بسّام الجمل: مقاربات في الدّراسات القرآنيّة (الجزء الثّالث)


فئة :  حوارات

بسّام الجمل: مقاربات في الدّراسات القرآنيّة (الجزء الثّالث)

د. نادر الحمّامي: نجدّد شكرنا لك أستاذ بسام الجمل على قبولك أن تكون ضيفنا اليوم من أجل طرح الأفكار للنّقاش في هذا الحوار، الذي كنّا قد وصلنا في الجزء الثّاني منه إلى مسألة الدّراسات القرآنيّة التي شكّلت مدار اهتمامك في جملة من المقالات والأعمال والمحاضرات، وهي مسألة فرضت نفسها اليوم في الدّراسات الإسلاميّة بصفة عامّة، لتصبح مجالاً بحثيّا مستقلاّ، رغم أنّها ليست جديدة، فقد انطلقت من إطار صراع جدالي أخذ بعده العلمي في منتصف القرن التّاسع عشر مع نولدكه، صاحب كتاب "تاريخ القرآن" الذي كان له وقع كبير على كافّة الدّراسات التي لحقته باختلاف توجّهاتها؛ ذلك أنّ دراسة المصحف، باعتباره نصّاً، لم تتخلّص من الوطأة الفيلولوجيّة واللّغويّة في البحث، كما لم تشذ عن النّواحي التّاريخيّة، خاصّة في ما يسمّى في الدّراسات القرآنيّة الألمانيّة "ما قبل النّص القرآني". ألا ترى معي أستاذ بسّام أنّ الدّراسات القرآنيّة لم تتخلّص من تلك المباحث الفيلولوجيّة والتّاريخية على اختلاف توجّهاتها، رغم تطوّرها منذ ذلك الوقت إلى اليوم؟

د. بسّام الجمل: ينبغي أن نضع هذه المسألة في إطارها المعرفي، وأن نميّز بين طورين كبيرين في الاستشراق، هما الاستشراق الكلاسيكي مع نولدكه بالأساس وبلاشير، ثمّ الاستشراق الجديد الذي أنتج دراسات مهمّة خاصّة في سبعينيات القرن الماضي مع ونزبرو(John Wansbrough) (1928- 2002) أساسا، ولكن الإشكال في المجال الثّقافي العربي أنّ كتاب نولدكه الذي كتب في 1860 لم يترجم إلى العربيّة إلاّ بعد أكثر من قرن (144 سنة)، وهذا يعبّر عن فجوة تخلّف كبرى، وهو ظاهرة محيّرة جدّا وتعكس حجم التّأخّر المعرفي للعرب والمسلمين. وقد كتب في الدّراسات القرآنيّة، إضافة إلى ونزبرو، باتريشيا كرون (Patricia Crone) (1945-2015) ومايكل كوك (Michael Cook) (1940)، رغم أنّ هناك مآخذ كثيرة على هذين الأخيرين، ولكن هناك أيضاً مقالات مهمّة صدرت في مجلاّت متخصّصة منذ بداية السّبعينات، مثل ما كتبه جيمس بيلامي (James A. Bellamy) (1925-2015) وهو غير معروف كثيراً، وهناك تحقيقات فيلولوجيّة مهمّة جدّاً كتبها هذا الرّجل. وأعتقد أنّ الدّراسات القرآنيّة في الاستشراق الجديد هي التي تستحق التّوقف عندها، لأنّها لم تعد تدرس النّص الدّيني في كلّيته، وإنّما تأخذ بعض الآيات والألفاظ وتهتمّ بالمعجم. ولكن هذا المرور من نولدكه إلى ونزبرو لم يحدث هكذا فجأة، بل تخلّلته محطّات أخرى كانت بمثابة الجسر الواصل بين هذين الطّورين، مثل ما كتبه ألفونس منجانا (Alphonse Mingana) (1878-1937) (Syriac Influence on the Style of the Kur'an) سنة 1927، وقد درس الأصل السّرياني للألفاظ القرآنيّة، وما كتبه آرثر جيفري (Arthur Jeffery) (1892-1959) (The Foreign Vocabulary of the Qur’ân) سنة 1938. وهي كتابات مهمّة جدّاً ولكنّها لم تلق عناية من الدّارسين المتخصّصين، وأهملت لعدّة عقود، ولم يقع الالتفات إليها إلاّ مؤخّراً، حتّى أن كتاب آرثر جيفري لم تقع ترجمته إلى اليوم، وربّما ذلك يعود إلى أنّه من الكتب صعبة التّرجمة، فهو يأخذ الكلمة ويتتبّعها في مختلف اللّغات؛ الأثيوبيّة والحبشيّة والسّريانية والآراميّة والعبريّة، وهذا ما يجعل ترجمته صعبة جدّا، ويطرح شرطاً أساسيّا في الدّراسات القرآنيّة المعاصرة، وهو أن يكون الباحث متمكّنا من اللّغات الأجنبيّة، والحال أنّنا اليوم في المجال العربي المعاصر نفتقد إلى باحثين متخصّصين في السّريانية والآراميّة وفي اللّغات الساميّة عموماً، ولا يمكن للمتخصّص في الدّراسات القرآنيّة أن يخوض في هذا المجال ما لم يكن مطّلعاً على هذه اللّغات ومتمكّنا منها.

د. نادر الحمّامي: لذلك انطلق نولدكه في تخصّصه من اهتماماته اللّغوية، فقد كان باحثاً في اللّغات السّاميّة.

د. بسّام الجمل: هناك شروط معرفيّة ضروريّة، ينبغي أن يكتسبها الدّارس أو المتخصّص في الدّراسات القرآنيّة، وهو أن يكون له اطّلاع علميّ واسع ومعرفة باللّغات، وعليه أن يكون عارفاً بها كتابةً ومتقناً لها قراءة، حتى وإن لم يكن يتكلّمها. ومع ذلك يبقى المشكل الحقيقي في الدّراسات القرآنيّة هو غياب جسور للتّواصل المعرفي بين مختلف الباحثين، فما يكتبه يوسف الصدّيق (1943) وما تكتبه جاكلين شابّي (Jacqueline Chabbi) (1943) وما يكتبه فرد دونر (Fred Donner) (1945) ينعدم فيه التواصل المعرفي بين هؤلاء، ولا نجد استفادة اللاّحق من السّابق، فيوسف الصدّيق على سبيل المثال، يخوض في المعجم الدّخيل، وأساساً، في المعجم اليوناني، لكنّه لا يستحضر ما قاله آرثر جيفري في هذا المجال.

د. نادر الحمّامي: إذا كانت هناك هذه النّزاعات الفيلولوجيّة حول البحث في أصول بعض الكلمات في اليونانيّة أو السّريانية أو الآراميّة أو غيرها، فهل هي من منطلق أنّ تلك الكلمات تمتلك أصولاً فعلية في تلك اللّغات، أم إنّ الأمر لا يعدو أن يكون سوى دفاعاً مسبقاً عن نوع من الاشتراك الحضاري أو التّثاقف أو حتّى الصّراع والجدل بين الثّقافات؟ وهل عدم وجود جسور بين الباحثين في هذا المجال يعود إلى أنّ كل باحث يشتغل في جزيرة معزولة عن الآخر؟ أم أنّه محكوم بدافع عدم الاتّفاق لاعتبار أنّ الأصل في لغة بعينها من هذه اللّغات وليس في لغة غيرها؟

د. بسّام الجمل: يؤكّد البحث الفيلولولجي دائماً على وجود عائلات لغويّة يقوم بينها تقاطع مردّه إلى التأثّر والتّأثير المتبادلين فيما بينها، وهناك سلسلة نسب لكل كلمة في اللّغة العربيّة في لغات أخرى كالعبريّة أو السّريانيّة أو الآراميّة. والدّراسات القرآنيّة، في اشتغالها على المصحف، تنطلق من فرضيّات أنّ القرآن الأصليّ له نسخ سريانيّة آرامية مثلاً، أو أنّ الكلمة القرآنيّة لا يمكن أن تُفهم إلاّ بالعودة إلى معناها في اللّغة اليونانيّة أو غيرها. ولكنّ الصّعوبة الحقيقيّة تكمن أنّها تشترط وجود أدوات مادّية من مصاحف قديمة ورقوق يمكن أن تشتغل عليها، مثل مصاحف صنعاء أو مجموعة منجانا في جامعة بيرمنغهام في إنجلترا، وهي مصاحف قديمة جدّاً ويقع التّعامل معها علميّا باعتماد الكربون عدد 14، الذي يقدّم تاريخ الرّق ولكنّه لا يقدّم تاريخ الخط، وهذا مشكل، أضف إلى أنّه يحمل هامش خطأ يقدّر بتسعين سنة تقريباً، ولكن هذه التّحاليل العلميّة للمخطوطات القديمة تبقى مهمّة جدّاً، وتؤكّد دائماً على وجود فرضيّة بحث تقول إنّ هذا النّص القرآني له أصل معيّن.

د. نادر الحمّامي: ربّما هذا ما قاد الدّراسات القرآنية مؤخّراً إلى الحديث عن "قرآن الحجر" (le coran de prière) للبحث عن المادّي الذي لا يتوفّر في معظم الأحوال.

د. بسّام الجمل: نعم، فالعبارة القرآنيّة موجودة في المنقوشات أو النّقوش في الجزيرة العربية، كتلك التي وجدت في اليمن، كما في الرّقوق والمصاحف القديمة. ولكنّ الإشكال في الدّراسات القرآنيّة اليوم هو أنّ هذه الاختلافات التي تشقّ أعمال الباحثين لم تحظ بإجماع النّخبة العلميّة، فهي تبقى فرضيّات عمل، لذلك اختلف الدّارسون في تقييم ما قام به لكسنبرغ (Christoph Luxenberg) على سبيل المثال، فانتصر له البعض وانتقده البعض الآخر، ولعلّ الأمر نفسه كان قد وقع مع ونزبرو، ولو بشكل آخر، ورغم ما طاله من انتقاد فإنّنا نشهد اليوم وقوفاً على قيمة ما كتبه حين بحث في القصص القرآني وأعاد ترتيب الآيات من سور مختلفة واستخرج نسقاً في القرآن حول قصّة النّبي شعيب. ونلاحظ اليوم أنّ هناك عودة إلى تلك الكتب بغرض الاستفادة منها بعد أن استُهجنت ولقيت نقداً كبيراً وشديداً من قبل الدّارسين.

د. نادر الحمّامي: وخاصّة من قِبل المدرسة الألمانيّة ممثّلة في أنغليكا نويفرت (Angelika Neuwirth) (1943) وتلامذتها الذين يؤكّدون، في نوع من المقاربة الأدبيّة، على وحدة سور القرآن وأنّ فيها مقدّمة وجوهراً وخاتمة. وبالعودة إلى مسألة الفيلولوجيا فقد كنتَ قدّمت محاضرة مهمّة حول ما أسميته التّنازع بين القراءة والفيلولوجيا، فماذا تقصد بهذا التّنازع؟

د. بسّام الجمل: هذا التّنازع، وهو الذي أسميته أيضاً في عنوان فرعي ضمن المداخلة بـ"قلق في التفسير"، يضعنا أما تساؤل؛ هل نأخذ اليوم بالقراءات الجديدة للعبارة القرآنيّة أم نأخذ بالتّحاليل الفيلولوجيّة أم نجمع بين الأمرين؛ فهناك عدّة كلمات في المصحف قدّم في شأنها دارسو القرآن أو المستشرقون الجدد قراءات أخرى موجودة في مصاحف قديمة، كان قد ذكرها آرثر جيفري، ولكنّها غير معتمدة في القراءات الرّسمية المعترف بها (السّبع والعشر والأربعة عشر) من ذلك الآية التي تتحدّث عن "حَصَبِ جهنّم"، فهو يقول لا شكّ في أنّ هناك خطأ ما، فلماذا لا نستعمل عبارة "حَطَبِ جهنّم"، ومن ذلك أيضا الآية التي ورد فيها "تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً"، يقول عندما نستحضر صورة المصحف قبل الإعجام؛ أي قبل وضع النّقاط والحركات الإعرابيّة، فيمكن أن تُقرأ "تَسْمَعُ لَهُمْ ذِكْراً" خاصّة أنّ آيات أخرى في سور أخرى تستعمل هذا التّركيب وهذا التّلازم بين السّمع والذِّكر. إلى غير ذلك من الأمثلة التي تدعونا إلى إعادة النّظر في عدد من الألفاظ القرآنية.

د. نادر الحمّامي: هل يعني ذلك استغلال التّفسير لتصحيح رسم المصحف، ولتصحيح الفيلولوجيا في نهاية الأمر؟

د. بسّام الجمل: صحيح، وحتى التّحاليل الفيلولوجيّة تصبّ في هذا الاتّجاه، لأنّ هناك كلمات أو عبارات أو ملفوظات قرآنيّة اختلف المفسّرون في الوصول إلى معناها اختلافات كبيرة جدّاً، ويحصرها لكسنبرغ في حدود 300 كلمة. إذن كيف يمكن أن نحلّ هذا الإشكال؟ لا أعتقد أنّه يُحلّ بمجرّد تأويل تلك الألفاظ في إطار اللغة العربيّة وحدها، فهذا لا يكفي، بل إنّه يولّد الاختلاف أكثر ممّا يولّد الوقوف على معنى دقيق ومتّفق عليه حسب سياق الآية ومقام التّلفّظ فيها. لذلك، ينبغي العودة والنّظر في أصول الكلمة ومعانيها في لغات أخرى تنتمي إلى العائلة اللّغوية نفسها، وإخضاعها إلى المقارنة، على غرار ما قام به مانفرد كروب (Manfred Kropp) (1947) الذي نظر في المعجم الحبشي في القرآن وعاد إلى نسخ الكتاب المقدّس المحرّرة بالحبشيّة أو الأثيوبيّة القديمة ليقارنه بها، وعلى غرار ما قام به يوسف الصدّيق من تحليل المفردات القرآنية بالعودة إلى أصولها اليونانيّة، وذلك في مجمل ما كتب وفي ترجماته لمقاطع من القرآن وفي كتابه ''ألم نقرأ القرآن بعد''. وقد نجد في مستوى الآية نفسها التّحليلَ السّرياني الآرامي يقول شيئا والتّحليل الفيلولوجي يقول شيئاً آخر، وقد قارنت بين ما قاله يوسف الصديق وما قاله لكسنبرغ، فوجدت أنّ يوسف الصدّيق يقول، على سبيل المثال، إنّ كلمة "الكوثر" تعني الطُّهر في اليونانيّة كما تُنطق في اللّهجة العامّية بطريقة مشابهة لنطقها باللّغة العربيّة (catharsis)، وأنّ ما يدلّ على اعتبارها دخيلة هو أنّنا لا نجد في العربيّة فعلاً ثلاثيّاً صحيحاً على وزن "فوعل" فلا نقول "كَوْتب" أو "خَوْرج" وكانت تلك حجّته اللّغوية، ونجد في الآية نفسها وفي الكلمة نفسها لكسنبرغ يقرأ ''إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ'' أي أعطيناك "فضيلة الثّبات" وهذا معنى الآية في السّريانية والآراميّة، كما يقرأ كلمة "انحر" في "فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ" (انجر) في استحضار لصورة المصحف قبل الإعجام، وهذا ضروري فالقراءة الفيلولوجية دائما تقوم على مبدأ استحضار صورة الخط الحجازي القديم قبل وضع النّقاط والحركات الإعرابية.

د. نادر الحمّامي: ألا ترى معي أنّ هذه المنهجيّة المعتمِدة على المعنى الذي قد يُؤدَّى من الكلمة بعد قوننة (canonisation) المصحف مع ابن مجاهد في القرن الرّابع وتأسيس نظام القراءات السّبع، محدودة، لأنّها أهملت ما يسمّى القراءات الشاذّة؟ فلو أنّنا جمعنا تلك القراءات الشاذّة، وهو ما حدث مؤخرا في كتاب "المصحف وقراءاته" الذي أصدرته مؤسّسة مؤمنون بلا حدود، لوجدنا أنّها ربّما تكون هي الأصل، ولكن نظام القراءات السّبع هو الذي وضعها في دائرة الشّاذ.

د. بسّام الجمل: صحيح، والدّارس اليوم مدعوّ إلى استحضار هذه القراءات التي سمّيت بالقراءات الشاذّة، وليس عليه أن يفاضل بين القراءات، فيقول إنّ هذه القراءة صحيحة والأخرى غير صحيحة، فكلّها قراءات قابلة للدّرس، وينبغي أن نُخضعها للمقارنة والمقايسة بغض النّظر عن تصنيف القدامى لها على أنّها شاذّة. لذلك ينبغي استحضار ما كتبه ابن جني (ت 392 هـ) في ''المحتسب في القراءات'' وإخضاعه للدّرس ومقارنته بغيره، إلى جانب استحضار القراءات الموجودة في المصاحف القديمة التي وصلتنا نتف منها أو عنها في كتب التّاريخ الإسلامي العام وكتب الحوليّات؛ فالمقارنة أو المقايسة مهمّة جدّا، وينبغي الاهتمام بها في مجال الدّرس بغضّ النظر عن مجال التعبّد.

د. نادر الحمّامي: أليس وضع النّص القرآني في إطار عام آخذ بالقراءات الشاذّة وثنائية التأثّر والتأثير في إطار اللغات الأخرى، قادر على أن يخلخل مرتكزات نظريّة كاملة قائمة في الدّراسات القرآنيّة تقارب المصحف على أنّه نصّ (The Quʼran as Text) ''القرآن نصّاً''، وهي في كثير من الأحيان عاجزة عن الوصول إلى نتائج مهمّة؟

د. بسّام الجمل: هذا المشغل من أوكد اهتمامات الدّراسات القرآنيّة اليوم، وأذكر أنّ ندوات مهمّة عقدت في ألمانيا خاصّة، درست القرآن، باعتباره نصّا، في محيطه التّاريخي. ولكن هناك اتّجاه آخر في الدّراسة يقول بوجوب أن نكتفي بالنّص وأن نتعامل معه كما هو وأن نحلّل الخطاب الدّيني كما وصلنا ولا نحفر أو ننبش في ماضي الكلمة لأن ذلك سيفضي بنا إلى متاهات واختلافات كبرى، وذلك ما توصّلت إليه آن ماري بوازيفلو (Anne-Sylvie Boisliveau) في أطروحتها (Le Coran par lui-même). وهناك اتّجاه ثان يقول، بعكس ذلك، علينا أن ننبش في تاريخ الكلمة وفي نسبها وفي تسلسلها وفي وجودها في اللّغات الأخرى، لأنّ ذلك من شأنه أن يوفّر إمكانيّات أخرى للفهم، ولذلك فالتحرّي الفيلولوجي ليس البحث عن فائض في المعنى، بل هو استعادة معنى ما ربّما يكون قد ضاع أو تُنوسي، وتلك إمكانات تبقى متاحة دائماً.

د. نادر الحمّامي: ألا تعتقد أنّ المنهج الذي يدعو إلى التّعامل مع النّص كما هو باعتباره نهائيّ الدّلالة، من منطلق الكف عن الصّراعات الأيديولوجيّة والعقائديّة والدّينية، يلتقي مع مقولة "التّوقيف" القديمة في السّياق ذاته من ناحية ترتيب السّور ووحدة السّورة، الأمر الذي يناقض المبادئ الكبرى للدّراسات القرآنيّة ذاتها، ما يجعل هذا المنهج كأنّه يناقض نفسه في النّهاية؟

د. بسّام الجمل: نعم، لأنّ مقولة "التّوقيف" تقابل مقولة "العمل"، فهي تلغي إمكانية التدخّل البشري في النّص تماماً، وبالتّالي فهي تغلق النصّ وتسيّجه وتمنع الخوض فيه، فالتّوقيف هو أن يقال إنّ هذا التّرتيب حصل بالتّوقيف من الله على هذا النّحو أو على ذاك الشّكل، وهذا الرّأي موجود وراسخ بقوّة ومستمرّ في التّاريخ. ولكنّ التحرّي الفيلولوجي لا يأخذ بهذه المسلّمة لأنّه لا يضع شروطاً أو ما قبليّات للبحث، وإنّما هو ينطلق من فرضيّات بحث، قد نختلف في شأنها وفي تقييمها، وهي تبقى قابلة للتّنسيب وللمراجعة المستمرّة وللتّفهّم المتكرّر. لذلك، فالنّخبة العلميّة اليوم لم تقطع في هذا الأمر، فهو مجال بحثيّ حيّ بصدد التّكوّن والتّطور والمراجعة النقدية المتواصلة.

د. نادر الحمّامي: رغم أنّ البحوث كثيرة في هذا المجال، إلاّ أنّ المسار لا يزال طويلاً.

د. بسّام الجمل: ولهذا يشتغل بعض الدّارسين، أحياناً، على كلمة واحدة من آية، كما فعل ستيفان فيلد (Stefan Wild) (1937)؛ وقد وقع الاشتغال، مثلاً، على كلمتي "جبت" و"طاغوت" بكثرة، وظهرت حولهما دراسات كثيرة، منها ما هو غير معروف، مثل دراسة هبة عطاء الله المهمّة حول ''أصل كلمتي جبت وطاغوت في القرآن''، والتي صدرت منذ سنة 1970، ولكن لا أحد يحيل عليها، رغم أنّها منشورة منذ ذلك الوقت؛ فقد بحث كلّ من لكسنبرغ ويوسف الصدّيق وغبريال صوما‎ (Gabriel Sawma) في الكلمتين، ولكن لا أحد من هؤلاء عاد إلى دراسة عطاء الله، وقد اطّلعت عليها ووجدت أنّها تقدّم تأويلاً معرفيّاً يمكن أن نستفيد منه، وأن نناقشه أيضاً. والأصل في التحرّيات التّيمولوجيّة أنّها تقلب المنهجيّة السّائدة في الدّراسات الكلاسيكيّة؛ ففي القديم كان المفسّر، عندما تعترضه كلمة ولا يفهم معناها، إمّا أن يقول إنّ الغموض في هذه الكلمة ليس من الله، وإنّما هو قصور في القارئ، فيقرأ النّقص المعرفيّ في ذاته، ويحاول أن يقترب من مراد الله حتى يفهم ذلك المعنى، وإمّا أن يفتح المعاجم اللّغوية ويعود إلى "لسان العرب" ويقول هذه الكلمة تدلّ على كذا وابن منظور يقول فيها كذا، والحال أنّ هذا المنهج مقلوب رأساً على عقب، لأنّ "لسان العرب" متأخّر عن نزول النّص الدّيني وابن منظور نفسه يستشهد بالآيات، فيقول إنّ كلمة ما تدلّ على هذا المعنى وأنّ القرآن يستعملها في هذا السّياق، وتلك منهجيّة مغلوطة تماماً وينبغي التخلّي عنها. إنّ هذا الحقل المعرفي مهمّ جدّاً ويغري بالبحث فيه، ولكن فيه صعوبات كبيرة منهجيّة ومعرفيّة، فلا بدّ من توفّر المحامل المادّية الضّروريّة التي يستند إليها البحث مثل الرّقوق والنّقوش وغيرها. وحتى من ذهبوا إلى صنعاء، فقد واجهوا صعوبات في العثور على الرّقوق القديمة وتفحّصها، ذلك أن غيرت بوين (Gerd-Rüdiger Puin) (1940) قد أخذ معه المجموعة التي تمّ اكتشافها منذ سنة 1972 في الجامع الكبير بصنعاء، وذهب بها إلى ألمانيا واحتفظ بها، وقد أمدّ بعض الدّارسين بنسخة منها مؤخّراً، خاصّة الجماعة التي اشتغلت على "المصحف وقراءاته"، تلك الصّعوبات يتعرّض إليها المتخصّصون في الحفريّات في الجزيرة العربيّة أيضاً، فليس من السّهل التّنقيب في التّراث المادّي ومعالجة النّقوش والجمل المنحوتة على الصّخور.

د. نادر الحمّامي: لا يمكن أن أختم هذا الحوار دون طرح سؤال آخر؛ أذكر أنّ محمد أركون قد تساءل، في مقال له يعود إلى أواخر السّبعينيات، حول مدى إمكان القول بوجود متخيّل في القرآن، وهذا يخرج بنا عن المقاربة التّاريخية والفيلولوجيّة، لينفتح على تساؤل آخر حول مدى إمكان مقاربة النّص القرآني، باعتباره نصّاً، مقاربةً أنثروبوبجيّة ورمزيّة. فهل ترى أن هذه المقاربة ممكنة في إطار الدّراسات القرآنيّة؟

د. بسّام الجمل: الدّراسات القرآنيّة تجمع بين الأمرين، لأنّ النّص القرآني إفراز بيئته ووسطه. ويمكن أن نقرأ المعطيات التي أحاطت بالنّص من خلال ذلك النّص نفسه، رغم الثّغرات المعرفيّة التي تبقى موجودة وقائمة في كل بحث، كما يمكن أن نقرأ النّص من خلال مقارنته بالنّصوص الأخرى التي حفّت به أو زامنته، وإن طواها النّسيان أو تمّ استبعادها. وفي الإمكان دائماً أن ندرس النّص في محيطه التّاريخي وفي زمنيّته وفي إيبيستيميّته المعرفيّة، رغم الصّعوبات. لذلك فعلى الدّارس أن يخوض في تلك المباحث متسلّحاً بعدّة معرفيّة دقيقة وصارمة، وألاّ ينطلق من قبليّات إيمانيّة أو أيديولوجيّة، وإنّما عليه أن يخوض مغامرة البحث دون أن يعرف، بشكل مسبق، إلى أيّ مدى يمكن أن توصله وإلى أيّة محطة سيؤول به مسار الخوض في هذه المسائل، والنّتائج التي يتمّ التّوصّل إليها في هذه المباحث تبقى دائماً نسبيّة وقابلة للمتابعة والتّجاوز والمراجعة. وأنا أشدّد في هذه المناسبة على أن تكون جسور التّواصل متاحة بين الباحثين في هذا الميدان، وهذا لا يكون إلا ّعبر مؤسّسات ومخابر بحث وهياكل بحث متخصّصة في الدّراسات القرآنيّة في المجال العربي وفي خارجه، وأن تقوم أسباب التّعاون بين الجميع، لأنّ البحث العلمي ليست له هويّة.

د. نادر الحمّامي: أودّ في نهاية هذا الحوار أن أشكر الأستاذ بسّام الجمل، وأعبّر له عن اعتزازي بالعلاقة التي تجمعنا، فهو صديق مقرّب وأنا أفيد منه بشكل دائم، وقد كان ممن تأثّرت بهم بصورة شخصيّة في مسار البحث الجامعي، وللأستاذ بسام ميزة مهمة جدّا؛ وهي أنّه متواضع علميّا تواضعاً غير زائف، وبعيد كلّ البعد عن افتعال الضّوضاء، وهذه شهادة رأيت أنّ من واجبي أن أقولها أمام الجميع، أجدّد لك شكري أستاذ بسّام وأرجو أن نلقاك في فرص قادمة للتّعامل وللبحث والنّقاش.

د. بسّام الجمل: شكراً لكم.