الحَداثَةُ واستعمالاتُها؛


فئة :  مقالات

الحَداثَةُ واستعمالاتُها؛

الحَداثَةُ واستعمالاتُها؛

نَظرَات في بعْض أُطْروحَات مُحمّد سَبيلاَ

عبد الواحْد ايْت الزّين

غَلَب على جيل مؤسّسي الفكر الفلسفيّ في المغْرب مُناقشة الحَداثة في صِلاتها بالتراث ومنهج قراءته، وتحددت تبعا لذلك أطروحات الجيل ذاكَ وسرديّاته، لكن وفي الفترة الأخيرة من الألفية السابقة، شَرع إشْكالُ "الحداثة وما بعد الحداثة" في التشكّل حالّاً محلّ -أو علَى الأقلّ مرافقاً لـِ- إشكاليّة "الحداثَة والتراث"، ولاسيّما بعْد أن باتَت "ما بعْد الحَداثَة" أمراً واقعاً لهُ أعلامُه وأطروحاتُه، وهكذَا أضْحَت قراءَة التّراث وقضَايَاه محلّ اختلاَف بشأن أيّ الطّرق أنجَعُ فِي فَهمِه واسْتيعَاب منطِقه وأيّها أفْيَدُ في تملّكه و"مُجاوزتِه": أَ هيَ الطريقُ التراثيّة نفسُها، أم هيَ الطّريقُ الحداثيّة، أم هيَ الطّريق ما بعْد الحداثيّة؟ من هذا السّؤال، تَنسَلّ إمكانيّة معرفيّة ومنهجيّة واسعَة تقول: إنّ إقْرار طريق بعينهَا، ليس معناهُ في مُطلَق الأحوَال إلغَاء غيرهَا من الطّرق، فالمطلَب واحِد (الحقّ، الحقيقَة) وكلما تعدّدت الطّرُق السالكَة إليْه اغتنَى (المطلَب) وانكشفَت مبهماتُه.

لعلّها محدُودَةٌ تلْك الأعمَال الفكريّة في السيّاق المغربيّ المعَاصِر التي رامَت الاقترَاب من مَسائل التراث والإسهَام في "نقد التقليد" دونَ اتّخاذ مواقِف حادّة سواء تجاه "الحداثَة" باسْم ما بعْدهَا، أو تجاه "ما بعْد الحداثَة" باسْم الحداثَة، ونَجِد ورَاء هذه الأعمَال الفكريّة أسمَاء فلسفية مغربيّة من قبيل: محمد سبيلا، محمد نور الدين أفاية، محمد الشيخ، وآخرين. حاولَت هذه الأعمَال مدّ الجسُور بيْن الحداثة وما بعد الحداثة بنفس نقديّ إشكاليّ يربَأ بنفسِه عن الجُمُود في مَوَاقِف مُتصلّبَة بخُصُوص مدَاخل التفكير فيما يُوجد أمامَه من قضَايا. ويظهَر جليّاً من خلال تتبّع النموّ الفكريّ والإشكاليّ لهذه المسَارات الفكريّة بَرَمَهَا من فكرَة "القطائِع الجذريّة" -القوْل بأن ما بعد الحداثة قطيعة مع الحداثة- و"الخطيّة الزمنيّة" -القول إن الفكر يتقدّم فيسلُب لاحقه (ما بعد الحداثة) سابقَه (الحداثة)- فالحداثَة في هذا المقَام الفكريّ "حركَة انفصال واتّصال"، لا تخشَى من ممارسة الانفصَال عن نفسهَا كذلك، وبهذا المعنَى لا تكُون "ما بعد الحداثة" خارج الحداثة أو "بعدها" بقدر ما تكون ضرباً من ضروب انفصال الحداثة عن نفسها، لإعادة وصلها من جديد، (سبيلا وبنعبد العالي، الحداثة، ص 5). وليس هذا الوعي الإشكالي بمستغرَب عن هذه المسَارات الفكريّة، طالما أحطْنا علماً بالحَذر الإبستمولوجيّ البيّن الذي تَنهضُ عليه مقارباتها المنهجيّة، وتستنِد عليه أبنيّتُها المعرفيّة في ترتيب خلاصاتها وبناء استدلالاتها بخصوص ما تتعرّض له من أسئلة وإشكالات، خصوصاً إن تعلّقت الإشكالات تلك بأمّهات المسائل في التراث، والحداثَة، وما بعْدهَا.

يشكّل عندنَا محمد سبيلا أحد أظْهَر الذين اهتجسُوا بهذه الالتقاءَات بيْن الحداثَة وما بعْدها في دراستِهِم للعالَم المعاصر بِغَربيّه وعَربيّه، فكْراً وواقعاً. إنّه، وإنْ كانَ بيّناً أنّ "الحداثَة" اختيارُ سَبيلاَ وديدَنُه، فإنّ قراءَة أعمالِه تخلّف انطباعاً أنّنا بصدّد "حداثَة موسّعَة" تستَدمِج بشَكْلٍ واعٍ كلّ مكتسبَات الفكْر المعَاصر، بما فيهِ ما يُعَدُّ محْسوباً علَى "ما بعْد الحداثَة"، علماً أن "ما بعد الحداثة ليست إلا استمراراً نقديّاً للحداثَة، وأنّ الحداثَة نفسهَا ليسَت خصائص ومميزَات، وإنما حركة انفصَال لا تكفّ عن الابتدَاء" (سبيلا وبنعبد العالي، ما بعْد الحداثة (1) تحديدات، ص 5). يبدُو واضحاً في مختلف كتابات ومحاضرات وترجمات محمد سبيلا، إصرارُه على إظهَار ما تنطوي عليه الحداثة وما بعدها مُجتمعتَيْن من إمكانَات هائلَة لإنجَاز قراءَة موسّعة في مَا يشهدُه عالمُنا المُعاصِر من انعطافَات وانسدادَات تتعلّق بالإنسان، والإيديولوجيا، والحضَارة، والتاريخ، والسياسة، والتقنيّة، والهوية وغيرها من الاهتمامات الفكرية لمحمّد سبيلا. لمّا صارت الحداثة تبدو وكأنّها "تراث" أمام "ما بعد الحداثة" انكبّ سبيلا على معالجة ما تقُوم عليه العلاقَة بينهُما(غربيّاً وعربيّاً) من سُوء فهْم يُعرّضُهمَا معاً لاستعمالاَت مخاتلَة (إيديُولوجيّة في الغالِب)، وراحَ منخرطاً في التعريفِ بهمَا كاشفاً تحوّلاتهما وإشكالاتهما تأليفاً وترجمةً، مثلما يتّضح من عديد تآليفه في هذا البَاب من قبيل:

  • مدارات الحداثة، (1987)؛
  • الأصولية والحداثة (1998)؛
  • المغرب في مواجهة الحداثة، (1999)؛
  • الحداثة وما بعد الحداثة، (2000)؛
  • دفاعا عن العقل والحداثة، (2002)؛
  • في الشرط الفلسفي المعاصر، (2007)؛
  • مخاضات الحداثة، (2007)؛
  • "الشّرط الحداثيّ"، (2021)

كانت مدارات الحداثة ومخاضاتها هاجس محمد سبيلا وإشكاليته الرّئيس، وشكّلت منطلقه الأساسيّ لفهْم التقليد والنّظر فيما يطرحه على الفكر والواقع من تحدّيات. وقد استفاد سبيلا في هذا الصّدد من الأبحاث التي أنجزها حول الفلسفة الغربية الحديثة، وما خضعت له من قراءات نقدية من لدن "ما بعد الحداثة"، مثلمَا استفَاد من وعيه السياسيّ والوطنيّ المبكّر، وما خلّفه فيه من إحاطَة بواقع المجتمع المغربيّ وتحوّلاته. كان واضحا حضور هايدغر، وهابرماس، وفوكو، وغيرهم في قراءة محمّد سبيلا للحداثة وتحولاتها، وكان واضحاً أيضاً أثَر إدراكِه لتعقيدَات السيّاق المغربيّ والعربيّ في أطروحاتِه بشأن "استقبَال الحداثَة" خارجَ أرْض تَبَلوُرهَا. لم يكتف محمد سبيلا بشرْح فكرة الحداثَة ورصْد أبرز سماتها وتجلّياتهَا، وإنما توجّه زيادة على ذلك، إلى دراسة علاقة العرب عموماً، والمغرب خصوصاً، بالحداثَة فكراً وواقعاً، مبرزاً التمزّق الذي أصاب مجتمعاتنا جرّاء توزعها بين الانسجَان في التراث من جهة، والانخراط في الحداثَة من جهة ثانية، وما تفرّع عن هذَا التمزّق من "تقاليد" –وسلُوك فرديّ وجماعيّ- ترفَع "الحداثَة" علَى أسنّة الرّماح، لكنّها قلّما تبدُو مستوعبَة لـ "معْنى أن يكُون المرءُ حداثيّاً"؟ (سؤالُ محمدّ الشّيخ في كتابٍ له بهذَا الخُصوص).

يبدُو أنّ "الحساسيّات المتصارعَة" حوْل "الحداثَة" و"التراث" و"ما بعْد الحداثَة"، تلتقي -بعْض أصوليّاتهَا بالخُصوص- في هذه المسألَة بالذّات، فهيَ في غالبِها الأعَم، تنطلِق من "روح الحداثَة"، لتَنتهيَ إلَى إنتَاج أسس "تقليدٍ" تزعُم التحرّر منه. ولا يكُون التقليدُ "تقليديّاً" دائماً، فلقَد يكُون "حداثياً" "وما بعْد حداثيّ" أحياناً أيضاً؛ لكنّه عنْد سبيلا -وبمنأى عَن أيّ حُكم- يفصِح عَن التباسَات حاصلَة عَن تصوّر الحداثَة واستيعاب منطقهَا، وفي هذا الإطَار كانت "فضيلَة النقْد" ملازمَة لمحمّد سبيلا في كتاباتِه بشأن فكرة الحداثَة واستعمالاتهَا المتعدّدة، شارطاً "النقد" بتحقّق شرطَي "الفهم" والاستيعاب" أوّلاً، ومميّزاً بين مستوياتها، ومشرّحا لعتباتهَا ودرجاتهَا، ومبرزاً مظاهِر ما أسمَاه بـ "معانَاة الحداثَة" في صلاتِها بالتقلِيد أساساً.

وأمّا اتّخاذ صورة واحدة للحداثَة، مرجعاً ومرجعيّةً، لا يُنْسَجُ إلاّ على غرارهَا؛ فلا شكّ أن لا حداثة فيه، وإنه إلى "روح التقليد" أقرَب. حوّل هذا الاستعمَال الحداثَة إلَى "إيديولوجيَا صلبَة" تعجَز عَن تصوّر واقعِها إلاّ باعتبَاره "خطيئَة أولَى". بحَسَب موجّهات هذا "الاستعمَال الإيديولوجي" للحداثَة، فَلا إمكانيّة للتكفير عن هذه الخطيئَة إلاّ بتنفيذِ "وصايَا الحداثيّين". وحده تَنزيل آيِهِم كفيلٌ بتطهير هذا الواقِع ممّا يرزَح فيه من انحرافٍ عن الصّراط الحداثيّ القويم. غالباً ما نلفِي حضوراً ظاهراً بشدّة لهذا "التقليد" عنْد "دعَاة الحداثَة" وناشطيهَا. يُقاتِل هؤلاَء النّشطَاءُ "التقليدَ"، ويحملُون حملَة عشوَاء علَى "المجتمَع المتخلّف" و"المؤسّسات السياسيّة التقليديّة" (الشّيطَان)، ويكُون "المثال" (الملاَك) عندهُم مجسّداً في مجتمعات الحداثَة التي ينبغِي أن نقيسَ عليها ونحتذِي بتاريخِهَا في إحداث الإصلاح الجذريّ لوضعنَا الحضاريّ. لا نهضَة في هذا "التقليد الحداثي" إلاّ بما نهضَ به وعليه غيرُنا، ومن لا يتعلّم من التاريخ ودروسه، يبقَى خارجَ العَصْر. سَلفيّة حَداثيّة، مَحكومَة بالمنطقِ نفسِه الذي يحكُم السلفيّة الدّينيّة. وإن بدَا من جهَة رهانَاتهما (السّلفيّتان معاً: الحداثيّة، والدّينيّة) أنهُما على طرَف نقيض، فإنّهما في نهاية المطَاف ليْسَتا إلاّ صدى لإيمان واحِد: إنهما تَشتركَان في "سلَف صالِح"، ولا تَختلفَان سوَى في أعلامِه واتجاهَاته أوّلاً، وهمَا تَعْمدَان إلى "الدّعايَة" لهذَا السّلف وتمجيدِه ثانياً، وعلاوةً على هذا، فإنّهما، ثالثاً، تنتظمَان في إطَارات وتيّارَات دفاعاً عمّا تُؤمِنَان به، وتَنخرطَان رابعاً وأخيراً -كلّ بمقدَار- في صِراعَاتهمَا ضدّ "المُجتمع" و"الوَاقِع القائِم"، وتنتهيّان إلَى الانكفَاء على نفسيْهمَا بوصفهمَا "طائفَة مُختارَة" مُطهّرَة من تخلّف العصر وجاهليّته.

غالباً؛ والحال هذه؛ ما يطغَى على هذه "السلفيّة الحداثيّة" حركيّة وانْخرَاط في هيئات وجمعيات وأحزاب وحركات لـ "النّضال" من أجل مغرب الحداثة. هي أميل إلى "الفعل المباشر" في "الساحَة" منها إلى أيّ شيء آخَر، ونَادراً ما تكُون هذه السلفيّة مُتملّكَة للأسُس المعرفيّة والفكريّة لمعنَى الحداثَة، فهي تلقّتْهُ من غير الطّرق الفلسفيّة السّالكَة إليْه. لم تتلقّ هذه "الطائفة" الحداثَة من منابعها الطبيعيّة، وإنّما اعْترضَت طريقها نضاليّاً عبْر خطابات وشعارات ومناشير (حزبية، جمعوية، نقابيّة...إلخ). من الطّريق تلْك تشربّت هذه السلفيّة أفكارَها، وشكّلَت عبرَها منظومتَها "الحداثيّة". مع هذه الطّائفَة بالذّات، تولّدَت "حداثَة متصلّبَة" كارهَة لانتمَاء المجتمَع إلى "تقليدٍ" و"منطِق" مغايِر لمَا تعتبِره تحضّراً" و"سلوكاً جيّداً" و"تقدّماً".

لقَد كان سبيلا حريصاً على التذكير بوجُوب التعاطِي النقديّ مع الفكْر الغربيّ والتمييز فيه بين العلميّ والإيديُولوجيّ، وبيْن المحليّ والكونيّ، والانتباه إلى تاريخيّة الثقافة والفكْر (سبيلا، مَدارَات الحَداثَة، ص 11)، وهو العمَل الذي أنجزَه سبيلا نفسُه منذُ رسالتِه في الدّكتوراه، وقادَه إلى التمييز بين تشكّل الحداثَة من رحمٍ ثقافيّة ذاتيّة كما هي حال السيّاق الغربيّ، وتشكّلهَا نتيجَة تضافُر عوامل خارجيّة ضاغطَة، كما هيَ حالُ تلقّيهَا عربيّاً وإسلاميّاً عبر "صَدمَة الاستعمَار"، بيْد أنّ هذا لم يمنَعْه من التأكيد علَى الاحترَاس من استعمَال هذه الحجَج المعرفيّة لتسويغِ موقف إيديُولوجيّ مناهضِ للحداثَة؛ إذ تَغتَنم طائفَة أخرَى، سليلَة تقليد دينيّ في غالب الأحيان، هذه المعطيات للطّعن في فكرة الحداثّة كلّية، والاستعاضَة عنها بـ "ثوابت تراثيّة" متصلّبة. توظّف هذه الطّائفَة عائدات التباس فكرة الحداثة لتُلبْس الأمر على النّاس، وتحقّق مغانِم لصالحهَا في سياق معاركها من أجْل "سلفنَة المُجتمع" (والدّولة) على طريقتهَا. تتحوّل "الحداثَة المتصلّبة" -بغير وعيِهَا- إلى توليد ما تعتقِد أنّها تحاربُه (التقليدُ المتصلّب). تصيرُ ذريعَة (أحياناً كثيرَةً) لتأبيد "القائِم"، ولاسيّما حينَ يعكِف خصومُها علَى بنَاء "خطَاب مدرُوس" ضدّها، يُظهرُون فيه أنّ صوْن هويّة "الجماعَة"، وحفظ الذات (عربيّة، إسلاميّة) يمرُ بالأسَاس عبر مقاومَة ما تحملُه هذه "الحداثَة" من تهديدٍ لما استقرّت عليه الذّات تلْك من ثوابِت ومرتكزَات ثقافيّة ودينيّة.

تفصِح كتابَات سبيلا عَن حكمَة وُجوب الاحترَاس من "تقليد الحداثَة" من ناحية، وحكمَة تجنّب الدّخول في "حروب استنزَاف" عدوانيّة ضدّ "التقلِيد"، لأنه بغير هذا الاحترَاس المزدوج فسيتقوّى ما يُتوّهَم إضعافُه وإنهاكُه. تبعاً لهذه المنطلقَات، فَليسَت هناك "حداثَة كاملَة" للقيّاس عليْها سوَى ما نشأت عليه من وُعُود للإنسان بالحرية، والعقلنة، والتقدّم، والرقيّ الحضاريّ، وحفظ حقوق الإنسان وكرامته، وفي هذا الإطار سيتحدّث سَبيلاَ عن "مكر التقليد" و"مكر الحداثة"، وأهميتهمَا في كتابة فصُول الحداثَة بحُسبانِها دينامية وسيرورة، وليست مصيراً ناجماً عن مسار خطيّ متحكّم فيه، يقول محمد سبيلا: "يستحسن أن نتحدّث عن سيرورة الحداثة، وعن صيرورتها أكثر من الحديث عن مصيرها؛ ذلك لأن التصور الغائي بعيد عن مضمونها (...) الحداثة ديناميّة كونيّة شاملة تجرف حتى أولئك الذين يرفضونها فكل المجتمعات ذائقة للحداثة ومتورّطة فيها. العرب تارة يقفزون إلى الأمام وتارة يرجعون إلى الخلف. مرة بإرادتهم ورغبتهم في المتابعة والتكيف والتطور، ومرة بفعل ديناميات التقليد وتثاقلاته أو بفعل ديناميات الحداثة نفسها. ولعل الديناميات أقوى من الإرادات في النهاية. والتاريخ هو تركيب معقد للمكر المزدوج: مكر الحداثة ومكر التقليد معا" (إدريس هاني، حوار مع سبيلا، ص 43).

الحداثة عند سبيلا مسار غير منته وغير ناجِز بإطلاق. يقوم الإنسان في هذا المسَار مقام الأرض الصلبَة التي عليها تتشكّل فيها الأفكَار والمعارف ويشيّد بنيانُها. وكأنِّي بلسَان حالِه قائِلٌ: أيْنما كان ثمّة عنايَة بالإنسَان وحريته وكرامته بوصفه ذاتاً مَالكَة لأمر تدبير نفْسهَا بنفسِهَا، فثمّة حداثَة، وأينَما نشَأ العقل، ونال الثقَة، وحازَ المنزلَة الجَدير بها فثمّة حداثَة، وأينمَا تحقّق الاعترَاف بالفكْر، والنّقد، والعلْم، والغير، فثمّة حَدَاثَة، ولَيجُوز لنَا تعريفُ الحداثَة بنقيضِها في الإطَار نفسِه فنقُول عكْس حالِ اللّسان الآنِف الذّكر: أيْنما فقَد الإنسان حريته، وكرامته، وذاتيّته غابَت الحداثَة، وأيْنما ضُيّقَ على العقْل و"زُندِق" عُدمَت الحداثَة، وأيْنمَا سادَت ثقافَة الجُحُود، ومحاصرَة الفكْر، وعدم الاعتراف بالنقد، والعلم، والغير، والاعتراف نفسه، تلاشَت الحداثَة. لقَد ظلّ سبيلا يؤكّد أن الحداثَة منظومَة متكاملَة تشمَل كافّة مستويَات الوجود الإنساني: فكر، سياسة، اقتصاد، اجتماع، عمران، سلوك، نظام، (سبيلا، مخاضَات الحداثَة). وحْدهُما تحرّي حقيقة مستويات الحداثة الفكرية والمادية أوّلاً، ورصْد حركَتهَا في منابعها ومصادرها المعرفيّة والفلسفيّة ثانياً، من بإمكانِه الحؤول دون الانتهَاء في آخِر المطَاف إلَى "حداثَة متصلّبَة" لا حداثَة فيهَا. التحرّي والرّصد ذاك مثلمَا أنجزَه محمّد سبيلا كفيلٌ بتفْويت الفرصَة علَى من يتغذَى على "الحداثَة المتصلّبَة" لترسيخ أُزعُوماته التقليديّة، فهَل يعْني أن تجاوُز "الحداثَة المتصلّبَة" القائمَة علَى "تقليد الحداثيّين" رهين بالتمرّد علَى "الحداثَة" نفسِها، والتخلِي عن الإخلاصِ لمبادئِهَا؟ وهل يعني ذلك الانتصَار لفكرَة "الحداثَة المتعدّدة"، والقول إن ليس هناك حداثَة واحدَة، وإنّما ثمّة "حداثَات"؟

وأمّا القوْل بأنّ "الحداثَة حداثَات"، فإنّ محمد سبيلا يؤكّد أن في ذلك "نوع من التلطيف والتجاوز الفكري والإبستمولوجي (...)، بل ربما شكلا من أشكال مقاومة الحداثة وبخاصة لنواتها الفكرية العليا بسبب عسرها وعنائها وجرعتها المرة، فتعمد إلى القول بأننا دخلنا إليها ولسنا في حاجة إلى ثورة أو تمرد أو جهد للحاق بها، ومن ثمة النكهة الإيديولوجية (التبريرية) في هذا القول الذي لا يخلو من دبلوماسية ثقافية، تمارسها الهيئات الدبلوماسية والثقافية المختلفة، تماما مثلما سبق أن تم تلطيف لغة البلدان المتخلفة والتخلف إلى نقص في التطور (Sous-développement)، ثم إلى بلدان في طريق النموّ ثم إلى بلدان نامية، كل هذه العوامل تسعى إلى تمطيط مفهوم الحداثة وقطع حبل الوصل بنواته وبنموذجه، وتحويله إلى مفهوم واسع ورخو" (سبيلا، من الحداثات إلى الحداثة، ص 487).

هكذا إذن، يتولّد عن الاستعمال الإيديولوجي الصّلب للحداثة حداثة متصلّبة، ويتولد عن الاستعمال الإيديولوجي السائل للحداثة حداثة رخوة، والاستعمالان معا ضحيّة تصوّر جاهز للحداثة، ما انفكّ سبيلا يُشَرّحُ حدودَه ويتعقّب انزياحاته. ليس هذا التصوّر الجاهز سوى انعكَاس للذهُول عن التعقيدَات الملازمَة لـ "الحداثَة" مفهوماً، ونظاماً، وشعاراً، وفلسفَةً، وهو في الآن عينه ضحيّة اختزالات نظريّة للحداثَة باعتبَارها "مرحلَة تاريخيّة" تقبَع خلفَنا، والحال أنّ الحداثة "سيرورَة مفتوحَة، مركبّة وعنيدَة" وليسَت مجرّد لحظَة تاريخيّة منتهيّة" (سبيلا، من الحداثَات إلى الحداثَة، صص 494-495).

الحداثَة لا تكون "حداثات" عند سبيلا إلا لأنها "حداثة"؛ إذ هيَ تسمح من داخلها بتولِيد صور متعددة لها، بالنّظر إلى كونهَا كما ذكرنا آنفا "حركة" و"ديناميّة" ما تفتأ تتجدّد وتراجع ذاتها باسْتمرار، إنها ليسَت (فقط) كما قال هابرماس "مشروع لم يكتمل بعْد"، بل إنها تكاد تَكون "مشروعاً لم يبدَأ بعد"؛ لأن فعْل "البدايَة" نفسه بوصفه "شُروعاً في..." هو ما يوشك أن يكُون "جوهَر الحداثَة". لَقَد تعرّضنا سابقاً لاستعصَاء فكرة الحداثَة عن الأزعومات الغائيّة عند محمد سبيلا؛ إذ تظهَر الحداثَة معه، وكأنّها لا تبدأ لتكتَمل (مآل، غاية، مصير)، بقدر ما تبدأ لتستأنف في كلّ آن وحين نفسَها وكأنّها لم تكُن. ليس ثمّة حداثَات وإنما هناك "حداثَة" حاملَة في رحمهَا لإمكَانَات كونيّة مفتوحَة، ولعلّها هذه القابليّة للانتشَار والذّيُوع هي ما يجعلُها واحدَة في تعدّدهَا، ومتعدّدة في واحديّتهَا. لَم تتولّد الحداثَة في نشأتهَا إلاّ بوصفهَا "مسَارَات مفتوحَة" غير منتهيّة ولا ناجزَة، ومن ثمة دعوة محمد سبيلا إلى الانخراط الفلسفيّ المغربي والعربيّ والإسلاميّ في "مشرُوع الحداثَة"، من دون اقتضَاء ذلك لأيّ "خصامَات مرهقَة" مع "التقليد" و"التراث"؛ لأن لكُلّ منهُما (الحداثَة، والتقليد) مكرهُ الخاص، ومن المَكر ذاك تستمدّ "الحداثَة" مناعتَها وحيويّتَها لأنّها مفتوحَة دوماً على "ثراء المُمكن"

ثمّة تنبيهَات ظاهرَة لمحمّد سبيلا من تذريّة "الحداثَة" لتصيرَ "حداثَات"، وقَد استفاض في استبانَة مصادر الفكرة، وكَشَف ما يُمكِن أن تُفضِي إليْه من "استعمَال مخاتِل" لفكرَة الحداثَة، قَد تستفيدُ منهُ إرادَات مناهضَة لمشرُوعهَا. تتحوّل الحداثَة في هذا الاستعمَال المخاتِل إلَى "إيديولوجيا" لتبرير موقِف حضاريّ رافِضٍ لِجُملَة من مظاهِر الحداثَة وعلاماتهَا (العقل، الحرية الإبداع من دون قيود، النقد، الموقف من الدين والمرأة، رفض الوصايَات...إلخ) وتَلجَأ في تسويغِ موقفِها إلَى استعمَال حدَث "نشأَة الحداثَة" لتكرِيس فكرَة أنّ "رُوح الحداثَة" تقتضي اعتبَار الثقافَة المحليّة وخصوصيتها في أيّ مشروع حداثيّ، وهكذا تُشهَر "ورقَة الخصوصيّة" في وجْه "الحداثَة" بمسوّغَات تبدُو معقولَة ومقبولَة ومشروعَة حداثيّاً. يصف سبيلا هذه الفكرة (ظرفيّة النشأة)، بأنها "صائبَة كملاحظة فكرية وسوسيولوجية موضوعية"، لكنّه يستدرك قائلاً: "أما تسخيرها في اتجاه رفض المظاهر الحالية للحداثة فهو مجرد استغلال إيديولوجي لهذه الفكرة وتوظيفها ضمن موقف سياسي وإيديولوجي يرفض الحداثَة جملة وتفصيلاً" (سبيلا، من الحداثات إلى الحداثة، ص 487). وكحَال سلفِه -الاستعمَال المتصلّب المقلّدِ للحداثَة في شكْلٍ ناجِز ما (الغربيّ الحَديثُ)- ينتهِي هذا الاستعمَال الثاني بدَورِه إلَى هدْر دمِ "الحداثَة" والتضحيّة بهَا حفظاً لمقدّسات الجمُوع وثوابتِهم.

مثلما كانَت حالُه مع نقْد "رفض الحداثة" باسْم ما قبلها، سرى نقد سبيلا أيضاً علَى "رفْض الحداثَة" باسْم ما بعدَها؛ إذ الرّفض ذاك عندَه ذهُول علَى التبَاسات ملازمَة لفكرَة الحداثَة عينهَا من جهَة اقترانِهَا بالزمَن ومفعولاتِه، وهو في الوقت نفسه دليل على "التبَاس ما بعد الحداثَة" في الأذهان. ليسَ الأمر كما أسلفْنا الذّكر متعلّقاً بخطّ تاريخيّ يكُون فيهِ "المـا بعد" لاحقاً لزوماً علَى "المَا قبْل"، وإنّما قَد لا يتجَاوَز الأمرُ إفصاحاً عَن "فعْل مفهوميّ" كامِن في الحداثَة ذاتِها، يُظهَر بعْض ما لَم يكُن متسعاً لهَا كشفَه ذاتَ لحظَة فلسفيّة بعيْنهَا (الخيَال، النّسيَان، الجسَد، اللانظَام، اللاوعي، وغير ذلك من "لاءات" منتصف القرن التاسع عشر وما بعده). إنّ تلْك "الما بعد" لا تحمل دلالات تاريخيّة أو زمنيّة، بل هي إشَارة إلى "حيويّة الحداثَة" وقدرتها على التجديد الدائم لنفسها، وإن كان "من مفكرينا من لا يرتاح إلى العمل على ترويج مفهوم "ما بعد الحداثة" في سوقنا الثقافيّة، وهم يرون أن ذلك إن كان يليق بثقافات قطعت أشواطاً طويلةً في التحديث، فهو لا يجدر بثقافتنا التي لم ترسخ بعد أسس الحداثة، إن لم نقل إنها مازالت تعيش "مرحلة" ما قبلها" (سبيلا وبنعبد العالي، ما بعد الحداثة، ص 5)، وإن كان ذلك كذلك، فإنهم لم ينتبهُوا إلى أن "الحداثة كانت دوماً ما بعد حداثيّة، وهي ليست "لحظة ثابتَة"، وإنما "حركة انفصال ما تفتأ تتجدد"، إن هذه "الما بعد"، ليست سوى "حداثة للحداثة" (المرجع نفسه، الموضع عينه).

من جهة أخرى، فإن التباسَات ما بعد الحداثة (سبيلا، من الحداثات إلى الحداثة، ص 493)، كان لها وقع شديد على السيّاق العربيّ الإسلاميّ؛ إذ ثمّة من رأى فيهَا "تقليعَة جديدَة"، فهرَع مبشّراً بما يُمكن أن تفيض به روحها من "بَركَة" لتجَاوُز التراث وتخطيّ الميتافيزيقا والتحرر من الإشكالات المزيفة للحداثة والنهضة والإصلاح وغيرها، وثمّة فريق آخَر صاحَ في وجْه الحداثَة لمّا التقَى "ما بعْدَها: "أوريكَا أوريكَا (Eureka)" شاهراً سيوفَها أمام "أطروحات آلِهَا" متّهماً إيّاهُم بأنهُم مجرّد "قداميّين"؛ طالمَا يدعُوننا إلى ما تجاوزَه غيرُنا وفي هذا فإنهُم مجرّد "مقلّدَة" لا غير. وبينَما "الحرب مستعرّة" كانَ سبيلا ولفيفٌ من مُجايليه -عبد السلام بنعبد العالي، محمد الشيخ، نور الدين أفاية، محمد المصباحي، عبد الإله بلقزيز، كمال عبد اللطيف...إلخ- يَبْنُون أرضيّةً مُتماسكَة لصُروحَ فكريّة تتوجّه إلى بيَان أن "الحداثَة مشرُوع لا يكتمِل إلا ليبدأ من جديد"، وأن هذه "المابعد" (الطّارئَة) ليسَت تجاوزاُ، بقَدر ما يمكن أن تكُون تنشيطاً معرفيّاً حداثيّاً لمساحَات اتّضح أنها كانَت مهملَة، "فما يسمّى ما بعد الحداثة لا يمثل مرحلة خارج الحداثة "وبعدها" إنه أقرب ما يكُون إلى مراجعة الحداثة لنفسها لنقد بعض أسسها وتلوينها، (...) وإن ما بعد الحداثة تحاول تقديم صورة أكثر إنسانية عن الحداثة، حيث تدمج في منظورها الذات البشرية الفاعلة والمعاني الغائبة، والأبعاد الجمالية محاولة الحد من بعض مظاهر أداتيتها" (سبيلا وبنعبد العالي، الحداثة، ص 5).

شكّلَت دراسة "الإيديولوجيا" انْطلاقَة محمد سبيلا في مضمار البحث العلمي والإنتاج المعرفي، لافتاً الانتباه إلى أهميّة المنظُور التكامُليّ في معالجة الإيديولوجيا وإشكالاتها (سبيلا، الإيديولوجيا: نحو نظريّة تكامليّة)، وحين اكتشَف أن مدارَه الفكريّ بعدئِذ هو "إشكاليّة الحداثَة"، كانَت تلْك النّظرَة التكامليّة مُوجّهَه الجوْهريّ أيضاً لشَيْد أسس الحداثَة في سياقاتنا الخاصّة. تظَهر آثَار هذه النظرَة عند محمد سبيلا في مناحٍ شتّى، من بيْنهَا توقّفه الدّائم عنْد مستويَات الحداثَة وأبعادها المتعدّدة، علاوة على الاستيعاب النقديّ الواضح في كتابَاتِه لجدل الخصوصي والكوني، ووَعيِه الإشكاليّ البيّن بِواقِع الفصل والوصْل بين الإيديولوجي والعلميّ في دراسة "الحداثة" واستنباتِها في مشاتِل مُغايرَة. ولأنّه مُدركٌ لمنطق الإيديُولوجيَا وآلياتها الظّاهرة والخفيّة في إنتاج "الحقيقَة" وتَسْويقِهَا، فإنّه كان حريصاً وهو يفكّر في "الحداثَة" أن يَحفر -مثلَما أوضَحْنا- في المُضَمر والصّريح الإيديُولوجي حينَ "اسْتعمَال الحداثَة" في الصّراع الاجتماعيّ والسياسيّ، ولقَد أَسْعَفَه ذلك علَى كَشْف منطِق هذا الاستعمَال (الإيديُولوجي) وإظهَار حُدودِه في ضَوْء نظريّتِه التكامليّة للحداثَة الثلاثيّة الأبعَاد: سيّاسية، واجتماعيّة، وفكريّة. مُقابل تَصَوُّر الحَداثَة بحُسبانهَا "لحظَة مقفلَة"، انعكَس هذا الوعيُ التكامليّ على تَمثُّل سبيلا للحداثَة بوسْمهَا حركَة دائبَة غير مستقرّة على حَال ما عدا اقترنُها الدّائم بالنّقد المتجدّد، والإبداع، والحرية؛ لأنّ هذه الحَال في النّهاية هي ما يصُون سبَب نزُول الحداثَة واستمْرارِيّتها: أَعنِي بذَلِك الإنسانُ وحفْظ حُقوقِه وكَرامَته. ولعلّهُ بادٍ أنّ إبراز هذا التكَامُل في تَمَثُّل "ديناميّة الحداثَة" من جهة، وأثَر ذلك في الانتبَاه إلى كافّة ضُروب اسْتعمالهَا من جهَة ثانية، هو أساساً وخُصوصاً ما رُمنَا استبَانَة بعْض دلالاتِه في هذه المُساهمَة.

 

مراجع:

  • محمد سبيلا، الإيديولوجيا نحو نظرية تكاملية، (بيروت: المركز الثقافي العربي، 1992)؛
  • محمد سبيلا، مدارات الحداثة، (بيروت: الشبكة العربية للأبحاث، 2009)؛
  • محمد سبيلا، مخاضات الحداثة، (بيروت: دار الهادي، 2007)؛
  • محمد سبيلا، وعبد السلام بنعبد العالي، الحداثة، (الدار البيضاء: دار توبقال، الطّبعة الثالثة، 2008)؛
  • محمد سبيلا، وعبد السلام بنعبد العالي، ما بعد الحداثة (1) تحديدات، (الدار البيضاء: دار توبقال، 2007)؛
  • محمد سبيلا، من الحداثات إلى الحداثة، ضمن كتاب: من الحداثة إلى الحداثات (1)، (الرباط: مطبوعات أكاديمية المملكة المغربية، 2017)
  • محمد سبيلا، "اهتدي الغرب إلى العلمانية لينهي التصادم بين السياسة والدين"، حوار أجراه ادريس هاني، مجلّة الاستغراب، العدد الثاني، (بيروت، المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية، شتاء 2016)
  • محمد الشيخ، ما معنى أن يكون المرء حداثيّاً؟ منشورات الزمن، 2006،