سارة الجويني: الوعي الصوفي يؤسس "إنيّته" على منطق الشراكة مع "الهو"


فئة :  حوارات

سارة الجويني:  الوعي الصوفي يؤسس "إنيّته" على منطق الشراكة مع "الهو"

سارة الجويني حفيز دكتورة وأستاذة تونسيّة باحثة في الحضارة الإسلاميّة وعضو نشيط في الجمعيّة التونسيّة للدراسات الصوفيّة، عرفت خاصة بكتاباتها في التصوّف والأديان المقارنة، ولها مشاركات عديدة في ملتقيات وندوات علميّة محلّية ودوليّة، فضلاً عن كونها نشرت مقالات مختلفة في مجلات عربيّة وكتب جماعيّة. من كتاباتها نذكر:

-     صورة المسيح في التراث الصوفي الإسلامي (صدر في طبعته الأولى عن دار الطليعة للطباعة والنشر سنة 2010 وهو في الأصل أطروحة دكتوراه).

-    الفكر الحداثوي بين الاعتبار والإقصاء (2007).

-    المحبّة الإلاهيّة الصوفيّة بين اليهوديّة والمسيحيّة والإسلام (2007)

-    الهوية الغيبية في الفكر الصوفي الإسلامي (2010).

-    الشرّ في تعابير بعض النصوص الكتابيّة (2013)

-     الكونيّة في التجربة الصوفيّة من خلال نماذج (2014)

-     دور البعدين الأخلاقي والصوفي للدين في إشاعة السلم بين البشر (2015).

-      السؤال الكلاميّ بين المعقول والمنقول (2015).

وقد حاولنا في هذا الحوار الاقتراب من مشاغلها البحثيّة ومعرفة مواقفها أو قراءتها لخصوصيّة التجربة الصوفيّة الإسلاميّة وموقعها من حوار الأديان ومتغيرات الواقع المعاصر، إضافةً إلى طبيعة البحث في هذا الموضوع واختلاف مقارباته.

صابر سويسي: كيف يمكن أن نقدّم الدكتورة سارة الجويني حفيز للقراء؟

د. سارة الجويني حفيز: أنا باحثة في الأديان ومتعلّقاتها بمعنى أنّي أنخرط في تصوّر جامع يفتح الفضاء المعرفيّ على توليفة شموليّة تتّصل فيها المواد من دون كبير عناء، فدراسة الأديان تعني كذلك البحث في مقارنة الأديان وأنثروبولوجيا الدين وفلسفة الدين والعقائد المتّصلة بها بمدارسها الكلاميّة وفرقها وجدلها، بنصوصها التّراثيّة وقراءاتها الحداثيّة المحيّنة والمنفتحة على الإنتاج الفكري لهذا الزّمن، في تلك التّخوم أشتغل - بالمعهد العالي لأصول الدين جامعة الزّيتونة - وفي تلك التّخوم أنشط - في الجمعيّة التونسيّة للدّراسات الصوفيّة، وفي وحدة بحث علم الكلام، وفي منتديات حول حوار الأديان والثّقافات والحضارات مثلاً -.

صابر سويسي: اهتممت في عدد من كتاباتك بالتّقاطعات الممكنة بين تجربة التّصوّف الإسلامي وسائر الأديان التوحيديّة وخاصّة في "صورة المسيح في التراث الصوفي الإسلامي" و"المحبّة الإلاهيّة الصوفيّة بين اليهوديّة والمسيحيّة والإسلام" فيم يمكن حصر هذه التّقاطعات؟ وفي أيّ سياق تنزّلين هذه المباحث؟

د. سارة الجويني حفيز: تتّصل هذه الأعمال بعلم مقارنة الأديان وتتنزّل في سياقه، فتقنيات المقارنة اليوم رافد معرفيّ على درجة من الأهميّة لكونها تجيب عن "الماذا" و"الأين" و"الكيف" بحيث يصير بالإمكان طرح خارطة الأفكار الدّينيّة والأرضيّة التّى احتوتها والزّمن الذّي شغلته، ووفق هذه الأدوات يتمكّن الباحث من معاينة فوقيّة ترصد الأثر والمؤثر في التّجربة الدّينيّة، وتصوغ الأسئلة المناسبة والأجوبة المحتملة، وتتعقّب الزّمن، وتحاكي ما يعبّر عنه بالميتافيزيقا العقلانيّة. لذلك ومثله تعقّبت صورة المسيح في التّراث الصوفي الإسلامي والتصوّف على ما هو عليه من نظرة هيوليّة تجمع المبعثر وترتّبه استنادًا إلى أوصاف شديدة الاتّصال به تعدّ الآخر الدّيني، وفي أكثر من مثال، مظهرًا للحقّ ضمن أبعاد الظّاهر والباطن، الجزء والكلّ، وانطلاقًا من فلسفة وحدة الوجود وفلسفة وحدة الأديان وبموجب قوّة جذب تصير الأديان وفقها في حكم التاريخ المعنوي. وعليه ينتخب الفكر الصوفي نماذج الإنسان الكامل النّفيس من مثل الأنبياء والمرسلين فتعثر في آثار "الحكيم الترمذي" مثلاً على هذ ا التوجه الذي استحقّ به الرسول محمد صلى الله عليه وسلّم ختم النبوّة كما استحقّ النبي عيسى عليه السلام خاتم الأولياء. وفي مقارنة أوجه المحبّة الإلهيّة التمشي ذاته، فالمحبّة أصل جامع ومقام صوفيّ مرّ من الرّأفة الأبديّة لله في التصوّر اليهودي القائم على علاقة تعاقديّة بين الله وشعبه المختار إلى الانصهار في شخص المسيح بغية الخلاص بالمحبّة في المسيحيّة إلى ابتهاج النّفس بالاستغراق في المحبّة الإلهيّة إلى درجة التكتّم في التّصوف الإسلامي.

صابر سويسي: هل تسلب هذه التقاطعات خصوصيّة التّجربة الصوفيّة الإسلاميّة؟

د. سارة الجويني حفيز: إذا ما دخلنا بيت البحث العلمي بهذه الفرضيّة فإنّنا حتمًا سنجد ما يدعمها، أمّا إذا ما أردنا طلب المعرفة لذاتها فإنّنا سوف نحاور المخطوطة والنّقيشة وأوراق البردي لنرصد تجليّات الإنسان المتديّن وتراكم التّجارب لديه ولن نجد حرجًا في ترك الكلمة لنتائج البحوث. والإسلام نفسه وعلى لسان المشتغلين به يعدّ خاتمًا للأديان ضمن مواقف مصحّحة حينًا ومؤكّدة أحيانًا، هذا إلى جانب اعتباري بأنّ دراسة الأديان السابقة للإسلام تمكّن من فهم أعمق لذلك الحدث التاريخي العظيم.

صابر سويسي: كثيرة هي الدّراسات الاستشراقيّة التّي أفرغت التّصوف من أيّ إضافة تذكر وجعلته نسخًا لتجارب روحيّة سابقة، وعلى النّقيض تمامًا نجد دراسات أخرى تثمّن هذه التّجربة وتعيد إليها الفضل في التعريف بحقيقة تعاليم الدين الإسلامي وإكسابه أبعادًا كونيّة. كيف تفسّرين هذا التناقض؟

د. سارة الجويني حفيز: الاستشراق يصلنا بوجهيه، الوجه الباحث عن الحقيقة المتخلّص من عقدة الأنا الحضاريّة المتغوّلة، والاستشراق القائم على توجّهات عرقيّة وأفكار موجّهة خادمة لأجندات عنصريّة أو سياسيّة، وبين هذا وذلك يبقى فحوى هذه الدّراسات المحرار الكاشف عن نيّة البحث وتوجّهات القائم به، ويبقى أنّ ما يختصّ به التّصوف الإسلامي ولاسيّما الفلسفيّ منه يستجلب نظر الباحث عمّا يجمع الإنسانيّة في عالم اقترب من بعضه بحكم الأمر التكنولوجي الواقع، وهو وبموجب هذا الأمر مجبر على إيجاد صيغ التّعايش وفق مقاييس الزّمن المعولم بحيث يمكن لبعضهم تزكية الضمور الهووي والتّأمّل أكثر في الجانب المشاع بين المعتقدات الدينيّة لذلك تترجم اليوم أشعار بعض متصوّفة الإسلام إلى لغات أجنبيّة على غرار "جلال الدين الرومي" وتتوسّل بالمفردات ذاتها المطروحة في فكره لإرساء لغة "كونيّة".

صابر سويسي: بعيدًا عن منطق المفاضلة بين التّجارب الروحيّة، إلى أيّ مدى يمكن أن تشكّل هذه القواسم المشتركة أرضيّة للتواصل والتّفاعل الإيجابيين بين هذه التجارب ومن ثمّ بين مختلف الثّقافات الحاضنة لها؟

د. سارة الجويني حفيز: هذا هو المطلب المجتمع حوله في تصوّري فالصّراعات الهوويّة والأيديولوجيّة والخلافات العقائديّة على وجاهتها لم تنجح في غير قطف الرؤوس وتغذية الأحقاد وعليه فإنّ محاولة النّظر إلى التّجارب الروحيّة بالعين الجامعة – الصوفيّة – القابلة للتنوّع والكثرة داخل الواحديّة لا يمكن أن تشكّل خطرًا على معتنقي الدّيانات، لأنّ طبيعة العلاقات في ذاتها محكومة بوضعيّات استلاب وليست على أيّ حال من الأحوال وضعيّات نفي. فالآخر هنا يسكننا على نحو معيّن والمتأمّل في الهدف الأسمى من التّديّن في ذاته لا يشذّ عن التّمعّن في بحثه الجوهري "الخير الطبيعاني في مقابل الشرّ الطبيعاني". وظنّي أنّ فقدان التّوازن في هذه الثّنائيّة يجرّ إلى خطابات هوويّة تتوجّس من التّجرّد من خصوصيّتها ومن اجترار الآخر لها في شبه تبعيّة استنساخيّة. هذا إلى جانب التّقاطعات الكثيرة المرصودة بين الدّيانات ذاتها، التّخوم التّي ذكرتها آنفًا على الرّغم من أنّ الهويّة الدينيّة تتصدّر المشهد اليوم لكونها تحمل القلق والحشرجة المتّصلة بمفردات العصر الحديث والتّغيّرات الجيوسياسيّة فيه وحيث يستعمل "العقائدي" وفي أكثر من ديانة كورقة ناجزة لأهداف لا علاقة لها بالروحنة ولا بالتّديّن.

صابر سويسي: نظرت في دور البعدين الأخلاقي والصّوفي للدّين في إشاعة السّلم بين البشر، هل تنخرطين في دائرة المنادين بإعادة التّجربة الصّوفيّة حلاًّ لهموم الإنسان المسلم المعاصر وعلاجًا ممكنًا يقينا الانزلاق في خطر العنف والإرهاب؟ وكيف تنظرين إلى مثل هذا الموقف اليوم؟

د. سارة الجويني حفيز: لا أظنّ أنّه وبالتّصوّف وحده سوف نضمن السّلام ونعطّل عجلة الحروب ونقضي على مآسي البشريّة، إلاّ أنّ التّصوّف رافد مهمّ يدعو من خلال تجربته الروحيّة المخصوصة إلى التّخفيف من الأنا الشرطيّة المغذيّة للعنف. فالوعي الصوفي يؤسس "إنيّته" على منطق الشّراكة مع "الهو" ومن منطق تجربة تتّخذ من السّلم والمحبّة مؤيدات لها وتتحلّل إلى حدّ من أسيجة النّمذجة الدينيّة، وعليه فإنّ الحفر في هذه المفردات من شأنه تقزيم الرّغبات العدوانيّة لصالح الحوارات الممكنة بين الأخلاقي والإيتيقي حيث تجتمع المعايير المحدّدة للخير مع المعايير المحدّدة للواجب فطريقة تبرير أعمالنا تحكمها وفي كلّ الأحوال ثوابت عامّة مشاعة وقواعد قيميّة سواء انطلقنا من حتميّات يفترضها الاجتماع البشري أو من ثوابت أكّدتها التعاليم الدينيّة بموجب قوانين العلّة والمعلول أو بموجب قانون مسبّب الأسباب أو بموجب ضرورة الانتظام داخل الفوضى.

صابر سويسي: كثيرة هي الدّراسات التّي ألحّت على المنزع الأخلاقي للتّجربة الصّوفيّة انطلاقاً من مصادرها التّي أكّدت هذا الجانب إلى درجة حدّ التصوّف بحسن الخلق وحصره فيه، فيم تكمن الإضافة الصوفيّة في هذا المجال؟

د. سارة الجويني حفيز: يمتلك التّصوّف القدرة على محاورة الأخلاقي، وهو وإن اتّسم بتركيزه على حسن الخلق فقد حقّق نصرًا كبيرًا، مع ذلك فهو يتميز بفلسفته الخاصّة القائمة على الأحوال والمقامات والمجاهدات بأشكالها الفكريّة المجرّدة وأنماطها المحسوسة، وله لغته الإشاريّة الخاصّة بقراءة النصّ القرآني مثلاً، وتمثّل أبعاده بالإشارات والتّلويحات الرّمزيّة والولوج عبر المنطوق إلى اللاّمنطوق وذلك الجانب من التّأويل مدعاة لدى المتصوّف لطلب الحقيقة ورؤية العالم كلاًّ. والتّصوف الإسلامي وفي الكثير من تجاربه حاول المحافظة على صفاء العقيدة ومثّل المتصوّفة، في منطقة المغرب العربي خصوصًا، شريان الوعي في نقاء التجربة الدينيّة الإسلاميّة وفي السّير على منوال النبوّة عن الإضافة الصوفيّة في هذا المجال يكفي القول بأنّ الفكر الصّوفي يبحث في أعماق الكيان من خلال اتّصال الإمداد الروحي بالإمداد الكوني على تنوعه. والحقيقة على ذلك، كما يردّد المتصوفة، واحدة في جوهرها وذاتها متكثّرة بصفاتها وأسماءها.

صابر سويسي: كيف تستقبل دراسة التّصوف بجامعة الزيتونة بتونس؟ وما نوع المقاربات المعتمدة في تناول مثل هذه الظاهرة؟

د. سارة الجويني حفيز: هو من حيث المبدأ سبق لجامعة الزيتونة تبنّي مقولة "عقد الأشعري وفقه مالك وطريقة الجنيد السالك" بحيث أنّها تنزّل المسلك الصوفي في اهتماماتها وتمشيّاتها، مع ذلك فإنّ الجامعة تتفاعل مع المستجدّات على الساحة الفكريّة وتستوعب آثار الحركات السياسيّة كما هو شأن أغلب الجامعات المشتغلة بالمسألة الدينيّة تحديدًا، ومادّة التصّوف تدرّس اليوم في مستويات مختلفة وتميل إلى المقاربة السنيّة بمعنى التصوّف السنّي من حيث أدواره التربويّة في التّأسي بالكتاب والسنّة، والمادّة تطرح في بعض رسائل الماجستير ورسائل الدكتوراه وتبحث في مواضيع تخصّ "ابن عربي" وأخرى تخصّ "عبد القادر الجيلاني" على سبيل المثال.

صابر سويسي: من بحوثك أيضًا القربان في الجزيرة العربيّة قبل الإسلام، وفي فلسفة التعاليم البوذيّة وهو ما يتنزّل في سياق الأديان الكتابيّة وغير الكتابيّة. هل ترين أنّ هذا الإختصاص وجد حظّه في الجامعة التّونسيّة والعربيّة عامّة أم أنّ الاهتمام به مازال دون المطلوب مقارنة بالقيمة التّي يحظى بها في مختلف الجامعات الغربيّة؟

د. سارة الجويني حفيز: يعدّ التّقرّب من أكثر الشعائر انتشارًا بين الأديان والمذاهب مهمًّا، لذلك يجد الموضوع اهتمامًا مخصوصًا من دارسي الأديان فالشّعيرة تعبيرة عن تفاوض طموح بين العابد والمعبود وقد حافظت على ثلاثيّة المتقرّب والمتقرّب لأجله والقربان موضوع التقرب في جلّ الحضارات القديمة الآشوريّة والكلدانيّة ولدى الفرس والرومان واليونان وعند الأحناف واليهود والنّصارى وما يعبّر عنه بالأمييين من الفترة الوثنيّة، والاشتغال على مثل هذه المقاربات الأنثروبولوجيّة في تعقّبها لأشكال التّديّن والشعائر المتّصلة بها يفيدنا حتمًا في فهم الأضحية في الإسلام.

البوذيّة كذلك تحظى باهتمام كبير وانتشار واسع في العالم بالنّظر إلى تأمّلاتها وتأوّلها المخصوص للزّمن إلى جانب اتّصالها بالتّصوّف من ناحية، ومادة تاريخ الأديان من ناحية ثانية وقد سبق لي تدريسها في مادّة الأديان غير الكتابيّة.

هذا ولا تزال البحوث في الصدد محتشمة في الجامعة التونسيّة والجامعات العربيّة بالمقارنة مع وزنها في الجامعات الغربية، وأنا أرى أنّها تستحقّ اهتمامًا أكبر لأنّها تعلّمنا التّواضع في حضرة الإنسان المتديّن عبر الزّمن وتدعونا إلى احترامه.

صابر سويسي: شاركتم في عديد الملتقيات الدوليّة حول التّجربة الصوفيّة، كيف تقيّمين الخطاب حول التّصوف اليوم؟

د. سارة الجويني حفيز: الخطاب حول التّصوّف اليوم يشبه المشتغلين به ويشبه توجّهاتهم الفكريّة فللمختصّ تحليله وعمقه وللمهتمّ مقارباته، وعن الملتقيات التّي حضرتها أستطيع القول بأنّها تحترم من حيث القيمة العلميّة التّي تعكسها.