في "البسط الثقافي القرآني" وقيمه الحديثة


فئة :  مقالات

في "البسط الثقافي القرآني" وقيمه الحديثة

في "البسط الثقافي القرآني" وقيمه الحديثة

1- يشهد عالَم المسلمين نزوعًا إحيائيًا جارفًا، يقوم على أن التراث يشتمل على كل المقومات القادرة على مواجهة واقع الهيمنة الحضارية الحديثة التي يمارسها المركز؛ أي الغرب، على الأطراف المتخلّفة حضاريًا. تكمن المعضلة في هذه المقولة التي يرتكز عليها خطاب "التيار الإحيائي" في أنّه لا يلتفت إلى طبيعة التغييرات الاجتماعية والاقتصادية والمعرفية الهائلة التي عرفها عالم الإنسان، منذ الثورة الصناعية التي تسارعت وتيرتها بصورة غير مسبوقة مع الثورة المعلوماتية، لذلك لا يتردد خطاب الإحيائية الإسلامية في تجاهل هذه التغييرات النوعية، ورفض استيعاب الخلفية الفكرية والمبدئية التي سوّغت تلك التغييرات، مما يجعله في قطيعة معها وعجز عن تطويرها أو تجاوزها، رغم إقراره العملي بأنه لا مفرّ من التعامل معها في مستوياتها الحضارية التقنية، هذا من جهة. ومن جهة ثانية استفاد "التيار الإحيائي" من حالة ثقافية سائدة في عموم البلاد الإسلامية تتيح فاعلية خاصة للتصوّر الديني، مما يجعل "الإنسان" في تلك المجتمعات يبقى كائنًا متديّنًا، حتى إن عبّر عن تنكّره لتعاليم الدين وشعائره. إن أهم ما في هذا السياق الثقافي هو أن هذه "الفاعلية" تظل تراثية، إذ لم تبلغ حدّ إكساب التديّن الكامن في البنية الثقافية طبيعةً ونسقًا معاصرين. لقد ظل التديّن رد فعل، في الغالب الأعم، شكلي وعاطفي؛ فهو لا يكاد يبالي بالتناقضات السلوكية التي يقع فيها، ولا يحسن الالتفات إلى المقتضيات الاجتماعية والفكرية والقيمية التي يفرضها الإيمان باعتباره في الإسلام منطلَقًا يشهد به المؤمن على الناس ويكون به فاعلاً في الواقع الإنساني المتجدد.

نحن نشهد حالة انفصام مركَّب يغذّي كلُّ طرف منه الطرف الآخر، مما يعقّد حالة المسلم بصورة خاصة ويجعل البعض يفسر ذلك بتعذّر دخول المسلمين جديًّا الأزمنة الحديثة.

2- حقيقة أزمة المسلم اليوم، أنه لم يتوصل إلى ضبط أساس فكري وموضوعي لموقفه الحضاري والوجداني والإنساني، لذلك لا مناص من طرح جملة من الأسئلة تتعلق بـ:

- خروج المسلم من السخط على الأزمنة الحديثة.

- كيف يكون الخطاب الديني خطاب فاعلية ومعاصَرة.

كيف تكون مساءلة الذات منطلقًا لتغيير طبيعة تلقّي المسلم لثقافته الدينية ولنظرته إلى ذاته وإلى الآخر المختلف في مجتمعاتنا التي تعاني من ضعف تكيّفها مع عصرها، ومن تضخّم نظرتها لذاتها ولاتاريخية رؤيتها للعالَم؟

تتوفر جملة من المداخل للإجابة على هذه الأسئلة، ينتظمها محور رئيس متعيّن في طبيعة علاقة الذات بالآخر، وذلك لكون نظرتنا إلى ذاتنا مرتهنة بعلاقتنا بالآخر. ولتناول هذا المحور يقدم لنا القرآن الكريم، باعتباره "كتاب هداية" وحاملاً لخطاب تغيير للإنسان المؤمن، تعريفًا مميزًا لهذا الإنسان فيقدمه على أنه:

-كائنٌ متميز في سُـلّم الموجودات بالإرادة وبإمكان الوعي بمسؤوليته؛ أي أنه فاعل لذاته، في عالَم هو موضوع المعرفة وأحد مصادرها.[1]

-كاشفٌ لذاته، يرتقي بها بصفتها مجالاً أعمق من نفسّية الفرد العادّية معتمدًا في ذلك على تجربة حيوية تنطلق من توقه إلى ذات الحق العليا.[2]

-بانٍ لتجارب واقعيّة متمثلة للخطاب القرآنيّ، مما يجعل إنسانيته في سيرورة مبدعة ومتفاعلة مع أعمق رغبات العالَم المحيط به.[3]

أي أن الإنسان المؤمن في الخطاب القرآني كائن متجدد باستمرار في رؤيته لذاته وللآخر المختلف وللكون اللامتناهي.

3- بالعودة إلى الخطاب القرآني المؤسس لحضارة المسلمين لتفحص مسألة "الإيمان والوحدة" في علاقتهما بقضية "التعدد والاختلاف"، يتبين أن الخطاب القرآني اعتنى بهذه القضية بناءً على الخاصية الدلالية لمفهومي "الإنسان" و"الإيمان" المفتاحين لنظام مفهومي واحد تتأسس عليه قضية التعدد والاختلاف.

لقد تعاطى الخطاب القرآني مع قضية "التعددية" بصورة جديدة فاعلة تجعل حظوظ الأمــة أوفر، إن هي وعت فضل التعايش المثري بين المنظومات الثقافية والدينية والفكرية المختلــفة.

ذلك ما يمكن أن نطلق عليه اسم "البسط الثقافي القرآني"، والمقتضى المنهجي لهذه المقولة هو أن يتحوّل "الإيمان" في الخطاب القرآني إلى طاقة إيجابية، تتأسس عليه شهادة المؤمن على الناس وقاعدة فاعليته في الواقع الإنساني المتجدد. هو رياضة دينية طامحة لمقام الشهود ومتحوّلة إلى فعل حضاري وإنسانيّ حيّ. ويتمثل الإيمان فيما يسميه "محمد إقبال" "الوعي النبوي" الذي تمتحن فيه المنظومة الدينية في سعيها الشهودي بصورة عملية في العالم الدنيويّ؛ عالمِ الحقائقِ المحسوسة التي تعمل على أن تحقِّق وجودَها فيها.[4] على ذلك يكون الإيمان روحيًا ووضعيًا في آن معًا، وهو وعي روحي لا يتجلى فيصبحَ واضحًا لأعين التاريخ إلا بقدر اعتباره لشروط الواقع الموضوعي الدنيوي. من ثم ندرك معنى مقولة "البسط الثقافي القرآني"، وكيف يتيح التعاطي مع التعدد والاختلاف، باعتبارهما مصدر تفعيل الذات بتمثلها للآخر المختلف في معتقده وفكره وسلوكه.

بعد هذا يمكن أن تطرح الأسئلة المباشرة التالية:

-كيف يمكن انطلاقًا من نص الوحي في ضوء مقولة "البسط الثقافي القرآني" الإجابة عن سؤال التعدد؟

-كيف أفصحت آيات القرآن الكريم عن مفهوم الاختلاف؟

-هل تتوفر للآيات القرآنية موجهات منهجية لهذه المسألة؟

4- إذا نظرنا في جانب المضمون، فإن مسألة "التعدد" ترد في القرآن الكريم ضمن حقل دلالي واسع تحدده عبارات مرتبطة بمقصد الخَلْق وما اتصل بمجال الإيمان والكفر من معاني "التكريم" و"المساواة" من خلال النظر إلى كافة الناس، باعتبارهم متساوين، كرّمهم الله تعالى تكريمًا شاملاً لا خصوصية فيه. تتنزل في هذا الحقل مصطلحات من مثل: "التعارف" و"العفو" و"الهداية" و"الرحمة" و"التذكير"، وما ارتبط بسنن التاريخ وسنن التمدن وحراك المجتمعات. ضمن هذا الحقل الممتد تتقاطع جملة من الدوائر مجسّدة قيمة "الإنسان" الجديدة المتجاوزة لما عهدته المجتمعات القديمة، حيث كانت لا تفصل بين التديّن والإكراهات الاجتماعية المقيِّدة والمُنَـزّلـة لمفهوم الإنسان ضمن "خطاب امتثالي" يقصره على فرديّة آسرة وعشائرية طاغية.

هذا ما جعل مبدأ "لا إكراه في الدين"[5] تأسيسًا ثقافيًا حقيقيًا تحدى به الخطاب القرآني النسق الثقافي والديني السائد، سواء أكان متمثلاً في الوثنية أم في النصرانية أم في اليهودية أم في غير ذلك. تكمن خصوصية هذا المبدأ في أنه مثّل خطوة حداثية كبرى في مجالات الثقافة والفكر الديني والاجتماع، ستواجهها عقبات عديدة لما يعنيه هذا المبدأ من إعادة بناء الدين على أنه إيمان بمصير الإنسان من خلال ما ركزه فيه من مفهوم للاستخلاف، وما ينجر عن ذلك من خصائص أساسية للإنسان المستخلف ولنظام الاجتماع الذي يندرج ضمنه.

ينجم عن ذلك أن مبدأ "لا إكراه في الدين"، مثّل ركيزة صلبة لتصور قرآني للإنسان وللدين ولنسق التفاعل مع الآخر المختلف، منجزًا بذلك "خطوة حداثية كبرى" لها أركان تأسيسية واضحة، ولها جملة من القيم الجديدة أو المجدَّدة المتعلقة بالفرد وبالجماعة من مثل: المساواة، والإرادة، والتضامن، والحرية والمسؤولية، والإبداع. تلتحم هذه القيم فيما بينها مُشكِّلة قاعدة مفهومية مميزة.

إن أهم ما في هذه الخطوة القرآنية أنها كانت واعية بأن حداثتها لن تتحقق بصورة آلية أو شكلية. لقد وضعت جملة من الأركان التأسيسية، واعتمدت قيمًا جديدة ومجددة لتصوغ منها علاقة جديدة تؤكد بها أن تلك "الخطوة الحداثية الكبرى" ليست أمرًا مُعطًى أو نهائيًا، بل هي سيرورة وصراع مستمر، يقع إبداع واقع متجدد بواسطته، ويمتلك ثراءً إنسانيًا وماديًا ممتدًا هو محل نزاع متواصل بين قوى عديدة في الداخل والخارج.

5- معنى هذا، أن مقولة "البسط الثقافي القرآني"، ضمن خصوصية التأسيس القرآني للدين بطابعه المفتوح وديناميكيته القائمة على المساواة، تجعل محورية الإنسان في هذا النظام الجديد مشروطة عضويًا بمسألة العلاقة بالآخر. إن نشأة الكائن المتميز في سلّم الموجودات، القادر على اكتشاف ذاته وصناعة إنسانيته بصورة مستمرة ومن خلال تجارب واقعية، لا يمكن أن تتحقق بصورة ذاتية في قطيعة مع الآخر ومع فهمه والتفاعل معه. بناءً على ذلك، فإن قضية "الاختلاف" في البنية القرآنية تصبح مفصلية لاستحضارها قيمة التكريم وما يتولد عنها من تكافئ إنساني وفكري في علاقة الذات بالآخر.

إنه رهان تاريخي داعم للخطوة الحداثية الكبرى يُصبح به "الإنسان" كائنًا تاريخيًا قابلاً للتجاوز، باعتباره في الخطاب القرآني كائنًا متجددًا باستمرار في رؤيته لذاته وللآخر المختلف وللكون اللامتناهي.

تعني تاريخية الإنسان، في ضوء هذه القراءة، أنه يفهم نفسه ليس من خلال التأمّل العقليّ، بل من خلال علاقة جدلية فعلية مع الواقع ضمن التجارب المتجدّدة والموضوعيّة للحياة، ومن خلال تفاعله مع الآخر المختلف؛ أي أنه مدعوّ إلى أن يلد كيانه الخاص بصورة مستمرة.


[1]- انظر مثلا قوله تعالى: "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34)".سورة البقرة 2/ 30...34

[2]-انظر مثلا قوله تعالى: "بَلِ الإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ"سورة القيامة 14/75

[3]-انظر مثلا قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ"سورة الحجرات 13/49

[4]) محمد إقبال، تجديد الفكر الديني في الإسلام، ترجمة. عباس محمود القاهرة لجنة التأليف والترجمة والنشر ط2، القاهرة 1968 ص 142

[5]- سورة البقرة 2/ 256