عزيز بوستا: حول الفلسفة والتربية


فئة :  حوارات

عزيز بوستا: حول الفلسفة والتربية

عزيز بوستا: حول الفلسفة والتربية

بربزي عبد الله: تتشرف مؤسسة "مؤمنون بلا حدود" بإجراء هذا الحوار الفكري معكم، بمناسبة إعداد ملف بحثي حول الفلسفة والتربية، ونشكركم على قبول المساهمة في هذا الملف.

بداية، كيف يمكن للدكتور عزيز بوستا أن يقدم نفسه للقارئ؟

عزيز بوستا: عزيز بوستا؛ أستـــاذ التعليم العالي، مؤهّل، وبــاحث بالمركز الجــهوي لمــهن التــربية والتــكوين في طــــنجة، وحـــاصل علــى دكــــتوراه فـــي عـــلوم الـــتربية، ودبـــلوم الــــــدراسات العــــليا فـــي الفلســـفة.

شاركت في أنشطة متنوعة (علمية وثقافية عامة) في إطار تظاهرات، وندوات، وموائد مستديرة؛ من تنظيم جمعيات، ومنظمات وطنية ودولية، ولقاءات إذاعية وإعلامية مختلفة.

ساهمت فــي التــكوين الأســاس والمســـتمر للمـــدرسين، وأطـــر الإدارة التــربوية، بكــافة أســلاك التعــليم المــدرسي، فــي مواضيع ذات علاقة بالتربية والتكوين لمدة 19 سنة، قضيت منها أربع سنوات أستاذًا بأحد معاهد تكوين المدرسين في العزيزية في ليبيا، مكنتني من الاحتكاك بالكثير من الأساتذة المشارقة العاملين في مجال التكوين هناك.

لي مقالات متعددة في الفلسفة وعلوم التربية؛ في مجلات، وجرائد، ومواقع إلكترونية مغربية وعربية. وصدر لي، في شهر أبريل المنصرم، كتاب (العالم بين الكون والحدوث لدى ابن رشد)، من كون وفساد الموجودات، إلى الحدوث الدائم للعالم)، مطبعة سليكي أخوان، طنجة- المغرب، 2016م.

بربزي عبد الله: يزخر تاريخ الفلسفة بأطروحات ونظريات عامة حول التربية، فما طبيعة العلاقة بين التربية والفلسفة على المستوى الفردي والاجتماعي والإنساني؟ وما هي الأسس الفلسفية للتربية؟

عزيز بوستا: يمكننا المجازفة بالقول: إن تاريخ الفكر الإنساني راكم نظريات عامة حول التربية، بقدر عدد الفلسفات التي عرفتها البشرية، وذلك بسبب؛ شمولية الفكر الفلسفي، واستغراقه لكل ما يتعلق بالوجود الإنساني، الفردي والجماعي، في بعده المعرفي، والأنطولوجي، والقيمي/الأخلاقي، والسياسي.

فإذا كانت التربية، كممارسة، تشمل كل أشكال التأثير؛ الشعورية واللاشعورية، والفردية والجماعية، والعفوية والمؤسساتية، التي تُمارس على الطفل بالخصوص؛ لنقله من الحالة البيولوجية، إلى الحالة "الثقافية" المتعارف عليها من طرف مجتمع الراشدين، وباعتبار الفلسفة )فعالية فكرية خالصة، تحاول فهم العالم ككل، كما تجيب على سؤال الماهية والجوهر، والغاية من وجود وسيرورة الموجودات. يتبين أن التربية تجيب عن سؤال: كيف ننقل الطفل من وضعه الفطري الأول، لتحقيق كمالاته الإنسانية، الفردية والاجتماعية، اللاحقة؟ بينما الفلسفة تركز على سؤال: ماذا نريد من هذه التربية، وما غاية أو غايات هذه السيرورة التربوية؟

وتمثل الإجابة عن السؤال الأخير، ما نعتبره نظرية أي فيلسوف أو مفكر في التربية، في ظل الأنساق الفلسفية الكلاسيكية، كما أصبح موضوع فلسفة التربية الآن، كـ"علم" من علوم التربية، يهدف إلى لم شتات باقي علومها التي تبحث كل واحدة منها في جانب من جوانب الظاهرة التربوية؛ فأضحت بذلك تلعب دور الإبستمولوجيا أو فلسفة العلوم.

كما أن الإجابة عن هذا السؤال، المفضي إلى تبني فلسفة ما في التربية؛ هو ما يجعل أي مشروع تربوي لأية منظومة تربوية متماسكًا، وواعيًا بخلفيات ومقاصد الفعل التربوي المنشود في أي مجتمع.

بربزي عبد الله: يرى جون ديوي: أن الفلسفة هي "النظرية العامة للتربية"، وأن التربية هي "المعمل الذي تختبر فيه الأفكار الفلسفية"، فهل هذا يعني أن التربية تهتم أكثر بالجانب العملي التطبيقي في السلوك الإنساني، أم أن هذا المنظور يخصّ فقط الفلسفة البراغماتية؟

عزيز بوستا: لعل المتمعن في تاريخ الفلسفة برمته، سيجد أن علاقته بالتربية اكتست، في غالب الأحيان، بطابع علاقة الكلي بالجزئي، وعلاقة العام بالخاص؛ فأسئلة الفيلسوف المعرفية والأنطولوجية والميتافيزيقية، لا بدّ أن تفضي إلى إثارة السؤال عن التربية لتكتمل حلقة النسق الفلسفي، الذي يهدف إلى البحث عن السعادة القصوى، والخير الأمثل، والحقيقة الخالصة، إلا أن مرتبة القول التربوي ضمن الخطاب الفلسفي الكلاسيكي، كانت تُحشر ضمن انشغالات العقل العملي، وهو أدنى مرتبة من العقل النظري الباحث في جواهر الموجودات، وعللها القصوى؛ لذلك اختلفت مكانة التربية لدى أي فيلسوف من هؤلاء، حسب اختلاف الأهمية والمساحة التي يوليها للعقل العملي ضمن نسقه الفلسفي.

أما قول جون ديوي الذي ذكرته؛ فيندرج ضمن أهم الفلسفات المعاصرة التي لم تعد تأبه بالميتافيزيقا، ولا بالإجابة عن كل الأسئلة ضمن نسق مغلق، باعتبار أن العلوم الحقة والإنسانية أصبحت تغني الفيلسوف عن ذلك؛ نظرًا لتغير أدوار الفلسفة في إطار التحولات التي يشهدها العالم مع عصر الحداثة. ولعل الفلسفة البراغماتية التي يمثلها جون ديوي، تعتبر من بين هذه الفلسفات، التي ركزت اهتمامها على العقل العملي، باعتباره ضامنًا للمنفعة المباشرة للإنسان، أما السؤال الأنطولوجي/الميتافيزيقي، فلم تعد له جدوى في نظرها.

وما يجدر التنبيه إليه، في نظري، هو أن اقتطاع مساحات شاسعة من اهتمامات الفيلسوف التقليدية، لصالح العلوم الوليدة (سواء كانت علومًا تجريبية أو إنسانية)، لا يجب أن يسقطنا في النزعة الوضعية أو "العلموية" الضيقة، والمفضية إلى نوع من الدوغمائية والسطحية؛ فالأسئلة الفلسفية الكبرى ستظل ضرورية للإنسان المعاصر، وسؤال فلسفة التربية، سيبقى أساسيًّا لبناء مستقبل تربوي عقلاني ومتنور واستراتيجي. هنا، نستحضر قول لويس ألتوسير الشهير: (إن هروبك من الفلسفة، يُسقطك في أسوأ الفلسفات)، وهي: الفلسفات التلقائية والعشوائية المبثوثة في الثقافات السائدة في كافة المجتمعات.

ومن زاوية أخرى، علينا الإقرار بنوع من الاستقلالية النسبية للخطاب الفلسفي عن كافة الشروط التاريخية العامة التي نشأ في ظلها، والابتعاد عن الرّبط الميكانيكي بين تاريخ الأفكار، وتاريخ الأشياء؛ حيث إن نظرة ثاقبة لتاريخ الفلسفة للوعي، توضح أن هناك نظريات وأفكارا تتكرر عبر هذا التاريخ، تظهر أحيانًا، وتخبو في أحايين أخرى، وكأنها تخضع لما سمّاه البعض "العود الأبدي"، ورغم التقدم الهائل الذي عرفته العلوم الإنسانية المعاصرة؛ كعلم الاجتماع، وعلم النفس، وعلوم التربية، فإنها لم تقطع كل صلاتها بأصولها "الفلسفية"، ولازالت تردد وتتداول كثيرًا من آراء الفلاسفة السابقين ونظرياتهم، مع اختلاف سياقات استعمالاتها طبعًا، ونسوق، في هذا الشأن، مثالًا عن التقسيم الثلاثي للنفس الإنسانية، الذي تحدث عنه أفلاطون وأرسطو، ومن سار على منوالهم من فلاسفة الإسلام والعصور الوسطى؛ حيث قسموا نفس الإنسان إلى ثلاث قوى: القوة العاقلة، والقوة الغضبية، والقوة النزوعية، وهو نفس التقسيم الذي تداوله السلوكيون في عصرنا الحاضر، عندما تحدّثوا عن مكونات شخصية الإنسان: المستوى العقلي، والمستوى الانفعالي/العاطفي، والمستوى الحسي/الحركي، وهو ما يعبر عنه علم النفس المعرفي حاليًّا بثلاثية: المعرفة الخالصة، ومعرفة الفعل أو المهارة، والمعرفة الشرطية المرتبطة بالكينونة (Savoir; savoir faire; et savoir être)، كما أن الإجابة عن كثير من الإشكالات المثارة في التربية، لا زالت تكرر ما أنتجه الفلاسفة الكبار السابقين؛ مع الإقرار بوجود اختلافات كبيرة بين أصول هذه الأفكار، وتوظيفاتها الجديدة في بنيات وسياقات جديدة ومختلفة.

بربزي عبد الله: فكرة فلسفة التربية موجودة في ماهية الإنسان الجديد، وفي طبيعة الإنسان، وفي ميلاد الإنسان الجديد منذ روسو إلى نتشه؛ ولذلك اقترن مفهوم التربية الجديد بميلاد هذا الإنسان، فهل يمكن تحديد صفات هذا الإنسان الجديد الذي تنشده فلسفة التربية؟

عزيز بوستا: بما أن الفلسفة تعد من أكثر الإنتاجات الفكرية تعبيرًا عن روح عصرها؛ فإن تركيز الفلسفة الحديثة والمعاصرة على الإنسان، لم يكن وليد صدفة؛ بل جاء نتيجة التحولات "الجذرية" التي عرفها الفكر الغربي، ابتداءً من عصر النهضة وفلسفة الأنوار، وانتهاءً بفلسفة الحداثة؛ حيث تم التركيز على تحرير الإنسان من قيود ثقافة العصور الوسطى، التي أولت الأهمية القصوى للمفارق والثيولوجي، على حساب كل ما يمت بصلة للمادي والإنساني، وكان لا بدّ لفلسفة التربية أن تجسد هذا التحول؛ فدفاعها عن فكرة حرية الإنسان، وحرية الطفل، والدعوة لتحريره من كافة القيود التي كبلته بالتربية التقليدية، والتي كانت تكرّس أوضاع اجتماعية، وسياسية، وثقافية، بدأت تتهاوى بفعل التحولات الكبرى التي اجتاحت أهم دول أوروبا الغربية وشمال أمريكا.

ولعل ما عزز هذه الرؤية الجديدة للإنسان، بالإضافة إلى العامل الفكري والسياسي المشار إليه، هو الطفرة الكبيرة التي شهدتها العلوم الدقيقة والعلوم التقنية الحديثة، وانعكاساتها على باقي العلوم الإنسانية، فتوسع الاهتمام بالإنسان من جميع الجوانب؛ البيولوجية، والسيكولوجية، والاجتماعية، وغيرها، بأساليب ومناهج تتوخى الموضوعية والعلمية، مما جعلها نماذج تحتذى.

وبقليل من الاختزال؛ يمكننا اعتبار آراء فلسفة التربية المعاصرة، بخصوص نظرتها إلى الإنسان الجديد، متراوحة بين من يدعو إلى مجرد توسيع نطاق الحرية في مجال تربية الناشئة، بما ينعكس إيجابًا على تقدم الفرد والمجتمع في ظل الحفاظ على تراثه التربوي، وبين من يدعو إلى القطيعة مع كل أشكال التربية التقليدية، والثورة على نماذجها الجامدة التي تُفقد الفرد حريته، وكرامته، وإنسانيته. كدعوة نتشه إلى تحرير الإنسان من قيود الأخلاق الزائفة، والمشحونة بتمثلات خرافية وميتافيزيقية تشكل أساس ما يُعتبر حضارة إنسانية، ويتم تمريرها عبر التربية من جيل لآخر، وفي المقابل، يدعو نتشه إلى اعتماد تربية جديدة، تنشئُ الأطفال على اكتشاف ذواتهم الحقيقية، غير المستلبة، بما تحمله من قوة إرادة محاكية للحياة، ومتفاعلة معها، ومتجاوزة لكل أشكال التضليل والتدجين اللذين مارستهما التربية التقليدية على الناشئة.

بربزي عبد الله: ما الأسس الإبستمولوجية لعلوم التربية؟ وما هي السياقات العلمية والسوسيوثقافية التي ساهمت في ظهورها؟

عزيز بوستا: أتى الحديث عن علوم التربية، كما أشرت سابقًا، في سياق التطورات التي شهدتها العلوم الإنسانية؛ حيث حاولت هده الأخيرة الاقتداء بالعلوم الدقيقة؛ كالفيزياء، والكيمياء، وعلم الأحياء، ومثيلاتها من العلوم التطبيقية/التقنية، التي قدمت للعالم نتائج مبهرة، باعتمادها على مناهج تجريبية/اختبارية، مما انعكس إيجابًا على حياة الأفراد والمجتمع، ومن أهم العلوم الإنسانية التي أسرعت الخطى في هذا الاتجاه؛ علم الاجتماع، وعلم النفس، وعلم النفس الاجتماعي، والأنثروبولوجيا ...إلخ.

وبما أن الموضوع الأساسي لهذه العلوم هو الإنسان، وبه تمت تسميتها علومًا إنسانية، كان لزامًا عليها أن تخصص جزءًا مهمًّا من إنتاجاتها للتربية، باعتبارها الوسيلة التي تنقل الكائن الإنساني من حالته البيولوجية الحيوانية الأولى، إلى الحالة الإنسانية العاقلة؛ فكان ظهور علوم التربية في هذا السياق، تعبيرًا عن ضرورة إبستمولوجية أملتها سيادة النموذج "العلمي"، المستمد من العلوم الدقيقة التي أبانت عن نجاحها بفضله.

ولا بدَّ من استحضار أحد أهم العوامل التي ساهمت بفاعلية في بروز علوم التربية إلى واجهة المشهد الفكري والثقافي في العالم الحديث والمعاصر، ويتمثل في السياق السوسيوثقافي، الذي عرفته المجتمعات الغربية، والمتمثل في انتشار الفكر الليبيرالي، وتطوير الممارسة الديموقراطية، والانفتاح على حقوق الأفراد والجماعات والأقليات، مما سنجد له آثارًا واضحة في كل فلسفات التربية الحديثة والمعاصرة.

بربزي عبد الله: لماذا نتحدث عن علوم التربية بصيغة الجمع، وليس بصيغة المفرد؟

عزيز بوستا: مع بداية النزوع نحو اتباع المنهج العلمي في نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، اقتداءً بالعلوم التجريبية، وبعد التراكم الكبير الحاصل في ما أسميناه "أدبيات التربية"، والذي يشمل؛ كل ما راكمه الفلاسفة، والأدباء، والمثقفون على اختلاف تخصصاتهم، عن التربية بمعناها الواسع، ورغبة في تأسيس خطاب علمي تربوي يتجاوز عموميات أدبيات التربية، شرع الباحثون في هذا المجال يتحدثون عن "علم التربية" بصيغة المفرد، أو البيداغوجيا (Pédagogie)، المركبة من كلمتين: Peda وتعني الطفل، وgogie وتترجم بالعلم، ليدل المركب منهما على: "علم تنشئة الطفل" أو "علم التربية"، وقد استمر النقاش طويلًا بين كبار الباحثين في هذه الفترة، أمثال: دوركهايم Durkheim، وهوبير Huber، وميالاري Mialaret، وغيرهم، عن مدى علمية هذا المولود الجديد، وطبيعة علاقته بالتربية كممارسة عملية.

وبعد التطور الهائل، والإنتاج الغزير الذين حققهما علم النفس عامة، وعلم نفس الطفل بشكل خاص، بدأ المصطلح السابق يتراجع، ليحل محله مصطلح السيكوبيداغوجيا Psychopédagogie، أو "علم النفس التربوي"، وظلَّ هذا المصطلح منتشرًا في مراكز تكوين المدرسين بمختلف مستوياتهم إلى وقت قريب.

لكن التطورات الكبيرة التي حصلت في علوم حقة، وعلوم إنسانية أخرى، اقتحمت بدورها المجال التربوي، وأبلت فيه بلاءً حسنًا؛ كالفيسيولوجيا، وعلم الاجتماع، والسيكوسوسيولوجيا، والأنثروبولوجيا، وعلم الاقتصاد، وغيرها. ووعي الباحثين في هذا المجال بتعقد الظواهر التربوية، وعدم قدرة أي علم بمفرده، مهما بلغت درجة أهميته، كعلم النفس، على الإحاطة بكل جوانب أية ظاهرة تربوية تخضع للدراسة العلمية، كل ذلك جعل المهتمين بالتربية، يفضلون استعمال مصطلح "علوم التربية" بصيغة الجمع، لتشمل كل العلوم الإنسانية والدقيقة، والتي تدرس الظاهرة التربوية من إحدى الزوايا الممكنة؛ كفيزيولوجيا التربية، وسوسيولوجيا التربية، وسيكولوجيا التربية، وسيكوسوسيولوجيا التربية، واقتصاديات التربية، وغيرها من العلوم المتبلورة حديثًا. ولعل العلم الذي أضيف إلى علوم التربية، وأثار أكبر نقاش بين المهتمين بالتربية، وانقسموا بسببه بين مؤيد ومعارض ومتحفظ، هو: "فلسفة التربية"؛ إذ كيف يمكننا استساغة تحول الفلسفة إلى نقيضها، الذي هو "العلم"، وهي لم تنفصل بعد عن أسلوبها التأملي، وأسئلتها الجوهرية والغائية، والتي تستعصي على الخضوع لمعايير المناهج التجريبية.

ويميل أغلب الباحثين الجادين في هذا المجال، إلى أن فلسفة التربية، كنمط معرفي جديد ضمن علوم التربية، يكتسب أهمية قصوى من خلال أدواره الجديدة التي لا يجب أن تستنسخ الأدوار التقليدية التي مارستها الفلسفات النسقية الكبرى، والتي كانت تُخضع العقل العملي (الذي تعتبر كل علوم التربية ضمنه)، للعقل النظري؛ بل أصبحت فلسفة التربية المعاصرة، على النقيض من ذلك، في خدمة هذه العلوم، تُنسق بين نتائجها، في إطار دورها الإبستمولوجي الجديد، كفلسفة للعلوم التربوية، ضمن ما أصبح يعرف بــ "تكامل التخصصات" (L’interdisciplinarité)، كما أن أسئلة فلسفة التربية الأساسية هي: ماذا نريد من الفعل التربوي؟ ولأية غايات؟ وما مواصفات التلميذ والمدرسة الذين ننشدهما؟ كلها أسئلة ضرورية لقيادة الفعل التربوي بروية وتبصر، بعيدًا عن بعض النزعات "العلموية"، والتكنوقراطية التي تُضمر خلفيات إيديولوجية؛ بل ومقاصد غير علمية، تكمن في الدوائر الموجهة للأبحاث العلمية نحو أهداف دون غيرها، كما أوضح ذلك هابرماس بجلاء في كتابه "العلم والتكنولوجيا كإيديولوجيا" (LA TECHNIQUE ET LA SCIENCECOMME IDÉOLOGIE).

وتجدر الإشارة إلى أن مصطلح علوم التربية، الذي أطلق بصيغة الجمع، بقدر ما يُوسع مجال الاهتمام بالظاهرة التربوية، بقدر ما يطرح إشكالات إبستمولوجية عن هوية هذا العلم المتشظّي، والذي لا نكاد نجد لبعض فروعه رابطًا على مستويات المنهج، والأدوات المستعملة، والنتائج.

ويبدو أن الاتساع الكبير للظواهر التربوية التي تدرس الفعل التربوي الممارس في كل ميادين الحياة؛ في الشارع، والأسرة، والمسجد، والمدرسة، ومختلف المنظمات، والمؤسسات، ووسائل الاتصال، و(الإنترنت)، وبين الأفراد والجماعات، ...إلخ، تدفع في اتجاه استقلالية كل علم من هذه العلوم التربوية، لتتمكن من السيطرة العلمية على موضوعها، دون أن نهمل ضرورة جمع نتائجها جميعًا، واستثمارها، في ظل رؤية فلسفية متماسكة، تخدم المجتمع والفرد المنشودين، وهي مهمة فلسفة التربية بامتياز. فكما لم يعد مستساغًا أن نتحدث عن متخصص في علم النفس عمومًا؛ إذ لا بدّ من التركيز على فرع من فروعه؛ كعلم نفس الطفولة، أو علم النفس الإكلينيكي/ المرضي، ...إلخ، كذلك الشأن بالنسبة للمتخصص في علوم التربية، فإن أراد الباحث تقديم قيمة علمية مضافة، لا بدّ أن يتخصص في أحد فروعه؛ كعلم النفس التربوي، أو سوسيولوجيا التربية، أو الإدارة المدرسية، أو غيرها.

بربزي عبد الله: باعتباركم أحد الباحثين المهتمين بعلوم التربية في المغرب، تدريسًا وبحثًا؛ فهل يمكن أن نتحدث عن هوية علوم التربية في المغرب من الناحية المهنية والعلمية؟ وما تقييمكم للإنتاج العلمي المغربي في هذا المجال؟

عزيز بوستا: يلاحظ أي مهتم بعلوم التربية، مدى غزارة التأليف في هذا المجال في المغرب خلال العقدين الأخيرين؛ حيث برزت أسماء كثيرة، وكتب، ومقالات، وأطاريح جامعية عديدة، وهو إنتاج يمكننا تصنيفه إلى نوعين:

1- النوع الأول: يستعرض ما يروج من أفكار ونظريات تربوية، على المستوى العالمي عمومًا، والغربي خصوصًا. ويتراوح بين مدافع عن هذه النظريات التربوية، ومشجع على تبنيها، وبين من يدعو إلى تهذيبها، وتكييفها مع خصوصياتنا وظروفنا المختلفة. كما أن هناك موقفًا ثالثًا يميل إلى نقدها ورفضها، ومن أنصار هذا الموقف الأخير، وهم قلة، مَن يبحث في تراثنا العربي الإسلامي عما يماثلها لإعطائها مشروعية، من جهة، أو لإثبات سبقنا العلمي، وتقدم أسلافنا القدامى على كل ما يردنا من المجتمعات الغربية المعاصرة.

2- النوع الثاني من الإنتاجات: يتصدى لبعض الظواهر التربوية التي يعاني منها مجتمعنا، باعتماد مناهج البحث الميداني، في مجالات مختلفة، تشمل مختلف مؤسسات التنشئة الاجتماعية، وهي في غالبيتها؛ بحوث أكاديمية، وأطاريح جامعية.

ولعل الدافع الأكبر لهذا الزخم في الكتابة في علوم التربية ببلادنا، يرجع لسببين رئيسين:

أ- الإصلاحات الجارية بمنظومتنا التربوية، منذ أواسط العشرية الأخيرة من القرن العشرين إلى الآن، وما شابهها من نقاشات وتعثّرات، دفعت كثيرًا من الباحثين إلى الانخراط في الدراسة والتأليف بشكل فردي، في غالب الأحيان، وتحت إشراف وتمويل بعض المؤسسات الرسمية؛ كالمجلس الأعلى للتعليم، ومنظمة التضامن الجامعي، في بعض الأحيان، مما يجعلنا نستنتج أن تفاقم أزمة المنظومة التربوية، يسير بالموازاة مع الزيادة في الإنتاج التربوي، وكثرة المشاريع والمقترحات الإصلاحية، ولعلها ملاحظة عالمية، تنطبق بنفس الشكل على باقي دول العالم.

ب- يلاحظ أيضًا؛ رواج متزايد للمؤلفات التربوية بشكل موسمي؛ فكلما اقتربت مواعيد اجتياز موظفي وزارة التربية الوطنية لامتحانات الترقية المهنية، وكذا مواعيد مباريات ولوج الطلبة لمراكز تكوين المدرسين، ولعل هذا ما جعل كثيرًا من دور النشر تتحمل مسؤولية نشر كثير من المؤلفات التربوية على نفقتها، وبشروطها الخاصة؛ لأنها تضمن لنفسها ترويج الحد الأدنى من هذه المؤلفات، بما لا يعرضها للخسائر المالية، بينما لا تقبل نشر مؤلفات في مجالات معرفية أخرى، كالفلسفة مثلًا، بنفس الشروط.

أما بخصوص السؤال المتعلق بمدى تعبير هذه الإنتاجات، في علوم التربية، عن هوية مغربية محددة؛ فأعتقد أننا لم نصل لذلك حتى على المستوى العربي، ولو جمعنا كل ما ينشر في كافة الأقطار العربية، ولازالت أغلب الكتابات عندنا، تتلون بألوان التيارات الفكرية السائدة، سواء كانت سلفية، أو تقليدية، أو حداثية/ ليبيرالية. دون أن تصل إلى مستوى الإبداع والابتكار المتميز، والذي يؤهلها لتصنّف كإنتاجات عالمية.

ولعل هذه الوضعية، في نظري المتواضع، نتيجة منطقية لغياب مختبرات علمية فعالة، خاصة في علوم التربية، ومدعومة بمشاريع تربوية مجتمعية، تدافع عنها الطبقة السياسية، وتسعى بكل إمكاناتها إلى تحقيقها على جميع الأصعدة، فكما أشرنا سابقًا، تظل أغلب الأعمال العلمية لباحثينا، ثمرة مجهودات فردية ومبعثرة.

أما على المستوى المهني في المؤسسات التربوية، ومراكز تكوين الأساتذة؛ فتعيش علوم التربية حالة اغتراب؛ إذ غالبًا ما يتم التعامل معها كنظريات، وأفكار للاستهلاك "التكويني"، أو من أجل اجتياز امتحانات الترقية والتوظيف، وقلّما يُنظر إليها باعتبارها عنصرًا أساسيًّا في بناء الكفاية المهنية لأي مدرّس، ومفتاحًا رئيسا لتحليل الممارسة المهنية، وفهمها، والتحكم بها.

ولعل هذا المنظور الضيق لعلوم التربية يرجع، بالإضافة إلى ضعف مأسسة البحث العلمي الموجّه والمدعّم من طرف الدولة، كما أشرنا أعلاه، إلى التأخر الملحوظ لدى القاعدة العريضة لمجتمعنا العربي/المسلم في الأخذ بناصية العلم، والعقلانية، والانفتاح الإيجابي على أي جديد.

مجتمع لم ينضج فيه الرأي العام بعد، ولازالت استطلاعات رأيه تبتعد كثيرًا عن الحقائق الموضوعية، ولم يتجاوز منطق التفكير العشائري والقبلي، ولم تعصف بأفكاره التقليدية رياح التنوير، مع ضعف الإمكانيات اللوجيستيكية، وهشاشة البنيات التحتية، وغياب التحفيز، سيبقى مرتبطًا، حتى في أرقى المهن، كمهنة التدريس، بنماذج (باراديغمات) تقليدية في التدريس، تنزع نحو الجوانب التقنية البسيطة (جذاذات، تقنيات)، وتنفر من كل ما له علاقة بالتنظير، والتجديد، والمغامرة، هذا من جهة؛ ومن جهة أخرى، تطرح سلطات التربية والتكوين نماذج نظرية بديلة؛ كالباراديغم (عملي، نظري، عملي)، الذي بنيت عليه عدة التكوين الجديدة، لكنها لا توفر له كل شروط نجاحه، وأهمها؛ التكوين المستمر والمعمّق للمدرسين لاستيعابه وتنفيذه.

بربزي عبد الله: أشكركم أستاذي الدكتور بوستا على هذا السفر العلمي الممتع، وأتمنى لكم مزيدًا من التألق في مساركم المهني والعلمي.