حياة عمامو: المصادر الإسلاميّة ومقاربات المؤرّخين (الجزء الثاني)


فئة :  حوارات

حياة عمامو: المصادر الإسلاميّة ومقاربات المؤرّخين (الجزء الثاني)

د. نادر الحمامي: نجدّد شكرنا للأستاذة حياة عمامو على قبولها أن تكون ضيفتنا اليوم للحوار معها والإفادة من أفكارها وممّا تطرحه من آراء بخصوص التّاريخ، وكنّا قد توصّلنا في الجزء الأول من هذا الحوار إلى سياق من السّياقات الكثيرة التي يجد المؤرّخ نفسه أمامها في كتابة التّاريخ الإسلامي، والمتمثّلة في الصّراع السّياسي، وقد أصدرت ضيفتنا كتاباً في هذا الشّأن حول "السّلطة وهاجس الشرعيّة في الإسلام المبكّر"، وكنّا قد عرّجنا على هذه النقطة في حديثنا حول سياق منهجي عام في الكتابة التّاريخية يتعلّق بمسألة الموثوقيّة، ويقوم على اعتبار أنّ مهمّة المؤرّخ قد تكون كامنة في افتراض ما هو غائب في المصادر من أجل إكمال حلقات التّسلسل التّاريخي، فما هو رأي الأستاذة حياة عمامو في هذه المهمّة الملقاة على عاتق المؤرّخ؟

دة. حياة عمامو: أريد أن أقف أوّلاً عند مسألة الموثوقيّة لأنّها قد تؤدّي مباشرة إلى الدّوغمائيّة، فلا يجب أن نتعامل مع ما يوجد في المصادر، سواء كانت مباشرة أو غير مباشرة، على أساس أنّه موثوق به، ويجب دائماً وأبداً أن نضع نقاط استفهام حول عديد المسائل، لأنّ ذلك من شأنه أن يؤدّي دائماً إلى التّفكير في ما يمكن أن يكون قد حدث فعلاً. وهنا نصل إلى ما سمّيتَه بالافتراضات، فالمؤرّخ وغير المؤرّخ والباحث عموماً في مستويات متعدّدة يمكنهم جميعاً أن يلجؤوا إلى ما يسمّى بالنّتائج المفترضة التي يمكن أن تكون صحيحة كما يمكن أن تكون خاطئة، ولذلك فالتّنسيب ضروريّ في هذه العمليّة، أضف إلى أنّ الافتراض لا يمكن أن يكون مسألة مطلقة في التمشّي التّاريخي، لأنّه يجب أن ينطلق في جميع الأحوال من معلومة موجودة في المصادر؛ وأورد هنا مثالاً معركة بدر (وقعت في العام الثّاني من الهجرة) التي تتحدّث عنها المصادر على أساس النّظرة الدّينيّة التي ترى أنّ المسلمين الذين كانوا قلّة قليلة استطاعوا أن ينتصروا على قريش؛ وذلك بفضل الملائكة التي ساندتهم، ولكنّنا نجد في المصادر جملة مفيدة جدّاً، مفادها أنّ النبيّ عندما عاد من معركة بدر واعترضه مجموعة من الأنصار يهنّئونه على هذا الانتصار الكبير، قام غلام من غلمان الأنصار(فتى)، فقال: ''على ماذا تهنّئوننا، إنّنا لم نجد سوى كمشة من الشّيوخ الصُّلع فنحرناهم''، ويمكن أن نفهم من هذا القول أنّ شيوخ قريش قدموا إلى بدر على أساس الاستعراض لا على أساس القتال، لأنّ القرشيّين كما نعلم هم من أهل الحرم، وأهل الحرم حرام سفك دمائهم، سواء كانوا في أرض الحرم أو خارجها، ولهذا نفترض أنّهم لم يكونوا ينتظرون أن يقع تقتيلهم من قِبل أبناء قريش أنفسهم، خاصّة أنّنا نعلم أنّ القرشيّين عموماً لا يحسنون القتال، وقد كانوا لا يقاتلون بأنفسهم، وإنّما يقاتلون عن طريق قبائل بدويّة مثل غطفان وغيرها، لذلك فإنّ النّتيجة التي خلصتُ إليها في شرح معركة بدر هي أنّ القرشيّين انهزموا في تلك الواقعة، لأنّهم لم يكونوا مهيّئين للقتال، بل إنّهم لم يخرجوا من أجل القتال أصلاً، وهذا ما استغلّه الأنصار الذين كانت لهم دُربة على القتال، لأنّهم تقاتلوا كثيراً في ما بين عشائرهم منذ ما قبل الإسلام، وهذا ما ساعدهم على أن يسجّلوا انتصاراً ساحقاً في معركة بدر.

د. نادر الحمامي: أنت تضعين نصّين بإزاء بعضهما؛ النّص التّاريخي الذي فيه هذه الجملة التي يستند إليها المؤرّخ لبناء ما يمكن أن يكون قد حصل في التّاريخ، في مقابل النّص الذي يحمل نظرة دينيّة لتلك المعركة وقد أُسبغ عليها الكثير من المتخيّل الدّيني، ما جعلها تقلب عديد الموازين في التّاريخ الإسلامي، وقد اهتمّت دراسات كثيرة بمسألة المتخيّل، من قبيل ما نجد في مقالات كلود جيليو (Claude Gilliot) (1940) حول المتخيّل الجمعي والمغازي، وقد أخذ مثال فتح مكة، ولكن الأمر لا يختلف كثيرا في هذا المستوى. ألا يضع هذا نقطة استفهام أمام من يعتمدون على النص القرآني، مثلاً، باعتباره نصا تاريخيّا؟

دة. حياة عمامو: النّص القرآني يمكن أن يكون نصّاً تاريخيّاً في بعض الأحوال وليس في كافّة الأحوال، وقد اعتمده جعيّط باعتباره مصدراً تاريخيّاً في حالات، مثل اعتماد القرآن في إثبات أنّ النّبي لم يتنبّأ في سنّ الأربعين، وإنّما تنبّأ في سنّ الثّلاثين أو الثّلاث والثّلاثين، وفي إثبات إيلاف قريش، والتثبّت في قصّة الوحي والغار، ومسائل أخرى مثل موقف أبي لهب وامرأته، وقصّة الأحناف... فهناك العديد من المسائل التي يمكن أن نعتمد عليها، باعتبارها أحداثا تاريحيّة أـو مؤشّرات لأحداث تاريخيّة في القرآن، ولكن القرآن وحده لا يستطيع أن يقدّم لنا مادة تاريخيّة موثوقة.

د. نادر الحمامي: ربّما لا يقدّم لنا النّص القرآني مؤشّرات تاريخيّة أو مادّة تاريخية واضحة، وإنّما هو يعدّل أو يصوّب بعض الرّوايات، ويجعل المؤرّخ يبحث في صدقيّة ما جاء في الخبر التّاريخي، فإذا نظرنا على سبيل المثال في سورة التّكوير أو سورة النّجم، يتبيّن لنا أنّ الوحي في بدايته لم يكن في مكان مغلق، ولكنّ القرآن لا يحدّد لنا المكان الذي نزل فيه الوحي، وهذا ما يدفعنا إلى التّساؤل حول مسألة اختلاق قصّة غار حراء في الرّوايات؛ وهكذا فعلى أساس النّص القرآني يتمّ التّدقيق في الخبر التّاريخي.

دة. حياة عمامو: يتم التّدقيق والمراجعة أيضاً، لأنّ النّص القرآني إلى حدود القرون الأربعة الأولى، وحتى بعد ذلك، كان يُعتمد فيه على التّفسير فقط، والتّفسير يخضع إلى العديد من السّياقات المرتبطة بالواقع الرّاهن آنذاك، وهي تختلف عن سياقات نزول القرآن، وهذا ما يستدعي الكثير من العلوم الأخرى، مثل العلوم المتعلّقة بأسباب النّزول وبالسّيرة، التي هي في الأصل توليد لعديد من الآيات القرآنيّة ما يصبغها بصبغة دينيّة. لذلك، فالمؤرّخ مطالب أمام تلك النّصوص، سواء كانت من القرآن أو التّفسير أو الأخبار أو غيرها، بأن يجرّدها من النّظرة القدسيّة ليجعلها تاريخاً بشريّاً يمكن على أساسه محاولة إعادة تركيب الأحداث، وهذا مهمّ في مستوى المنهج، لأنّه يمكّن من إيجاد الصّورة أو الصّور لما يُحتمل أن يكون قد حدث فعلاً. وذلك يبقى مجرّد احتمال دائماً، لأنّنا أمام غياب مصادر مباشرة يمكن أن تدلّنا على وقوع الأحداث كما هي، فحتّى الآثار والمسكوكات أو ما يسمّيه المؤرّخون حاليّاً بالنّميات (علم المسكوكات الإسلاميّة Islamic Coinage) أو النّقائش التي تعود إلى فترة الإسلام الأوّل، هي شحيحة جدّاً مقارنةً بتلك التي تعود إلى فترات التّاريخ التي عاشتها شعوب البحر المتوسّط، مثل الحضارات اليونانيّة والرّومانيّة والبيزنطيّة، وحتّى الحضارات السّاسانيّة وحضارات الشّرق بصفة عامّة، قبل ظهور الإسلام. ولكن هذا الشحّ في المصادر والآثار يمكن أن يكون مؤقّتا، في انتظار ملء فراغات تسلسل الأحداث التّاريخيّة، ورغم أن البحث عن هذه المصادر يواجه الكثير من العوائق بسبب قدسيّة الدّين التي تمنع التّنقيب في الآثار أو البحث في هذه المواضيع، إلاّ أنّ الأمور بدأت تتغيّر اليوم ولعلّ ستتطوّر مستقبلاً؛ فالكثير من علماء الآثار اليوم بصدد الحفر في أماكن متعدّدة، بما في ذلك شبه الجزيرة العربيّة، وهناك الكثير من الأشياء التي تخرج بوتيرة بطيئة، ولكنّها تخرج على أيّة حال. وهذا ما يستدعي منّا اعتماد الكثير من المصادر الأخرى المتنوّعة، حتى نستطيع أن نراجع النّتائج التّاريخية التي توصّل إليها المؤرّخون إلى حدّ الآن.

د. نادر الحمامي: هناك نوع من الإغراء في هذا الجانب المنهجي الذي لم نستوف الحديث فيه، فهو ينطوي على الكثير من المسائل التي تستوجب الاهتمام، ومن بينها مسألة التّركيب التي أشرتِ إليها، وفي نظريّات المعرفة التّاريخية يمكن الوقوف على مدرستين أساسيّتين؛ المدرسة الوضعانيّة القديمة التي تقول بأنّ مهمّة المؤرّخ كشف الماضي، والمدرسة النّقديّة الحديثة التي تقول بأنّ المؤرّخ لا يكتشف الماضي، كما أنّه لا يركّبه فقط، وإنّما هو يصنعه، وبالتّالي فللمؤرّخ دور في صياغة ذلك الماضي. فهل تعتبرين أنّ المؤرّخ فاعل في الماضي، وأنّه ''يصنع الماضي'' كما يقول ديسارتو (Michel de Certeau) (1925-1986) وبول فاين (Paul Veyne) (1930) ومؤرّخو ما بعد الحداثة، أم أنّك تعتبرين أنّ الوصول إلى هذه الدّرجة من القول مبالغ فيه، وأنّ المؤرّخ إنّما هو يحاول تركيب أحداث الماضي فقط؟

دة. حياة عمامو: نعم، وعندما يحاول المؤرّخ تركيب الأحداث التّاريخيّة فهو يصنعها أيضاً، لأنّ التّركيب يتطلّب تجميع قطع متعدّدة ومتناثرة، أحياناً، ولذلك فهو عمل شخصيّ يعود إلى المؤرّخ الذي يصنع التّاريخ بطريقة أو بأخرى، وهذا ما يميّز بين مختلف المدارس التّاريخية، وبين مختلف المناهج المعتمدة في كتابة التّاريخ، فما تتوصّل إليه أنت اعتماداً على المدرسة الوضعانيّة مثلاً، لا أتوصّل إليه أنا بالضّرورة، اعتماداً على المدرسة النّقدية الألمانيّة أو مدرسة الحوليّات أو كذلك اعتماداً على المقاربات المنهجيّة المختلفة، فمن يعتمد المقاربة الأنثروبولوجيّة التّاريخيّة ليس كمن يعتمد مقاربة تجميع المعرفة التّاريخيّة أو تجميع الأحداث وإعادة صياغتها أو تصنيفها، وهنا أطرح سؤالا مهمّا كنت دائماً أسأله لنفسي، ولكن لا أستطيع الإجابة عنه، وهو ما الذي يختلف بين المؤرّخ الحالي الذي يعتمد المناهج العلميّة وبين المؤرّخ في القرن الثّاني أو الثّالث الهجري، ما الذي يميّز بين الصّنفين من المؤرّخين؟ فالطبري مثلاً مؤرّخ وأنا مؤرّخة، وما قام به الطّبري أنّه أعاد تجميع الأحداث وصنّفها حسب التّسلسل الزّمني الكرونولوجي، ولم يعتمد هذا المنوال لفترة ما قبل الهجرة، لأنّه اشتغل من داخل منظومة دينيّة تحدّد تأريخه للأحداث بتاريخ الهجرة، بينما أنا أعتمد الطّبري وأعتمد معه الكثير من المؤرّخين الآخرين، مثل البلاذري واليعقوبي والمسعودي وابن سعد وابن خياط وغيرهم، لأحاول أن أوجد ما يمكن أن يجمع بين مختلف الأفكار الموجودة في مصادر متعدّدة وأركّبها، فأنا بهذا المسعى أصنع التّاريخ أيضاً، لكن ليس من فراغ، بل من خلال بحثي عن مسائل أريد الوصول إليها، وهنا نأتي إلى مسألة الموضوعيّة في كتابة التّاريخ.

د. نادر الحمامي: إذن هناك في ذهن كلّ مؤرّخ ما يريد الوصول إليه؟

دة. حياة عمامو: بطبيعة الحال، فالعلوم الإنسانيّة عموماً ترسم لنفسها هدفاً تريد الوصول إليه، وقد يتغيّر ذلك الهدف في بعض الأحيان، لأنّ المادّة المتوفّرة لا تمكّن من ذلك، وهي تسمح بالشّيء ونقيضه، وعلى هذا الأساس يجب أن ندرك أنّ المعرفة التّاريخية والمعرفة الإنسانيّة بصفة عامّة هي معرفة تراكميّة ونتائجها ليست نهائيّة، وإنّما هي تتطوّر دائماً وأبداً، ومن هذا المنطلق، فأنا لا أرى أنّ موضوعاً ما يمكن أن يكون قد قُتل بحثاً، فالمواضيع كلّها يمكن أن يُعاد البحث فيها بصفة متواصلة، ويمكن أن نصل فيها إلى نتائج مختلفة، أو أكثر صرامة ممّا تمّ التوصّل إليه فيها، وهذا لا ينفي النّتائج السّابقة كما لا يعني أنّ النّتائج الجديدة هي نهاية ما يمكن الوصول إليه. فالمعرفة التّاريخية في تطوّر مستمرّ، شأنها شأن جميع المعارف في العلوم الإنسانيّة وفي العلوم الصّحيحة أيضاً، والنّتائج فيها ليست نهائيّة لأنّها قائمة على القطائع، فإذا ما قلنا إنّ موضوعاً ما قُتل بحثاً ولا يمكن أن نبحث فيه مستقبلاً، فإنّنا نكون بذلك بصدد مصادرة إمكانيّة تطوّر المناهج العلميّة التي تؤدّي إلى نتائج مختلفة أو متطوّرة بالنّسبة إلى ما تمّ التّوصّل إليه من قبل.

د. نادر الحمامي: هناك أفكار متداولة مفادها أنّ التّاريخ الإسلامي يسمح بكثير من التّأويل، نظراً إلى أنّه لم يُكتب إلاّ بداية من عصر التّدوين في القرن الثّاني للهجرة، ورغم ما يُطرح من تساؤلات حول الموضوعيّة والتّاريخانيّة، فإنّ انتقال التّاريخ الإسلامي من مرحلة المشافهة إلى مرحلة التّدوين لا يعدّ استثناءً بالمقارنة مع تواريخ الشّعوب الأخرى، ونلاحظ في مقدّمة كتابك حول السّيرة النّبويّة أنّك تنسّبين كثيراً هذا الأمر اعتماداً على فرد دونر، فهل ما اقترحته من تنسيب للحدّ المنهجي الصّارم بين الشّفوي والمكتوب في مستوى السّيرة قابل للتّعميم على بقيّة التّاريخ الإسلامي؟

دة. حياة عمامو: ليس التّاريخ الإسلامي فقط هو المعني بهذا الأمر، لأنّ فيفر (Lucien Febvre) مثلاً، في مقاله في الموسوعة الكونيّة (Encyclopédie Universalise) يقول: "إنّ النّاس كانوا قبل القرن السّادس عشر يسمعون أكثر ممّا يقرأون، والآن أصبحنا نرى أكثر ممّا نسمع وأكثر ممّا نقرأ"، وهذا تطوّر عرفته الإنسانيّة جمعاء، وهو لا يخصّ المسلمين وحدهم.

د. نادر الحمامي: هذا تطوّر مهمّ قابل للبحث، فكأنّك تحدّدين ثلاث مراحل؛ من السّماع إلى الكتابة إلى الرّؤية؟

دة. حياة عمامو: نعم، فالمهتمّون بما يسمّى التّاريخ الآني، يشتغلون بدرجة أولى على الصّورة لا على النّصوص أو الكتابة أو المشافهة. أمّا تاريخ المسلمين في القرن الأوّل وفي النّصف الأول من القرن الثّاني الهجري، فهو لا يهمّ المسلمين وحدهم، وإنّما يهمّ الإنسانيّة كافّة، على اعتبار أنّ المشافهة كانت هي الأصل لدى جميع الشّعوب، وقد كان العرب ينقلون ما يعرفونه مشافهةً، لأنّهم يقولون بكراهة الكتابة وقد أوصى النّبيّ ألاّ يُكتب الحديث، ولابن عبد البرّ (ت 463 هـ) كتاب في ذلك. ولكن هذا لا ينفي الكتابة مطلقاً عن المسلمين، كما يؤكّد ذلك المستشرق النّمساوي ألويس اشبرنجر (Aloys Sprenger) (1813-1893)، ذلك أنّ الرّواة المسلمين الأوائل كانوا يدوّنون بعض الكتابات الشّخصيّة التي يتمّ اعتمادها في نقل الأخبار فيما بعد إلى أناس آخرين، وبهذه الطّريقة كان يُتناقل العلمُ، وقد بحث في هذا الموضوع المؤرّخ السّوري شاكر مصطفى (1921-1997). فأولئك القدامى كانوا يعتمدون على مذكِّراتهم الشّخصيّة ليستطيعوا نقل المعرفة التي تلقّوها إلى أجيال أخرى، وهكذا إلى أن أصبح التّدوين رسميّاً في العهد العبّاسي، وهو لم يتأخّر لدى العرب إلى منتصف القرن الثّاني للهجرة، وإنّما كانت توجد كتابات، وقد كتب العرب حتى قبل الإسلام، ولكن تلك الكتابات كانت فرديّة وشخصيّة بمعنى أنّها غير رسميّة.

د. نادر الحمامي: إذن، فالتّحوّل الأساسي تمثّل في أن التّدوين أصبح رسميّاً مع الدّولة العبّاسية؟

دة. حياة عمامو: وهذا يعود إلى سبب آخر أيضاً، وهو توفّر الورق في ذلك الزّمن، وقد كان يُجلبُ من الصّين، وقد دخل الإمبراطوريّة الإسلاميّة في ما بين سنة 121 و125 هـ، ولذلك استطاع العبّاسيّون أن يحوّلوا مسألة الكتابة والتّدوين إلى أمر رسميّ، وبدأت الكتابات من ثمّ انطلاقاً من ابن إسحاق وأبي مخنف والمدائني (ت 225 هـ) والعديد من الذين كتبوا في مجالات متعدّدة ولكن كتاباتهم فُقدت، وتمّت استعادتها في القرن الثّالث في كتابات الطّبري والبلاذري وابن سعد وغيرهم.

د. نادر الحمامي: كانت بداية التّدوين مع ابن إسحاق، وهو صاحب أشهر سيرة، وهي سيرة نواة لكل السّير الأخرى، فهل تعتبرين أنّ السّيرة أوّل جنس للكتابة وأوّل أدب كُتب في الحضارة العربيّة الإسلاميّة قبل كلّ شيء آخر؟

دة. حياة عمامو: لا أعتقد ذلك، لأنّ أوّل ما كتب هو الحديث، ولو بصفة غير رسميّة، فالمصادر تذكر أنّ عمر بن عبد العزيز (ت 101هـ) كلّف الزّهري (ت 124هـ) بكتابة الأحاديث التي لم تصلنا عن طريق الزّهري، وإنّما وصلتنا عن طريق البخاري (ت 256هـ) ومسلم (ت 261هـ) والكثير من المحدّثين الآخرين، وأنا أعتقد أنّ أدب السّيرة وقع توليده من الحديث ومن التّفسير، كما يذكر ذلك عبد العزيز الدّوري (1919-2010)، حتّى أنّ سيرة ابن إسحاق هي مزيج بين كثير من الأجناس من التّفسير ومن الحديث ومن القصص ومن الإسرائيليّات، وقد جمعت بين أدب ما قبل إسلامي، وهو أدب مهمّ جدّاً، وكان يُعتمد بصفة رسميّة مع معاوية بن أبي سفيان في مجالس السّمر، وقد تجاوزت تلك المجالس مسألة الحروب والمغازي والأيّام وكل ما كان يُتداول لتتركّز حول شخصيّة الرّسول، باعتبارها شخصيّة محوريّة بالنّسبة إلى المسلمين، ومن هنا بدأت مسألة قداسة النّبي والرّسالة والقرآن والإسلام إلى غير ذلك. وقد ذكر لي زميل شاب من زملائي أنّ كلمة "نبيّ" لم يرد ذكرها أبداً في البرديّات المصريّة، فلم تكن متداولة في الحضارة الفرعونيّة، لذلك فهي مرتبطة أساساً بالسّياق التّاريخي الذي وقع فيه تطوّر النّظرة إلى النّبوّة.

د. نادر الحمامي: هل يعني هذا أنّ أدبيّات السّيرة يمكن أن تكون هي المساهم الأوّل في تشكيل صورة للنّبي، أُضفيت عليها قداسة لم تكن موجودة بالشّكل نفسه من قبل؟

دة. حياة عمامو: نعم، وتلك الصّورة مرتبطة بمسألة الشّرعيّة، فمعاوية بن أبي سفيان التجأ إلى مثل هذه المجالس، وقد فعل العبّاسيون ذلك أيضاً من بعده، في محاولة للارتباط بهذه الشّخصيّة المؤسّسة للإسلام، ولذلك كانوا يعقدون حولها الكثير من المجالس، وذلك من أجل أن يعطوا لأنفسهم شرعيّة. وقد انتقلت تلك الشّرعيّة من اعتبار خليفة رسول الله مجرّد واسطة لتمثيل السّلطة بين النّاس وممتلكاتهم وبين الله، إلى سلطة وصلت في تقديسها إلى حدّ أصبح معه الخليفة خليفة الله وظلّ الله في الأرض، وهي مسألة وقع التّأثّر فيها بالحضارات المجاورة على مثال التّقاليد السّلطوية في الإمبراطورية البيزنطيّة، والملك الإله عند السّاسانيّين وحتى عند العرب القدامى في اليمن وفي غيرها من المناطق الأخرى، حيث كانت السّلطة تمثّل نوعاً من القداسة المتولّدة دائما من بحث الحاكم عموما عن نوع من الحصانة.

د. نادر الحمامي: إذن فبداية من معاوية ستستند السّلطة إلى تشكيل صورة مقدّسة للنّبي من أجل استمداد الشّرعيّة منها؟

دة. حياة عمامو: نعم، وقد حدث ذلك حتى من قبل معاوية، بل منذ حدث السّقيفة حين استطاع أبو بكر أن يحقّق إجماع المسلمين عليه، بالرّغم من اختلاف وجهات النّظر في ذلك الوقت. فقد كان لابد من إيجاد شرعيّة للاختيار، وهي نظير لما يسمّى في عصر الحداثة وما بعد الحداثة شرعيّة الانتخاب.

د. نادر الحمامي: هذه الشّرعيّة والسّلطة وعلاقتها بمسألة الخلافة والتّداول السّياسي وأشكاله وحقّ الأمّة وحق الخليفة، وغيرها من المسائل المتعلقة بها، يحاول البعض اليوم الاستناد عليها بنوع من اللاّتاريخية العجيبة، لذلك سنستأنف حوارنا في الجزء الثّالث منه بالعودة إلى مسألة السّلطة السّياسيّة ومحاولاتها الدّائمة لاكتساب الشّرعية بمختلف أبعادها المعنويّة والقانونيّة والدّينيّة.