علم الاجتماع الثقافي بالتخلّف الثقافي الذي يعني أنّ "البناء الثقافيّ لم يعد متماسكاً كما كان من قبل، ومن ثمّ تنعكس آثاره على كفاءة تأديته لوظيفته في إشباع حاجيات أفراد المجتمع"[4]، وتصبح ثقافة المجتمع معتلّة ومختلّة.

دخلت الحضارة الإسلامية في دائرة مغلقة فأقفلت أبواب الاجتهاد، وأحكمت غلقها، فساد الاتباع الساذج والتقليد الأعمى، وهيمن الجهل والتخلّف، وانقطع التواصل، وانغلقت كلّ مجموعة دينية على نفسها، تعيد صياغة مقولاتها تلخيصاً وشرحاً وتهميشاً[5] دون تطوير أو تهذيب، وأصبح البناء الثقافي الإسلامي مختلاً مضطرباً لا يفي بحاجيات معتنقيه من أبناء مختلف المجموعات الإسلامية، وهذا ما يفسّر شيوع حالات التمرّد على المؤسّسات الرّسمية الدينية والسياسية، وهذا التحليل المبدئي قد يساعدنا على الإجابة عن سؤال ينتابنا دائماً يتعلّق بوجود مفارقة غريبة بين إجماع علماء المسلمين ومراجعهم على حرمة تكفير أهل القبلة وانتشار ثقافة التكفير بوتيرة تصاعدية تدعو إلى الحيرة والرهبة، وعلى هذا الأساس يكون خطاب التكفير وجهاً من وجوه هذه الأزمة الثقافية وعلامة من علامات الأمراض الاجتماعية المطروحة على الساحة الإسلامية، بل لعلّه أخطر هذه الأمراض وأشدّها فتكاً، لأنّه يدمّر المجتمع من الداخل ويعزله عن محيطه الخارجي في الآن ذاته.

شهدت الثقافة الإسلامية انزياحاً خطيراً، فتحوّلت من ثقافة تقوم على الاختلاف والتعدّد والتنوّع واحترام الآخر إلى ثقافة متوحشة ترفض الآخرين ولا تؤمن إلاّ بطريق واحد للخلاص وتحصيل الثواب، وزعم كلّ فريق أنّه الفرقة الناجية التي اختارها الله دون بقية الخلق لتمثّل الحقيقة المطلقة وتظفر بالجنّة وحسن المآب، وقد أكد بعض الباحثين أسطورة الفرقة النّاجية وارتباطها فحسب بالذّاكرة الدينيّة المذهبيّة، فقد انتقد محمّد أبو زهرة حديث "الفرقة النّاجية" أشدّ انتقاد وتحدّث عن تداعياته السلبيّة في مختلف العصور الإسلاميّة، واجتهد عبد المتعال الصّعيدي في دحض هذه المقولة وتصحيحها معتبراً أنّ كلّ الفرق الإسلاميّة ناجيّة ومعنيّة بالخلاص[6]، وبناء على ذلك لا يمكن الوثوق بهذا الحديث والتسليم بمعانيه[7].

ولعلّ من أخطر تداعيات هذا الحديث ظهور ظاهرة الغلوّ في التعصّب المذهبيّ والطّائفي وانتشار ثقافة التكفير والتفسيق والتبديع، ولكنّ المشكلة أنّ التعصّب لم يكن غير تعصّب لرجالات المذهب وأصحابه، وهو ما يعني أنّ "التعصّب للمذهب هو تعصب للفرد، تعصّب لصاحب المذهب بالذّات لا تعصّب للإسلام، ولا لمبدأ من مبادئه"[8]، وقد يستحيل التعصّب عصبيّة، و"الدّعوة إلى العصبيّة أيّا كان شكلّها ومظهرها هي الدّاء الدّفين الذي ذهب بوحدة الإسلام"[9]، دخلت الأمّة منذ غلق باب الاجتهاد في دائرة مغلقة تقوم على التقليد والاتباع وترفض كلّ تفكير وإبداع، وأصبح كلام الرجال لا يقلّ قدسيّة عن كتاب التنزيل، وانتشرت الفتاوى، وهيمنت على عقول النّاس ووجّهت سلوكهم وجهة مريبة أدّت في أغلب الأحيان إلى التطرّف والغلوّ فيه. واستفادت هذه الفتاوى من ثورة الاتصال في العصر الحديث، إذ سادت الفضائيات والمواقع الدينيّة التي تشجّع على التطرّف وتدعو إلى الكره والقطيعة بين المذاهب والأديان والجماعات، ولذلك ارتبط التطرّف الدينيّ بالتكفير، وعرفت عدّة حركات دينيّة بأنّها حركات متطرّفة وحركات تكفيرية، وليس من اليسير تناول مسألة التكفير في هذا المقام المخصوص، فهذا المبحث متداخل ومتعدّد المداخل، وعرف هو بدره مجموعة من الانزياحات الخطيرة وصلت حدّ تكفير المسلم الملتزم بتعاليم دينه بتعلّة التباين في الفكر والطرح.

إنّ محاولة ضبط سيكولوجيا التكفير ليس أمراً هيّناً، لأنّ المسألة معقّدة يتقاطع فيها السّياسيّ مع الدّيني ويتشابك فيها الذّاتي مع الموضوعي، وعلى هذا الأساس فإنّ دراسة ظاهرة التكفير في علاقته بالتطرّف الدينيّ تحتاج مزيداً من البحث الجدّي والمتعمّق يساهم فيه عالم الدّين والمفكّر وعالم النفس وعالم الاجتماع والأنثروبولوجي وخبراء التربية وإخصائيّو الإعلام والتّواصل. ولقد لاحظنا أنّ تناول بعض الباحثين المعاصرين لمسألة التكفير في الخطابات المعاصرة كان تناولاً عاطفياً عقديّاً بالأساس لا يقف عند الأسباب الحقّيقية ويحصرها في بعد مخصوص دون التعمّق في بقية الأبعاد، ولا يمكن إنكار الرّافد السّياسيّ قديماً وحديثاً لخطاب التكفير، لأنّ التكفير يولّد الفرقة، والفرقة قد تدفع النّاس عن التفكير في أمور الحكم والحاكم، ولكن من التعسّف أن نحصر المسألة في بعدها السّياسيّ أو الدّيني، بل هي تتجاوز ذلك لتتحوّل إلى مسألة ثقافيّة معقّدة نحتاج من أجل تمثّلها إلى تفكيك بنية المجتمع وتحليل نفسيته وإخضاعه إلى دراسة إجرائية جادة نرى إرهاصاتها عند بعض المفكرين المعاصرين.

أصبحت الثقافة الإسلامية بعد منع التفكير والاجتهاد ثقافة مأزومة كحال كلّ الثقافات المنغلقة على نفسها، ومن سمات الثقافات المأزومة المبالغة في تقديس الذات واحتقار الآخرين والتعصّب لآراء الجماعة ورجالاتها، والنزع نحو استعمال العنف بكلّ أصنافه، وكلّ هذه الصفات تتعلّق بطريقة أو بأخرى بمظاهر التعصّب.

أفرزت الثقافة الإسلامية القائمة على التقليد فكراً دينيّاً متطرّفاً يعتقد أنّ طريق الخلاص واحدة لا تتعدّد، والحال أنّ الإسلام واحد ومتعدّد، ومن سلك تلك الطريق ظفر بالإسلام وفاز بالجنة وكان مقرّباً من الرّسل والصالحين، ومن اتخذ طريقاً أخرى وتبنّى طرحاً دينياً مخالفاً، فقد ضلّ سواء السبيل وخرج عن الدين، وأبيح ماله وعرضه، وتصل إلى مسامعنا اليوم صيحات من هنا وهناك تحصر الدين في هذا المذهب أو تلك الجماعة أو ذلك الأمير، وتفرض على الناس ذلك المسلك، وتناست أنّ الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق، وأنّ رحمة الله تشمل خلقه كلّهم، فهو الرحيم الرحمن والغفور المنّان.

تعتقد الثقافة المأزومة أنّ الآخر شرّ كلّه، فهو المتآمر دوماً الحاقد دون ملل أو كلل، ولا بدّ أن ندافع عن هويتنا الثقافية والعقدية ضدّ هذا العدوّ الخالد المتربّص بنا، وعلى هذا الأساس عاشت الثقافات المأزومة أمراضاً عويصة تتعلّق بالذات وبالآخر في الآن نفسه، إذ صنعت هذه الثقافات لنفسها سياجاً ناريّاً ملغماً بالحقد والسخط والكراهية، وأوهمت نفسها بتشكيل هويّة لها لا تخصّ غيرها، ثمّ صنعت لكلّ مخالف في الدين أو المذهب أو الفكر صورة نمطية سلبية لا تعكس حقيقته ولا تيسّر التواصل معه، فكانت القطيعة وكان وهم التواصل ووهم الهويّة.

تنظر الثقافة المتطرّفة إلى الآخر بكلّ أصنافه نظرة خوف وتردّد وتشكّك وتحقير واستهزاء، فصاحب الفكر المتطرّف يعتقد أنّه يمثّل الحقّ كلّ الحقّ وأنّ غيره يمثّل الباطل كلّ الباطل، ولا توجد منطقة وسطى بين الوضعين، ولذلك يصنِّف النّاسَ إلى قسمين: مؤمن وغير مؤمن، فالمؤمن مَن قَبِل بأفكار الجماعة وآراء رجالاتها، بينما ينتفي الإيمان عن كلّ من رفض فكر الجماعة وإن كان مسلماً محسناً، وإذا كان هذا حال المسلم مع أخيه المسلم، فكيف سيكون الأمر مع من لا يلتزم بالدّين أو يعتنق ديناً آخر؟ ممّا لا شكّ فيه أنّ الأمر سيكون كارثيّاً، وهذا ما رصده العالم بأسره من خلال ما اقترفه أبناء تنظيم الدولة الإسلامية في الشام والعراق من جرائم ضدّ المسيحيين واليزيديين وغيرهم من أبناء الديانات الأخرى.

ينعكس التطرّف على نفسيّة معتنقه، فيظهر عن قصد أو دونه خوفاً مبالغاً فيه من الآخر، ورغبة لا توصف في الانتقام منه، كما يظهر تشدّداً في مواقفه وألفاظه وسلوكه، ويختار من الألفاظ ما يقزّم الآخر، فيلعن ويفسّق ويبدّع ويكفّر، ويجحد فضائل الآخرين فلا يذكرها أو يستهين بها، وإذا انتقده منتقد وجرّح في كلامه غضب غضباً شديداً، وأظهر خشونة في التعامل وفظاظة وأساء الظنّ به واعتبره عدوّاً متآمراً على الإسلام، ويعكس هذا السلوك غلوّاً حذّرناً من مخاطره الرسول الأعظم، إذ جاء في حديثه: "يا أيّها الناس، إيّاكم والغلوّ في الدّين، فإنّه أُهلك من كان قبلكم غلوهمّ في الدين"، وفسّر ابن منظور الغلوّ في الدّين بأنّه "التشدّد فيه وتجاوز الحدّ"، ويعني الغلوّ بهذا المعنى أن تجعل من اليسر عسراً، وأن تحوّل رحمة الدين إلى نقمة، وأن يقترن الدين بالفزع والخوف والكراهية والقتل والتعنيف، بعد أن كان يزرع بذور الأمل والأمن والسعادة والطمأنينة، كما يعني الغلوّ في التطرّف أن تجعل من الفروع أصولاً، وأن ترشّح فروع الفروع، فتسمو بها إلى مكانة مقدّسة، وتعتمدها فكراً إسلاميّاً رسميّاً، لا يمكن التشكيك فيه أو التقليل من أهميته، وفي هذا الإطار تندرج هيمنة "العقل الفقهي" في الثقافة الإسلامية، فالفقه علم الفروع، ويقوم على أساس الاختلاف والتعدّد، ولكنّه أصبح يمثّل الدّين وينافسه أحياناً، وأصبح المؤمنون يتعصّبون للمذهب الفقهي أكثر من تعصّبهم للدين في حدّ ذاته، فأسهم هذا الاهتمام بالفروع وفروعها في نشوء التعصّب الدينيّ، وآية ذلك أنّ أصول الدّين ومقاصده الكبرى واضحة ويكاد يتفق عليها المسلمون كلّهم، ولا نبالغ إذا قلنا إنّ مقاصد الإسلام تعكس قيماً كونية لا اختلاف فيها، فالإنسان مطلقاً يبحث عن العدل والأمن والحرية ويرغب في العلم والعمل ويتوق إلى حفظ النفس والعرض والمال.

وكلّما ابتعدنا عن الأصول والمقاصد التأسيسيّة واهتممنا بالفروع والهوامش فتعصّبنا لها، ازددنا اقتراباً من التطرّف الدينيّ، فالتطرّف يترعرع في بيئة فكرية لا أصول فيها ولا قيم، ويزدهر في ثقافة لا تهتمّ بالكونية، وتئد نفسها في منظومة فكرية محليّة مغلقة تستنفر الذاكرات وتتلذّذ بأحاديث العجائب والخرافات.

اقترن التطرّف بمجموعة من الظواهر الأخرى ارتبطت به، ودلّت عليه، استفادت منه وأثّرت فيه، وأصبح جزءاً منها، إذ ارتبط التطرّف بالتعصّب والعنف والإرهاب والجهل والظلم. فالتعصّب لغة "المحاماة والمدافعة" بمعنى "أن يدعو الرّجل إلى نصرة عصبيّته"[10]، ولا يعكس هذا المعنى اللغوي حقيقة الظاهرة التي ترتبط بالتطرّف، فالتعصّب للدين والدفاع عنه أمر طبيعيّ في عرف الأديان والحضارات، فـ "كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ"[11]، وذهب الشيخ محمّد الطاهر بن عاشور في تفسير هذه الآية مذهباً طريفاً جاء فيه: "الفرح: الرضا والابتهاج. وهذه حالة ذميمة من أحوال أهل الشرك يراد تحذير المسلمين من الوقوع في مثلها، فإذا اختلفوا في أمور الدين الاختلاف الذي يقتضيه اختلاف الاجتهاد أو اختلفوا في الآراء والسياسات لاختلاف العوائد فليحذروا أن يجرّهم ذلك الاختلاف إلى أن يكونوا شيعاً متعادين متفرقين يلعن بعضهم بعضاً ويذيق بعضهم بأس بعض"[12]، تخفي هذه الآية الكريمة عبرة، مفادها أنّ التعصّب للفكرة ورفض آراء الآخرين مطلقاً يؤدّي إلى دمار الجماعات وانقراضها، فالتعصّب بهذا المعنى يحجب الرؤية أمام المؤمنين، ويمنعهم من النظر إلى الآخرين والتعرّف عليهم والتواصل معهم، إذ "يميل المتعصّب إلى العنف وتتّسم شخصيته بالعدوان وعدم تقبّل العزلة الاجتماعيّة"[13]، ويبدو من المفيد فهم ظاهرة التعصّب من زاوية نفسية فردية وجماعية، فالثقافات المأزومة تنتج نفسيات مصدومة وغير سوية، فالتعصّب وضع غير طبيعي يتناقض مع العقل وخياراته الكبرى، ولذلك كلّ الثقافات تنتقد التعصّب، لأنّه يؤدّي بالضرورة إلى التطرّف والغلوّ، ويبدو أنّ هناك علاقة بين التعصّب والمرض العقلي، فالمريض ببعض الاضطرابات العقلية قد ينمو لديه اتجاه تعصّبيّ كتبرير لسلوكه المرَضي، فالتعصّب مرَض، ومن السهل أن يقع صاحبه بين براثن الإيديولوجيات العنيفة التي تنزع إلى الكراهية والقتل[14]، وهكذا ندرك أنّ التعصّب أحد أبرز مظاهر التطرّف الدينيّ، والغلوّ في التعصّب يجعل المتطرّف ناراً حاقدة تحرق الجميع بدون استثناء ولا تأبه بالحياة.

وإذا كان التحمّس للفكر الدينيّ والتعصّب لرجالاته لا يتجاوز حيّز الفكر، فإنّ السيطرة على التطرّف مازالت ممكنة، فالأفكار المريضة يمكن معالجتها بالفكر والوعي والثقافة البنّاءة، ولكنّ المشكلة تكمن في تحوّل الأفكار المريضة إلى ممارسات غير مسؤولة ترعب الناس وتدمّر البلدان وتفسد طعم الحياة، عندها يستحيل التطرّف إرهاباً وعنفاً، وتتحوّل الأفكار إلى دماء وأحزان، ويصبح الدّين مصدر رعب بعد أن كان رمز الأمن والحياة، ومن العبث أن نعتقد أنّ العنف سلوك فرديّ شخصي لا علاقة له بثقافة الجماعة، فالعنف "تراث اجتماعيّ، يتلقنه كلّ مجتمع وينقله وينشره"[15]، فالعنف ليس أفعالاً فحسب، بل هو أساساً خطاب يؤدّي إلى أفعال، هو أقوال فعلية كما يسمّيها اللسانيّون التطرّف، وهذا يعني أنّ التطرّف خطاب قبل كلّ شيء، يمكن رصده في الخطاب الديني فوق المنابر وفي القنوات والفضائيات الدينية، كما يمكن رصد خطاب التطرّف في الخطابات السياسيّة والنصوص الصحفية والبرامج الإذاعيّة السمعية البصرية والبرامج الدراسية والإبداعات الفنية. فالتطرّف الدينيّ ليس مجرّد موقف عدائي تجاه دين أو فكر أو شخص، بل هو صرح ثقافيّ تتآزر عدّة عوامل في بنائه وتوجيهه الوجهة المنشودة، وهذا يعني أنّ ظاهرة التطرّف ظاهرة مركّبة لا يمكن فهمها وحلّ ألغازها إلاّ من خلال عدّة مداخل.

ركّز القرآن الكريم على مبدأ "التعارف" باعتباره أسّ الحضارات وأساس التواصل بينها، ولكنّ المسلمين استبدلوا في عصور الانحطاط ثقافة التعارف بطبقات مظلمة من الجهل والتجاهل والتجهيل، إذ عاش المسلمون قرناً من الزمن في عزلة، لا تعرف الطوائف بعضها بعضاً، ولا تتواصل فيما بينها، وساد التطارح والتناظر، وانتشرت الفتن والحروب، وتشتّت المسلمون حتّى أصبحوا لقمة سائغة في فم الاستعمار، وعانت الذلّ والقهر بسبب تشتتها وجهل أهلها. ولذلك اعتبرنا التطرّف مسألة ثقافية معرفية بامتياز، ولا يمكن أن نهمل البعد السياسي في بناء ثقافة التطرف والتعصّب، ومردّ ذلك إلى أنّ "الصلة بين التعصّب الثقافيّ الأعمى والطغيان السياسيّ يمكن أن تكون وثيقة جداً، وعدم تماثل القوّة بين الحاكم والمحكوم"[16]، ونجد أنفسنا نتحدّث بالضرورة عن خلفيات التطرّف الدينيّ، وأساساً الخلفيات السياسيّة، وندرك من خلال قراءة التاريخ الإسلاميّ بمختلف حقبه دور رجال السياسة في تشويه معالم الثقافة الإسلاميّة وتوجيهها وجهة جديدة تقوم على الغلوّ والتعصّب والعنف، استطاع السّاسة أن يكرّسوا الجهل وينشروا الخرافات ويفتنوا بين النّاس، وعمّ الاستبداد والقهر، فزاد تذمّر النّاس وسخطهم.

وجدير بالذّكر أنّ التطرّف مازال ينشط في أغلب أرجاء العالم الإسلاميّ على مستوى الفكر دون الممارسة، فباستثناء بعض الممارسات الإرهابية في بعض الدول العربية فإنّ التطرّف مازال فكرة، ولذلك من الخطأ أن نقتصر في محاربتنا التطرّف الفكريّ على القوّة والقمع، لأنّ الفكرة لا تقاوم إلا بالفكرة، واستخدام العنف في مقاومتها لا يزيدها إلاّ انتشاراً، وهنا يتنزّل دور علماء الدين والباحثين الجامعيين والإخصّائيين النفسيين في دراسة ظاهرة التطرّف وتذليل الصعوبات المتعلقة بها.


[1] مصطفى ملص، قراءة في واقع ظاهرة التطرّف وفي كيفية التعاطي معها، رسالة التقريب، عدد83، ص 32

[2] أمارتيا صن، الهوية والعنف، سلسلة عالم المعرفة، عدد352، يوليو 2008، المركز الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، ترجمة: سحر توفيق، ص 18

[3] المرجع نفسه، ص 11

[4] محمّد السويدي، مفاهيم علم الاجتماع الثقافي ومصطلحاته، الدار التونسية للكتاب، تونس، 1991، ص 136

[5] نقصد بذلك وضع الحواشي والهوامش.

[6] عبد المتعال الصعيدي، التّقريب بين المذاهب الإسلاميّة ودراسة علم التوحيد، رسالة الإسلام، عدد 11، ص 312

[7] إسماعيل الدفتار، حديث افتراق الأمّة في ميزان القبول والردّ، مؤتمر الدوحة لحوار الأديان، الدوحة، 21-22 يناير 2007، وثيقة وزعت على المشاركين في المؤتمر.

[8] محمّد جواد مغنيه، الفرق بين الدّين والمذهب، رسالة الإسلام، السنة 8، عدد 1/29، يناير 1956، جمادي الآخرة، 1375، ص 50

[9] محمّد أبو زهره، المجتمع القرآني رسالة الإسلام، عدد31، ذو الحجة 1375 هـ، يوليو 1956، ص 248

[10] جمال الدّين محمد بن مكرم بن منظور، لسان اللّسان: تهذيب لسان العرب، دار الكتب العلمية، بيروت، 1993، ج2، ص 180

[11] الروم: 32

[12] انظر موقع التفاسير: www.altafsir.com

[13] حامد عبد السلام زهران، علم النفس الاجتماعي، عالم الكتب، القاهرة، 1984، ص 189

[14] رتشارد مكلفين، مدخل إلى علم النفس الاجتماعي، دار وائل للطباعة والنشر، عمّان، 2002، ترجمة: ياسمين حداد، موفق الحمداني، فارس الحلمي، 256

[15] مجموعة مؤلفين، المجتمع والعنف، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، 1993، ترجمة: إلياس زحلاوي وأنطوان مقدسي، ص 84

[16] أمارتيا صن، الهوية والعنف، ص 111