السيد إبراهيم وأزهار القرآن: من التشدّد الديني إلى التعدّد الدنيوي


فئة :  مقالات

السيد إبراهيم وأزهار القرآن:  من التشدّد الديني إلى التعدّد الدنيوي

في مقاربات النص الروائي الموسوم بـ (السيد إبراهيم وأزهار القرآن)[1] لـ "إريك إيمانويل شميدت"، أمكن رصد حادثتي قتل معنويتين، سيكون لهما الأثر - كل الأثر - في بنية العمل الروائي وتداعياته البَعْدية:

الأولى قارفها السيد إبراهيم - البطل المسلم الرئيس في الرواية - بحقّ والده الديني؛ النبي إبراهيم، لكي ينتقل من المرحلة الدينية إلى المرحلة الدنيوية، رغم تمثّله لبعض تعاليمه، لا سيما عملية الختن التي أقرّ بها كتعويض عن حدث التضحية الإبراهيمي بابنه "وكانت المفاجأة الكبيرة بالنسبة لي، عندما اكتشفت في الحمّام ذات يوم أن السيد إبراهيم كان مختوناً."وأنت أيضاً يا سيد إبراهيم"؟ "المسلمون يفعلون ذلك كما يفعل اليهود يا مومو. إنها كناية عن تضحية إبراهيم: يرفع ابنه بيده نحو الله، ويقول له أن بوسعه أن يأخذه منه. أما تلك القطعة الجلدية التي نزيلها، فهي علامة على عهد إبراهيم. في الختان، يمسك الأب ابنه، ويقدم آلامه لذكرى تضحية إبراهيم".[2]

والثانية قارفها موسى - البطل اليهودي الرئيس في الرواية - بحقّ والده المُتزمت، لكي ينتقل هو الآخر من المرحلة الانغلاقية إلى المرحلة الانبساطية بالمفاهيم السيكولوجية؛ فالتماهي البيولوجي بين الأب والابن، يجعل الابن يلجأ إلى موسى حادة (ستتمثّل في بيع كتب والده ونفض البيت رأساً على عقب وإجراء تعديلات جوهرية عليه) لإجراء عملية بتر لحبل المشيمة الذي يربطه مع والده، والانفصال عنه بالتالي.

ففي تماهٍ بين الأب الديني والابن الدنيوي من جهة، والأب المُتزمّت والابن المُتمرد؛ يسعى الابن بصفته متموضعاً في زمن بَعْدي على زمن الأب القَبْلي، إلى قتل والده، ليس ليحلّ مكانه بحسب مدرسة التحليل النفسي، بل لتجاوزه تماماً وتجاوز تعاليمه؛ فالسيد إبراهيم (في جريمة القتل المعنوي الأولى) إذ يتعامل بأريحية تامة مع قضايا ذات حضور ديني قوي وحاسم في الثقافة الإسلامية، مثل: شرب الخمر والسرقة وممارسة الجنس خارج إطار المؤسسة الزوجية الرسمية، فإنه يسعى إلى نقض شرائع النبي إبراهيم – مؤسِّس الديانات التوحيدية -، وبصفته مسلماً، فهو ضمناً يرفض المواضعات الفقهية الإسلامية، التي لا ترى في الوجود إلا حلالاً وحراماً. ورفضه هذا مُتأتّ ضمن سياق انبساطي، فهو يتعامل مع الدين بصيغةٍ أريحية تجعله يجترح سياقاً ذاتوياً، يؤكّد قيمته الدنيوية بالدرجة الأولى، مما ينعكس إيجاباً على علاقته بالآخر؛ تحديداً ذاك المختلف عنه دينياً؛ أعني موسى اليهودي، والعلاقة الجميلة التي ستربطهما معاً ليس إلى لحظة وفاة السيد إبراهيم فحسب، بل إلى ما بعد وفاته، إذ انطبعت صداقتهما في ذهنية موسى كقيمةٍ عليا، وانعكست بالتالي على مسلكياته – في الزمن المستقبلي - في الواقع المعيش.

أما موسى (في جريمة القتل المعنوي الثانية)، فإنه يتعامل هو الآخر بأريحية تامة مع قضايا ذات حضور قوي وحاسم بالنسبة إلى والده، مثل الانغلاقية والانطواء على الذات، وتشكيل موقف حِدّي من الآخر، حتى لو ربطته به علاقة قوية جداً، وينتقل من مرحلة الانغلاق على الآخر؛ تحديداً مع السيد إبراهيم بصفته عربياً مسلماً؛ التي فرضتها ثقافته وأطره التعليمية السابقة، إلى مرحلة الانفتاح عليه، واعتباره صديقه الحميم، رغم فارق السنّ بينهما.

إنَّ القتل هَهُنا، سواء ما مُورس بحقِّ النبي إبراهيم وشرائعه الدينية، من قبل السيد إبراهيم الدنيوي، أو ما مُورس بحقّ والد موسى المُتزمّت وإرثه الانطوائي، من قبل ابنه موسى، المُتمرد والانبساطي؛ هو قتل فضائلي وفقاً لمقتضيات النص الروائي، لأنه يسعى إلى تحرير الإنسان – أياً كانت مواضعاته الدينية - ممّا يُكبِّل حُرّيته ويحجر على إمكاناته الوجودية، لا سيما تلك التي يمكن أن تفصل بين بني البشر، وتجعل منهم محض رهائن لنُظم تربوية سابقة، تحدّ من تواصلية الإنسان مع الآخرين، بما يبقي على فكرة العداء والحروب بينهم.

وقد كان لهذه الأطر أن تضغط بداية على عقل الطفل اليهودي موسى، فهو يتجنّب السيد إبراهيم لأنه عربي، وهي صورة نمطية وثابتة ومحدّدة المعالم سلفاً في الذهن الجمعي، وانعكاسها بالضرورة على الذهن الفردي، كما حدث للسيد موسى.

"ورحت أسرق كذلك من السيد إبراهيم. وكان يعتريني شيء من الخجل منه، لكني لكي أتغلب على شعوري بالخجل وإحساسي بالخزي، كنت أردد في نفسي هذه العبارة وأنا ادفع له: إنه مجرد عربي. وفي كل يوم، كنت أحدّق في عينيّ السيد إبراهيم لأستمد الشجاعة وأقول: إنه مجرد عربي".[3]

لكن السيد إبراهيم، سيكون قد تحرّر من الضغوطات التربوية المُسبقة - وإن لم يخبرنا الروائي كيف تمّ ذلك، لكن يبدو أن عُمره ساهم مساهمة فاعلة في بلورة شخصيته الحقيقية، التي سيفصح عنها تباعاً للشاب موسى، إلى درجة تعريف نفسه بأنه صوفي -، وإن كان ثمة إيمان عميق في نفسه بالنص القرآني؛ فالأزهار التي ستُشقشق في الحديقة الذهنية للسيد إبراهيم، وتتضوّع رائحتها سلوكاً واقعياً، هي أزهار قرآنية بالدرجة الأولى، ولكن برؤية مختلفة؛ تحديداً رؤية دنيوية تتبنّى الخطاب الصوفي كنوعٍ من الخلاص في هذه الحياة، بعيداً عن تلك الخلاصات الفقهية التي يمكن أن تُؤطّر المرء سلفاً، وتدفعه باتجاه خيارات حِدّية وعنيفة مع العالم المحيط به.

وبموجب هذا الخطاب، سينصدم الشاب موسى بسلوك السيد إبراهيم، إذ رآه يشرب الخمر في إحدى الحانات[4]؛ فالمعروف والمُتداول ليس فقط في الحاضرة الإسلامية، بل وفي العالم الخارجي أن الخمر حرام، بموجب التأطيرات الفقهية، لكن السيد إبراهيم يكسر هذه الحلقة العتيدة، ويشرب الخمر، مُبرّراً ذلك بأنه صوفي:

"كنت أعتقد أنّ المسلمين لا يشربون الكحول" [يقول موسى]

"صحيح، لكني صوفي" [يجيب السيد إبراهيم][5]

لقد تضوّع برائحة إحدى زهرات السيد إبراهيم القرآنية، وسيتضوّع مرة أخرى، ساعة يدفعه السيد إبراهيم إلى ممارسة الجنس في بيت البغاء، عقب وفاة والد الشاب موسى؛ فالحكمة الإبراهيمية - نسبة إلى بطل الرواية - ستجعله يُوقن أن الشحنة السلبية لدى الشاب موسى، لن يتم تفريغها إلا عن طريق ممارسة الجنس. المعروف أن ممارسة الجنس خارج إطار المؤسسة الزوجية الرسمية، حرام بموجب التشريعات الفقهية الإسلامية، لكن السيد إبراهيم يتأوّل النص القرآني خارج مفاهيميته المتداولة، لذا يحث الشاب موسى إلى الذهاب إلى بيت البغاء وممارسة الجنس معهن:

"ثمّ دس السيد إبراهيم بعض الأوراق النقدية في جيبي؛

هيا، اذهب إلى شارع دي بارداي. الفتيات يسألن عنك"[6].

وفي وقت سابق، سيتضوّع الشاب موسى برائحة زهرة من زهرات السيد إبراهيم، ساعة كان موسى يسرق من بقالة السيد إبراهيم، ولم يعاقبه أو يتخذ بحقّه أي إجراء قهري، بل تعامل مع الأمر كما لو محض مزحة صغيرة[7]. إلا أنّ الالتقاء الكبير بين السيد إبراهيم المسلم، والشاب موسى اليهودي، اللذين اشتركا في جريمة قتل معنوي مزدوجة، سيلتقيان التقاءهما الكبير - بعد أن يدفنا أدوات الجريمة اللذيذة، ويخلّفانها كذكرى بعيدة – في الحياة، بصفتها تجربة هائلة تستحق أن تعاش من ألفها إلى يائها، بما لا يضرّ الآخرين أو يؤذيهم. فالنموذج (الإبراهيمي/ الموسوي / الإسلامي/ اليهودي) مرحلة ما بعد قتل الآباء من قبل الأبناء، هو نموذج دنيوي بامتياز، يتجاوز الأطر الدينية التقليدية؛ سواء ما قرّ في الشريعة اليهودية أو في الفقه الإسلامي، ويتموضع في الأنساق الحياتية، ويدفع باتجاه سبر أغوارها واكتشاف ظواهرها، بما لا يُشكّل اعتداءً على حقّ الآخرين في الحياة. وما تلك الرحلة التي قاما بها في أرجاء القارة الأوروبية وصولاً إلى مسقط رأس السيد إبراهيم (= المغرب) إلا كتتويجٍ لثقافة إنسانية بامتياز، تتعالى على سياقات الرَهبنة كما هي قارّة في الأديان التوحيدية.

ولربما شكّل هذا الثنائي الاستثنائي (= السيد إبراهيم المسلم + الشاب موسى المسيحي)، قفزة هائلة في موضوعة الأديان التوحيدية، لناحية الانتقال من مرحلة التموقع في دينٍ بعينه، والرضوخ لطقوسه القهرية، إلى مرحلة تشوّف الحياة، والاندماج في تفاصيلها برؤية أخلاقية، بما يُعين الإنسان على عمارة العالَم من جهة، والارتقاء بقيمه العليا من جهة ثانية.

ولربما - مرة أخرى - شكّلت أطروحة "إريك إيمانويل شميدت" كما موضعها في روايته المفارقة (السيد إبراهيم وأزهار القرآن)، تحدياً أمام العقل الإسلامي، لا سيما في مواضعاته الفقهية. فالرؤية القرآنية التي يتبنّاها بطله الرئيس (= السيد إبراهيم المسلم)، ولا يفتأ يُذكّر أنه يستقي تعاليمه الحياتيه من هذا الكتاب العتيد، مُواضِعَاً إياها في إطار صوفي، هي رؤية مُحرجة للمنظومة الفقهية على المستوى المعرفي من زاويتين: الأولى زاوية التنصّل من الحالة الطقوسية للدين، وإلى أيّ حد يمكن لهذه المنظومة أن تقبل بذاك التنصّل. والثانية قبول النص القرآني لتآويل تتجاوز الحالة الطقوسية، وتؤكّد صحّة الرؤية الإبراهيمية - نسبة إلى بطل الرواية - وموقفه من العالم الذي يعيش فيه اعتماداً على النص القرآني؛ فإلى أي حدّ - أيضاً - تقبل المنظومة الفقهية بهكذا تآويل، لا سيما أننا بإزاء تاريخ صدرت فيه أحكام قاسية - وصلت إلى حد القتل - بحقّ أناس تبنوّا أطروحات مشابهة لأطروحات السيد إبراهيم، حتى وهم يُؤصلونها قرآنيا!.


[1] إريك إيمانويل شميدت، السيد إبراهيم وأزهار القرآن، ترجمة خالد الجبيلي، دار ورد، دمشق، سوريا، ط1، 2004

[2] السابق، ص 37

[3] السابق، ص 12

[4] السابق، ص 28

[5] السابق، ص 28

[6] السابق، ص 41

[7] السابق، ص 16