شكري المبخوت:الجزء الثّاني: الحرّيات والعقليّات وتحوّلات الواقع


فئة :  حوارات

شكري المبخوت:الجزء الثّاني: الحرّيات والعقليّات وتحوّلات الواقع

 د. نادر الحمامي: نستأنف حوارنا مع الأستاذ شكري المبخوت الذي نجدد له شكرنا على قبوله أن يكون ضيفنا اليوم للحوار معه، والإفادة من أفكاره وممّا يطرحه من مراجعات وتعميق نظر، وكنّا قد وصلنا في الجزء الأوّل من حوارنا إلى ضرورة النّظر في ما يسمّى أيديولوجيات ثابتة ونماذج للاقتداء، من خلال السّرديات التي تُبنى عليها الأفكار؛ مثل مقولة الحرّية والدّيمقراطية والحداثة. لذلك، نتساءل حول هذه القيم النّبيلة التي تيسّر التّعايش داخل المجتمع الواحد، وبين المجتمعات جميعها، ألا تنقلب إلى النّقيض إذا ما تحوّلت إلى أيديولوجيات محنّطة؟

د. شكري المبخوت: المسألة بسيطة وليست الوصفة سحريّة؛ فالحداثة تأتي بمفهوم مثل الحرّية الفرديّة، باعتباره حجر الزّاوية في أيّ تصوّر حقوقيّ يحترم الذّات والكرامة الإنسانيّة؛ هذا أمر مهمّ وهو انقلاب في تاريخ الفكر وفي تاريخ الإنسانيّة، إلاّ أنّ هذه الحرّية لا تخلو من انعكاسات؛ خذ لك مثلاً تونس اليوم، فنحن نتحدّث عن مجتمع تعدّدي ديمقراطيّ ومجتمع حرّيات، ولكن كلّما أثيرت قضايا تتّصل بالحرّية الفرديّة، إلاّ وانكشف لدى اليمين واليسار هذا الخوف الذي يبلغ حدّ الرّهاب، من متضمّنات الحرّية الفرديّة. ولنا هنا طريقتان؛ الطّريقة الأولى أن نقول بإرجاء النّظر في هذه المسائل متعلّلين بأنّ وقتها لم يحن بعدُ، وفكرة الإرجاء هذه قديمة ومُتوقّعةٌ أمام كلّ جديد، وتصبح أمامنا حينئذ مغازة كبرى اسمها الحرّيات الفرديّة، نختار منها ما نريد ونغضّ الطّرف عمّا لا نريد، والحال أنّ مقتضيات الحرّية ومستلزماتها وجب أن تتحقّق ضمن منظومة متكاملة. لذلك، نعتبر أن اختيار الإرجاء مناقض لمفهوم الحرّية الفرديّة كما صاغته الأفكار الإنسانية فلسفيّا وقانونيّا، ومن وجهة منظومة حقوق الإنسان. أمّا الطّريقة الثّانية، فهي أن نقول إنّنا دخلنا في تونس (مثلاً) في ديناميكيّة فكريّة ثقافيّة اجتماعيّة جديدة، وعلينا أن نهيّئ أنفسنا مهما كانت انتماءاتنا الشّخصيّة إلى كثير من الصّدمات ومفاجآت الطّريق، لأنّ الطّريق صعبة وملتوية ومتعرّجة، وأن يطمئن بعضنا بعضاً كالمسافرين في طريق موحش، وأن نقول لبعضنا بعضاً علينا أن نصل إلى ما نريد. هل المطلوب إذن، أن نراجع الحرّية الفرديّة مفهوماً وفلسفةً وتفكيراً ونسقاً؟ هذا غير ممكن، لأنّ ما نطلبه عميقاً هو ما يسمّيه خير الدّين التّونسي (1820-1890) ''دوحة الحرّية''، وهو ما يسمّيه أبو القاسم الشّابي (1909-1934) والطاهر الحدّاد ''الشّوق إلى الحرّية''. وهو مطمح كامن، ولكن دونه عوائق متأتّية من هذا الموروث الذي يمثّل الثّقل الرّمزي والاجتماعي والثّقافي الذي نحمله، وعلينا أن نتدرّب على التخلّي عن العناصر التي تعطّل سيرنا نحو الحرّية.

د. نادر الحمامي: أي أنّنا تنقصنا المرجعيات الفكريّة والثّقافية والتاريخية التي تأسّست عليها هذه الحرّيات، وأساسا الحريّات الفرديّة، وهنا نتساءل لماذا تعوزنا هذه المرجعيّات؟ فنحن حين نقرأ دعاة التّنوير والحرّية منذ نهاية القرن التّاسع عشر إلى اليوم، في العالم العربي، لا نجد تفكيراً عميقاً في الحرّية وإنًما نجد تغنّيا بها، فحتّى خير الدّين والحدّاد والشّابي، نجد أنّهم تغنّوا بالحرّية ولم يفكّروا فيها بعمق وفلسفة كبيرة. والعيب في ذلك، في تقديري، هو أنّ هذه القيم التي ينبغي الوصول إليها وجعلها أفقاً، ليست نابعة من تحوّل ذاتي في المجتمع بقدر ما هي نماذج ثابتة يمكن أن نذهب إليها.

د. شكري المبخوت: المسألة بسيطة جدّا، فهل نطلب من الحدّاد أو خير الدّين أو غيرهما أن يكون متاحا لهم ما هو متاح لنا ولفلاسفتنا اليوم من مراجع ومعرفة وعمق في طرح هذه القضايا؟ فليكتب فلاسفتنا اليوم وليصلوا إلى هذه المفاهيم، ولماذا نطلبها من الحدّاد وغيره؟ وهنا أقول ثمّة جانب التّفكير والتّأمل وخلع هذه الأبواب التي كانت مغلقة، ولكن لسنا بالضّرورة مطالبين أن نعود إلى المسار نفسه الذي كان في الغرب مع فلاسفة التّنوير، فهناك طريق مختصرة وواضحة قد بدأنا السّير فيها حين دخلنا في منظومات قانونيّة جديدة، وهي طريق متاحة لجميع البلدان، حتى تلك التي تدّعي أنّها تطبّق الشّريعة. لذلك، كان التّونسيّون جميعاً زمن كتابة الدّستور الجديد في المجلس التّأسيسي يطالبون بمطابقة المعايير الدّوليّة، ولا يزال ذلك المطلب مرافقاً لعمل الهيئات الدّستوريّة إلى اليوم. فلماذا عندما نأتي إلى المفاهيم الماسّة بالحرّيات الفرديّة، والكثير منها قديم جدّاً ويعود إلى بداية القرن، نتمسّك بضرورة التّفكير وتعميق التّأمّل والتّجذير والهويّة إلى غير ذلك، وننسى أنّنا نعيش في دولة مدنيّة؟ فما يعوزنا هو أن ننظر إلى المسألة على أنّها ديناميكيّة، وأنّ دور الدّولة جوهريّ في تغيير العقليّات وغرس مبادئ المدنيّة لدى المواطنين. وأضرب لك مثالاً بسيطاً، فلو استفتى الحبيب بورقيبة (1903-2000) التّونسيّين حول مجلّة الأحوال الشّخصيّة لكانت ستفشل حتماً. لذلك لابدّ من جرأة السّياسي الذي يحمل فكراً، بغضّ النّظر أكان إيجابيّا أم سلبيّا أم منقوصاً فذلك أمر آخر يمكن تقييمه لاحقاً. فما قام به بورقيبة قد غير كثيراً من العقليّات، وغدا مكسباً للمجتمع، وأصبحت المرأة التّونسية اليوم ترفض التّخلي عنه، مهما كان موقعها أو انتماؤها الأيديولوجي. فثمّة مشترك وإرث وعادة، ولكن ثمّة أيضاً واقع اجتماعيّ له الكلمة الفصل، لذلك دعك من الأصوات المؤدلجة التي تذهب في اتّجاهات مختلفة، فلو أقمنا اليوم استفتاءً حول مجلّة الأحوال الشّخصيّة، فستكون الأغلبيّة المطلقة معها، وهذا مثال يمكن أن ينطبق على مجالات كثيرة أخرى.

د. نادر الحمامي: لو أخذنا مثلاً قانون الإرث، وهو محلّ جدل ونقاش راهن في إطار المساواة، فهل تعتبرُ أنّه لو طُرح اجتماعيّا على الاستفتاء، سيقبل به التّونسيون؟

د. شكري المبخوت: أتوقّع أنّه لو طرح فسينقسم حوله التّونسيّون، ولكن أعتقد أن الهوّة في هذا الانقسام لن تكون كبيرة. ولا أعتبر أن هذا هو المهم، فلا يجب أن نستفتي النّاس عن حقّ من حقوق الإنسان، فالاستفتاء ليس لعبةً. لا بدّ أن نستفتي في المسائل الظنّية المشكوك فيها، ولكن المساواة بين النّساء والرّجال لم تعد مسألة ظنّية. هنا يوجد إشكال آخر أي في مسألة الميراث، وهو الإشكال الجوهري، وقد وجد له الحدّاد في طريقة تفكيره المقاصدي حلاًّ يمكن العودة إليه. وكما أنّنا لا نطالب اليوم بتطبيق الشّريعة وأيضا كل ما يتّصل بالملكيّة العقاريّة القديمة وأحكام المغارسة والمُساقاة، لأنّها اجتهادات وفق مبادئ وقيم دينية قام بها الفقهاء وأدّت وظيفتها الاجتماعية في زمانها وانتهى الأمر، إذن فينبغي في مسألة المساواة في الميراث أن ننظر إلى المقصد العام منها أوّلا.

د. نادر الحمامي: نحن نتّفق أنّ المساواة حقّ لا نقاش فيه وليس ظنّيا، وكذلك حرّية الاعتقاد والتّديّن، ولكن لنفترض مثلاً أن فئة من النّساء تختار أنّها لا تريد هذه المساواة، وتطالب في المقابل بوجوب تطبيق الشّريعة؛ ألا تتعارض ههنا المساواة مع حرّية ممارسة الشّعائر أو العقائد؟

د. شكري المبخوت: هذا افتراض قريب، ولكن القوانين لا تقوم على هذا، فأن يقول أحد إنّه يريد أن يظلّ عبداً ولا حاجة له للحرّية، فإنّنا نقول له لقد ألغيت العبوديّة وهذا انتهى، وإذا أردت أن تكون عبداً فلك وسائل أخرى فتصرّف فيها؛ أي أن منطق النّقاش وجب أن يتوجّه وفق مبادئ واضحة، فالاعتراف بمبدأ المساواة في الميراث لا يمنع المرأة من أن تأخذ نصيبها وبعد ذلك تعطيه لأخيها إن أرادت، ولكن في النّهاية ينبغي أن يكون لنا شيء مشترك واحد أدنى من المبادئ التي نتّفق حولها، وبعد ذلك يمكننا النّقاش، مثلا في أن المساواة مبدأ ضروري أم لا.

د. نادر الحمامي: نحن متّفقون دستوريّاً على أن كافة المواطنين متساوون أمام القانون، وأنّ تطبيق المساواة في جميع المجالات لا يجب أن يخضع للضّغط الهووي ما يؤدّي إلى انتقاء مبادئ دون غيرها وفق ما يُعتبر "ثوابت" لا يجوز التخلّي عنها. ولعلّك أشرت إلى ذلك الإشكال في أكثر من مرّة. فكلمة ''ثوابت'' التي لم تُقبل في الدّستور وتم تغييرها بكلمة "تعاليم"، تقوم على أساساً على انتقاء ما يعتبر ملائما لموروثنا دون غيره، ما يؤدّي في النّهاية إلى نوع من التّرميق. ألا تعتبر حينئذ أنّ هذا التّرميق هو ما أوقعنا في مواطنة منقوصة؟

د. شكري المبخوت: التّرميق في الأصل ليس شيئاً سلبيّاً، فهو طريقة أو حلّ من الحلول، ولكن المشكلة تكمن في المقاصد من ورائه؛ فالمجتمعات الإسلاميّة كلّها تقريباً وجدت نفسها في منتصف القرن الماضي أمام صدام بين حداثة مفروضة ومنقوصة ومشوّهة ومتأتّية من الاستعمار، وذكرى عظيمة ساكنة في المخيال الجمعي ومؤسّسة تاريخيّا على نمط اجتماعي إسلاميّ، ما أنتج تناقضاً جعل المسلمين يعيشون تمزّقا حقيقيّا وتراجيديّا أحياناً، وجعل الشّباب المُسلم يبحث عن البوصلة التي تقوده في ذلك الخضمّ. ولم يتمّ تجاوز هذا الصّراع والتمزّق في النّهاية إلاّ بالتّرميق، ولا ضير من أن نواصل ذلك. وقد استعمل كلود ليفي شتراوس (Claude Lévi-Strauss) (1908-2009) كلمة التّرميق في معنى إيجابي وليس سلبيّاً. في النّهاية، لكلّ أن يفعل ما يريد سواء كان ترميقاً أو تلفيقاً، ولكن وجب أن يكون من ورائه مقصد، أو ما يسمّيه الأستاذ محمد الطّالبي (1921-2017) "السّهم الموجّه". فإمّا أن نقول إنّ الإسلام ضدّ الحرّية، أو أن نقول إنّه في جوهره هو الحرّية، وهذا الاختيار الثّاني ييسّر للفرد، باعتباره مسلماً، أن يحافظ على إيمانه الدّيني وفي الوقت نفسه أن لا يعيش تناقضاً مع المجتمع. فكلّ من آمن بجاهليّة المجتمع واعتقد بأنّ المجتمع فاسد وأنّه ينبغي إصلاحه بما صلح به أوّله أخفق. فهل نبقى نعيد الصّدام ذاته ونصر عليه؟ وهل نبقى في طور التّكرار واستنساخ الأزمات في مستوى الأفراد والمجموعات والأحزاب والتيّارات؟ لا بد حينئذ أن نعي بضرورة إنهاء هذا الصّراع، وأن نعترف بأنّ مجاله قد انتهى.

د. نادر الحمامي: ولكن ألا ترى معي أن هذا المنسوب من العنف الذي أشرت إليه بجاهليّة القرن العشرين، والذي تعبّر عنه تيّارات عديدة، ما انفكّ يتكرّر، فكلّما فشل تيّار عنيف تناسلت عنه تيّارات أخرى أشدّ عنفاً، فلا يحصل في النّهاية تراجع في العنف؟

د. شكري المبخوت: ذلك لأن الواقع لم يتغيّر في اتّجاه إيجابي.

د. نادر الحمامي: أنت تقول إن على الدّولة أن تتبنّى بنفسها مسألة الحرّيات العامّة، وأن تعمل على فرضها بقوّة القانون والدّستور؛ فهل نحن نعيش اليوم في دول تؤمن فعلاً بهذه القيم؟

د. شكري المبخوت: الدّستور هو الذي يقول ذلك؛ فالحرّية هي الالتزام بالقانون، وأنا أتحدّث وأشعر بحرّية في الحديث، لأنّ القانون التّونسي يحمي حرّيتي، وهو الذي تحدّث عن المساواة وعن حرّية الضّمير، بكلّ ما يتيحه هذا المفهوم من إمكان الردّة، ومن أن يكون المرء لا دينيّا ومن أن يعتقد في ما يشاء. هذا ما تقوله الدّولة وهذا هو الدّستور. صحيح أن الأمر ليس بالبساطة التي نتحدّث عنها، فأن تكون الدّولة منسجمة مع قوانينها ودستورها، فهذا مطلب مهمّ، ولكن هناك جهد للجدل الثّقافي والفكري مطروح على المجتمع المدني والقوى المؤمنة بالحرّيات أن تضطلع به، وهي تلقى المساندة في ذلك من المنظّمات الدّولية؛ انظر مثلاً إلى ما راج مؤخّراً حول إنشاء إذاعة خاصّة بالمثليّين، فالأمر لم يتشكل هكذا بقوّة ذاتيّة بل هناك دعم وراءه. وهذا كلّه بتراكمه هو الذي سيغيّر العقليّات وسيدفع نحو مزيد من الحرّية. نعرف أنّ الدّستور التّونسي لم يُكتب في غرفة مغلقة، فقد كُتب تحت قبّة المجلس التأسيسي ولكنّه كُتب أيضاً في الشّارع، وكتب بضغط دولي علينا. ولذلك، فمن المستحيل اليوم أن نسير منفردين في هذا العالم وصولاً إلى غاياتنا؛ فالمسألة معقدّة ومتشابكة. هذا أيضاً يتطلب في تقديري أن نتأمّله بهدوء، رغم أنّ السّياسيين يتخاصمون حوله، ولكن دعنا منهم لأنّ مسائل السّياسة ظرفيّة بينما نحن نحاول أن نفهم ما يوجد في العمق، وما يكمن وراء الظّواهر. وما ينبغي أن نقوله بوضوح هو هل نحن نتبنّى المنظومة الحقوقيّة الدّولية أم أنّنا نرفضها باسم خصوصيّة موهومة؟

د. نادر الحمامي: نعم، والجواب المتولّد عن ذلك يجعلنا أمام طريقين، على الأقلّ، واضحين؛ فإمّا أن نذهب نحو تلك الحقوق بالقطع مع تراث بكامله، أو أن نحاول البناء على بعض تراكماته. وقد فهمت من كلامك أن المسألة لا تقوم على القطائع، بقدر ما تقوم في جزء كبير منها على التّراكمات، فأنت تعتبر أن القطيعة غير موجودة، ولذلك تعود دائما إلى خير الدّين التّونسي وإلى الطّاهر الحدّاد وأبي القاسم الشّابي، فهل ترى أنّ هؤلاء فاعلون في ما وصلنا إليه اليوم بطريقة أو بأخرى؟

د. شكري المبخوت: لنتّفق أن القطيعة حاصلة تاريخيّا شئنا ذلك أم أبينا، وحتّى أولئك الذي يدعون إلى تطبيق الشّريعة مثلاً، فإنّ تصوّرهم حول ما يدعون إلى تطبيقه محدود، وحين نتثبّت ونتأمّل سنجد أنّ ما يدعون إليه من أحكام قليل جدّا واقعيّا؛ فثمّة بعض الأحكام الصّريحة والنّصيّة وردت ضمن آيات كثيرة ولكن لا أحد يتحدّث عنها اليوم، خذ مثلاً أحكام العبيد، فهي موجودة في النّص ولكن تمّ التّسليم واقعيّاً بأنّها لم تعد صالحة للنّقاش، رغم أنّ الشيخ الزّيتوني محمد الأخوة (1913-1994) كان قد طالب بالعودة إلى تعدّد الزّوجات، عندما ترشّح في الانتخابات عن مدينة تونس سنة 1989، وهذا مفهوم إلى حدّ ما، ولكنّه طالب أيضاً بإرجاع الرقّ والعبوديّة، وكان ذلك أمراً مضحكاً. فحجّة أنّ النّص صريح وثابت وقطعيّ الدّلالة تتناقض مع كثير من المسائل في الواقع. قس على ذلك حكم رجم الزّانية والزّاني وغيرها من الأحكام التي قد تكون ابنة بيئتها، وقد يكون لها سند نصّي، أو تكون ممارسة تاريخيّة تبنّاها النّص. هذا مجال يتحدّث فيه المتخصّصون في الفقه بدقّة، ولكن أردت فقط ملاحظة أن فكرة القائلين بالعودة إلى تطبيق الشّريعة هي نفسها تقصي جانباً من هذه المنظومة المتكاملة العجيبة التي هي المنظومة الفقهيّة. ولا يمكن أن نجعل هذه المنظومة محلّ انتقاء، مثلما ذكرنا حول الحرّيات، حيث نختار منها ما نريد ونترك ما لا نريد، فإمّا أن يكون المجتمع قادراً على التّعامل من خلال المنظومة الفقهيّة وتطبيقها كلّيا أو فليتخلّى عنها برمّتها. والمسألة الكبرى التي أعتبر أنّ المقياس لفهم تطوّر الإسلاميين الفكري والأيديولوجي والسّياسي، هي الموقف من المساواة المطلقة بين النّساء والرّجال. هذا المقياس لا نضعه نحن، وإنّما تفرضه التّحوّلات العالمّية، وقد حسم الغرب هذه المسألة منذ زمن بعيد، وأصبح مبدأ المساواة المطلقة معياراً دولياً وعالميّاً وكونيّاً ينبغي أن ننتبه إليه. وما يثير حيرتي هو اختلاف الحداثيّين والعلمانيّين والاسلاميّين حول هذه المسألة، والحال أنّهم لو حاولوا تنزيلها في المجال الاجتماعي، سيلاحظون أنّها ليست سوى مسائل بسيطة يمكن حلّها بقليل من الجرأة الفكريّة والنّزاهة في النّظر إلى الواقع بتحوّلاته وتطوّره، وحتّى استناداً إلى ما يسمّى في الإسلام ''فقه الواقع''. ولكن مع ذلك كلّه، لا يمكن عضّ الطّرف عن التّحوّلات الهائلة التي ذكرناها في مجال التّعليم والصحّة والتّحوّلات الدّيمغرافية، ما يجعلني متفائلاً بالوصول يوما ما إلى تطبيق المساواة المطلقة. إذن لِمَ نضيع الوقت؟ أذكر أن الطّاهر الحدّاد قال في رسالة إلى المقيم العام أنّه بعد خمسة أو عشرة أو خمسة عشر عاماً، سيؤمن النّاس بأفكاره التي انتقدوها، وهذا ما حدث فعلاً. لا يهم إن طالت المدّة ما دام ثمّة وعي تاريخيّ يتشكّل بمرور الزّمن. وإذا افتقدنا هذا الوعي التّاريخي وافتقدنا معه القدرة على فهم التّحوّلات العالميّة، فإنّنا نكون بصدد إضاعة الوقت فحست.

د. نادر الحمامي: لقد طرحت مسألة التّراكمات مع وجود قطائع، وأشرت إلى وجوب أن تتسلّح الدّولة بالجرأة على جعل هذه القيم أفقاً، وعدت إلى مثال الطّاهر الحدّاد وإلى بورقيبة، ونفهم من هذا ضرورة أن يوجد دائماً من يحرّك المجتمع، وتنسب إليه هذه الجرأة على الفعل، رغم أن المجتمع فاعل بدوره، ومثال ذلك أن بورقيبة قد أقرّ مجلّة الأحوال الشّخصيّة التي نعلم جميعاً أنّها كانت نتيجة تراكمات سابقة عنه، ولكن في النّهاية يُحسب له أنّه تجرّأ على طرحها وإقرارها. فالفرد أيضاً له نوع من المشروعيّة التّاريخية في مقابل الدّولة، وهذا ما يجعل سِيَر بعض الشّخصيات من جوانب مختلفة، وبغض النّظر عن اختلاف الأيديولوجيات، ذات فاعليّة تاريخيّة. لذلك لاحظنا أنّ شخصيّة بورقيبة عادت للنّقاش بعد 2011، وأصبح يمثّل مرجعاً ورمزاً لدى الحداثيّين، وفي المقابل تمّت استعادة شخصيّة الثّعالبي من قِبل الإسلاميّين. وفي ذلك بحث عن نوع من الرّمزيات والمرجعيّات التّاريخية التي يمكن التّأسيس عليها. ولعلّ ذلك من بين ما دفعك، إلى البحث في مسألة السّير الذّاتية من خلال ما كتبت حول ''الزعيم وظلاله'' مثلاً، بالإضافة إلى بحثين آخرين في مسألة السّيرة الذّاتية ومقوّماتها وأثر الأيديولوجيا فيها واستتباعات استرجاعها. هذه الكتابات النّقديّة الكثيرة هي ما جعلتك فائزاً اليوم بجائزة الملك فيصل العالميّة للنّقد، وأودّ الانطلاق في القسم الثّالث من حوارنا هذا، من مسألة البحث في السّير الذّاتية التي كتبت فيها ثلاثة كتب أساسيّة. أستاذ شكري المبخوت شكرا جزيلا لك.