فردانية التجربة الدينية: وليام جيمس أنموذجًا


فئة :  مقالات

فردانية التجربة الدينية: وليام جيمس أنموذجًا

فردانية التجربة الدينية:

وليام جيمس [1] أنموذجًا


غالباً ما يَتّخذُ الدين La Religion صبغة جماعية، تُؤسّس لاختلافها وتميزها داخل مجال جغرافي وسياسي محدد، وقد يُعرف الدين بوصفه شعارًا لإثبات هوية دولة معينة، باعتباره ظاهرة سوسيولوجية، أو معتقدًا يعتنقه أغلبية المنتميين إليها، لكن السؤال الذي يطرح نفسه بحدة يتمحور حول هذا "الإنسان"، الذي يجد نفسه يعتنق ديانة ما، في الوقت الذي يجهل فيه الكيفية التي صار بها مُتدينًا وسط جماعته؛ فإلى أي حد يصدق القول بأن للتدين قيمة عملية ترتبط بالواقع الفردي؟ وما الذي يجعل النزوع نحو المُقدس خاصية إنسانية وفردانية؟وبأي معنى أسس رائد الفلسفة البراغماتية لمفهوم التجربة الدينية في فلسفته التعددية والعملية؟

  تُعدُّ عملية التطهير تحريرًا للوعي، وتحقيقًا للنزعة التفاؤلية؛ إذْ تشعر الذات أثناء التجربة الدينية باتحادها مع الله، مما يعكس أرقى درجات الشعور النفسي الذي يستحوذ على الفرد عندما يشعر بوجود كائن أعظم منه.

تنبني أهمية "التجربة الدينية L’expérience religieuse"في تأسيسها لنزعة ارتقائية إنسانية فردية تفاؤلية، تُمكّن الفرد الذي يعتقد في المطلق من تجاوز التشاؤم، بوصفه مرضًا دينيًا يُكرس نظرة سوداوية نحو الحياة التي تستحق أن نعيشها؛ فالتخلص من "التشاؤم" يتم عبر ما يسميه جيمس "النزعة الارتقائية méliorisme le"، إذ ينظر الفرد إلى الأشياء باعتبارها نافعة ولها قيمة عملية، ويتغلّب على الشّر بحُسبان الفرد "سليم العقل". تتوافق عملية تطهير الروح مع "التجربة الدينية" التي تُخلص الإنسان من الخطايا عبر "التجربة الصوفية[2]"، حيث يتماهى "الجانب الروحاني" للإنسان مع العالم اللامرئي، مُتجاوزًا قدرات الإنسان الحسية. بهذا المعنى، تُعدُّ عملية التطهير تحريرًا للوعي، وتحقيقًا للنزعة التفاؤلية؛ إذْ تشعر الذات أثناء التجربة الدينية باتحادها مع الله، مما يعكس أرقى درجات الشعور النفسي الذي يستحوذ على الفرد عندما يشعر بوجود كائن أعظم منه.

نعتقد "بالمطلق"، رغم عدم وجود أدلّة موضوعية ومنطقية تُقنع قوانا العقلية برأي جيمس، «لأن الاعتقاد ولو في الكاذب خير من عدم الاعتقاد وانتظار الأدلة الموضوعية»[3]، وهذا يعني أن الاعتقاد لا يفترض التحديد وفق برهنة عقلية؛ فإثبات وجود الله لا يمكن البرهنة عليه بواسطة العقل، إذ يُعد "الاعتقاد بوجود الله"من المنظورالبراغماتي اعتقادًا صحيحًا لا ينفصل عن الوقائع Les faits العملية.

وإذا كان جيمس لم يكلف نفسه عناء البحث عن الأدلة الأنطولوجية، والخوض في المجادلات والمنازعات الميتافيزيقية، والبحث في ما إذا كان الله موجودًا، أم غير موجود، فإن عمله اتّجه صوب معرفة علاقة الجانب النفسي الإنساني بالإلهي "المتجاوز للحواس l’invisible"، وهذا راجع إلى كون المفهوم السيكولوجي "للاعتقاد"، لدى جيمس، قائم على التعدد، الشيء الذي ميزه؛ أي جيمس، وأبرز اختلافه عن رجال الدين، فاعتُبر مُؤسسًا لـ"علم النفس الديني".

  اتّجه عمل جيمس صوب معرفة علاقة الجانب النفسي الإنساني بالإلهي "المتجاوز للحواس

فاهتمام جيمس بالنتائج يدل على كون"الاعتقاد بوجود الله" يجلُب نتائج مُرضية تُساعد الإنسان على تحسين وضعيته الواقعية من جهة، وارتقائه بحالته النفسية من جهة أخرى؛ فشعور الإنسان بالراحة لا يعد نتاجًا للإيمان في حد ذاته، بل يعد نتيجة لارتباط الاعتقاد بالعمل والسلوك. ويتجلى الجانب العملي Pratique في الواقع الذي نعيش فيه، بحسبانه يبرز في "التجربة الدينية". لا تُشكل المعرفة النظرية والفكرية بذلك جوهرًا "للتجربة الدينية"،مادامت التجارب الدينية تتعدد وتتنوع بتعدد الأفراد individus المُتديّنين داخل المجتمع.

تتضح "واقعية" le réalisme جيمس المعادية "للمثالية" عبر تطرقه "للتجربة الدينية" باستخدامه منهجًا عملياً تعدديًا، وجّه من خلاله نقدًا للتصورات الدينية التي تجعل الإنسان خاضعًا لضرورة واحدة، وتجعل العالم الذي نعيش فيه، والذي وُلدنا فيه، تابعًا لعالم آخر يتصف بالأفضلية "Monde meilleur".

يؤسس جيمس إذن، لفكرة تتلخص في الإقرار بجمالية هذا الكون، مُتجاهلاً القول الآتي: «أنت برُوحك وقلبك المريضين الكل واحد في الله]...[ ومع الله، وبالله كل شيء جميل، سواء كنت تبدو في عالم الظواهر الفانية المتناهية فاشلاً أو ناجحًا».[4]

فقيمة الحياة من منظور جيمس ترتبط بالعالم الواقعي الذي نحيا فيه، على اعتبار أن الحياة تستحق أن نعيشها la vie veut être vécue، عكس الاعتقاد بوجود عالم مُفارق خيّر وجميل. وعلى هذا الأساس، يتوجه جيمس إلى الفرد بضرورة الاعتقاد بأن الحياة تستحق أن نعيشها دون خوف ولا تردد، وبأن الإيمان سيُساعد الفرد على خلق هدفه الخاص، انطلاقًا من كون كل فرد يتصور الواقع من خلال علاقته الخاصة به.

  تتضح "واقعية" le réalisme جيمس المعادية "للمثالية" عبر تطرقه "للتجربة الدينية" باستخدامه منهجًا عملياً تعدديًا، وجّه من خلاله نقدًا للتصورات الدينية التي تجعل الإنسان خاضعًا لضرورة واحدة

إن لتبرير "الحياة الروحية" لدى جيمس ما يدعمه، إذْ يُعَد أثر التجارب الجزئية الناتجة عن "الاعتقاد" بالعالم ما فوق الطبيعي ثابتًا في العالم الذي نعيش فيه، ولا استقرارية "التجربة الدينية" وزوالها يُظهر حسب تصور جيمس أعلى درجات الوعي التي يحس بها الفرد، وذلك لأن فردانية "التجربة الدينية" وتعددها يتوافق مع تعدد الأفراد المتدينين داخل المُجتمع. إنّ "التجربة الدينية"، بهذا المعنى، ليست طقسًا دينيًا كونيًا. والمتأمل في فلسفة جيمس، يخلُص إلى كونه لا يتحدث عن تجربة واحدة، بل هناك تجارب متعددة تطرّق إليها في كتابه:"Les formes multiples de l’expérience religieuse". وقد أكد وليام جيمس، على هذا الأساس،على أنّ الفرد يُعدّ فاعلاً ومُبدعًا في الواقع الذي يعيش فيه، لما له من قُدرة على تخليص نفسه بنفسه من "التشاؤم"، وبهذا يُكرس المنهج العملي البراغماتي "للنزعة الإنسانية Humanisme"، التي تعكس الثقة بقدرات الفرد، وتُرسّخ الإيمان بالقابلية للتغير والتطور الذاتي، ما دام كل "اعتقاد" حول الواقع يعد إنسانيًا.

وجّه جيمس اهتمامه صوب "التجارب الدينية"، كونها علامة على التعدد والتنوع، إذْ تتجلّى أهمية "الاعتقاد" بوجود الله، في خلق معنى لحياة المُتديِّن، وتكتسب "التجربة الدينية" دلالتها من داخل التجارب المتدفّقة التي يُحيل بعضها إلى البعض الآخر، فتدفُّق Flux التجارب يُعدّ في الوقت ذاته، برأي جيمس، نفسيًا mentaux وجسديًا physique، يهدف إلى التأكيد على استمرارية التجربة بوصفها فرضية حية l’hypothèse vivante تضمن استمرارية التطور الذهني المُحايث لعملية الجريان الفعلي للتجربة واستباقه للوعي عبر تطويره للجانب النفسي.

إن حقيقة "التجربة الدينية" منظورًا إليها من زاوية "الحياة" ليست ثابتة وقارّة، لأننا لا نتحدث من هذا المنظور عن تجربة واحدة شمولية، ولا عن بناء مجرد، بل إنّ ما يُميّز "التجربة الدينية" هو ديناميكيّتها وتحوّلها: إنها لا تعرف استقرارًا ولا ثباتًا، ومن ثم فالواقع يعد مُرادفًا للدينامية ولحركية التجربة، وهذا يتوافق مع طبيعة الواقع المتغير والمُتعدّد الذي تطبعه الصيرورة والتطور. على هذا الأساس، يعد جيمس "داروين CH.Darwin"1809-1882) متماشيًا مع المزاج البراغماتي، لأنه بإثباتنا أن مراحل الوعي متغيرة نُثبت البراغماتية.

لا تعكس "التجربة الصوفية" من المنظور العملي البراغماتي ابتعادًا عن الواقع الذي يعيش داخله الفرد، ولا تجسيدًا للعُزلة في الحياة، بل إنّ التّصوف يُبرز فلسفة للحياة، وهدفُه الارتقاء بالنفس الإنسانية عبر الشعور الوجداني من جهة، وبلوغ السعادة الروحية بحُسبانها حالة وجدانية يقف الإنسان عاجزًا للتعبير عنها من جهة أخرى، فإلى أي حد يصدق القول بأن تجربة المتدين، التي يفترض جيمس من خلالها وجود عالم يتجاوز العالم الحسي، لها نتائج عملية في الحياة؟

تنبني "التجربة الدينية" على مبدإ "الفردانية" المُؤسَّس على اختلاف أنواع "الفعل L’action" بوصفها موضوعًا حيويًا، إنها ليست حالة نفسية منعزلة عن الواقع، بل تُعد بالمقابل حالة نفسية ووظيفة لمعرفة الواقع، كما أنّ عدم انفصال "التجربة الدينية" عن الحياة الفعلية، والمنفعة العملية الواقعية يُؤسّس لابتعادها عن المجال النظري، ويُؤكّد بالمقابل على النزعة الطبيعية الإنسانية، فإننا لا نلمس فعالية الشيء في الذهن، برأي جيمس، بل في الواقع العملي الذي يُحدّد علاقاتنا "الإنسانية" ويُوحّدها داخل نطاق "المنفعة". من هذا المنطلق، يتضح أن "التجربة الدينية" ترتبط بشيء حي وواقعي مادمنا «بحاجة لواقع عملي»[5]، يستجيب لرغباتنا وميولنا، ويتلاءم مع حياتنا النفسية.

  إننا لا نلمس فعالية الشيء في الذهن، برأي جيمس، بل في الواقع العملي الذي يُحدّد علاقاتنا "الإنسانية" ويُوحّدها داخل نطاق "المنفعة"

لقد قدّم جيمس تصورًا جديدًا "للتجربة الدينية"، بحُسبانها حالة نفسية لا تنفصل عن الواقع العملي، فلا قيمة للاعتقاد باستقلال عن الواقع المعيش، ولا يستقل وجود "الحقيقة الدينية"عن الفعل؛ أي السلوك، باعتبارنا نعيش في الحياة. فأفكارنا واعتقاداتنا ترتبط بفعالية الفعل، مما ينتج عنه تفادي السقوط في الحقيقة الخالصة المجردة أو الحقيقة القبلية الدوغمائية. وعلى هذا الأساس، يوصف الارتباط بالحياة في تطورها وديناميتها بكونه تعبيرًا عن حقائق لانهائية وغير ثابتة؛ إذْ بالقيمة الفعلية الواقعية نفهم الحياة، وننفتح على المستقبل.

وبإثبات الأفكار الدينية لقيمتها في الحياة، ومساهمتها في الانفتاح على الواقع، تضمن "التجربة الدينية"صحتها وصلاحيتها، فهذه دعوة صريحة من جيمس للإنسان لكي يرتبط بالواقع، بحُسبانه قادراً على أن يجعل من النزوع نحو المقدس خادمًا لمصالحه الدنيوية.

تكمنقوة "التجربة الدينية" في القدرة على مُواجهة الواقع، وتتحدد دلالة الواقع وقيمته بالنسبة إلى الفرد انطلاقًا من الأثر العملي،وليس للوثوق في مطالبنا الدينية من معنى إلا في توجيهنا لكي نعيش في هذه الحياة، إذ تُساعد "التجربة الدينية" الفرد المُتدين على تقبّل الواقع الذي يعيش داخله، بجعله أكثر تفاؤلاً وتوافقًا مع الحياة.

   تُعد "التجربة الدينية" فكرة صحيحة ونافعة، مادامت تحقق نتائج مُرضية لحياة الفرد، وتُؤثر على نفسية المتدين

لنقُل إنها تجربة شخصية، فالدين من المنظور العملي يعد أمرًا فرديًا في جوهره، وتجربة داخلية تختلف من شخص إلى آخر، إلى الحد الذي تشكل فيه هذه التجربة استثناءً يميز متدينًا عن آخر، وعلى هذا الأساس تُعد "التجربة الدينية" فكرة صحيحة ونافعة، مادامت تحقق نتائج مُرضية لحياة الفرد، وتُؤثر على نفسية المتدين، وتُجسّد الكيفية التي من خلالها تتبدّى الحقيقة الإلهية للفرد، وصولاً إلى الشعور بضرورة وجود الله، مما يولد لدى الفرد شعورًا بالارتباط بالإلهي؛ أي بوجود كائن سرمدي يُعيّن الفرد ويرعاه، لذا «فالطريقة الوحيدة التي نستطيع من خلالها الحكم على التجربة الدينية، باعتبارها صحيحة، تكمن في اختبار الاعتقادات الفردانية الفعالة، ومدى نجاحها وفعاليتها في الحياة».[6]

تهدف "التجربة الدينية" إلى تخليص الفرد من الخوف، بسعيها نحو تحقيق السعادة النفسية، وتطهير النفس عبر الالتحام بالله في التجربة الصوفية، ومن هذا المنطلق، لا يبدو أن الفرد سيحتاج إلى سلطة راهب أو وساطة قسيس، ما دام يخلّص نفسه بنفسه، انطلاقًا من الصلاحية المناسبة لحياة فرد ناجحة دينيًا وأخلاقيًا.


[1]- وليام جيمس William James 18421910-: رائد الفلسفة البراغماتية Le pragmatisme بوصفها Méthode منهجًا، يُعتمد لتوضيح الأفكار وتقديم المعنى للمفاهيم، والحسم في المُجادلات الميتافيزيقية، بالإضافة إلى كونه عالم نفس ديني.

[2]- التصوف أو العرفان من الناحية الاشتقاقية: في الإغريقية: Mustikos؛أي ما يشبه الأحجية، والألغاز في الفلسفة وفي الدين. التصوف اعتقاد يمكن من بلوغ حقيقة أصيلة (جوهرية)، عُليا ولا يمكن للغة التعبير عنها، عن طريق اتحاد، أو حلول، مع المطلق. بالقدر الذي تعد فيه التجربة الصوفية (التصوف) غير قابلة للاستنساخ، لأنها تجربة متفردة لا يمكن عيشها بالطريقة نفسها كما لا يمكن محاكاتها، فهي كذلك تجربة لا يمكن إنكارها أو التشكيك فيها. ولذلك ليس هناك موجب لتقاسمها ما لم يتم تجريبها. غير أن التصوف تنقصه القدرة على عرض معايير الحقيقة التي يدعي امتلاكها. راجع بالخصوص:

Laurence Hansen-Love (Dir.), La philosophie de A à Z ; ED Hatier, Paris 2000, P 304

[3]- James(W): La Volonté De Croire; Trad, Fr. Ed; Seuil, 2005, P 54

[4]- William James: Le Pragmatisme et la religion; in; Le Pragmatisme; Traduction Française; Introduction; Bergson(h); Edition Flammarion; 1947; P 263

[5]- James (W): The Principles of Psychology, ED Authorized, vol II; 1950; p 295

[6]- James (w): La Volonté de croire; Trad; Fr. Ed; Seuil, 2005, p 56