العرب أمام محك التاريخ: الهوية والعنف


فئة :  قراءات في كتب

العرب أمام محك التاريخ: الهوية والعنف

أحمد دلباني، صُندوق باندُورا: هوامش على خطابات الهوية والعنف، منشورات ضفاف، دار الأمان، منشورات الاختلاف، بيروت-الرباط-الجزائر، ط1، 2017، سلسلة «مقاربات فكرية»، 151 صفحة.

ثريٌّ، مركَّب، إيحائي، كتاب المفكر الجزائري أحمد دلباني، تُحفة شاعرية وسيولة مفهومية، هندسة قريبة من المتاهة، لكن متعة قراءتها متحقّقة بالولوج في أروقتها ودهاليزها. ما عسانا نجد في هذه الأبنية المركَّبة فنّياً وشاعرياً؟ العديد من القضايا المؤرقة، بعضها قديم مثل أسئلة الإصلاح والنهضة والهوية، وبعضها راهني مثل معضلات التطرُّف والعنف والإرهاب، وبين القديم والراهني، يحاول دلباني إيجاد «المفصل»، ليرى كيف هيَّأ القديم في تشكُّلاته العريقة والرثَّة بنية الراهني في انفجاراته وتعثُّراته، ويعمل على استجلاء المعضلات التي جعلت الماضي يتحكَّم في مصائر الحاضر: الموتى يُشرّعون للأحياء، الأبوية تسجن الأبناء، الذكورية تحجم الأنثى، التراث يتنكَّر للتاريخ، يتنكّر لموطن مولده، ويرفض «شهادة ميلاده» في الزمن، بأن يمنح لتشكُّلاته ونصوصه مسحة مقدَّسة ومسرحة قمعية. عن عُلبة الشرور يُحدّثنا دلباني، عن لعبة الغرور يزجُّ بنا في عوالم تعثُّر الأنا.

1. نقد السَّماء يبدأ بنقد الأرض: طغيان الواحدية

نموذج «كيركي» (Circé, Kirkê) هو الغالب في كتاب دلباني. من هي كيركي؟ تقول الأسطورة اليونانية بأنها ساحرة ماهرة، تُجيد التلاعب بالعقاقير، تُقدّم السُّم على أنه الترياق يقول هوميروس، وتُحدث بهذه الحيلة والمناورة تحوُّلاً في البنية الإنسانية بأن يتحوَّل الشخص إلى مسخٍ في ملامح حيوانية. أصاب دلباني في اختيار النموذج، على اعتبار أن التاريخ الذي يستقرأ جزئياته المشكّلة لكُليَّاته، كان ولا يزال تاريخ «تحويل» (métamorphose) في الشرط العربي الإسلامي إلى «مسوخ» قابلة للتدمير الذاتي بسلوك سياسة الأرض المحروقة، بدافعٍ واحدٍ وجوهري عيَّنه دلباني في معرض قراءته لأدونيس، وهو «طُغيان الواحدية». الواحدية عُنصر سامّ في الطبيعة البشرية تتجلَّى مسوخه في السياسة والدين والاجتماع والأخلاق. الواحدية مبدأ «إلهي»، عندما يرتحل إلى الشرط «البشري» فهو فاتحة كل الشرور التي تتلخَّص في الدكتاتورية والاستبداد والتعصُّب؛ أي السلوكيات المضادَّة للطبيعة القائمة على التنوُّع والاختلاف والوفرة.

تجلّيات هذه الواحدية هي في الوقت نفسه سياسية ودينية، ونتائجها خطيرة ومدمّرة. يعود دلباني جنيالوجياً إلى الأمر الذي جعل ممكناً فتح عُلبة الشرور، ويُحدّدها في استلابين، الاستلاب في الماضي والاغتراب في الآخر: «لم يكن فكرنا في بداية "النهضة" إلا حنيناً ونوستالجيا إلى ملاحم البدايات والولادة المقدَّسة في لحظة الاغتراب عن الحاضر الذي حاد عن اللاهوت، وجعل فجر الناسوت ينبلج عقلانية وصناعة وقوة وهيمنة عند الآخر الغربي. لم تكن عقلانيتنا إلا انبهاراً بالآخر أو مصالحة مع موتنا التاريخي ونفخاً في رماد ثقافتنا القديمة التي لم نعثر على وصفةٍ تعيد لها شرارة الحياة من جديد» (ص11). بالاستلاب في الماضي والاغتراب عن الحاضر، فإن الملجأ والملاذ هو المقدَّس تعويضاً عن فقدان فردوسٍ ما، هو «الحقيقة» المتعالية على التاريخ، الهادرة لـ «حقٍ» محلي هو جُملة التجارب الحيَّة في المعيش واللغة والإقليم.

بالارتماء في أحضان الماضي والاحتكام إلى زمانه؛ أي بتعطيل الوظيفة النقدية، فإن المسوخ سهلة الظهور بين الفينة والأخرى في شكل حُمَّى مندفعة. من يملك اليوم وصفة «كيركي»، يمكنه تحويل الذوات الطبيعية إلى مسوخ مَرَضية، ومن يملك مفاتيح ذلك هو من يستأثر اليوم بالخطاب السياسي والديني والإعلامي ويتبوَّأ مقعده فيهما: «لم تكن فلسفتنا أنسنة ونقداً وللأوضاع التي أنتجت الاغتراب عن الواقع، وإنما تكنولوجيا جديدة أجهزت على الإنسان وطمست فيه منافذ الحرية وينابيع الصَّبوات الأولى إلى الانعتاق. لم تكن حداثتنا روحاً جديدة وعقلاً متحرّراً من الوصاية والمرجعيات المتعالية، وإنما كان تحديثاً شكلياً وآلة لم تغيّر نظرتنا إلى ذاتنا وإلى العالم» (ص13). ينبري من ذلك طغيان «التحديث» المادي والتكنولوجي الذي كسح الديار وكسب الجيوب، وفقدان «الحداثة» على مستوى الفكر والروح، لأن ما يُشكّل عصب هذه الحداثة وهو «الحَدَث» لم يأتِ بعدُ، ما دام الماضي هو المشرّع والقاضي، الحاكم على العقل والوجدان.

نتيجة ذلك خسران رهان الانخراط في العالم (ص15)، ولأن «الحداثة، جوهرياً، أنسنة لا تمذهُب؛ وهي تفكيك للمطلق لا إعادة إنتاج له» (ص16). عطالة الحداثة من فقدان الحدث النادر الذي لم يتوهَّج بعدُ، بحكم طغيان ما سمَّيتُه «قوى التعثُّر» التي تعيد إنتاج البنيات الاستبدادية ذاتها من جيل لآخر، بنيات ميكروفزيائية، لأن الاستبداد السياسي هو تجلٍّ من تجليَّاتها، الجزء البارز من الجبل الجليدي؛ والجزء الأكبر المتواري، يعتمل في الأسرة والمدرسة والجامع والجامعة وفي الخطاب الديني والسياسي والإعلامي، الحاملة كلها لبذور الاستبداد القادم: «تشهد على ذلك خيباتنا في محاولات تحديث مجتمعاتنا، وفشلنا في القطع مع بنيات التقليد والماضوية، ما جعلنا نحيد عن ترسيخ قيم التعدُّد والاختلاف والديمقراطية بالمفهوم الحضاري الشامل» (ص17).

العقاقير التي تُقدّمها «كيركي» العربية الإسلامية هي سموم الأيديولوجيا، لم يفلح ترياق العقل في استبعاد مفعولها التدميري، لأنه سجينها ورهينتها؛ مثلما تمَّ سجن الإنسان في زنزانة الأيديولوجيا، فلا يُقاس بمعيار «الإنسانية» الجامعة والمشتركة، بل بمكيال الانتماء المذهبي أو الطائفي أو الختم الديني. في الهجوم المضاد على «كيركي» الفاتنة والساحرة، بتحويل الطبائع البشرية إلى مسوخ، يبحث دلباني عن إكسير الفلسفة، بتحويل الصدأ في منظومة القيم إلى إشعاعٍ حضاري، والعُقم في التفكير إلى إنجابٍ مفهومي. يُحدّد وظيفة الفكر في أنها «مراجعة دائمة لأنظمة المعنى في الثقافة» (ص19)، احتراس دائم من التحوُّلات الآيلة نحو الفساد والعُقم باليقظة النبيهة لجنود النقد التفكيكي. يكمن الرهان في «تحرير إرادة المعرفة من إرادة الاعتقاد» (ص20) ويتساءل عن الصيغة والآلية: «كيف يمكن للنقد الفكري في الثقافة العربية، اليوم، أن يحيد عن مهمَّة نقد الأصول-والدينية منها تحديداً؟ كيف يمكن لهذا النقد أن يُشيح بوجهه عن خلخلة الأسس التي يقوم عليها نظامُ المعنى القمعي الرَّاسخ عندنا؟ كيف يمكن ألا يجترح هذا النَّقدُ فضاءاتِ الانعتاق من زنزانة الواحديَّة في جذورها الفكرية وتجليَّاتها المؤسَّسية تمهيداً لتحرير الطاقة الإنسانية على الإبداع وجعل المعنى انبجاساً من التجربة الحيَّة مع الوجود؟ لماذا نسقط دائماً في نزعات الإصلاح الفكري التي تُطيل أمد الماضي وتؤمّن للأب الثقافي/الرمزي حياةً جديدةً بيننا؟» (ص20-21).

ما يصبو إليه دلباني هو مجاوزة الإصلاح البرَّاني للقشور القائم على التزيين وحجب الجرح العميق، نحو تفكيك فعلي في البنيات ومداواة صارمة للعلل. لكن يجد هذا النقد الفكري مقاومة شرسة من لدن أوجه «كيركي» الفاعلة في الثقافة العربية الإسلامية ويُحدّد بعض تجليَّاتها في «العقل الفقهي» بوصفه «السّمة المميزة لمواقفنا المبدئية من قضايا المعرفة، وبوصفه نظامنا المرجعي في مسألة القيم ورؤية العالم. لقد انتصر هذا العقل لغياب الحركية الضرورية في تاريخنا من أجل توليد الحداثة وتثوير بنيات المجتمع البطريركي» (ص21-22). العقل الفقهي آلة في القياس والاستنباط، وأداة في تمديد عُمر البنيات العريقة، ما دام هو نوعٌ من «سرير بروكست» (lit de Procuste) يقتطع أجزاءً من الفعل الحاضر الحيّ وفق معيار القاعدة العريقة والبالية، ولأنه يقرأ ما يعتمل في الحاضر بالحَدَث العريق المؤسّس، ويمنع بالتالي نشوء حَدَثٍ من وحي اللحظة الراهنة بقوانينها ومعقوليتها.

2. الإبداع: انتصار رُهاب الصورة على عشق الصورة

يتطلَّع دلباني إلى ما يُسمّيه «السَّفر في عوالم البكارة»، باكتشاف حقولٍ جديدة وارتياد مغامراتٍ فريدة، فوق جواد المصدر «ب.ك.ر»: البكر والبكارة والابتكار؛ وهي أخوات من الرَّضاعة اللُّغوية تقول كلها الجديد والمستجد وشباب اللحظة. لكن لم يُدرك دلباني بعدُ انتصار ما سمَّيتُه دُعاة «رُهاب الصورة»، لأن ثقافتنا العربية الإسلامية في أصلها وجوهرها «أيقونكلستية» (iconoclaste)، أفقرت الخيال بقتل الصورة والانتصار للحرف والعلامة؛ أي النص؛ فكان أن ظهرت أشكال مَرَضية من التصوُّر والتصرُّف، مسوخ وحشية في السلوك هي ما عبَّرتُ عنه بعتمة المخيال. انجرَّ عن إفقار الخيال وهو عَمَل الصورة، ملأ الفراغ بما يُضادُّ الصورة، وجاء الإبداعُ بالتالي هزيلاً وهشًّا، ليست له القُدرة على ابتكار الجديد من وحي اللحظة والحَدَث، لأنه مكبَّل منذ النشأة على مقت الصورة والتصوير، فكيف يأتي الإبداع بفقدان المُحفّز والسياق الابتكاري؟

يُقدّم دلباني مثالاً حيًّا على الإبداع الذي من شأنه أن يقاوم الدوغمائيات والأيديولوجيات، وهو الصورة الشعرية: «الأيديولوجية نعاسُ الثقافة. أما الشعر، فهو يقظتها الدَّائمة» (ص25). غير أن الشِّعر لم يتجاوز رنين الحنجرة ورونق العبارة. إنه «ظاهرة صوتية»، يقمع الصورة المصاحبة له، يُبرز النبرة والعبرة ولا يعتدُّ بالفكرة شقيقة الصورة من الأصل الإدراكي: «إنَّ الشعر سيكون وليداً للدهشة نظير ما كانت عليه الفلسفة في بداياتها عند اليونان» (ص26). الدَّهشة في جوهرها صورة، لأنها تُبجّل جلال الصور في الوجود، تُبجّل شرطها الأنطولوجي كونها رؤية بعين الروح. لكن، هل هذا التقارُب بين الشعر والفلسفة كفيلٌ بأن يُربّي في الذات العربية شيئاً من قبيل الحس الفني والجمالي، المدخل الأساس لكل إبداع؟ طُغيان «العقل الفقهي» هو السبب المباشر في إفقار الخيال، لأنه عقل الأقيسة والاستنباطات والممنوعات والمحظورات، فلا يمكنه أن يُنمّي في الذات إوالية الإبداع، ولأنه يعتبر الإبداع شقيق البِدعة من الرضاعة اللغوية.

معظم العاهات التي شخَّصها دلباني في كتابه (الانكماش على الذات، الهوية السلبية والقاتلة، الفرار من العالم، إلخ)، إنما هي النتائج المباشرة في إفقار الخيال ومناهضة الصورة والتصوير. ولا يمكن الإبداع في ظل ثقافةٍ تمقُت الصورة وتقمع الخيال الخلاَّق بتجفيف ينابيعه وسلب حقّه في التعبير عن جمال الكينونة. حلَّ النصُّ محلَّ الصورة، لأن النص أمر وائتمار، حركة وسلوك، توسُّع وجهاد؛ يمقُت التأمُّل حليف النزوع الصوفي الهادئ والمعتنق للإنسانية. ثُمَّ ماذا يحدث عندما يتمُّ تجفيف ينابيع الصورة وجمال التأمُّل، وهي مفاتيح الإبداع وصناعة الحدث ثم الحداثة؟ يُطلُّ العُنف بأنفه، لأن العُنف حركة واندفاع، توسُّع وجهاد، فعل وانفعال. ما تمَّ إفراغه من كل الصور يتمُّ تعميره بالحركة، الحركة السقيمة مبدؤها التعصُّب ومؤدَّاها العُنف: «في أساس المجتمع الإسلامي الأول والدولة الإسلامية الأولى-بحسب أدونيس-فعل عُنفي. في البدء كان الدم. في البدء كان الاغتصاب. أصبح التاريخ الإسلامي مؤسَّسة لا تحبل إلا بالواحدية والتَّكرار ولا تتمحور إلا حول السلطة السياسية التي تفرض قراءتها الخاصة للنص المقدَّس بما يخدمها ويُبرّر توجُّهاتها وأفعالها» (ص36).

ما ينبري من هذه الفكرة هو ما قاله أيضاً هشام جعيَّط في كتابه «الفتنة الكبرى»، وما اعتبره رونيه جيرار بداهة تاريخية وإنسانية، وهي أن أصل كل ديانة وثقافة هو العُنف من وراء إوالية المحاكاة والبحث عن كبش الفداء. كل ثقافة تجرُّ في حاضرها تقاليد الماضي أي الأصل العنيف للثقافة البدائية وللديانة الناشئة، إنما تُعيد إنتاج في الحاضر انفعالات الماضي، وتبقى حبيسة مسرحته لطقوس العنف المقدَّس. يكمن الرهان في القطع مع هذه التقاليد بالارتقاء إلى الحقوق الكونية وتهذيب النوازع العنيفة للطبيعة البشرية، التي تميل إلى تبرير صنعتها بالنصوص العريقة والسرديات الكبرى: «فالفكر العربي ليس مدعواً إلى أن يبحث عن "إصلاح" الرؤية الشمولية المغلقة، وإنما عليه البدء بالتأسيس لشروط حياةٍ مدنية جديدةٍ تقطع مع اللاهوت السياسي وتنفتح على الحقوق الفردية والجماعية والمساواة وحقوق المرأة؛ أي باختصار ما يُشكّل دعامة الفكر الديمقراطي الحديث» (ص37).

ثم يتساءل بشأن بنية الخطاب الديني: «هل يمكن اعتبار الرؤية الدينية ونصوصها التمثيلية الكبرى "صندوق باندورا" الذي خرجت منه شرور العالم وكل أشكال العنف الراهنة؟» (ص38). جاء جواب دلباني «نعم ولا». هناك بالفعل عُنف مستقر في النصوص التأسيسية، لكن لا يمكن، حسب نظره، اعتبار النصوص المبرّر الوحيد للعنف الحاصل. هناك أيضاً الواقع المعقَّد والمستلب الذي له قسط معتبر من زرع بذور التعصُّب وحصاد أشواك العنف: «إن ما يُفسّر العنف اليوم، برأينا، ليس النص أو التاريخ القديم فحسب وإنما-وبدرجة أكبر-الحاضر الملتهب الذي لم يحسن احتضان صبوات الفئات الأكثر هامشية ومعاناة في مجتمعات الإقصاء والبؤس المادي والمعنوي. فالدين يبقى في بعض وجوهه ملاذاً يقي من صقيع الحياة و"قلب عالم بدون قلب" كما وصفه ماركس، ذات يوم، بحق» (ص39).

3. الظاهرة الكونية للعنف وتجليَّاتها الدينية

يذهب دلباني عكس أدونيس في أن العنف ليس مسؤولية النص فحسب، بحكم أن النص ينخرط في "باراديغم القوة" للأزمنة العريقة، وكل الحضارات والأديان القديمة كانت تُحرّكها إوالية العنف من أجل التوسُّع والترسُّخ؛ بل الواقع في بنيته الإمبريالية والإقصائية هو المسؤول في القسط الأكبر منه على العنف المتفشي، وعلى اعتبار أن ثمة أيديولوجيات عنيفة مثل نازية هتلر وشيوعية ستالين، لم تكن تدين بأي دينٍ وكانت في جوهرها هويَّات قاتلة وأنظمة إجرامية: «هذا ما يدعونا إلى أن نرى في الإرهاب المعاصر ظاهرة تتجاوز، بكل تأكيد، منطوق النصوص الإسلامية التأسيسية لتتجذَّر في أرضية العصر ومشكلاته الاقتصادية والسياسية ومطالبه التربوية والثقافية» (ص39). وإن اشتملت النصوص التأسيسية أو الكتابات المقدَّسة على عُنفٍ بارزٍ، فإن «تداوليات» اللَّحظة تُعلّمنا بأن ليس كل شيء قابل للتطبيق، بل هناك أحكام ينبغي تعليقها أو تعطيلها إذا كان الغرض منها المساس بإنسانية الإنسان عدواناً وإجراماً.

تتواقت هذه الفكرة مع نداء 300 شخصية فرنسية بتعطيل الآيات العنيفة، والتي فُهمت على أساس أنها دعوة لحذفها من الكتاب المقدَّس. لا أعتقد أن الدعوة كانت تقصد حذف آيات، بقدر ما كانت تشير إلى عدم راهنيتها بالمقارنة مع روح الزمن والدعوة إلى عدم تدريس الآيات الداعية إلى قتل الكُفار واليهود والنصارى للناشئة من الأطفال في المنظومة التربوية. نعرف بأن الكاثوليكية عطَّلت آيات من الإنجيل يقول فيها اليسوع في ما معناه بأنه أتى إلى العالم بالسَّيف، وكان هذا يتنافى مع الصورة التي كانت تروّج لها ليسوعٍ متسامح، يحمل ذنوب البشرية كفَّارةً. يضيف دلباني: «هذا يعني أن الدّين لا يُستحضر لذاته، وإنما باعتباره ما يمنح الشَّرعية» (ص40). فهو الذَّريعة بغض النَّظر عن بنيته، ولأن الرهان من وراء تبنّي الدين هو السُلطة والهيمنة على حساب مديونية المعنى كما سمَّاها محمد أركون. هذا ما دفع دلباني إلى الخلاصة التالية: «إنَّ العُنف يُمثّل ظاهرة بشرية لا إسلامية» (ص42). الأصل بشري والوسيلة دينية، لأن «المقدَّس» هو الظاهرة-المغنطة الأكثر استقطاباً لشهوة السلطة والمال والهيمنة.

لذا، جاءت المشاريع العلمانية لتأشير الحقول والأرضيات بالتمييز بين المهام والوظائف: سياسية، دينية، علمية، اقتصادية، إلخ. لم تأتِ المحاولة من فكرة «تقسيم العمل» فحسب، ولم تأتِ كذلك استجابةً وترجمةً للآية الانجيلية: «أعْطُوا مَا لقَيْصَر لقَيْصَر وما لله لله» (إنجيل مرقس 12: 12-17)؛ وإنما جاءت تجربةً مريرةً للحروب الدينية والصراعات الطائفية داخل الوحدة الكبرى نفسها، وهي الديانة المسيحية؛ أي ما يُسمّيه دلباني «رد فعل المجتمع التقليدي على تفكُّكه الخاص أمام التغيُّرات الكبرى» (ص44)؛ أي أن العُنف «علامة أزمة»، أزمة مع الذات في مقاومة التغيير (داخلياً كان أم خارجياً) والحنين إلى الفردوس المفقود. يميل دلباني بالأخذ بالتاريخ على حساب البنية؛ أي أن العُنف هو ظاهرة تاريخية متجذّرة في الطبع البشري عموماً وليست بنية ثابتة خاصَّة بهذه الثقافة دون تلك أو بهذه الديانة دون تلك. معنى ذلك، أن التغيير نحو الأحسن ممكن، شريطة أن تكون هنالك الوظيفة النقدية والتفكيكية الصارمة التي تجعل التغيير من داخل الذات أمراً ممكناً، وتفادي التغيير المفروض من خارج الذات، الذي لا يأتي سليماً وطبيعياً بقدر ما يُشوّش على عمل التاريخ ويُشوّه وظيفة النقد.

النزوع نحو التطرُّف الديني في الذات والنزوع نحو التطرُّف العنصري في الغرب، ما هي سوى تجليَّات «الأزمة» التي تكابدها الذات مع ذاتها، غربية كانت أم إسلامية. فلأن هناك أزمة في الداخل (تعصُّب ديني وعنصرية متنامية)، هناك توجيه سهام الاتّهام نحو الخارج. العلاقة المحمومة بين الأنا والآخر هي في الغالب «تداخُلية» (chiasmique) تطأ فيها قدم كل طرف على إقليم الآخر استعماراً أو عدواناً أو إرهاباً. الكفُّ عن العدوانية المتبادلة هو التفات كل ذات إلى ذاتها بعلاج كلومها الوجودية وجروحها النرجسية. يبدأ ذلك بنزع القداسة عن الكُليَّات والمجرَّدات التي طبعت الثقافتين الغربية والإسلامية، بإقحامها في التاريخ ومناقشة نشأتها الزمنية وتطوُّرها الثقافي. هذا ما يناقشه دلباني، وهو صورة القُدس في العمل الأدبي، وفي شعر أدونيس على وجه التحديد. تكتنف هذه الصورة ضبابية أيديولوجية «وصراع الوحدانيات التي نسفت جسور التَّعايُش». جاء العمل الأدبي أو الشعري «مرثية للأرض التي لم تتحرَّر من هيمنة المقدَّس ولم تلج، بعدُ، زمن الإنسان» (ص54).

كثُرت الأسماء للمدينة الواحدة، فهي «القُدْس» إسلامياً، و«مدينة السلام» أو «أورشليم» يهودياً، و«إيلْيَاء» (Ilya) سماوياً، وحتَّى أنطولوجياً (هل اختار إيمانويل لفيناس «يوجد» أو «ثمَّة شيء ما» (il y a) عبثاً؟ هل له علاقة بتسمية المدينة؟)، لكن أضحت الإوالية نفسها: «أرض النبوات لا تحبل إلا بالموت». بالارتقاء بالاسم سماوياً، تجرَّدت الأرض وانمحى التاريخ، وأضحت الوحدانيات المتعاركة قلاعاً مغلقة، لأن كل وحدانية، من أيّة ثقافةٍ أو ديانةٍ كانت، تعمل على احتكار الذاكرة على حساب التاريخ، وتُحوّل هذا الأخير إلى «تاريخٍ مقدَّس» (hiéro-histoire). يكتسي المكان دلالة رمزية مشحونة ومحمومة، وتنتفي عنه إحداثيات الجغرافيا: «القُدس خلاصة التاريخ الأرضي وقد وقع منذ البداية في أسر السَّرديات الشمولية القائمة على الواحدية» (ص65). يصعب في أسر هذا التاريخ المقدَّس «أنسنة» الجغرافيا وإرجاع الاستحقاق الإنساني للمدينة: «القُدس تعاني من هويَّتها المغلقة على ذاتها ما دامت لا تحتفي إلا بالهويَّة الدينية» (ص67)، ترفع الاسم إلى السماء، تتنكَّر للأرض، تُقدّس التاريخ، وتُغيّب المكان الجغرافي والإنساني.

نتيجة ذلك هو عُنف مضاعف: مادي ورمزي. ما يُعوّل عليه دلباني هو الانتقال من الزمن الديني إلى الزمن الشعري، «الشعر» الظاهرة الإنسانية الوحيدة والكينونة اللغوية الفريدة في إحقاق «الاستشعار» (empathie) قانوناً بشرياً يتجاوز التشنُّج الأيديولوجي القائم على عنفوان الواحدية وصراع الوحدانيات. المشكلة البارزة هي أن هذا الصراع لا يزال قائماً ما دام هو يتنكَّر لبداهة التاريخ والأرض والإنسان. كل الشرور الصادرة عن هذه العُلبة الواحدية وهي التطرُّف والاستبداد والبطولات الأبوية والذكورية والأسطورية، إنما تجد منبتها في ارتحال المعنى من «الاستئثار الألوهي» إلى «الاحتكار البشري». آلهة في الأرض هي المصيبة على جبين البشرية، وهي أكثر بروزاً وشططاً في الديار العربية والإسلامية التي لم تستطع التخلُّص من هذا الارتحال الذميم من الوحدانية العقائدية إلى الواحدية في السلطة السياسية والدينية.

4. التطرُّف والطَّواف على الذات الخائبة

كل أشكال التطرُّف والإسراف، السياسي والديني، إنما هي الشرور الصادرة عن عُلبة الذات الخائبة التي تُحقق في مخيال السَّماء والآخرة ما تعجز عنه في خيال الواقع والتاريخ. إنه الفرار من الذات نحو ملجأ الفراديس المفقودة والمتخيّلة: الهروب من الدُنيا، دار الغرور والشرور، نحو الآخرة، مكمن الاستقرار؛ الفرار من العولمة، مصدر التوسُّع والإفقار نحو الهوية، منزل اليقين والقرار؛ اللجوء إلى المخيال في تصوير ملامح الآخر الخطير والعزوف عن الخيال، منبع الاشتغال على الذات وتجويد العُدَّة العقلية والوجدانية: «التطرُّف سقوط معلن للعقل والقيم. التطرُّف استسلام لرغبة محو الآخر» (ص84). يأتي ذلك من كون كل ثقافة تنام على يقينياتها الألفية والعريقة، تحتفي بأصولها الغائرة التي تبحث لها عن عرقٍ طاهر، جنسي في النَّسب (فكانت العنصرية والاستعمار والاستعباد) أو ديني في الانتساب (فكان التعصُّب وتكفير المغاير والإخراج من الملَّة). كل بحث عن «طهرانية» الأصول، إنما هو نزوع محقَّق نحو الإقصاء والإجرام.

بهذا المعنى، لا يستثني دلباني بمعوله النقدي الثقافتين الغربية والإسلامية: «ما يجب التركيز عليه أكثر، برأينا، هو مشكلة أوروبا مع هويتها الثقافية وحدودها أولاً؛ ومشكلة المسلمين مع العالم ومع ثقافتهم التي لم تشهد، بعدُ، مصالحة جادَّة مع الحداثة من جهة ثانية» (ص89). مظاهر ذلك هو الاحتفاء بالعُلو على حساب الآخر: الشعبُ المختار أو خير أمَّةٍ أو مديح الحدود أو العرق السامي، ما هي سوى الجرح الغائر للذات الخائبة. الذات السليمة والمتيقّنة من صورتها الجميلة لا تنغمس في مديح العُلو والتسامي إذا كان المراد منه المقارنة مع الغير والتفوُّق عليه. لأن ذلك صبيانية متحقّقة. الذات المتحقّقة من ذاتها «متركّزة» على قواها، لا «المتمركزة» على مكاسبها: «ما أردنا أن نقول هو أن المسؤول الأول عن إنتاج الصورة التي تعرض الذات أمام شاشة العالم الإعلامية هو الذات نفسها في المقام الأول؛ لأن الآخر لا يفعل سوى أن يستنفر الذاكرة المشحونة بالتوتُّر ومخيال الخوف الجاهز دوماً لتبرير المواقف المستجدة ورسم الاستراتيجيات» (ص91).

يأتي تصحيح الصورة بالمبادرة في الاشتغال على الذات بما يضمن لها الانتقال نحو مرحلة جديدة، حديثة، حداثية إذن، لأنها من صُنع الحدث. يكمن الرهان في تغيير الوجهة، من الاهتمام المهووس بالعوالم الخفيَّة، إلى الانهمام بالذات في العالم الراهن، وهذه هي بالضبط روح العلمانية، التي هي أيضاً الانخراط في العالم (weltlich). من الخطأ تسميتها بالدَنْيَوة كما يريد البعض، لأن دلباني يريد أساساً تغيير المعجم والصيغة، وهي أن الكلمة «دُنيا» تبقى هي الأخرى حبيسة التصوُّر الديني. العلمانية المراد توطيدها وتوطينها هي الانتباه إلى «عالَم» الشرط الإسلامي، بإعادة ربط هذا الشرط بعالميته، بعالمه التاريخي والأرضي، بإنزاله من علياء البحث عن الصفاء الخالص، عنوان التشنُّج الذاتي، وبالتالي العدوان على الآخر. كان هذا رهان دلباني في هذا الكتاب: كيف للشرط الإسلامي أن يبحث له عن مكانٍ في عالم الجميع، لأنه عالم كل واحد.