تحولات الإسلام السياسي في ظل الربيع العربي[1]


فئة :  مقالات

تحولات الإسلام السياسي في ظل الربيع العربي[1]

تحولات الإسلام السياسي في ظل الربيع العربي[1]

بقلم: عبد القادر عبد العالي[2]

يهدف هذا المقال إلى تقييم تجربة وسلوك الحركات الإسلامية أو الأحزاب والتيارات التي تنتسب إلى الإسلاميين أثناء وبعد الربيع العربي؛ فقد حفلت أدبيات الإسلاميين السنة، بالاحتفاء بهذا التحول الجديد الذي طرأ على المنطقة، والذي انطلق من تونس بالإطاحة بالرئيس زين العابدين بن علي، لينتقل إلى بقية الدول العربية بدرجات متفاوتة، وأدى إلى: إسقاط أربعة حكام عرب، وإلى ثلاث حروب أهلية لازالت مستمرة إلى حد الآن. وأعقب ذلك موجة مضادة ابتدأت من مصر واليمن، استعانت بالتعقيدات الموجودة في المنطقة، واستفادت من تناقض المصالح الإقليمية للدول الكبرى والدول الإقليمية. ولا بد لهذه المعطيات والظروف أن تؤثر على خريطة قوى ونفوذ الإسلام السياسي ومكانته الاجتماعية والسياسية، في كامل المنطقة العربية. فما هي التحولات التي طرأت على الإسلاميين أثناء وبعد الربيع العربي، وكيف تكيفوا مع هذه الفترة، والمراحل التي تلتها؟

الإسلاميون وبداية الربيع العربي بين الترقب والتبني:

هناك عدة توجهات في تقييم تجربة الإسلاميين أثناء وبعد الربيع العربي؛ فهناك الموقف الذي يرى بأن الإسلاميين انتهزوا الفرصة وركبوا موجة الربيع العربي ليستولوا على السلطة[3]، وبالتالي فهم يعتبرون بمثابة البوادر الأولى للثورة المضادة، قبل أن تأتي قوى الدولة العميقة وتيارات العلمانية الموالية للعسكر والمتحالفة مع القوى الموالية للنظام القديم. ووجهة النظر هذه تنطلق من المسلمات التي كونتها هذه المواقف الناقدة عن الإسلاميين، بكونهم غير ثوريين أصلا[4]، فقد انتقد الكثيرون سلوك جماعة الإخوان المسلمين في موقفها من الاحتجاجات ضد مبارك، حيث إنهم لم يحسموا موقفهم بشكل واضح إلا بعد فترة طويلة، تأكدوا فيها من بداية سقوط مبارك.[5] كما أن الموقف من الحراك الثوري اتسم بالسلبية والبرود في بعض الدول الأخرى، أو بمواقف مناوئة ومشككة ومعادية، كما حدث تجاه الأحداث في البحرين.[6] ويرى التوجه الثاني المعارض لذلك، أن الربيع العربي الذي انطلق كهبة جماهيرية وانتفاضة ضد الفساد والظلم، شارك فيه الإسلاميون منذ بداية اندلاع الأحداث، من خلال الشباب المتعاطف والناشط في هذه التيارات. كما أعطى الإسلاميون دفعة للحراك الثوري؛ فحزب الإصلاح وشبابه في اليمن، كانوا من أهم القوى المحسوبة على الثورة في اليمن، والتي أدت إلى إسقاط حكم علي عبد الله صالح.[7] وحزب النهضة الإسلامي شارك في الاحتجاجات السلمية التي أسقطت حكم بن علي في تونس. لكن السؤال يبقى مطروحا، هل كان الإسلاميون فاعلا مشاركا، وعنصرا مهما في حراك الربيع العربي، أم كانوا آخر الملتحقين وأول المستفيدين من هذا الحراك؟ إن مجريات الواقع في كثير من دول الربيع العربي، تشير إلى أن الإسلاميين اصطفوا مع شباب الحراك الثوري من أجل التغيير، نظرا لحجم القمع الذي نالهم من الأنظمة الدكتاتورية في المنطقة، والتي استفادت من دعم الغرب، ووظفت محاربة الإرهاب ومحاربة الإسلاميين المتهمين بالإرهاب للبقاء في السلطة[8]، فنظام بن علي في تونس، ونظام مبارك، لطالما استخدما ذريعة مواجهة الإسلام السياسي والإخوان والإرهاب، للبقاء في السلطة والإبقاء على حلف المصالح الاستراتيجية مع الولايات المتحدة الأمريكية وتوجهاتها في المنطقة في دعم الأنظمة الصديقة والتحالف لمحاربة ما يسمى بالإرهاب.

الإسلاميون هل هم ضحايا أم متسببون في تراجع الربيع العربي؟

بعد التراجع الملموس الذي شهدته موجة الاحتجاجات منذ 2011، وتحول المشهد إلى فوضى إقليمية، يبدو أن الإسلاميين وقعوا في مصيدة كبيرة، وصراع لم يكونوا مستعدين له، فقد أصبحوا ضحايا للربيع العربي. فإذا كانوا من جهة، قد ساهموا في إنجاح الحركة الاجتماعية الاحتجاجية، وكانوا وقودا جماهيريا لها، نظرا لقدرتهم التعبوية. فإنهم في المقابل، وبفعل الموجة المضادة، قد تمت إعادتهم إلى وضعيات أسوأ من السابق؛ فقد تراجعت قوتهم الانتخابية في بعض البلدان، مثل: تونس والجزائر والأردن، ووقعوا في أتون الحرب الأهلية التي باتت تستهلك طاقتهم في سوريا والعراق وليبيا. لذا، فقد أتى الربيع العربي، بجملة من التحديات أمام الأحزاب الإسلامية، وكشف الربيع العربي عن حجم الفحوة بين الشعارات التي كانت تنادي بها بعض الحركات والأحزاب الإسلامية، مثل الوحدة، والمقاومة ضد إسرائيل، ليتم اختبارها في الواقع. فمن هذه الاختبارات المحرجة، والتي كشفت عن عمق التحولات، يمكن ذكر ما يلي:

-                  الإسلاميون وإعادة تأجيج الطائفية:

كان الإسلاميون عاملا مساهما في تأجيج الطائفية، والتي سبقت الربيع العربي بسنوات قليلة، فالحرب الطائفية التي حدثت في العراق، كان الإسلاميون من السنة والشيعة على السواء أبرز فواعلها؛ [9] فكل طرف كان يمارس تحريضه الطائفي عبر وسائل الإعلام التابعة له، ويطبقها في أرض الواقع عبر ميليشياته، رغم أنه قبل عقود من السنين، كان هناك تناغم وغزل بين تيارات الإسلام السياسي من كلا الطائفتين، خصوصا حين الحديث عن القضية الفلسطينية وتقريب المذاهب. وحزب الله اللبناني يعدّ من أكثر الأحزاب الإسلامية وقوعا في هذا التناقض. فقد اضطر تحت ظروف التحالف الإستراتيجي مع النظام السوري والولاء لولاية الفقيه الإيراني، أن يدخل المعركة المسلحة في سوريا إلى جانب النظام السوري والحرس الثوري الإيراني، ويتورط منذ بداية الأزمة في سوريا في قمع المعارضة المدنية والسلمية، ويشارك في الحرب الأهلية السورية إلى صف النظام السوري، وتحولت المعركة، حيث أخذت تبدو ضمن الصورة الطائفية، حربا بين المعارضة السنية السورية من جهة، والنظام السوري العلوي وحلفائه من الشيعة من الجهة الأخرى.

-                  الإسلاميون ومشكلة المشاركة في الحكم:

تمثل المشاركة السياسية في الحكم أكبر مشكلة وأكبر تحدٍّ في التحول الديمقراطي، لكنه، على مستوى الأنظمة العربية، اقتصر على مجرد إصلاحات شكلية وانفتاح محدود[10]؛ فالتسلطية الجديدة في العالم العربي، والتي تقدمت نحو مشروع التوريث[11]، كانت من أهم الحوافز في قيام الانتفاضات التي تمكنت من إسقاط شرعية بعض الحكام. لكن الإسلاميين، ولئن نجحوا مؤقتا، عن طريق الانتخابات السلمية في مصر وتونس والمغرب، في الصعود إلى السلطة وتولي الحكم. لكن التجربة أثبتت محدودية القدرة على ممارسة الحكم لديهم، نظرا لبقاء مؤسسات الدولة العميقة في هذه البلدان، من دون أن يلحقها التغيير. فالإسلاميون واجهوا معضلة حقيقة في ممارسة الحكم، في بلدان الربيع العربي، فالإخوان المسلمون في مصر، فشلوا في إقناع حلفائهم في الثورة بالمشاركة في الحكم، مما عجل بعزلتهم وإسقاط حكم الرئيس مرسي، إثر ثورة مضادة أشرفت عليها المؤسسة العسكرية والقوى السياسية المعادية للإخوان. ولكن الأمر اختلف مع حركة النهضة في تونس، حيث كان لها تنظير مسبق حول المشاركة السياسية في الحكم[12]، وصعوبة الانفراد بالحكم في ظل أجواء دولية وإقليمية معادية للإسلاميين، إضافة إلى خصائص المجتمع التونسي الذي يتسم يتقدم ملحوظ في العلمنة ومحدودية التأييد الجماهيري للإسلاميين. وقد تمكن هذا الحزب من إقناع أطراف ثورية أخرى في المشاركة في حكومة ثلاثية الأطراف، لتشكيل ائتلاف حكومي برئاسة حركة النهضة، مع تأييد منصف المرزوقي المعارض التونسي السابق لتولي رئاسة الجمهورية.[13] لكن المطالب والتوقعات ذات السقف المرتفع من قبل الأحزاب السياسية والرأي العام التونسي، وصعوبة حل المشكلة الاقتصادية، وتسيير المرحلة الانتقالية، جعل الإسلاميين يتراجعون في الانتخابات اللاحقة. وتتم عودة بعض الرموز القديمة إلى الحكم. أما في المغرب، فقد استفاد الإسلاميون من أجواء الحراك المطلبي المعروف بحركة عشرين يونيو، وتمكن الإسلاميون لأول مرة من الوصول إلى سدة الحكم[14]، وتولي رئاسة الحكومة، في ظل نظام ملكي يتبنى المرجعية الإسلامية التقليدية، ودستور يكرس لصلاحيات واسعة للملك. لكن الإسلاميين في المغرب، لم يكن لهم أثر كبير في تحسين الملف الحقوقي، رغم الأداء الحكومي اللافت في عهد حكومة بنكيران.

-                  الإسلاميون وإفشال التحول الديمقراطي:

هناك اتهام أساسي للمحسوبين على القوى العلمانية الثورية، بأن الإسلاميين انتهزوا الفرصة واستولوا على ثمار الربيع العربي، وكانوا من ضمن القوى المضادة التي أجهضته، بسبب غياب أية أجندة سياسية لديهم للمشاركة في الحكم، وبسبب غياب أولوية الديمقراطية لديهم. كما كشف الربيع العربي عن التوجهات الراديكالية، والتي استفادت من أجواء الفوضى في المنطقة.[15] إن إفشال التحول الديمقراطي ومساهمة بعض أطياف الإسلاميين فيه، هو مسألة نقاش حاضر ومستمر مستقبلا، فهناك التصور الذي ينطلق من فرضية استحالة مساهمة الإسلاميين في الديمقراطية، وكيف لا يمكن أن تقوم الديمقراطية من دون ديمقراطيين. وهذا التصور له ما يخالفه في الواقع، من خلال تفاعل ومشاركة الإسلام السياسي المعتدل في أحداث الربيع العربي، لأنه فتح الآفاق أمام الإسلاميين للمشاركة، ودفعهم إلى جملة من المراجعات والتنازلات، جعلتهم يتكيفون مع مستجدات الواقع السياسي الجديد في تونس والمغرب، وأعطوا دفعا للعملية الديمقراطية، وحتى مؤشرات الدمقرطة في البلدان التي زاولوا فيها الحكم تحسنت في فتراتهم.

- الإسلاميون وتحولات الربيع العربي:

كان على الإسلاميين بمختلف أطيافهم أن يخضعوا لتحولات مهمة أثناء وبعد الربيع العربي، نظرا لحجم وتسارع الأحداث والتغييرات التي طرأت على المنطقة. ففي معظم البلدان التي شهدت الربيع العربي، مثلوا القوى المهيمنة على مشهد الاحتجاج، وسرعان ما سيطروا على المشهد الاحتجاجي في المرحلة الثانية، هذا أدى إلى انزلاق وتحول في أجندة الحراك الاحتجاجي نحو فوضى مسلحة في تلك الأنظمة التي استعصت على الاستجابة للمطالب السلمية وردت على ذلك بالمزيد من القمع، لذا تحول قسم من الإسلاميين في دول مثل اليمن وسوريا، ليشكلوا أولويات غير مرتبطة بالتحول الديمقراطي. كما ارتكب الإخوان المسلمون في مصر مجموعة من الأخطاء الاستراتيجية التي أدت إلى عزلهم عن الحراك الجماهيري الثوري، والاستفراد بهم من قبل الدولة العميقة، وبالتالي ضرب الحراك الثوري من خلال ضرب أكبر فصيل ممثل له في مصر، وهو تيار الإخوان المسلمين. وبالتالي، تحولت وانزلقت المطالب السلمية في كل من ليبيا وسوريا واليمن، إلى فوضى أمنية، ومشهد معقد من الصراع المسلح، والذي تحول فيما بعد إلى حرب أهلية. وقد لعبت الفصائل المسلحة، والتي يعتبر قسم كبير منها، محسوب على الإسلاميين في سوريا، وفي ليبيا، وفي اليمن أدوارا في تشكيل خريطة الصراع الداخلي، لأنهم أكبر الفواعل فيه. فالحوثيون المحسوبون على التشيع الثوري، سرعان ما تحولوا إلى حلفاء للرئيس المخلوع علي عبد الله صالح، بعد أن حلت الثورة السلمية باليمن، وتبناها حزب الإصلاح الإخواني والحليف السابق لحكم علي عبد الله صالح. واشتركت السعودية بدورها في محاولة إضعاف هذا الجناح الإخواني بالتغاضي عن تنامي قوة الإسلاميين الحوثيين، ودعم النظام القائم لعلي عبد الله صالح. لكن سقوط العاصمة اليمنية بيد الحوثيين إثر الانقلاب العسكري الذي قاموا به، نبه السعوديين إلى الخطر الإيراني الذي يأتيها من اليمن، وبتواطؤ طرف كان حليفا سابق لها.

هل كشف الربيع العربي عن فشل الإسلاميين؟

لقد كشفت التحالفات السياسية والعسكرية المتقلبة والسرية، عن وقوع أو تورط بعض التيارات الإسلامية في فشل بناء المؤسسات الديمقراطية لما بعد فترة الربيع العربي، كما كشفت الأحداث أنهم لعبة بين يدي الأنظمة السياسية والقوى الإقليمية المتربصة بالمنطقة، وكانوا ضمن أدوات تكريس الفوضى فيها. فيمكن أن يقال إن هناك ربيعا عربيا مقابل خريف إسلامي.[16] لقد كشف الربيع العربي عن جملة من الاختبارات التي واجهت الإسلاميين، في ظل تحولات جيوسياسية، تمخضت عنها جملة من التحولات انعكست على الإسلاميين وعلى توجهات الإسلام السياسي، يمكن أن تترتب عليها نتائج مستقبلية، ومن جملة هذه الاختبارات والتحديات يمكن ذكر أهمها:

-                  أزمة الهوية لدى الإسلاميين

أدى الربيع العربي والثورات التي حدثت في البلدان المستهدفة، إلى تحولات في خطاب الإسلاميين، وموقفهم من الديمقراطية؛ فقسم كبير من التيار السلفي الذي كان يرفض مقولة الديمقراطية والحزبية، أصبح يكيف خطابه معها.[17] وهذه الأزمة الهوياتية فرضتها عليهم الاستحقاقات السياسية، وإملاءات الواقع، فهم مخيرون بين أن يندرجوا ضمن التيارات المدنية التي تطالب بالمشاركة السياسية، وتسمح به لغيرها، وبين فرض رؤيتهم المثالية والشمولية والأيديولوجية المحافظة منها والراديكالية. وقد أدى تصريح الغنوشي حول الفصل بين الدعوي والسياسي، والنقاش على مستوى الأحزاب الإسلامية في الجزائر والمغرب حول جدلية السياسي والدعوي[18]، إلى تزايد الوعي بخطورة العلمنة التدريجية التي طرأت على خطاب الإسلاميين في هذه الدول التي تمكن الإسلاميون فيها من المشاركة، بالإضافة إلى تأثر هذه التيارات بالنموذج التركي المعلمن في أصوله، مما أوقع الإسلاميين في أزمة حادة خول هويتهم الإسلامية والدينية؟ ويرى المشككون في تحولات الإسلام السياسي في هذه البلدان، بأن هذا مجرد تكتيك مرحلي، سرعان ما سيعود الخطاب المتشدد والأصولي الى سابق عهده[19]، حين تسنح لهم الظروف الدولية والمحلية بذلك.

-                  التحولات الاستراتيجية بالمنطقة وموقف الإسلاميين منها

كشف الربيع العربي، والتحولات الصراعية في المنطقة، عن تعدد وانقسام الإسلاميين العميق، على أسس فكرية وطائفية، فالربيع العربي، كان بمثابة موشور كشف عن كل أطياف وألوان الإسلام السياسي، حيث ظهرت أربعة محاور للصراع على الأقل، وظهر أن لكل محور اتجاهه الديني الموالي له، والذي يدافع عن أطروحاته ومواقفه السياسية ويعطيها صبغة شرعية دينية. فقد تحول الربيع العربي والموجة المضادة له، إلى مجموعة من الاصطفافات والمحاور الدولية الإقليمية في المنطقة، وكل تيار من التيارات الدينية الإسلامية له ولاء أو اصطفاف لأحد هذه المحاور: فظهر المحور الإيراني السوري، وهو محور أشد تماسكا، وتتمحور حوله كل التيارات الإسلامية الحركية الشيعية، والتي تناست الخلافات الجانبية الفرعية، واصطفت حول مشروع طائفي ذي مسحة شيعية[20]، حيث لعبت الحرب الأهلية في العراق عام 2006، وتحدي محاربة داعش في العراق، عاملا محفزا على تكتل كل التيارات الشيعية في المنطقة، وراء مشروع الحشد الشعبي وولاية الفقيه الإيرانية. والاصطفاف الثاني تمثله تيارات الإسلام السياسي الموصوفة بالاعتدال، وتلك التيارات القريبة من الإخوان المسلمين، حيث يدافع هذا التيار عن تجربة الإسلام السياسي في تركيا، ويعتبرها نموذجا رائدا، يحتذى به في أولوية التنمية على الشريعة، وتأويل مفاهيم الشريعة وفق المتغيرات والظروف المستجدة، كما يحظى هذا التيار بدعم ودفاع تركيا الأردوغانية. والتيار الثالث هو التيار الإسلامي السلفي المتحول من السلفية المحافظة، وهو مرتبط بالمؤسسة الدينية في السعودية خصوصا، حيث يرى في الإسلام السياسي على الطريقة الإخوانية أكبر تحد لأمن المنطقة إلى جانب الخطر الإيراني. والتوجه الرابع هو توجه الراديكالية السلفية، والتي بدورها انقسمت إلى توجه قاعدي وآخر داعشي، وهذا التوجه يعادي بقية التيارات الأخرى، وتناصبها العداء وتحاربها في الميدان، ويرفض تجربة الربيع العربي جملة وتفصيلا. ما يلاحظ على كل هذه التوجهات الأربعة، أنها دخلت في صراع مسلح مثلت اليمن وسوريا مختبره الحالي.

-                  تردد الإسلاميين بين المشاركة والمغالبة والإرهاب

عملت التحولات الاستراتيجية القائمة في المنطقة على إرباك نشاط الإسلاميين ومشاركتهم في الحكم؛ فإسقاط حكم الإخوان في مصر، وإنهاء مشاركتهم في الحياة العامة في ظل حكم الرئيس السيسي، وإعلان الإخوان المسلمين حركة إرهابية من قبل السعودية والإمارات ومصر، جعل التيار المتطرف والمسمى بالجهادي يتوسع في نشاطه، ويدعم حجة خطاباته بفشل المشاركة السياسية وعبثيتها، وأن الأنظمة القائمة الموالية للولايات المتحدة لا ينفع معها سوى السلاح. إن قمع الإسلاميين المعتدلين يساهم في تزايد التطرف والحركات الإرهابية في المنطقة، فداعش توسعت في مجال تم فيه تفكيك ومحاربة الحركات الإسلامية السنية الموسومة بالاعتدال. والحالة السورية تشهد كيف يتحول الإسلام السياسي إلى حراك مسلح ومنظم، وتختفي أمامه قوى الجيش الحر ذات الطابع الوطني العلماني. كما تستخدم التيارات المناوئة للإسلام السياسي، هذه الوقائع، كدليل يؤكد على ظاهرة العنف والإرهاب التي تصاحب تنامي وصعود الظاهرة الإسلامية.[21] لكن المقارنة عبر الحالات، تقوي من فرضية الدور الذي يولده العنف السياسي والعنف الحكومي في تنامي توجهات الراديكالية في الإسلام السياسي، فحالة صعود داعش في المشهد العراقي والسوري، هو نتيجة للتعامل الخاطئ على حركات الإسلام السياسي المعتدلة، والتي أدى قمعها وتقزيمها إلى خروج بديل أكثر عنفا وتطرفا يقوم بملء الفراغ الناتج عن القمع الحكومي والرد على الحراك السلمي.

خلاصات:

شهدت بعض الدول العربية، انطلاقا من سنة 2011 سلسلة من المظاهرات الاحتجاجية والسلمية، والتي أطلق عليها الإعلام الغربي مصطلح الربيع العربي على وجه التفاؤل، ومثل اندلاع هذه الاحتجاجات والانتفاضات الشعبية فرصة للحركات الإسلامية، لكن الواقع الجديد الذي نتج عن ذلك في مراحله الأولى، وإلى غاية 2013، شكل فرصة وإرباك للقوى الإسلامية في الوقت نفسه، فقد شكلت فرصة لها، لأنها شاركت في فعاليات الاحتجاج والمواجهة السلمية والمسلحة أحيانا لإسقاط بعض الأنظمة كما في ليبيا، لكن الاختبار الأكبر بالنسبة إليها، كان مرحلة بناء المؤسسات السياسية لما بعد الثورة، حيث مثلت هذه المرحلة امتحانا قاسيا للكثير من الحركات الإسلامية، والتي فشلت في المجمل في إنتاج نموذج وممارسة للحكم تتميز بالاستيعاب وفرض الاستقرار، وتحقيق الحرية والتنمية، وهي شعارات كانت الكثير من القوى الإسلامية تنادي بها، متأثرة في ذلك بالنماذج الإسلامية المجاورة: ايران وتركيا تحديدا. لكن الثورة المضادة وزيادة العدائية تجاه حركات الإسلام السياسي من قبل الأنظمة السياسية العربية، وتزايد الاستقطاب الطائفي، ساهم في تعقيد الأوضاع أمام الإسلام السياسي، وفتح المجال أمام الإسلام الراديكالي، لكي يبث دعايته حول فشل الحلول السلمية وعبثيتها، وجدوى الحلول المسلحة. ورغم أنه من العاجل لأوانه الخروج بخلاصة تثبت ما إذا كان كان الإسلام السياسي يعرف تراجعا او صعودا. فإن المؤشرات الدالة على التراجع الانتخابي في الكثير من الحالات مثل الأردن والجزائر، قد ترجح الكفة بوجود تراجع تدريجي للإسلاميين، وأن الربيع العربي شكل امتحانا قاسيا لهذه الحركات، التي لم تنجح من التمكين لا لمشروعها الخاص ولا لترسيخ حكم ديمقراطي، مع استثناء الحالة التونسية التي شهدت بدورها تحولا كبيرا في ممارسة وخطاب حركة النهضة بشكل جعلها بصدد الخروج من تصنيف الحركة الإسلامية التقليدية.

[1] نشر المقال بمجلة ذوات العدد 41

[2] باحث جزائري في العلوم السياسية

[3] من بين الكتابات التي ترجمت الى العربية، والتي تعكس هذه الرؤية، حول التأثير السلبي للإسلاميين، كتاب برادلي، والذي ترجم عام 2013، انظر: جون آر برادلي، ما بعد الربيع العربي: كيف اختطف الإسلاميون ثورات الشرق الأوسط، ترجمة: شيماء عبد الحكيم طه (القاهرة: كلمات عربية للترجمة والنشر، 2013).

[4] انتقد الكثير من المتابعين خصوصا من اليسار العلماني، مواقف الإسلاميين من الثورة، وموقفهم السلبي من الثورات عموما، واتخاذهم موقف المتفرج، الذي ينتظر اين تميل الكفة. فمن الذين تتبعوا حراك الإخوان وسلوكهم السياسي المتقلب، الباحث حسام تمام رحمه الله، انظر: همام سرحان، “حسام تمام: ‘الإخوان يمدون يدا للحوار ويرفعون راية العصيان باليد الأخرى، ’” موقع سويس انفو، SWI Swissinfo.ch, accessed July 26, 2017,

https://www.swissinfo.ch/ara/%D8%AD%D8%B3%D8%A7%D9%85-%D8%AA%D9%85%D8%A7%D9%85---%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%AE%D9%88%D8%A7%D9%86-%D9%8A%D9%85%D8%AF%D9%88%D9%86-%D9%8A%D8%AF%D8%A7-%D9%84%D9%84%D8%AD%D9%88%D8%A7%D8%B1-%D9%88%D9%8A%D8%B1%D9%81%D8%B9%D9%88%D9%86-%D8%B1%D8%A7%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B5%D9%8A%D8%A7%D9%86-%D8%A8%D8%A7%D9%84%D9%8A%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%AE%D8%B1%D9%89-/29442394.

 [5]المرجع نفسه.

[6] Toby Matthiesen, Sectarian Gulf: Bahrain, Saudi Arabia, and the Arab Spring That Wasn’t (Stanford, California: Stanford Briefs, an imprint of Stanford University Press, 2013).

[7] حول مجريات الحراك المتعلق بالربيع العربي، انظر:

Vincent Durac, “Yemen’s Arab Spring–Democratic Opening or Regime Maintenance?,” Mediterranean Politics 17, no. 2 (2012): 161–178; Thomas Juneau, “Yemen and the Arab Spring: Elite Struggles, State Collapse and Regional Security,” Orbis 57, no. 3 (2013): 408–423.

 [8] من الأطروحات القوية، التي تفسر فشل الانتقال الديمقراطي، وبقاء التسلطية في العالم العربي، توظيف الأنظمة للإرهاب والامن، انظر:

Burhan Ghalioun and Philip J. Costopoulos, “The Persistence of Arab Authoritarianism,” Journal of Democracy 15, no. 4 (2004): 126–132.

[9] حدثت هذه الحرب الطائفية، تحت حكم حزب الدعوة العراقي، وهو حزب إسلامي شيعي اسسه باقر الصدر، وبمشاركة أحزاب إسلامية أخرى شيعية، مثل حزب الثورة الإسلامية الذي أسسه باقر حكيم، الذي تم اغتياله بعد رجوعه إلى العراق، والحزب الإسلامي العراقي الحليف السني في هذه الحكومة. وميليشيات موالية لهذه الأحزاب وموالية لأحزاب وتيارات أخرى، خصوصا تنظيم القاعدة في بلاد العراق في تلك الفترة.

[10] Ghalioun and Costopoulos, “The Persistence of Arab Authoritarianism.”, Op.cit.

[11] Michael Sakbani, “The Revolutions of the Arab Spring: Are Democracy, Development and Modernity at the Gates?,” Contemporary Arab Affairs 4, no. 2 (April 2011): 127–47, doi:10.1080/17550912.2011.575106.

[12] كتب راشد الغنوشي العديد من الكتابات حول نفي الاستبداد عن نموذج الحكم الإسلامي، حسب وجهة نظره، ومن بين أهم الكتابات، كتابه الشهر: الحريات العامة في الدولة الإسلامية، والعديد من المقالات حول المشاركة ونفي الاستبداد، والقبول بالديمقراطية، انظر: راشد الغنوشي، “مبادئ الحكم والسلطة في الإسلام

 http://www.aljazeera.net/home/Getpage/787157c4-0c60-402b-b997-1784ea612f0c/2321a16c-5ca8-4d7b-90a3-0afedd939ff7, “accessed July 26, 2017”

[13] Larbi Sadiki, ed., Routledge Handbook of the Arab Spring: Rethinking Democratization (London ; New York: Routledge, 2015), chronology, p xxv.

[14] Nabila Ramdani, “Islamist Party Wins Power for First Time in Morocco,” November 27, 2011, sec. World, http://www.telegraph.co.uk/news/worldnews/africaandindianocean/morocco/8919096/Islamist-party-wins-power-for-first-time-in-Morocco.html.

[15] Christopher Phillips, “After the Arab Spring: Power Shift in the Middle East?: Syria’s Bloody Arab Spring,” 2012, http://eprints.lse.ac.uk/43464/.

[16] Raphael Israeli, From Arab Spring to Islamic Winter (Transaction Publishers, 2013); Michael J. Totten, David Schenker, and Hussain Abdul-Hussain, “Arab Spring or Islamist Winter? Three Views,” World Affairs, 2012, 23–42.

[17] حول تغير خطاب الإسلاميين في هذه الفترة، انظر:

Khalil Al-Anani, “Islamist Parties Post-Arab Spring,” Mediterranean Politics 17, no. 3 (November 2012): 466–72, doi:10.1080/13629395.2012.725309.

[18] أبو يعرب المرزوقي, “الفصل السوي بين الدعوي والسياسي أو بين الحركة والحزب,” أبو يعرب المرزوقي, January 29, 2016, https://abouyaarebmarzouki.wordpress.com/2016/01/29/%d8%a7%d9%84%d9%81%d8%b5%d9%84-%d8%a7%d9%84%d8%b3%d9%88%d9%8a-%d8%a8%d9%8a%d9%86-%d8%a7%d9%84%d8%af%d8%b9%d9%88%d9%8a-%d9%88%d8%a7%d9%84%d8%b3%d9%8a%d8%a7%d8%b3%d9%8a-%d8%a3%d9%88-%d8%a8%d9%8a%d9%86/.

[19] برادلي، ما بعد الربيع العربي: كيف اختطف الإسلاميون ثورات الشرق الأوسط، ص 148

[20] يجب ألا نغفل أيضا، وقوف بعض المرجعيات السنية المعادية للمذهب الوهابي والمقربة من المؤسسة الدينية الرسمية في سوريا، إلى جانب هذا المحور.

 [21] يبرهن برادلي ويستشهد بعدة أدلة على أن الربيع العربي، مثل فرصة ذهبية أيضا لظهور وتمدد الحركات السلفية الجهادية وتنظيم القاعدة، الذي استفاد من تدهور الأوضاع في اليمن على خلفية الاحتجاجات المرتبطة بالربيع العربي انظر: برادلي، ما بعد الربيع العربي: كيف اختطف الإسلاميون ثورات الشرق الأوسط؟ ص 88