صورة ابن رشد في الفكر المغربي المعاصر للكاتب المغربي عبد النبيّ الحريّ


فئة :  قراءات في كتب

صورة ابن رشد في الفكر المغربي المعاصر للكاتب المغربي عبد النبيّ الحريّ

الكتاب: صورة ابن رشد في الفكر المغربي المعاصر، منشورات مؤسسة "مؤمنون بلا حدود" للدّراسات والأبحاث، الدّار البيضاء، المغرب، المركز الثقافي العربي، 2015م.

الكاتب المغربي: عبد النبيّ الحريّ

 عدد الصّفحات: 365 صفحة


ملاحظة: هذا الكتاب هو في الأصل أطروحة دكتوراه، جاء متكوّنًا من أربعة أبواب: نشأة الرشديّة المغربية وتطوّرها، صورة ابن رشد عند محمد عابد الجابري، صورة ابن رشد عند طه عبد الرحمن، الصّورة الدّلاليّة- الإشكاليّة لابن رشد عند محمد المصباحي.

تكمن قيمة هذا الكتاب في تفطّن صاحبه إلى عدم تمكّن الدّراسات الرشدية المغربية من رسم صورة موحدّة ومنسجمة حول ابن رشد، فكانت مختلفة ومتعارضة، ولم تتوصّل إلى التوليف بين ما تختلف فيه؛ لذلك سعى عبد النبيّ الحريّ، في هذه الأطروحة، إلى تقويم الدّراسات الرشدية المغربية، التي تفتح آفاقًا مأمولة للنظر النقدي.

لا يدّعي صاحب الكتاب تقديم البديل، ولكنه يقترح رؤية نقديّة جديدة، تتجاوز المواقف التعظيميّة، كما أنّه يسعى، من جانبه، إلى المساهمة في إثراء الساحة الفكرية المغربية، بقراءات تهتدي بما تركه الأسلاف، دون أن تتعصّب لهم، فكانت الإشكاليّة التي دار حولها البحث هي الآتية: "ما هي الدّراسات المغربية التي تناولت ابن رشد بلغة ابن رشد العربية الفصحى؟ وكيف قرأت متنه؟ وما الأثر الذي تركته هذه الدّراسات على الدّرس الفلسفي بالمغرب؟ وما هي قيمة مساهمتها في بلورة فكر فلسفي مغربي معاصر"[1]؟

لقد تعرّض المؤلّف إلى دراسة ثلاث صور أساسيّة؛ (محمد عابد الجابري، وطه عبد الرحمن، ومحمد المصباحي)، تشكّلت ملامحها خلال الندوة الكبرى التي نظّمتها كليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة في الرباط سنة 1978م، وكان عنوانها "ابن رشد ومدرسته في الغرب الإسلامي".

اكتفى الكاتب بهذه النماذج الثلاث؛ لأنّ، في نظره، لا جدوى ترجى من ذكر كلّ الدّراسات المغربية، مادامت تكرّر بعضها البعض، واقتصرت قراءته على النظر في هذه الصّور الأساسيّة الثلاث التي ذكرناها.

أمّا الباب الأوّل؛ فقد اهتمّ فيه المؤلّف بدراسة نشأة الرشدية المغربية وتطورها، وأقدم فيه على تقديم دراسة تحليليّة نقدية للصورة التي رسمتها كتابات جمال الدين العلوي، ليمرّ، فيما بعد، إلى قراءة صورة ابن رشد عند (علي أومليل)، من خلال ثنائيّة "الانفصال والاتصال"، ليصل في نهاية الباب الأوّل إلى تبيّن ملامح صورة ابن رشد السلفية عند عبد المجيد الصّغير[2].

خصّص المؤلّف للباب الأوّل مدخلًا ثريًّا، قدّم فيه أهمّ المشاهد التي حاولت رسم أعمال فيلسوف قرطبة وفق صور مختلفة، ولم يلتزم هذا المدخل بالتسلسل التاريخي، في تقديمه لنشأة الدّراسات الرشدية المغربية؛ لأنّ الغاية من العرض لم تكن تاريخية، بقدر ما كانت إبانة للمجهودات العلمية، التي قام بها الدكتور محمّد بنشريفة، بشكل خاص، الذي تولى جمع النصوص، وتوفير النصوص الأساسيّة التي تقدم سيرة موثقة ومفصلة حول الفيلسوف، وأهمّ الشهادات المفيدة في مشروع ابن رشد، كما أشاد المؤلّف بالدّور الهامّ الذي لعبه مفكرون، وأدباء، وبلاغيون آخرون، أمثال؛ عبد الله إبراهيم، وعبد الله كنون، ومحمد حجيّ، وأحمد الرّيسوني، وإبراهيم بورشاشن، وعبد الفتاح كليطو، وعباس أرحيلة، ومحمد مفتاح، ومحمد عمري، ومحمد زنيبر الذي اعتبر ابن رشد فيلسوف النهضة الأوروبيّة، نظرًا لفضله على بعض الفلاسفة الكبار، على غرار؛ باسكال، وديكارت، وليبنتيز، وكانط، وإن اكتفى محمد زنيبر بإطلاق الحكم دون تقديم الأدلة الكافية عليه[3].

خلّف ابن رشد مقالات كلاميّة، وتلاخيص وشروح طبيّة، ومؤلفات إلهية، وأخرى فقهيّة، غير أنّ المؤلّف يشدّد على رواج مؤلفاته في الآداب الطبيّة، نظرًا لمكانتها العلمية[4].

ظلّت المحاولة التي قام بها محمد مفتاح لدراسة الأثر الرّشدي محدودة، مقارنة بمحاولة محمد عابد الجابري[5]؛ حيث عمد الجابري إلى استعمال مفاهيم علمية وإبستيمولوجية حديثة ومعاصرة في دراسته للأثر الرشدي، على غرار مفهوم "القطيعة"؛ الذي سنّه بشلار، فقام بتطبيقه على الفلسفة الإسلامية من خلال دراسة العلاقات الممكنة بين ابن سينا والفارابي من جهة، وابن باجة وابن طفيل وابن رشد من جهة أخرى[6].

انبثق عن القول بالقطيعة عند الجابري، الإقرار بأنّ الفلسفة المغربية الرشدية تميّزت بالنزعة العقلانية البرهانيّة، في حين انتهت الفلسفة السينوية إلى نزعة لاعقلانيّة، غير أنّ الجابري أوغل في تمجيده لابن رشد على حساب الفلسفة المشرقية، وإن أخذت أطروحته صدًى كبيرًا، في حين وقف طه عبد الرحمن على الضفّة الأخرى، الساعية إلى تحطيم الرشدية، وتقويض أسسها[7].

مثّلت كتابات جمال الدين العلوي مرحلة التأسيس للدراسات الرشدية، وقد شرع في البحث عن إمكانية لفهم التراث الرشدي، انطلاقًا من المسلّمة القائلة بوحدة مشروعه الفلسفي، وقد خلّف العلوي دراسات هامّة، رغم كونه لم يجد من يدعم مسعاه ليؤسس قراءة ثابتة مرتكزة على قواعد علمية وموضوعية، ورغم بطء ظهور اهتماماته الرشدية؛ إذ شرع في الانهمام بابن رشد، بعد مرور ما يفوق نصف عقد من الزمن من مشواره العلمي؛ فنشر أوّل مقال له حول ابن رشد سنة 1981م، في حين استهلّ محمد المصباحي مشواره الأكاديمي، ببحث عنوانه "نظرية العقل عند ابن رشد" سنة 1882م، غير أنه رغم تفاوت مجهودات كل من العلوي والمصباحي، فقد التقيا في هدف واحد: هو السعي إلى التأسيس العلمي للدّراسات المغربية حول ابن رشد، إلى أن توّج هذا المسار المتحمس، بتأسيس مركز الدراسات الرشدية بكليّة الآداب بفاس، فصارت الجامعة المغربية حاضنة لجل الأبحاث العلمية حول ابن رشد[8].

اهتمّ الفصل الأوّل من الباب الأوّل، بالبحث في الصورة البيبليوغرافية لابن رشد عند جمال الدّين العلوي، ويدافع العلوي عن فكرة وحدة المتن الرشدي، رغم اختلاف مراحله المختلفة، فحاول إثبات هذه الأطروحة، من خلال إجراء مسح أفقي عامّ، لما توفر من المختصرات، والشروح، والمؤلفات، والدّراسات، كما سعى جاهدًا إلى دحض التصوّرات التجزيئيّة، لم يسمّها، التي عمدت إلى تقسيم المتن الرشدي تقسيمًا متعسّفًا[9].

درس المؤلف مراحل تطوّر المشروع الرشدي، وقسّمها إلى أربع لحظات؛ لحظة ما قبل الرشدية: (لحظة المختصرات الأولى والشروح الصغرى)، لحظة البيان الرشدي: (لحظة الجوامع)، لحظة الفاصل الغزالي: (لحظة تأليف الثلاثية، وفصل المقال، والكشف، وتهافت التهافت)، ثمّ لحظة الإسهام الفلسفي (الاستقلال الفلسفي).

اهتمّ المؤلف في الفصل الثاني من الباب الأوّل، بالنظر في صورة ابن رشد، بين الاتصال والانفصال، عند على أومليل؛ فنظر في مسألة الاتصال بين الرشدية والسينوية، ثمّ في مسألة الاتصال الفقهي والفلسفي في المتن الرشدي.

أمّا الفصل الثالث من نفس الباب؛ فقد خصصه صاحبه لدراسة صورة ابن رشد بين الأرسطية والسلفية، عند عبد المجيد الصغير؛ فبيّن في مستوى أوّل: أنّ انحسار فكر ابن رشد، سببه افتتانه بأرسطو. وبيّن في مستوى ثان: أنّ ما ظلّ حيًّا من ابن رشد، هو صورة الفقيه السلفي، وأنّ ما اندثر وزال منه، هو صورة ابن رشد الفيلسوف الأرسطي.

خصّص المؤلّف الباب الثاني من الكتاب، للنظر في صورة ابن رشد عند محمّد عابد الجابري، الذي يعتبره أوّل من تقدّم بمشروع قراءة جديدة لفلسفة ابن رشد، ودافع فيها عن أطروحة أساسيّة، من خلال كتابه الشهير "نحن والتراث" المنشور سنة 1980م؛ (وهو الكتاب الذي خلّف ردود فعل عديدة ومختلفة)، وقدّم الجابري قراءة جديدة ومغايرة لقراءة العلوي، تقول بالفصل والوصل في آن، وتقترح رؤية معاصرة للتراث[10].

يميّز الجابري في قراءته للتراث بين مستويين اثنين: يحدّد المستوى الأوّل خطوات المنهج، ويبيّن المستوى الثاني عناصر الرؤية. أمّا الخطوات المنهجية؛ فهي مستويات مختلفة للقراءة، وقد قسّمها المؤلّف إلى ثلاث خطوات[11]:

الخطوة الأولى: الدّعوى إلى القطع مع الفهم التراثي للتراث.

الخطوة الثانية: فصل المقروء عن القارئ، لضمان قراءة موضوعيّة.

الخطوة الثالثة: جعل التراث معاصرًا لنفسه، ومعاصرًا لنا في الآن نفسه.

خصّص المؤلّف للباب الثاني ثلاثة فصول: فصل أوّل؛ عنونه "صورة الإصلاح الديني الرشدي عند الجابري"، ينظر في ترتيب العلاقة بين الدين والمجتمع، وفصل ثانٍ عنونه صورة التصحيح الفلسفي الرشدي عند الجابري، وينظر في ترتيب العلاقة بين الملة والحكمة. أمّا الفصل الأخير من نفس الباب؛ فقد اهتمّ بالبحث في صورة الإصلاح السياسي الرشدي عند الجابري.

يرتب الجابري مشروع ابن رشد للإصلاح الدّيني من خلال محورين: محور إصلاح الشريعة، ومحور إصلاح العقيدة، لإعادة ترتيب العلاقة بين الدّين والمجتمع، ويُوضّح المؤلّف، في السياق نفسه، العوامل التي تحكّمت في الإصلاح الدّيني الرشدي، ويحصرها في عوامل أساسيّة ثلاثة: العوامل التاريخية والفكرية والإيديولوجية، والعامل العائلي، والعامل الذاتي، وقد استند الجابري إلى "بداية المجتهد ونهاية المقتصد" باعتباره كتابًا يفتح الأفق أمام الاجتهادات الفقهية، منتصرًا لابن رشد، ومثبتًا نسبة الكتاب إليه، ردًّا على بعض الروايات التي شككت فيه، وذهبت إلى القول بكونه منحولًا.

لم يكن ابن رشد، في نظر الجابري، مجرد مشرع نظري للاجتهاد في علوم الفقه؛ فهو قد مارسه، فعلًا، منذ أن كان قاضيًا في إشبيلية وفي قرطبة، ثم يقرّر الجابري أنّ ما كتبه ابن رشد في "فصل المقال"، لا يصدر إلا عن قاض متمرس؛ فقد نقض الفتوة الشهيرة التي أصدرها الغزالي، والقاضية بتكفير فلاسفة الاسلام (الفارابي وابن سينا)، وبتحريم الفلسفة لكونها زندقة[12]؛ لذلك فإنّ ابن رشد يمثّل، بالنسبة إلى الجابري، صورة الفقيه المعاصر، الذي يجمع بين الأصالة والمعاصرة في الآن نفسه، غير أنّ الجابري لا يلتزم بكل ما يفي به في كتابه "نحن والتراث"، لكونه يصرّح بأنّ المحتوى المعرفي لفلسفة ابن رشد لا يزال صالحًا إلى جانب صلاحية المضمون الإيديولوجي، والحال؛ أنّه كان قد أعلن في دراسته الأولى حول التراث (نحن والتراث)، أنّ المحتوى المعرفي للتراث لم يعد صالحًا[13].

أمّا فيما يخصّ تصحيح العقيدة؛ فقد عاد الجابري في قراءته إلى مناهج الأدلّة في عقائد الملّة، ليبين ما أصاب العقائد من خلل كبير، بسبب ما تمّ التصريح به للجمهور، "فتمزّق الشرع، وتفرّق الناس"؛ لذلك، توجّب، أوّلًا، النظر في إمكانية تصحيح الشريعة، والعودة بها إلى ظاهر الشرع، والحدّ من التأويل، بوضع قانون يحدّد ما يجوز تأويله، وما لا يجوز[14].

كان ابن رشد كثير الإعجاب بأرسطو؛ لذلك ظلّ حبيس المنطق الأرسطي، أمّا الجابري؛ فقد كان هو الآخر شديد الإعجاب بابن الوليد ابن رشد، إعجابًا أفقده الالتزام بشروط البحث الموضوعي، لذلك؛ فإنّ مؤلّف الكتاب يستغرب أن يقود هذا الإعجاب المفرط بالجابري، إلى تغييب أبسط أدوات الدّرس الفلسفي، من نقد ومساءلة، رغم كونه قد بالغ في التشديد عليها في مواضع أخرى[15].

إن المشروع الرشدي، اليوم، يواجه مصيرًا، يكاد يكون شبيهًا بالذي واجهه المشروع الرشدي بالأمس؛ إذ يكتب د. عبد النبيّ الحري واصفًا هذا المصير، قائلًا: "واجه المشروع الرّشدي بالأمس، كما يواجه المشروع الجابري اليوم، فرقًا (محدثة) وأقاويل (مبتدعة)، فقد واجه ابن رشد؛ الباطنية، والمعتزلة، والأشاعرة، وها هو الجابري يجد نفسه أمام استمرارية الهيمنة العقدية للفرقة الكلامية، التي بسطت نفوذها على العالم الإسلامي، منذ ما قبل زمن ابن رشد إلى اليوم، وهي؛ الأشعرية، التي لن نجد سلاحًا قادرًا على تفكيك بنيتها، وتحليل طريقتها في إثبات العقائد الإسلامية، ويكشف عن تهافتها من الناحية المنطقية، وتعارضها مع الطريقة التي "حمل الشرع الناس عليها"، كما وردت في القرآن الكريم، غير سلاح الرشديّة"[16].

لم تكن التأويلات الكلامية للعقائد الدينية، في نظر ابن رشد وحسب قراءة الجابري، لأجل حفظ عقيدة الإسلام؛ فقد خبأت في طيّاتها أغراضًا سياسية، وهو ما أدّى إلى اضطراب اللحمة المجتمعية، وصراع الفرق الكلامية.

إنّ السبب في كلّ هذه الفوضى، الاجتماعية والسياسية: هو إشاعة التأويل لدى العامّة دون ضوابط، ولعلّ الجابري قد استند، هو الآخر، إلى تعريف ابن رشد للتأويل من جهة كونه؛ "ممارسة للسياسة بواسطة الدّين ولغته، في زمن ومجتمع لم تكن لغة السياسة فيه، قد استقلت بمصطلحاتها وقضاياها"[17].

قد يصبح التأويل بهذه الطريقة، في نظر الجابري: "فرضًا لنمط معيّن من الفهم للدّين"، ويقع استعماله كأداة اجتماعية لممارسة السياسة ضدّ الدّولة (أو الدّولة/الخصم)، وقد يبدو تصريح الجابري، كونه المفكر العربي الوحيد الذي تفطّن لارتباط الدين بالمجتمع، ضربًا من الادعاء الذي يحتاج إلى تنسيب في نظر صاحب الكتاب؛ فقد سبق للمفكّر الفرنسي (ألان دوليبيرا) أن قال بصلاحيّة الترتيب الرشدي للعلاقة بين الدين والمجتمع، وقد عمّم هذا الترتيب على كلّ المجتمعات المعاصرة، فلم يستثن منها المجتمعات العربية، ويضيف المؤلّف: إنّ هذا التصوّر يمكن أن نعثر عليه، كذلك، لدى محمد أركون، الذي بين أنّ الفلسفة الرشدية تكمن راهنيتها في إمكانية جعلها سلاحًا ضدّ الأصولية والتزمّت[18].

يستنتج عبد النبي الحري: أنّ الجابري؛ الذي شهد معظم أشكال الصراع السياسي في المغرب السياسي، كان فاعلًا سياسيًّا، وقد وظّف الفلسفة توظيفًا سياسيًّا، على الرغم من أنّ الهواجس المجتمعية المعاصرة، قد كانت تحرك قراءته لابن رشد كذلك. يقصد عبد النبي الحريّ بالتوظيف السياسي للفلسفة: التوظيف الإيديولوجي على وجه التدقيق. ترتيبًا للعلاقة بين الدين والمجتمع على جهة يتلاءم فيها مع اختياراته السياسية، ضمن موقعه المتحزب، واختياراته الفكرية التقدمية، وقد عمد الجابري إلى استدعاء ابن رشد وقراءته قراءة سياسية، لأجل توظيفها إيديولوجيًّا في الصراعات المعاصرة؛ فاستعمل الرشدية "مطيّة" ليُدلي بدلوه في عدد من الآراء الفقهية والقضايا الفكرية المعاصرة، تحقيقًا لغايات سياسية متمثّلة، أساسًا، في "ترشيد الإسلام السياسي"، والحدّ من التطرّف الدّيني[19].

يمرّ المؤلّف في الفصل الخامس من الكتاب، إلى الاهتمام بصورة التصحيح الفلسفي الرشدي عند الجابري؛ لأجل ترتيب العلاقة بين الملّة والحكمة، فيرسم الجابري لابن رشد صورتين: صورة القاضي؛ الذي يفصل النزاعات بين الغزالي وابن سينا من جهة أولى، وصورة الفيلسوف الأصيل؛ الذي يتجاوز مجرّد الإعجاب بأرسطو من جهة ثانية.

إذا كان الجابري قد رسم صورة مثالية لابن رشد؛ فإنّ عبد النبي الحريّ لم يتوانى عن إبراز الموقف الخاصّ بطه عبد الرحمن؛ الذي يذكر أن ابن رشد يخرج عن آداب المناظرة والحوار في مواضع عديدة. يكتب طه عبد الرحمن، مشيرًا إلى ذلك: "فقد استعمل في حقّ فلاسفة الإسلام والمتكلّمين، ألفاظًا غير مسنونة، ولا مقبولة، وأوصافًا لا تليق بمقام هؤلاء (...)"[20].

لقد ساند بنسالم حميش طه هذا الرأي، وقدّم تحليلًا نفسيًّا لشخصية ابن رشد، مفاده: "أن لابن رشد عقدة تفوّق عظمى، لا يتنحلّ إلاّ أمام سلطان الوقت". رغم ذلك، واصل الجابري قراءته التمجيدية لابن رشد، غير مبال بجميع القراءات المغايرة لقراءته، وغير منتبه إلى أنّ اعتراضات ابن رشد على الغزالي وابن سينا، لم تكن برهانية ولا شرعيّة[21].

ينقد عبد النبيّ الحريّ بشدّة الصورة التي رسمها الجابري لابن رشد، لكونها خالية من كلّ تحفّظ أو نقد؛ فقد "ظلّ الجابري وفيًّا لمنهجه الاحتفالي بابن رشد"، معلّلًا انشداد ابن رشد نفسه لأرسطو، بإعجابه بمنهجه البرهاني، الذي يراه الأقدر على تحصيل العلم واليقين[22].

يظل الجابري مدافعًا عن انشداد ابن رشد لأرسطو، معتبرًا الحكم عليه بالتبعية حكمًا ظالمًا، ومبيّنًا أنّ النزعة البرهانية لديه، كانت مبنية على "(قصد الشارع) في مجال النقليات، وعلى فكرة (الأسباب الطبيعية) في مجال العقليات، وقد كان لهذه النزعة امتداداتها في الثقافة العربية الإسلامية، عند الشاطبي، وابن خلدون، وابن تيمية، وفي الثقافة اللاّتينية والحديثة؛ عند توما الأكويني (Thomas Aquinas)، وسبينوزا (Spinoza)، وكانط"[23].

عمد الجابري إلى تتبع صورة أرسطو في الدّراسات العربية، حتى يُبيّن: أنّ تبعيّة ابن رشد له، هي موقف طبيعي لا يُقلّل من شأنه، أو من استقلاليته الفكرية؛ لذلك يشدد الجابري على أن هذه التبعية لأرسطو؛ هي نقطة مضيئة في المشروع الرشدي، متجاهلًا الثغرات المتعددة التي تركها أرسطو حول قضايا أخرى، على غاية من الأهمية (الوجود، العقل، الاتصال)؛ لذلك يتساءل المؤلف عن طبيعة التحفظات التي تراءت لمحمد المصباحي، أثناء قراءته للجابري، وإن كان قد أجلّ القول فيها؛ إذ يبدو أنّ المصباحي قد تعمّد الصمت على تحفظاته عن رشديات الجابري، رغم نشره لدراستين لاحقتين حوله[24].

يتحدّد التصحيح الفلسفي الرشدي في محاولة للفصل بين الملّة والحكمة، وقد اعتبرها الجابري أساسًا لترتيب العلاقة بين الأصالة والمعاصرة في زماننا، غير أنّ الباحث العربي (ناصيف نصّار) شكّك في إمكان استقلاليّة الملّة عن الحكمة. يتساءل المؤلف هنا: "هل الفصل بين الشريعة والحكمة من صنع القرون الوسطى أم من صنع القرون الحديثة؟" بمعنى؛ أن هذا الفصل كان حصيلة تحولات معقدة يمثلها (لوثر، وكوبرنيك، وغاليلو، وهوبز، وديكارت) وهم الذين لم يكونوا على اهتداء بالنهج الأرسطي، ولا علاقة لهم بالنهج الرشدي؛ لذلك لا يمكن الجزم بنسبة هذا الفصل إلى ابن رشد[25].

انتقل عبد النبيّ الحريّ في الفصل السادس من كتابه، إلى دراسة صورة الإصلاح السياسي الرّشدي عند الجابري؛ فنظر في عناصر الجدّة، في الكتاب/النكبة، في ابن رشد، ناقدًا لواقعنا السياسي وشارحًا للغز الانتقال الديمقراطي بالمغرب، لينتهي، في النقطة الأخيرة، إلى النظر في ضرورة مواجهة الحتمية الخلدونية بالحرية الرشدية.

نلاحظ مع المؤلف؛ تعلق الجابري الشديد بالنصّ السياسي الرّشدي، وهذا الأمر يتجلّى في غزارة ما كتبه حول الضروري في السياسة، مقارنة بما كتبه في مواضيع أخرى، أفرد لها ابن رشد كتبًا عدّة؛ إذ يرسم الجابري لابن رشد صورة المصلح للوضع السياسي في عصره، ويعتبر فكره مفتاحًا لفهم الواقع السياسي الراهن؛ بل صالحًا لفكّ لغز الانتقال الديمقراطي في المغرب[26].

أمّا الباب الثالث من الكتاب؛ فيطرح علاقة طه عبد الرحمن بمسألة الإفلات من قبضة الرشديّة؛ إذ تمرّ قراءة طه عبد الرحمن لابن رشد بالصورة التي رسمها له، معنى ذلك: أنّ طه عبد الرحمن يهدم ما بناه الجابري[27].

يعود عبد النبي الحري في مراجعته لقراءة طه عبد الرحمن، إلى مؤلّفه "تجديد المنهج في تقويم التراث"، الذي تضمّن دراسات تقويمية ونقدية للتراث، وقد بيّن فيه محدودية العارفين بآليات تقويم التراث ونقده، ويميّز طه عبد الرحمن بين (آليات عقلانية مجرّدة) و(آليات فكرانية مسيّسة)، وقد خصّص فصلين من كتابه المذكور لتقوم قراءة الجابري للتراث؛ فبيّن وقوعه في التعارض، بين الإقرار بالنظرة الشمولية، وممارسة القراءة التجزيئيّة، كما لاحظ ميله إلى الاشتغال بالمضامين عوض الاعتماد على الآليات[28].

كانت مجهودات الجابري في قراءة التراث شحيحة؛ فقد اكتفى في مواضع عدة بالاستناد إلى ما قدّمه الشافعي، والجرجاني، وغيرهما، لذلك؛ وقع في نموذج العرض للمضامين السابقة عليه، دون إخضاعها لآليات النقد والتقويم، ولم يتمكن الجابري، في نظر طه عبد الرحمن، من الإحاطة بالآليات "الاستهلاكية التي وظّفها في قراءته للتراث، كما لم يتمكّن من دراسة مردودية آلياته، قبل المرور إلى اعتمادها، فوقع في خطأ التفاوت بين القصد والفعل"[29].

لقد كان الجابري يُنظّر لأهمية الاعتراضات والمناقشات والردود، لكنه لم يتقبل نقد طه عبد الرحمن لمشروعه الفكري؛ فاكتفى بالصمت والتجاهل، وهو الذي كتب في موضع ما من مؤلفه "نحن والتراث" ما يلي: "بالمناقشة وحدها، ومن خلال الردود والاعتراضات والتوضيحات، يمكننا الوصول إلى الحقيقة"[30].

يشدّد طه عبد الرّحمن على النظرة التكاملية للتراث، نظرًا لتعيّن التداخل المعرفي على المستويين الدّاخلي والخارجي؛ فبيّن في دراسته للتداخل المعرفي ضمن المتن الرّشدي: أنّ ظاهر النصّ يُوحي بالفصل والتجزئة، في حين أنّ باطنه يطفح بالتداخل والتكامل، وتظهر التجزئة، خاصّة، في تجريد العلوم، وتصفيتها من الهوامش المعرفية، وفي توضيح التباين في العلوم بين وحدة الموضوع، وخصوصية المنهج[31].

لم يستوف ابن رشد، في نظر طه، "شرط الاتساق الطبيعيّ" و"شرط الاتساق التداولي"، ويدل مفهوم (الاتساق الطبيعي) عند طه، على التوافق والانسجام، بين اللغة الفلسفية واللغة الطبيعية، دلاليًّا واصطلاحيًّا، غير أنّ ابن رشد عمد إلى "دمج المعنى اللغوي اليوناني للمصطلح الفلسفي، في معناه الاصطلاحي، ونزع المعنى اللغوي العربي للمصطلح الفلسفي من معناه الاصطلاحي"[32]. أمّا مفهوم (الاتساق الدّلالي)؛ فيقتضي مطابقة العلم للعمل"، غير أنّ ابن رشد، لم يعمل بما علّمه أرسطو على المستوى المعرفي، واكتفى بالعمل به على المستوى اللغوي والدّلالي فحسب، فيغيب الاتساق في المسلك العلمي، نظرًا لكونه كان حاضرًا في (التكوين الدّاخلي)، وغائبًا في مستوى (التأليف التجزيئي)؛ لذلك يخلص طه إلى بطلان نهوض ابن رشد بالخصوصيّة المعرفية للثقافة العربية الإسلامية[33].

ينظر الفصل الثامن في مفارقة العلم الإلهي عند ابن رشد، ويبحث في المسكوت عنه في نصوص ابن رشد، والذي يتعلّق، أساسًا، بالجانب الإلهي، ولم يهتمّ طه بمضامين المتن الإلهي الرشدي؛ بل وجه فحصه نحو آلياته الإنتاجية؛ فبيّن تداخلًا بين المضامين المصرّح بها، والمضامين المضمرة، وتناقضًا بين أقوال ابن رشد وأفعاله، كأن يقدّم اعتراضًا على مفهوم، أو على استدلال، في الوقت الذي يكون فيه مستخدمًا إيّاه، كما يكشف النظر في الآليات الرشدية، استخدامًا متسقًا للآليات الاستشكالية والآليات الاستدلالية، وتداخلًا جليًّا بين العلم الجدلي وعلم الكلام، وبين العلم البرهاني وعلم الوجود بما هو موجود[34].

يبدو المضمون الفلسفي الرشدي مُتأثرًا بعلم الكلام، رغم شناعة الهجوم الذي شنّه على علم الكلام وعلى أهله، وقد بيّن طه ذلك من خلال التشديد على التداخل بين الآليات الاستشكالية، بين العلم الإلهي الرشدي وعلم الكلام الإسلامي، كما قد يتداخل القول الكلامي عند ابن رشد، مع القول الأرسطي في العديد من المواضع، على غرار قوله: "العالم مصنوع يدلّ بصنعته على الصانع"؛ "حيث يتجلّى الحضور الكلامي في عبارة (الدّلالة على الصّانع)، ويتجلّى الحضور الأرسطي في دلالة (مصنوع)، وليس (مخلوق)، وفي دلالة (الصانع)، وليس (الخالق)"[35].

لا يقف تأثر المتن الرشدي بعلم الكلام المضمون؛ بل يتجاوزه إلى المنهج، وذلك بين ضمن استعماله للآليات الثلاث الآتية: (الآليات التبليغيّة)، و(الآليات التمثيلية)، و(الآليات الاعتراضية).

أما الفصل التاسع؛ فينظر في مفارقات صورة ابن رشد عند طه عبد الرحمن؛ فقد تعرّض المؤلّف للقراءة الإيديولوجية لطه عبد الرحمن، وبيّن سقوطه في فخّ الجابري للمتن الرشدي؛ أي عمده إلى سلك مسلك إيديولوجي، هو الآخر، وإن كان هذا المسلك مضادًّا للجابري؛ لذلك اعتبر الكاتب أنّ المشروع الفكري لطه عبد الرحمن، هو قلب لمشروع الجابري، وإن كان كلّ من الجابري وطه يختلفان في تشخيص الحلّ المنقذ للفكر المغربي من الانحطاط، هل هو البرهان أم العرفان؟ أي ابن رشد أم ابن خلدون[36]؟

يدور كلّ من الجابري وطه ضمن، ما سمّاه المفكر التونسي أبو يعرب المرزوقي "الثالوث المخادع"، يتضمّن ثالوث الجابري ثلاث دائرات: (البرهان، والبيان، والعرفان)، ويحتوي ثالوث طه تقسيمًا ثلاثيًّا للعقل: (العقل المجرّد)، و(العقل المسدّد)، و(العقل المؤيّد). وهكذا؛ فإنّ ما يستدلّ عليه الأوّل بالبرهان، يستدلّ عليه الثاني بـ (العقل المجرّد)، وما يسمّيه الجابري (بيانًا)، يسمّيه طه "عقلًا مسدّدًا"، وما يُعرف لدى طه بـ (العقل المؤيّد) يُعرف لدى الجابري بــ (العرفان)[37].

خصّص المؤلّف الباب الرابع والأخير من كتابه، للنظر في الصورة الدلاليّة- الإشكالية لابن رشد عند محمّد المصباحي؛ إذ يستمدّ المصباحي أدواته المنهجية في قراءة التراث الرشدي من داخل الرشدية نفسها، باعتباره يمثل بالنسبة إليه صورة "الوسط العدل" في جلّ مؤلفاته[38]، ويرى المصباحي: أنّ الاهتمام الأول ينبغي أن يكون بالنصّ الفلسفي، من جهة كونه الملاذ الأول التي تنشأ فيه الإشكالية الفلسفية نشأة لغوية ودلالية؛ فالنصّ، في نظره، أهمّ من سياقه؛ لأنّ دلالته هي علة الإشكال وإن كانت أداة لشرحه وتوضيحه؛ إذ تكون على درجة كبيرة من الارتباط بالوضع التاريخي، والإيديولوجي، والاجتماعي[39].

يُبيّن عبد النبيّ الحريّ أنّ المصباحي ميز بين زمانين اثنين في قراءته للمتن الرشدي، هما زمن التعقّب التاريخي؛ المتميّز بالحركة والتجزئة، وزمن النظر الفلسفي؛ المتميّز بالإطلاقية والكليّة (زمن الإنسان).

كما عمد إلى الجمع بين مقومين اثنين للقراءة: يسمح المقوّم الأوّل بقراءة ابن رشد في نصّيته، أمّا المقوّم الثاني؛ فهو الذي يسمح بقراءة النصّ في فلسفيّته[40]، وتمكّن هذه الرؤية المنجية من تحقيق مطلبين: المطلب البرهاني والمطلب الجدليّ.

عمد المصباحي إلى تقويم صورة ابن رشد عند الجابري والعلوي؛ فبيّن أنّ العلوي لم يتمكّن من رسم صورة حقيقية لابن رشد؛ لأنه لم يخضع هذه الصورة للنقد والتساؤل، واتسم عمله بالتسرّع، وركّز المصباحي، في مراجعته لقراءة العلوي، على مفهومي (الوحدة والتطوّر)، فهما المفهومان الرئيسان اللذان ارتكزت عليهما صورة ابن رشد لديه، غير أنّه اكتشف محدودية الطابع الإجرائي لهذين المفهومين، فلم ينجحا في تقديم صورة واضحة عن مشروع فيلسوف قرطبة[41].

أما الجابري؛ فقد اعتمد أساسًا على مفهومي الأصالة والحيوية، غير أنّه من الصعب التمييز بينهما دلاليًّا؛ فلا مجال للحديث عن أصالة الفلسفة راهنًا، دون الحديث عن حيويتها، كما أنّ الفلسفة الحيوية تدفعنا نحو الجدّة والحداثة، وهو ما يجعلها أصيلة في نظرنا؛ لذلك يتساءل المصباحي: "كيف يمكن للأصالة أن تكون أصيلة، أو للحيويّة أن تكون حيوية، بالنسبة إلى زمنين متباعدين، وإلى ذاتين مختلفتين؛ ذات القرون الوسيطة وزمنها الماضي، وذاتنا الحاليّة وزمنها الحديث والمعاصر؟[42]"

لمّا كان الجابري، في نظر المصباحي، أكثر ميلًا إلى التأويل الإيديولوجي منه إلى التحليل؛ فإنّ رسم صورة غير حقيقية للفلاسفة المسلمين، في حين أن المصباحي لم يقبل تحويل الفلسفة إلى رهينة من رهائن الإيديولوجيا والسياسة، وقد افتقدت قراءة الجابري للواقعية؛ فكانت موغلة في الحلم بما هو أفضل، وافتقدت قراءة العلوي للعمق، فلم تتمكن من تقديم صورة حقيقية لابن رشد. أمّا المصباحي؛ فحاول في قراءته جعل الحكمة الرشدية أرضًا للمصالحة بين الجدل والبرهان، من خلال إرساء المنهج دلالي إستشكالي، فقدّم قراءة جامعة بين التحليل والنقد.

لم يكن المصباحي على اقتناع تامّ ببرهانية الفلسفة؛ فعمد إلى مراجعة الدّلائل التي قدمها ابن رشد على ذلك، وبين أنّ البرهان لا يوجد في استقلال عن الجدل، ومن الصعب أن نجد قولًا برهانيًّا لا يقبل النقاش، وتوضح الممارسة الفلسفية: أنّ قضايا الفلسفة هي من أكثر القضايا ارتباطًا وتعرضًا للجدل[43].

اتخذ المصباحي موقفًا وسطًا بين المواقف المشتركة، وانتهى إلى اعتبار الحكمة الرشدية فضاء للمشترك الإنسانيّ (الفصل الحادي عشر)[44]؛ لذلك ساهمت الرشدية في خلق التواصل الإنساني بين ضفاف الحوض المتوسطي، فكانت بمثابة "المكان المشترك الذي التقى فيه الإغريق، والعرب، واللاّتين، فتعرّفت أوروبا على أرسطو من خلال ابن رشد، ولمّا كفّت أوروبا عن الاهتمام بأرسطو، كفّ الاهتمام كذلك بابن رشد؛ فقد جمعهما المصير نفسه[45]، لذلك؛ اعتبر المصباحي أنّ ابن رشد كان نموذجًا للفيلسوف الكوني؛ فقد خاطبت فلسفته الإنسانية جمعاء، ولو أنّ العرب تابعوا الرسالة الرشدية بتمعن وعمق، لما ظلّوا متخلفين عن الرّكب.

إنّ تطوّر الغرب راجع إلى كونهم طوّروا "ما شرع فيه ابن رشد، من تقريب أسس البرهان العمليّ من مبادئ البرهان النظري، وذلك عن طريق فصل الشريعة عن الدّولة، وهو ما يصطلح عليه اليوم بالعلمانيّة"[46].

يصل صاحب الكتاب إلى الإقرار بأنّ محمّد المصباحي في قراءته للتراث، يُواصل مهمة ابن الرشد التي فشل فيها؛ فقد كانت له مهمّتان: مهمّة الكشف عن خبايا وأسرار أهل "الذوق والعرفان"، ومهمّة البحث عن الفائدة التي يمكن أن يقدّمونها لأهل "العقل والبرهان"، ضمن محاولة منه لإيجاد مصالحة بين البرهان والعرفان على أرض الحكمة الرشديّة[47]. من هذا المنطلق؛ ينبغي إعادة تعريف الحداثة، بوصفها تلك القدرة على بناء المشترك بين كلّ العقول وكلّ الحضارات، فكانت الرشدية ملهمة لكلّ اللاحقين عليه، على غرار تحّدث (هابرماس) عن مطلبية الوحدة والانسجام بين الشعوب والأمم، إرساءً لمعايير الدّيمقراطية، وهي معادلة تذكّرنا بالترتيب الذي وضعه ابن رشد بين الوحدة والاختلاف، وعلى أساس هذا الفهم، يدعو المصباحي إلى الفصل بين أمرين: الغرب؛ من جهة كونه مكانًا خاصًّا ومغلقًا في وجه الآخر، والحداثة؛ كمكان مشترك ومحايد، تجتمع فيه كلّ الغيريات[48].

لقد احتفى هذا الكتاب برواد الدرس الفلسفي في المغرب، بطريقة تميّزت بالاعتراف بالمكاسب دون التغاضي عن الحدود؛ فكانت دراسة عميقة ونقدية، انتهجت سبل التحليل الفلسفي النقدي المنفتح على النصّ انفتاحًا غير دوغمائيّ.


[1]- عبد النبيّ الحريّ، صورة ابن رشد في الفكر المغربي المعاصر، ص 26.

[2]- المصدر نفسه، ص 27.

[3]- المصدر نفسه، ص 53.

[4]- المصدر نفسه، ص 59.

[5]- محمد عابد الجابري، المدرسة الفلسفية في المغرب والأندلس، مشروع قراءة جديدة لفلسفة ابن رشد، ضمن أعمال ندوة ابن رشد ومدرسته في الغرب الإسلامي، ط1، الرباط، 1978م، بيروت، المؤسسة الجامعيّة للدّراسات والنشر والتوزيع، 1981م.

[6]- عبد النبي الحريّ، المصدر نفسه، ص 60.

[7]- المصدر نفسه، ص 61.

[8]- عبد النبيّ الحيّ، المصدر نفسه، ص ص 63- 66.

[9]- المصدر نفسه، ص 86.

[10]- المصدر نفسه، ص ص 123- 124.

[11]- المصدر نفسه، ص ص 125- 126.

[12]- المصدر نفسه، ص 146.

[13]- المصدر نفسه، ص 148.

[14]- المصدر نفسه، ص ص 149-150.

[15]- المصدر نفسه، ص 151.

[16]- المصدر نفسه، ص 150.

[17]- ابن رشد، فصل المقال، ص 76. ذكره عبد النبي الحريّ، المصدر نفسه، ص 153.

[18]- عبد النبي الحريّ، صورة ابن رشد في الفكر المغربي المعاصر، ص 153.

[19]- المصدر نفسه، ص ص 154- 155.

[20]- طه عبد الرحمن، تجديد النظر في تقويم التراث، ص 197. ذكره عبد النبيّ الحريّ، المصدر نفسه، ص 160.

[21]- عبد النبيّ الحريّ، صورة ابن رشد في الفكر المغربي المعاصر، ص 161.

[22]- المصدر نفسه، ص 162.

[23]- المصدر نفسه، ص 163.

[24]- المصدر نفسه، ص ص 168-167.

[25]- المصدر نفسه، ص ص 171-172.

[26]- المصدر نفسه، ص 184.

[27]- المصدر نفسه، ص 195.

[28]- المصدر نفسه، ص 197.

[29]- المصدر نفسه، ص 198.

[30]- محمد عابد الجابري، نحن والتراث، ص 10. ذكره، عبد النبي الحريّ، المصدر نفسه، ص 199.

[31]- عبد النبيّ الحيّ، المصدر نفسه، ص ص 205- 206.

[32]- طه عبد الرحمن، تجديد المنهج في تقويم التراث، ص 135. ذكره عبد النبيّ الحريّ، المصدر نفسه، ص 208.

[33]- عبد النبيّ الحريّ، ص ص 208- 209.

[34]- المصدر نفسه، ص 222.

[35]- المصدر نفسه، ص 226.

[36]- عبد النبيّ الحريّ، المصدر نفسه، ص 245.

[37]- المصدر نفسه، ص 246.

[38]- مؤلفات المصباحي حول ابن رشد، من الوجود إلى العقل، من أجل حداثة متعدّدة الأصوات، تحولات في تاريخ الوجود والعقل، العقل الإسلامي بين قرطبة وأصفهان.

[39]- عبد النبيّ الحريّ، المصدر نفسه، ص 259.

[40]- المصدر نفسه، ص 260.

[41]- المصدر نفسه، ص 266.

[42]- محمد المصباحي، "الجابري والحلم المزدوج بالعقلانية"، ص 181. ذكره عبد النبي الحري، صورة ابن رشد في الفكر المغربي المعاصر، ص 268.

[43]- المصدر نفسه، ص 282.

[44]- المصدر نفسه، ص 292.

[45]- المصدر نفسه، ص 294.

[46]- محمد المصباحيّ، "بأيّ معنى يمكن أن يكون ابن رشد مدخلًا لحوار الحضارات؟"، ضمن كتاب مع ابن رشد، ص 36. ذكره عبد النبيّ الحريّ، صورة ابن رشد في الفكر المغربي المعاصر، ص 300.

[47]- عبد النبيّ الحريّ، صورة ابن رشد في الفكر المغربي المعاصر، ص ص 310- 311.

[48]- المصدر نفسه، ص ص 303- 304.