خطر الإيديولوجيّات الخلاصية؛ طرابيشي قارئاً لفشل الدّيمقراطية في مجتمعاتنا


فئة :  مقالات

خطر الإيديولوجيّات الخلاصية؛  طرابيشي قارئاً لفشل الدّيمقراطية في مجتمعاتنا

لأنّنا نفشل دوماً، سواء في ما نحاول أنْ نستنبته من داخل تربتنا، أو في ما نستجلبه من عناوين تبدو للوهلة الأولى خلاصاً وحلاّ سحريا مع قليل من التّمويه والتّزوير. يحق لنا أنْ نتساءل، ليس لأنّ السؤال هواية من لا هواية له، أو بغية خلْق توتّرات فكرية تنتهي باللاّجواب. ولكن من أجل الفهم أوّلا وأخيرا، بعيدين عن غواية تغيير العالم من حولنا، أو صناعة أوهام الخلاص التّاريخية كما جسّدها العقل الديني والسّياسي في مختلف فترات تشكلّه. نعم، من أجل الفهم أوّلا وأخيرا كما نبّهنا لذلك سلافوي جيجيك، لأننا نحتاج قبل أنْ نحلم بالتغيير، أن نحلم بالفهم. فأشدّ الأفكار خبثاً هي تلك التي تجعلك تحلم بتغيير العالم، في الوقت الذي تعجز فيه عن تغيير ذاتك، وكأننا نستحضر مقولة ديكارت التي صاغها صياغة رواقية، حيث إنّ السّعادة تكمن في: "تغيير رغباتنا أكثر من تغيير نظام العالم"[1]. إنه الفهم أو محاولة الفهم كما يؤشر عليها جيجيك، إذ إنّ أول ما يمكن للمرء فعلُه، هو عدم الانجراف وراء إغراء التصرّف، وعدم التسرّع من أجل تغيير العالم (وبالتالي تجنّب إمكانية الاصطدام بالحائط: ماذا بوسعنا فعله في مواجهة الرأسمالية العالمية؟). فالأجدر بنا أن نعمل على إزالة اللثام عن مختلف مظاهر الهيمنة في هذه الإيديولوجيا. في الحقيقة، لحظتنا التاريخية الحالية هي نفسها لحظة أدورنو: "الذي أجاب عن سؤال: ماذا بوسعنا فعله؟ سأجيب بكل صدق: لا أعرف شيئا". كل ما أستطيعه، هو العمل على تحليل الأشياء كما هي. سيعترض أحدهم بالقول، إن كل محاولة نقدية تستدعي اقتراحا إصلاحيا. ينبغي التذكير، بأن الأمر هنا، لا يعدو أن يكون حكما مسبقا بورجوازيا. كثيرا ما حدث عبر التاريخ، أن الأعمال التي سُطرت لها أهداف نظرية محضة، هي نفسها التي أحدثت تغييرا في العقليات، وبالتالي، في الواقع الاجتماعي[2].

أشدّ الأفكار خبثاً هي تلك التي تجعلك تحلم بتغيير العالم، في الوقت الذي تعجز فيه عن تغيير ذاتك

ما يثيرنا في حديث سلافوي جيجيك، هو أنّه يضعنا أمام سياق يجعلنا نعاني من أزمة السّؤال، باعتباره المدخل لمحاولة الفهم، وليس المدخل للقبض على المعنى، وامتلاك الجواب النّهائي، وهو تعبير عن عقلية، أو ذهنية ترى بأنّ الحقيقة جوهر ثابت، سابق على التّجربة، متعالٍ على الممارسة، يمكن القبض عليه عبر التصوّرات، والتّعبير عنه بواسطة الكلمات. ومن ثمة ترجمته في الحياة العملية، والممارسات التطبيقية، لكنّ هذا الاعتقاد كثيرا ما آل إلى إحباطات كبيرة: "فالذين أملوا بالسّلام لم يحسنوا سوى صناعة الحرب، والذين فكّروا في زوال الدّولة لم يؤسّسوا مملكة للحرية، بل أنتجوا دولة كليانية سحقت الفرد، وابتلعت المجتمع المدني ومؤسّساته..."[3].

حقّا يوصلنا الحديث عن العقل المهووس بهمّ السّؤال إلى التّذكير بإشارات جمال علي الحلاق[4]، وهي إشارات تبدو مهمة لمن يرغب بالغوص في مغامرة الانفتاح المكسّر لجنون الانغلاق، والإيمان المطلق بالموروث والتّقاليد، والانحياز التامّ للمسبقات، لأنّ المنفتح لا محيط له، تماماً كالسّهم المنطلق في الفضاء. ولكي نفهم المفارقات التي يعيشها العقل المنفتح، حين يفكر خارج المجموع، وخارج النّسق السّائد، وجب أنْ نفهم الوسائل التي تتيح له هذا العيش، وهذا التحرّر الفكري، ولعلّ السّؤال أوّل هذه الخطوات نحو الانفتاح. السّؤال الّذي يعني الرّغبة في البحث عن معنى آخر، خارج خيمة الحقيقة الّتي ترسمها الجماعة، وتصادق عليها الثّقافة وحرّاسها وسدنتها. وأيضاً السّؤال الذي يمنح العقل التميّز والتفرد، والخروج من ربقة نمطية قاتلة، تستهدف العقل، وتميت عناصر الحياة فيه. إنّه السّؤال الذي يعطيك إمكانية العيش مع الآخرين، دون أنْ تحتويك سياجاتهم، أو تحاصرك قيود أفكارهم، فيكفي أنْ تسأل كي تعبُر إلى حيث تتلاقى مع ذاتك في وحدة وجودية لا يستطيع العقل المنغلق إدراكها. وهنا يقف الإنسان بعقله المنفتح ليمدّ بفكره كلّ أواصر الاتصال مع الجميع، دون أنْ تذيبه شعاراتهم، أو تنزاح به تعبيراتهم إلى حيث مركز ثقلِهم الفكري والثّقافي.

الخلاص هو سلاح العاجز، حينما تعوِزه مواجهة الواقع، أو لنقُل بتعبير أدقّ هو الوهم العابر للثّقافات حين يصيبها الشّلل التّام في الخروج من مستنقع وضعتْ فيه نفسها طوعاً أو كرها. لكن لا بأس إذا عرفنا وأدركنا أنّ من الأوهام ما يشفي، أو يكفي لمواجهة مشاقّ هذه الحياة. هنا تنبَّه ماركس إلى أنّه: "عندما تطلب من شعب التخلّي عن الوهم حول وضعه (الاقتصادي/الاجتماعي/السياسي/الديني)، فإنّك تطلب منه التخلي عن وضع بحاجة لوهم"[5]. لذا، فالكائن الإنساني لا يملك واقعا حقيقيا، لأنّ واقعه هو شمس وهمية تدور حوله، ما دام لا يدور حول نفسه. إنّها باختصار الحاجة إلى الوهم في سبر تحدّيات الواقع، وغموض المستقبل. لهذا، كان لزاما على الجهاز العقائدي للإنسان، والمتمثل في آليات تفكيره، وأنماط سلوكياته أنْ يختار دوما تغذية جانبه النّفسي بصناعة الأصنام الذّهنية، والعكوف عليها، والتمسّك بها إلى الحدّ الذي يصعب فيه الانفصال، وهي دائمة التّجديد في مسيرة متواصلة، ومستمرة على امتداد آفاق العقل الإنساني، كلّما حطّم الإنسان صنماً إلا وأقام آخر مكانه، ودافع عنه، أو مات من أجله، أو كانت ضحية لنزعات تعصّبه اتجاهه. وهنا نفهم كيف يمكن أنْ ينتقل الإنسان من الفكرة، أو الأدلوجة، أو العقيدة إلى ممارسة الفعل التّدميري على نفسه، أو على غيره في حرب وهمية تأخذ طابع المقدّس شكلاً، وتصطبغ بالمدنّس مضمونا حين تكون نتائجها مأساوية، وغير قابلة للتّبرير.

لماذا فشلنا في أن نرسّخ قيم الدّيمقراطية في مجتمعاتنا، وبالتالي نصنع خلاصا لنا من كلّ هذا التخلف؟:

يحيلنا السّؤال إلى مقاربة جورج طرابيشي لموضوع الدّيمقراطية، وكيف تحوّلتْ داخل مجتمعاتنا إلى إيديولوجية خلاصية، أو عنواناً للاستهلاك الإعلامي والسّياسي، في الوقت الذي يصير فيه الواقع مفارقا لكلّ ما يطرح من العناوين الكبيرة. صَدر كتاب: هرطقات(1) عن الدِّيمقراطية والعِلْمانية والحَداثة والمُمانعة العربية، عن دار السَّاقي، بالاشتِراك مع رابطة العَقلانيين العرب، سنة 2006، من 229 صفحة، وهو عبارة عن مجموعة مقالات يبلُغ عددها 15 مقالة، في مواضيع متعدِّدة، ربَّما الخيط النَّاظم بينها هو معالجتها للواقع العربي من زوايا مختلفة، تشكِّل الجُرح النَّرجسي للذّات العربية بتعبير طرابيشي، الممثّل أساساً في السُّؤال القديم الحديث، ألا وهو تطوُّر الغرْب وتخلُّف العرَب. كما أنَّ توظيف كلمة هرطقات في هذا السِّياق، لعنونة كتابٍ يضمُّ مجموعة من المقالات المختلفة، يطرَح سؤال هذا التّوصيف. غير أنّ طرابيشي يفكّ هذا الغموض، حين يوضِّح أنّ كلمة هرطقة في اللاّهوت المسيحي ترادفها البدعة في الفقه، وعِلم الكلام الإسلامي. فالهرطقة بمفهوم الكاتب "هي أحد السُّبل القليلة المتاحة للمقاومة، أو على أقلِّ تقديرٍ للوقاية في زماننا هذا. زمان سيادة الأصوليات، والارتداد العربي الإسلامي."[6].

يميِّز طرابيشي في بداية حديثه عن ما سمّاه بإشكاليات الدِّيمقراطية في العالم العربي بين مستوَيين اثنين: إشكاليات الدّيمقراطية، ومشكلاتها. فاختيار التّعبير وعنونة المقال بكلمة إشكاليات لم يكن اعتباطاً؛ لأنَّ المشكلة هي كلُّ ما يمكنُ الإجابة عنه بالبحث والتحرّي. أمَّا الإشكالية، فهي كلُّ مسألةٍ تكتنفُ الإجابة عنها مجموعة من الصُّعوبات. ولعلّ الطّابع الإشكالي للدِّيمقراطية في العالم العربي حسب توصيف طرابيشي، يكمن في الطّابع الخلاصي الذي أصبحت الدِّيمقراطية تمثِّله في المخيال الجمعي العربي؛ ومعنى ذلك أنّ الكلّ ينظر إليها، باعتبارها المخلِّص الوحيد من الخروج من أزمة التخلّق التي تلازمنا، دون النّظر في السّياقات المشكّلة للمفاهيم، وتطوّرها، وصولاً إلى ما هي عليه في العالم المعاصر.

لا يدرك الإنسان في الكثير من الأحيان، وهو يجابه أزماته أنّه جزءٌ من الأزمة، وليس فقط جزءاً من حلّها، لذا وجب عليه أنْ يقرّ بضعفه، وخيبته، وعجزه عن الاندماج والتوحّد مع ذاته أولا، ومع محيطه ثانيا، لأنّ داخل المحنة تكثر الأكاذيب والأباطيل والزّيف، ويتحوّل الحدث التّاريخي من بُعده الاعتباري، إلى الأساس الوحيد لاستمرار الأزمة. كما تتحوّل المفاهيم من مدلولات توجيهية نحو المستقبل، إلى قيمٍ توسِّع الهوة بدَل تضييقها. لم نعدْ نفهم إلى أين الوجهة، لأنّ الأفكار المقلوبة، والمفاهيم المسلوبة تبعدنا شيئاً فشيئا عن ملاقاة الذّات، وتشعرنا أكثر فأكثر بالخجل؛ ذلك الخجل الموصول بالذّاكرة البعيدة للإنسان المسلم، وتلك الذّاكرة المهشّمة والموشومة بجروح التّاريخ معلنة بذلك اقتراب لحظة السّقوط. لحظة الصّدام والتّنافر والانقسام الحادّ مع الذات، ومع الآخر التي يعلنها المسلم اليوم حينما يريد استبدال ما وصل إليه من القيم الحداثية ببناه الخاصّة، مستمسكا بما تفرضه عليه أوهام الهوية التي لا تتلاءم غالباً مع بُناه الخاصّة على جميع الأصعدة الاجتماعية منها والثقافية والاقتصادية. وهنا يشير داريوش شايغان إلى أنّه في الوقت الذي يشكو فيه هذا الإنسان ضعفه وقصوره على عملية المنافسة، يجد نفسه واقعاً في خديعة العقل، وفي الوقت الذي يرغب فيه أنْ يتجاوز التّاريخ يتحوّل في نهاية التّحليل إلى الدّرجة الدنيا من نتاج إيديولوجي للتّاريخ، وهو ما يسمّيه شايغان بأدلجة التّاريخ[7].

لم ينشأ هذا الواقع الخلاصي من فراغ، بل كان هناك ما يَدعمُه ويُسنِده، سواء في ما خلّفته السّرديات الكبرى على تمثلّات النّاس، وعقولهم الجمعية، أو في ما أنشأتْه النُّخبة المثقّفة من أوهام حولّتْها بفعل تقديس العقل والعقلنة إلى أصنام ذهنية لم تنتج إلا الخراب. إنّ المثقف بتعبير أدقّ هو كائن أزماتي إنْ صح التعبير؛ أيْ إنّه لا يستطيع أنْ يحيا خارج الأزمات، من فولتير الذي كان يقول: أخالفك الرأي، ولكنّي أقاتل دفاعا عن حقّك في التّعبير عن رأيك، إلى سارتر الذي كان يتصرّف بوصفه الشّاهد على عصره، والناطق بهموم مجتمعه. إلى محمد عبده من دعاة الإصلاح والتجديد، إلى حسن حنفي الذي يتصرّف بوصفه فقيه الأمّة، وحارس أفكارها، والمؤتمن على الحرّية والهويّة. لكنْ كلّ هذا المشهد تهاوى؛ فالمثقف الذي كان يعيش على الأزمات، أصبح هو نفسه في أزمة، بعد أنْ تهاوتْ كلّ الإيديولوجيات، والأنساق الفكرية التي ناضل من أجلها، كما أن المشاريع السياسية أجهضت، وبات الإنسان مشتّت الفكر والوطن، في مشهد قاتم يحيلنا على موت هذه النّظريات، والشّكل البئيس لثقافتنا[8]. وهنا يحق لنا أن نتساءل: ما جدوى المثقف؟:

يميِّز طرابيشي في بداية حديثه عن ما سمّاه بإشكاليات الدِّيمقراطية في العالم العربي بين مستوَيين اثنين

هذا السؤال يحيلنا إلى الكاتب والمناضل الكبير ريجيس دوبريه الذي انتهت به مسيرته الفكرية، إلى قراءة ذاته، ومساءلة مسبقاته الفكرية، ليصل بالأخير إلى عدم جدوى المثقفين كسحرة يصنعون المعنى، ويبيعون الوهم[9]. ولاكتشاف معالم الأزمة في خطاب المثقف، وفي نظرته لذاته ومجتمعه يعدّد علي حرب مجموعة من الأوهام التي يعيشها المثقّف، ويحصرها في خمسة: وهي وهم النّخبة، وهم الحرية، وهم المطابقة، وهم الهوية، وهم الحداثة. هذه أصول الداء في فكر المثقف، وفي علاقته بالآخر، والمحيط، وجب تفكيكها، وتعرية المسلَّمات التي تقف وراءها:

وهم النخبة: بهذا الوهم وجد المثقّف نفسه أمام مسؤولية جسيمة، فهو الذي طالما سعى إلى تنصيب نفسه وصيّاً على النّاس، وقائدا ملهما للجماهير. ولقد كانت الإخفاقات المتوالية لهذه الفئة تعبّر دوما عن جروح نرجسية، يعاني منها كلّ من حاول الانتماء إليها، حيث "طالبوا بالوحدة فإذا بالواقع ينتج مزيدا من الفرقة، وناضلوا من أجل الحرية، فإذا بالحريات تتراجع، وآمنوا بالعلمنة، فإذا بالحركات الأصولية تكتسح ساحة الفكر والعمل"[10].

لا مناص بأنّ هذا الواقع لا يمكن أنْ ينتج إلا عقلية تعاني من جروح نرجسية لا يكفيها أنْ تخفي عيوبها بالتستّر، وهو واقع ساهم فيه بشكل كبير المثقّف نفسه من خلال نظرته إلى ذاته، ولو أنّه دوما كان يتحجّج بواقعه، وبنظرية المؤامرات التي صنعها وصدّقها إلى حدّ التماهي معها. إنّ نرجسية المثقّف تكمن في تعامله مع نفسه من أفقٍ اصطفائي نخبوي، فهو القائد، والرّسول، والمبشّر، والحارس للأفكار، والموجّه، والمرشد. وكان ثمن هذه العقلية، وهذا النّمط في التفكير عزلته عن النّاس، والوقوع أسيراً لأفكاره، ومخططاته، ومشاريعه. فتحوّلت كل أفكاره إلى أضدادها.

من هنا كان لزاما على المثقف أنْ يعيد قراءة ذاته ويقرّ باليقين أنّ مشكلته في أفكاره، وأنّ مأزقه في نخبويته وعزلته؛ إذ إنّ مسؤولية التّغيير لا تقف على فرد مع أهمية ذلك، ولكنّ التغيير عملٌ جماعي، وكلّ واقع هو إفراز طبيعي لمن يعيشه، أو يفكّر به وفيه.

وهم الحرية: ينبثق هذا المعطى من أنّ المثقّف يعتقد واهماً بأنّه بإمكانه تحرير المجتمعات والشّعوب من القهر والعبودية والظلم. وقد شكّل هذا الوهم عائقا أمام المثقّف على الاضطلاع بمهمّته الأولى، وهي الإنتاج الفكري، ومعرفة الإنسان، ومتطلباته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. ولا يمكن أنْ يكون المثقّف منتِجاً في مجاله الطّبيعي إلا بافتتاح منطقة للتّفكير، واجتراح طريقة لها، تتيح إدارة الأفكار على نحوٍ يجعلها أكثر واقعية وفاعلية. ولعلّ المدخل الأساسي لهذه العملية، هو النّقد بوصفه الوسيلة المثلى لتصويب الفكر، وطرح البدائل الممكنة، وتفكيك الأنساق بغية تجاوزها، أو الحفاظ على مناطق الاستنارة فيها.

ومن هذا المنطلق، يجد المثقّف نفسه ملزَماً بطرح التّساؤلات النّقدية حول ما يفهمه عن مفهوم الحرية: "لماذا يزداد انتهاك الحرية في عصر التحرّر وعلى يد دعاة التحرّر أنفسهم؟ أو لماذا تتراجع الحريات الديمقراطية على أرضها بالذات؟[11]". هكذا تكون النّتيجة لمن لا يسأل ولا ينتقد، ولا يقرأ ذاته بعيدا عن أناه، إذ من لا ينتج معرفة بالمجتمع، لا يستطيع المساهمة في تغييره، ومن لا يبدع فكراً هو أعجز عن أنْ يؤثّر في مجرى الأحداث وتطوّر الأفكار. وهذا هو مأزق المثقف، وتلك هي إشكالية أزماته.

وهم الهوية: وتعني أنّ المرء يعتقد بأنّ بإمكانه أنْ يبقى هو هو، بالتطابق مع أصوله، والالتصاق بذاكرته، أو المحافظة على تراثه. وهذا هو مكمن الأزمة في فكر المثقف، فهو أيضا يعتقد بأنّ الهوية شيء ثابت، لذلك نصّب نفسه حارساً للأفكار، ناطقا باسم ما يحمله من هوية، جامدا في مكانه، بعيدا عن الانخراط في التحوّلات المتسارعة التي يعيشها العالم المعاصر. وبدل أنْ يشتغل بإنتاج الأفكار، والعمل على تطويرها، لأنّها مهمته الأساسية، آثر التقوقع على الذّات، والحفاظ على الهوية، والانتماء إلى عوالم العقيدة والقبيلة والتراث، بدل عالم الفكر.

وهم المطابقة: مفاد هذا الوهم أنّ الحقيقة جوهر ثابت، سابق على التجربة، متعالٍ على الممارسة، يمكن القبض عليه عبر التصوّرات، والتّعبير عنه بواسطة الكلمات. ومن ثمة ترجمته في الحياة العملية، والممارسات التطبيقية.

لا يدرك الإنسان وهو يجابه أزماته أنّه جزءٌ من الأزمة، وليس فقط جزءاً من حلّها، لذا وجب عليه أنْ يقرّ بخيبته، وعجزه عن الاندماج والتوحّد مع ذاته ومحيطه

وهم الحداثة: ويعني به علي حرب تمسّك الحداثي بحداثته كتمسّك اللاّهوتي بأقانيمه، أو المتكلّم بأصوله، أو المقلّد بنماذجه، وهكذا فنحن إزاء سلوك فكري يتجلّى في تقديس الأشخاص، وعبادة النّماذج، والتعلّق الماورائي بالأسماء. وهكذا، فالكلّ يفكر بطريقة نموذجية في أبعادها ومآلاتها، مهما تعدّدت النّماذج. فالحداثة لا تصنع بالتّقليد، شأنها شأن الديمقراطية كما أشرنا سالفا، لكنّ الحداثة مسار شاق وطويل يصنع بالخلق والإبداع، والخروج من ضيق القوالب الفكرية. إنها طفرة في الوعي والإدراك والفكر.

الدّيمقراطية وأسباب الفشل:

يختزل طرابيشي أهمّ إشكاليات الدّيمقراطية في ما يلي:

- إشكالية المفتاح والتّاج: يبتدئ طرابيشي مقاربته لهذه الإشكالية، بسؤال يحمل هذه الطّبيعة: هل الدّيمقراطية هي المفتاح السّحري الذي نفتح به جميع الأبواب المقفلة، أمْ إنّ الديمقراطية هي على العكس من ذلك، التّاج الذي يتوِّج التطوّر العضوي للمجتمع المعني، وينهض مقياساً على مستوى تطوّره؟.[12]

إنّ ما يريد تأكيده الكاتب من خلال هذه الإشكالية هو ضرْبُ الإيديولوجية الخلاصية، التي تعتمل في المخيِّلة الجمعية للإنسان العربي. فالدّيمقراطية هي مسارٌ اجتماعي، وتتويج لحركة اجتماعية، وليستْ مفتاحاً سحرياً ينقُل المجتمع من طور التخلّف، إلى طور التقدّم. والأخطر في هذه الذهنية التي ابتلينا بها من مثقفينا وأصوليينا وسياسيينا، أنّها تريد أنْ تقفز على بديهيات العقل، إذ تريد أنْ تفصل النّتيجة عن الشّرط، والشّرط عن النتيجة بالرّغم من التحامهما، حيث يتمّ النّظر إلى مفهوم الديمقراطية، باعتبارها مطلقاً سابقا حتى على التنظير، وحلاًّ سحريا يصلح أنْ يكون دواءً لكلّ الأمراض الثّقافية والفكرية والاجتماعية التي يعاني منها المجتمع العربي.، في حين أنّ الدّيمقراطية قد لا تصلح ترياقاً لجسدٍ نخره المرض حدّ العجز، إذ الدّيمقراطية مسار من التّعب الفكري حتّى في مجتمعات النّشأة. ولعل ما يبرّر هذا التصور ما شهِدتْه الدّيمقراطية في أمريكا أثناء ظهور المكارثية، أو الدّيمقراطية الفرنسية في عهد الجمهورية الرّابعة. أو الدّيمقراطية الإيطالية في عهد استئثار الدّيمقراطيين المسيحيين بالسّلطة.

- إشكالية الثمرة والبذرة: هي امتدادٌ طبيعيٌّ للإشكالية السّابقة، التي ترى في الدّيمقراطية فاكهة الجنّة، ومفتاح الخلاص. مشكلة هذا التصور وسابقه، هو أنّه يريد أنْ يفرض الديمقراطية كما تشكّلتْ في العالم الغربي، باعتبارها ثمرة فكر تنويري ونهضوي امتد ما يناهز خمسة قرون أو أكثر، في حين أنّه لا يريد أنْ يستنبت شكلاً من أشكال التّداول السّلمي للسّلطة معتمدا على بيئته، وثقافته، وحجم الوعي والفكر الذي يوجد ويتحرّك داخل ساحته الثّقافية. الخلاص يتحوّل إلى خطيئة في اللّحظة التي نقفز فيها على قوانين الطّبيعة، فالثمرة تحتاج إلى بذرة، وما لم توجد، تتحوّل هذه الأوهام كما تشكّلتْ في مخيلة الناس إلى جحيم.

- إشكالية مفتاح المفتاح: فإذا كانت الدّيمقراطية هي المفتاح لحلّ جميع الأبواب لدى البعض، فهي بحاجة بدورها لمفتاح. وبما أنّ الدّيمقراطية هي صنيعة الحداثة، والحداثة هي صنيعة البرجوازية، وجب ردّ الاعتبار لهذه الفئة بوصفها حاملاً اجتماعياً للديمقراطية، تحضُر حين يحضر، وتغيب حين يغيب.

- إشكالية الشّرطي ورجل المباحث: يظنّ الكثيرون بأنّ الإشكالية الحقيقية للدّيمقراطية في بلداننا، هي نتيجة هذه القطيعة بين الدّولة والشّعب، في حين أنّ المأزق الكبير للديمقراطية، لا يكمن في قوّة حضور الدّولة، بل على العكس في استضعافها وتغييبها، وإعاقتها إيّاها عن أداء دورها كعاملٍ منظِّم، ومعقلِن للاجتماع البشري.

- إشكالية الذئب والحمل: دوماً تختصر ما سمّاه طرابيشي بالنّزعة الشعبوية إشكالية الديمقراطية، في أنّ الدولة هي الذئب، والحمَل هو الشّعب، أو ثنائية الجلاّد والضحيّة. في حين أنّ المجتمع المدني أو الأهلي، هو نفسُه يعاني من مجموعة من الأمراض: "أهمّها الفئوية الطائفية واللّوبوية الدّينية".

- إشكالية الصُّندوقين: ما سمّاه جورج طرابيشي بإشكالية الصّندوقين: صندوق الاقتراع، وصندوق جمجمة الرأس، يعرّي الواقع السّياسي المعاصر؛ فالدّيمقراطية قبل أنْ تكون احتكاماً إلى صندوق الاقتراع. فإنّ الصندوق الأوّل الذي تختمر فيه هو جمجمة الرأس، وإنْ لم يتضامن الصّندوقان مع بعضهما، تحوّل صندوق الاقتراع إلى تعبيرٍ عن ديكتاتورية الأغلبية.

 


 

[1]- لوك، فيري. مفارقات السعادة. ترجمة أيمن عبد الهادي. دار التنوير، ط1، 2008. ص: 39

[2]- سلافوي جيجيك. تغيير العالم أم فهمه؟. ترجمة يوسف اسحيردة. مجلة الفلسفة، العدد 100، يونيو 2016، عنوان العدد، ما هي الفلسفة. ص: 67

[3]- علي، حرب. أوهام النخبة أو نقد المثقف. الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، ط3، 2004. ص: 108

[4]- انظر ما كتبه جمال علي الحلاق حول العقل المنفتح في: جمال، علي الحلاق. فن الإصغاء للذات قراءة في قلق المنفتح. منشورات الجمل، عمان/سيدني، 2002/2013

[5]- ماركس، كارل. نقد فلسفة الحق عند هيجل. ملف pdf. ص: 1

[6]- طرابيشي، جورج. (2006). هرطقات عن الدّيمقراطية والعلمانية والحداثة والممانعة العربية. دار الساقي، ورابطة العقلانيين العرب. ص: 7

[7]- شايغان، داريوش. أوهام الهوية. ترجمة محمد علي مقلد. بيروت، دار الساقي، 1993، ط1. ص: 113

[8]- علي حرب، المرجع السابق. ص: 39

[9]- المرجع السابق: ص: 40

[10]- المرجع السابق. ص: 98

[11]- المرجع السابق: ص: 100

[12]- جورج، طرابيشي. المرجع السابق. ص: 10