بشير ربوح: الحداثة في الفكر العربي المعاصر


فئة :  حوارات

بشير ربوح: الحداثة في الفكر العربي المعاصر

 حوار مع الأستاذ الدكتور بشير ربوح:

الحداثة في الفكر العربي المعاصر


مرحبا بكم على منبر مؤسسة مؤمنون بلا حدود

يوسف بن عدي: ما هو مساركم العلمي والأكاديمي؟

الدكتور بشير ربوح: بدءاً وانسجاماً مع قيمنا العربية الجميلة، أود تقديم الشكر الجزيل لمؤسسة مؤمنون بلا حدود على كرم الضيافة بالمعنى الذي تحدث عنه جاك دريدا، وبالصورة التي رسمها خطاب يورغن هابرماس في حديثه عن التواصل، وفي غيرها من ضروب التواصل الحق والصدوق مع الذات أولاً ومع الآخر تالياً، خاصة إذا كان آخرنا يطلب منا، ويلح في طلبه على أن نتبدى له أنطولوجياً ومعرفياً، وأن نتحرر من شرنقة الذاتية المنغلقة عل نفسها، والتي تعيش اجتراريا على مكاسبها السابقة، أما إذا كان محاوري جزءا رئيسا من هويتي التاريخية، فالأمر يغدو أكثر إلحاحية من أي مقام آخر، ويصبح ضرباً من التواجد الأصيل في معمعة السجال الفكري، وفي التحاور بغية فهم ذاتنا الحضارية داخل أفق المختلف والعيش سوياً.

ربَّ حوار يجتهد في الابتعاد عن نرجسية يمكن أن تنتعش عندما نبدأ في الحديث عن ذاتنا، فلفظ "أنا" هو بالمعنى النيتشوي منزلق خطير صوب بروز ظاهرة الاعتداد بالنفس، أو بتعبير واخز، مركزية الذات المنتفخة أنطولوجياً، والمتألهة معرفياً، وهي كلها ضروب من الوجود المغشوش يؤدي إلى سوبرمان كاذب. إن حديثنا هذا هو مجرد احتراز من هكذا تمشي قد يخفي استيهاماً قاتلاً.

حاليا، أقدم ذاتي على أني أستاذ بجامعة الحاج لخضر باتنة، شعبة الفلسفة، منشغل تدريسياً بالفلسفة الغربية المعاصرة لطلبة الليسانس، وبمقاييس مناهج النقد الفلسفي، وبطرائق البحث الفلسفي لطلبة الماستر، وقد كنت مساعدا ً لطلبة الماستر "شعبة الفسفة" لجامعة الدكتور محمد لمين دباغين - سطيف - في قضاياً فلسفة القيم وأفق الفعل في الفكر الغربي المعاصر.

إلى جانب المهام الأكاديمية، والإشراف على رسائل التخرج، انشغلت في بداية مسار تكويني الفلسفي، بالمواضيع التي لها صلة كبيرة بالفكر العربي، وصدر لي كتاب عن دار الفارابي بلبنان، بعنوان "مطارحات في العقل والتنوير، عبد الوهاب المسيري أنموذجا"، وبعدها شاركت تأليفاً في كتب جماعية صدرت عن الرابطة العربية الأكاديمية للفلسفة، وعملت على الكتابة كذلك في مجلات محكمة داخل الجمهورية الجزائرية وخارجها، واجتهد بعد ذلك في الدعوة إلى تأليف جماعي، استكتبت فيه خيرة الباحثين من العالم العربي، تمحور حول سؤال العلمانية في الفكر الغربي، الإشكالات التاريخية والآفاق المعرفية، ثم العلمانية والسجالات الكبرى في الفكر العربي المعاصر، من هواجس التأسيس المتعالي إلى مآزق النقد المحايث، وقد ساهم معنا الرائع بن يوسف عدي بمقال متميز في طرحه وفي أسلوبه، وسيصدر كذلك، عن قريب بحول الله، كتابان هما: فلسفة الفعل بين هواجس التأسيس وآفاق النقد بالتعاون مع الفيلسوف التونسي "عبد العزيز العيادي"، و"موسوعة الاستشراق، الاستعمار، الكولونيالية" بالتنسيق مع الأستاذ بن تومي اليمين، وبإشراف "الشبكة المغاربية للدراسات الإنسانية والفلسفية"، وهي ثلاثية لازمة لدراسة الفكر العربي قبل وأثناء وبعد؛ أي ما سمى في الأدبيات "السرديات الكبرى"، إلى جانب انشغالي المركزي في المدة الأخيرة بثلة من المفكرين العرب، يتقدمهم: إدوارد سعيد، فتحي المسكيني، فتحي التريكي، أما في الفكر الغربي فاهتمامي منصب الآن على فيلسوف الغابة السوداء مارتن هيدغر، وفيلسوف التفكيك جاك دريدا، بغية فهم العلاقة التصالبية بين الميتافيزيقا الغربية وفضاء اللغة.

وسأجتهد بحول الله، في تقديم مشروع فكري يتمحور حول فكر إدوارد سعيد، وسأقدم على معالجة مسألة الهوية في الفكر الفلسفي بصورة موسوعية، وعلاقتها بالدين، واللغة، والدين، والتأويل....        

يوسف بن عدي: كيف تنظرون إلى إشكال الحداثة في الفكر العربي المعاصر؟

الدكتور بشير ربوح: الانشغال بمفهوم الحداثة كان ثمرة طبيعية لملابسات تاريخية وظروف سياسية واجتماعية متعددة، منها ما يتعلق بحملة نابليون على مصر، وانطلاقها من نصوص موجودة في كتب المستشرقين، كما تحدث عنها إدوارد سعيد في كتابه الاستشراق، ومنها ما يرتبط بالاستعمار الغربي للوطن العربي، وظهور الكيان الإسرائيلي، وبداية نقل المدارس الفكرية الغربية إلى الثقافة العربية الإسلامية، كالتوجه الماركسي، المذهب الوجودي، المذهب الوضعي المنطقي، فلسفة رونيه ديكارت العقلانية، النزعة الظاهراتية، المذهب البنيوي، الممارسة الهرمينوطيقية... وغيرها من المذاهب الفلسفية الغربية التي وجدت لها وكلاء في فضاء ثقافتنا، وبعيدا عن أحاكم القيمة التي هيمنت على المخيال الفلسفي العربي، المنقسمة بين المدح والقدح، يمكن القول بأنها كانت خطوة ضرورية لتأثيث البيت الفلسفي العربي بمثل هذه النصوص، وهي دال على انفتاحه على نتاج الآخر الذي طردناه من الجغرافيا لكنه ما زال يسكن في رؤيتنا الوجودية، غير أن الوقوف عند حدود هده التخوم، والاكتفاء بما تجود علينا من مفردات وأساليب وطرائق يعدُّ في نظرنا منزلقاً خطيرا صوب كل ضروب الاستلاب، والتبعية، والوكالة الفكرية، والبقاء دوما في منطقة محددة مسيجة بالدوغما والعمى الفكري، فنحن في هذه الحال، أشبه بفتية أمثولة الكهف لأفلاطون. وللخروج من حالة الوكالة الثقافية للفكر الغربي، وجب الانتقال إلى طور جديد من التفكر الفلسفي، طور ينطلق من وجود إرث فلسفي عربي / إسلامي يسمى غالباً في الأدبيات التحليلية بـ"التراث"، وبإرث فلسفي غربي وافد، لكنه يحمل في جوفه مساهمتنا الحضارية، لأن الثقافة الإنسانية كما هو معروف هي في جوهرها مُهجنة، ولا وجود لثقافة أصيلة وشفافة ومحضة، وهو تمشي قد يتعارض مع بعض النزعات الغربية التي تجتهد في غربلة الثقافة الأوروبية بتجريدها من الثقافات التي ساهمت في تشكيلها، بالتركيز فقط على العنصر الأوروبي، واستبعاد أي مكون آخر.

وقد حدث كل ذلك في القرن التاسع عشر، الذي شكل نقطة مفصلية في تاريخ الفكر البشري، حيث تم السطو على الفكر البشري ساحباً إياه جهة المركزية الغربية، وإذا كانت الثقافة الغربية قد دخلت بسبب ذلك عصر الأزمات المتعددة، أزمة العقل، والمعنى، والإنسان، وبدأ يتحدث عن نهاية السرديات الكبرى، خاصة بعد مجيئ الفيلسوف الفرنسي "فرنسوا ليوتار". وفي أفق هذا التمشي، يمكن أن نقطع نهائياً مع حالة الوكالة الثقافية، دون أن يؤول على أنه عودة مرضية لحالة الكهف، وننطلق في تدشين مرحلة جديدة من الإبداع الفكري، نبتغي منها تأسيس حداثة عربية بأفق عالمي ومنفتح على منجزات العصر، وفي هذا الإطار نستطيع رصد جملة من المشاريع الفكرية الرائدة التي شكلت نواة هذا التوجه، مثل المشروع الأركوني، ومنجز طه عبد الرحمان، وعبد الكريم الخطيبي، ومشروع إدوارد وديع سعيد، وإنجازات عبد الوهاب المسيري، فبالرغم من تلامس هذه الأعمال وتقاطعها مع مفردات الفكر الغربي وإشكالاته، فإن المنجز الحقيقي يتمثل في رغبتها الملحة والصادقة في إبداع دروب عربية/ إسلامية خالصة، وبالتحديد من جهة الموضوع والمنهج والغاية والرؤية، لكي يتسنى لنا بناء حداثة عربية نأمل ألا يطول غيابها.

تبقى الحداثة إشكالية الإشكالات في الفكر العربي المعاصر، وهي سؤال المحنة بامتياز، لأنها تتنزل ضمن المنشودات الكبرى لهذا الجيل المناضل، وقد نرصد ظاهرة النضال على مستوى الخطاب العربي، حيث انشغل محمد عابد الجابري بمسألة الوحدة والديمقراطية، حيث عبر مراراً عن أنه: "يمارس السياسة داخل أفق الثقافة"، وانهم أركون بالبحث عن مسار عقلاني للعلمنة، وانفتح إدوارد سعيد على مسائل الاستشراق وخطاب الهيمنة الغربي وفكرة المقاومة، وكان عبد الوهاب المسيري مناضلا حقيقيا من أجل حداثة معرفية وسياسية، .. على أساس هذا التمشي الذي يجمع بين التطابق مع الغرب ثم القطع معه، وبعد ذلك البدء في مرحلة نضالية جديدة فرضتها اقتضاءات جوانية وملابسات خارجية، نتوجه صوب القادم الذي يبحث عن حداثة تستلهم من تراثها ما قمين بأن يكون راهناً، ومن الآخر ما جدير بأن يغدو جزءًا من تراثنا وهويتنا المنفتحة دوما على ممكنات المستقبل، وفي طريقنا إلى هذا المبتغى، نبقى دوما نقاوم وننافح عن مشروعنا ونجتهد في تطوير رؤيتنا لذاتنا ولغيرنا، وغير بعيد عن هذا المسعى، تتوطن الحداثة كحالة أنطولوجية ومعرفية ترمي إلى الإنصات إلى لغة العصر، وهي لغة تنفرد الآن بمفردات هابرماسية تدعو إلى الحوار، وفارابية تشجع على التآنس، لكن هذا لا يلهينا عن مفردات نيتشوية يتفرد بها العصر، وهي مفردات القوة والمنعة والهيبة والإقدام...حتى لا نكون أعجاز نخل خاوية....

يوسف بن عدي: هل استطاعت الثقافة العربية المعاصرة في مشاريعها الفكرية الكبرى تفكيك أزمة العقل العربي المتراوحة بين الانشداد إلى القدامة والتطلع إلى الحداثة والتحديث؟

الدكتور بشير ربوح: ليس من جهة الحداثة أن نتحدث عن هذه الإمية )إما..و..إما( بين القدامة التي تتحدث لغة التتريث، والحداثة التي هي أقرب إلى المعاصرة بالمعنى السلبي للكلمة، لأن الوضع الثقافي العربي في العصر الراهن، يتمرد عن الطرح الديكارتي بمنطقه الحدي، فهو لم يتزحزح بعد من منطقة النضال الفكري من أجل بناء ذاته معرفياً، ولم يخرج من دائرة الهم الذي يتحكم فيه، وهو السعي نحو التفكر في مسائل الوجود بصورة أكثر جذرية وثورية؛ أي أنه ما زال يناضل في سبيل ذلك، بكل الوسائل المتاحة، ولعلي أتحدث الآن عن معنى إيجابي للفظ "الأزمة"، حيث تخرج هذه الأزمة من المعاني القدحية التي استقرت فيها، وتبدأ في اكتساب معاني إيجابية تحمل سمات الحركية التي يعيشها الفكر العربي، وعندما يتطور فإنه يلج مرحلة جديدة من "الأزمة"، وهكذا في حركية متأزمة، هي علامة صحية على أن الجسد الفلسفي أو الثقافي العربي يشهد تفاعلا حقيقيا داخل أفق تفكيره.

ربَّ أزمات متعددة تتنزل بين التراث والحداثة، أو التحديث كممارسة وبين النضال الفكري أو الانفتاح على حداثات تعيش في جنوب الحداثة الغربية، مثل الحداثة الهندية ودول شرق أسياً واليابان، أو الدخول في سبات فكري لا ينشغل نهائياً لا بالتراث ولا بالحداثة، محكوم فقط بمنطق الإيديولوجيا التي تعشق الامتلاء، وبالرغم من هذا الحديث، إلا أن الثقافة العربية، وخاصة في مشاريعها الكبرى، استطاعت أن تقدم تمظهرات متنوعة للنظم المعرفية التي تهمين على الفكر العربي، حيث تجلى ذلك في أعمال محمد عابد الجابري، حينما تحدث عن بنيات ثلاثية هي البيان والعرفان والبرهان، وفي المجال السياسي هي الغنية والعقيدة والقبيلة، وكذلك في أعمال محمد أركون، حينما أعلن عن حاجة الفكر العربي إلى المنجزات الإبستيمولوجية من أجل إحراج العقل العربي من أزمته التي سجن نفسه فيها في القرون الوسطى، وغيرها من المشاريع الرائدة، مثل مشروع مالك بن نبي في معالجته لمسألة الحضارة، ومشروع فتحي التريكي في مساءلته لمفهوم العيش المشترك والهوية واليومي...

يوسف بن عدي: أليس طريق الإبداع والتجديد العربي والإسلامي يتمثل في ترسيخ مفاهيم سياسية وحقوقية رفيعة من قبيل: الحق والمواطنة والتسامح والتعاقد ...في الفضاء العربي الإسلامي المعاصر؟

الدكتور بشير ربوح: من أعسر المهام في الفكر العربي، بعد مرحلة الأزمة والنضال والإيديولوجيا والقدامة والحداثة والتحديث، هو أن نبدأ في تدشين درب فلسفي جديد مبني على الإبداع، لأنه عندما تبدع تكون قد ولجت رأسا دائرة المقاومة، والثورة، والتمرد، ويكون لزاماً عليك أن تنخرط في مسار فكري معادِ للمخيال الشعبي العام، الذي يتوجس من الأفكار الوافدة، مثل: المواطنة، التعاقد، حقوق الإنسان، النظام الديمقراطي، لأنها تبلورت في فضاء علماني خالص، كما يعتقد أكثر الدارسين، ومن جهة أخرى، يسعى بعضهم إلى القيام بخطوة "التبيئة"؛ أي صناعة محضن ثقافي تنزل فيه هذه الأفكار بمواد مستوحاة من التراث العربي/الإسلامي، وهي محاولات عقيمة وجبانة لا تحمل سمات شجاعة الطرح وجرأة التبدي، لا تستطيع أن تنتج لنا موقفاً فلسفياً محترماً، يعني ذلك، أنه ينبغي الاعتراف أمام الذات أولاً أنها من مأتى غربي في صورته العلمانية، وأن الثقافة الغربية الإسلامية تخالفها مبنى ومعنى، والمهمة التي نحن مكلفون بها هي تجاوز هذه الإهدارات التي ضيعناها في مسائل تلفيقية خاسرة وفاشلة، هي الاستفادة من المنجز الغربي وسحبه جهة ثقافتنا العربية، لأننا لا نملك هذه المفردات الحداثية، ونبدأ في غرسها داخل ثقافتنا كما هي، لعلها تقدم لنا ثمرا فلسفيا نغنمه على مستوى الفكر أولاً، وعلى مسطح الفعل الحضاري، هي ليست طريقة في الاغتراب، وإنما هي طريقة شجاعة في الإقرار بأن السقف الرمزي غربي في جوهره، إلى حين إنجاز المرحلة التي نحوز فيها على سقف رمزي خاص بنا نؤثثه بالمفاهيم التي هي من جنسنا ونابعة من ثقافتنا، يجب أن نتكئ عليها، لأننا نحن شاركنا في صنعها تاريخياً.

إن الثقافة العربية مقبلة على أزمات كبيرة، هي أزمة النصوص الكبرى، أزمة الواقع المتفجر باستمرار، أزمة العقول المبدعة التي تتربص النفوس بها المضطغنة، أزمة الإبداع الذي يبحث عن الحريات والاعتراف والتبدي والظهور...هي أزمات قادمة يمكن أن تعلن عن بداية صادقة للفكر الفلسفي العربي....وعلى قدر العزم تأتي الدروب الحقة.

يوسف بن عدي: تحية وتقدير، لكم على هذا الحوار الفكري الرائع.