في التعدد والتكافؤ الإنساني


فئة :  مقالات

في التعدد والتكافؤ الإنساني

 في التعدد والتكافؤ الإنساني:

قراءة في البنية المفاهيمية القرآنية


1- كيف نفسّر عناية القرآن الكريم بالرسالات السماوية السابقة له وتعبيره عن عظيم تقديره لأنبيائها المرسلين وعدّه التصديق بهم ركنا من أركان إيمان المسلم؟[1] وما السبل التي اعتمدها القرآن الكريم لتكريس ذلك التوجه في خطابه؟

ما ينبغي، في البداية، التنبيه إليه في خصوص تفسير تلك العناية الموصولة هو الارتباط الوثيق بين هذا الموقف المبدئي وطبيعة الخطاب القرآني الذي يتميّز بأنه "توحيدي" نسقه لا يرى في التعدد إلا وحدة، وأنه تبعا لذلك ينتظمه "خطابُ معرفة" يلزم الإنسان بكسب المعارف ويجعله مسؤولا عن ذلك.

مؤدى ذلك بروز منظومة مفاهيمية تربط بين التكوّن المعرفي من جهة والمعيار القيمي من جهة أخرى؛ بما يتيح للوعي الإنساني، رغم تناهي قدرات العقل، أن يكون عاملا أساسيا في رد التعدد إلى الوحدة وأنه محتاج في ذلك إلى سند الوحي القرآني من أجل تجاوز أساطير الأولين وفهوم الآباء والأجداد.

مدخل الوحي القرآني لتحرير الذات العربية والإنسانية كان بإقراره بسلطان السمع والبصر والفؤاد، أي سلطان الإدراك الإنساني[2]. بهذا، انخرط الخطاب القرآني، بخاصيته المعرفية المميزة، في مسيرة للحضارة الإنسانية؛ بما عمل على تحقيقه من التحام الوعي الديني بالوعي التاريخي.

لقد كان الوحي القرآني، بتدخّله في التاريخ وتحريره للذات والفعل العربيين من هيمنة الخرافة والتقليد، يريد أن يؤصل تلك الذات؛ أي أن يعيد وضعها ضمن مسيرة إنسانية واعية بتناهيها وغير منقطعة عن سعيها الدائم إلى الحقيقة.

بهذا الالتحام، أصبحت الذات المؤصلة المتمثلة لتراث الإنسانية الثقافي والقيمي والمعرفي أقدر على الفعل والإضافة والتجديد، بحيث تكون أصالتها مشروطة بمدى تواصلها ومواكبتها للمسيرة العلمية الحضارية مواكبة نقدية إبداعية.

2- ضمن تفاعل هذين الخطـّين: خط تأصيل الذات وتفعيلها بإعادة بنائها وفق رؤية الوحي للوجود والعالَم، وخط التداول الحضاري الذي ينقض القول بوجود حضارة خالصة لا تدين للسابقين بشيء ولا تنتظر من الآخرين المختلفين ثقافيا ودينيا أية مساهمة مستقبلية جدية في السيرورة الحضارية؛ بتفاعل هذين الخطين وتكاملهما، يستبين النسق المفاهيمي القرآني في تناوله لمسألة التعدد والاختلاف.

بهذا النزوع الحضاري، التأصيلي والتواصلي، تأسست عناية القرآن الكريم بالرسالات السابقة ومعها اندرج سعي الفكر الإسلامي مجددا، قديما وحديثا، في تجسير العلاقة مع الآخر المختلف.

يبقى السؤال الثاني المتعلق بكيفية تحقق ذلك في عموم المنظومة القرآنية؟

عند النظر في البنية المفاهيمية القرآنية المتعلقة بالآخر المختلف، يتبيّن لنا عنصران: أولهما يتصل بالمبادئ الضابطة لهذه القضية الحضارية الكبرى، وثانيهما يختصّ بالمكونات المفاهيمية للحقل الدلالي الذي تتنزل فيه هذه القضية.

بالنسبة إلى المبادئ، فإنها تبدأ بقيمة الحرية انطلاقا من مبدأ "لا إكراه في الدين"[3] المرتبط بمسألة الإيمان الذي يعدّه القرآن الكريم هبة من الله سبحانه؛ وهو من جهة الإنسان اختيار وشهادة. ما سجلته الجماعة المؤمنة الأولى في مرحلة التأسيس من عناصر القوة والفاعلية تلتقي كلها في مسلك واحد يربط بين قيمة الحرية والإيمان[4].

في مستوى آخر، تبرز قيمة الكرامة الإنسانية التي يتساوى فيها الجميع في قوله تعالى: "لقد كرّمنا بني آدم، وحملناهم في البر والبحر، ورزقناهم من الطيبات، وفضّلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا"[5]. من هذا الإطلاق في التكريم، تنفتح أبواب تحوّل مزدوج: هو تحوّل مع الذات، وتحوّل في فهم الآخر.. ومعه، يصبح الدين عامل وفاق وبناء حضاريا، عوض أن يكون أداة صراع وتنافٍ.

 3- قيمة المسؤولية تأتي تالية، من خلال إقرار مبدأ التعدد الواضح في قوله تعالى: "وإن من أمة إلا خلا فيها نذير"[6] مع المبدأ المناظر له والمرتبط بقيمة العقل التي تناظرها وتكمل بعدها الكوني في آية: "ليس بأمانيِّكم ولا أمانيِّ أهل الكتاب، من يعملْ سوءاً يجزَ به ولا يجدْ له من دون الله وليا ولا نصيرا ومن يعملْ من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا"[7].

تتويجا لهذه المبادئ، تبرز قيمةُ الإحسان التي تتمثل في المستوى الإنساني قيمةَ الرحمة الإلهية كما تؤكدها آية: "وأحسنوا إن الله يحب المحسنين"[8] والتي تفعل المقتضى الإيماني؛ بما يتيح ثراء وامتدادا يتجاوز حدود المساواة الشكلية المجردة، حيث تكون الحسنة بمثلها معوضا إياها بأن تكون الحسنة بعشر أمثالها.

بناءً على هذه المبادئ، كانت المعالجة القرآنية لمسألة الاختلاف والتعدد قائمةً على التكافؤ الإنساني الرافض لحصرية التكليف في جماعة أو أمة من الناس دون غيرها؛ ذلك أن مؤدى الحصرية هو انتفاء الرحمة الإلهية وتكريس التمركز الثقافي - الديني المفضي إلى الإيغال في الحرفية والانغلاق، نتيجة الاعتقاد بأن الخلاص والنجاة حكرٌ لدى ملّة بعينها لا تتجاوزها لغيرها. كل ذلك يُفرغ الاستخلاف من كل حسّ تاريخيّ ومن أية فاعلية تجديدية.

دعما لهذه المبادئ التي تجاوزت منذ زمن نزول الوحي وما تلاه من المراحل المعهود العربي والشرقي الخاص بالآخر المختلف وحافظت على تقدمها عليه حتى في الزمن الراهن، عمل الخطاب القرآني على تأكيد هذه المبادئ بجملة من التعابير التي تتكامل في ما بينها لصياغة رؤية جامعة جديدة؛ وهي تعابير مفتاحية تكوّن فيما بينها حقلا مفاهيميا له وظيفتان: الإسهام في بناء رؤية جديدة للعالم من خلال نظام مفاهيمي متكامل لعلاقة الذات بالآخر يرتبط بتلك الرؤية الجديدة ويساعد على تفسيرها.

من أبرز مكونات هذا الحقل الدلالي يجدر ذكر مادة "ج د ل" بمختلف استعمالاتها وتنوع سياقاتها كقوله تعالى: "وجادلهم بالتي هي أحسن"[9]، ومادة "ع ر ف" كقوله تعالى: "لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف"[10]، ومادة "ع ف و" في مثل قوله تعالى: "فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره"[11]، ومادة "ح ور" كما ورد في قوله تعالى: "قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب"[12]. بمثل تفاعل هذه المواد اللغوية مما يرتبط بالعلاقة التواصلية في الخطاب القرآني، يتكوّن حقل مفاهيمي واسع يطبع تلك العلاقة التواصلية بطابع مميز، كما يشكل في الوقت نفسه مكونا من مكونات رؤية العالم الجديدة التي يعمل الخطاب القرآني على إرسائها.

4- يترسخ من هذا التفاعل الدلالي نظام مفهومي تندمج فيه التعابير المفتاحية الجزئية، وتُتَوجه آية جامعة وحاسمة تكون بمثابة الختم المميز لذلك النظام. ضمن هذا الأفق، يمكن أن ندرك المنحى الجديد، المنحى الاستخلافي الشهودي باعتباره يمثل الموجه الرئيس في كامل الخطاب القرآني الذي تركزه آية: "ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربُك ولذلك خلقهم".[13]

في مستوى ثان، يأتي الموجه الإجرائي المنظم لظاهرة الاختلاف منطلقا من مبدأ القسط ليصل إلى قاعدة التعارف والتثاقف، حيث ينتظم الاختلاف على قاعدة قوله تعالى: "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين، ولم يخرجوكم من دياركم أن تَبروهم وتُقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين"[14] إلى أن تصل إلى آية الختم الحاسمة في قوله سبحانه: "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم"[15].

بالاحتكام إلى هذا النسق الدلالي الجامع والنظام السياقي المركّـب، ندرك أولويات المنظومة القيمية القرآنية التي تحدد منزلة الاختلاف والتعارف والاعتراف في خطاب الوحي والتي يمكن تلخيصها في:

- أنه لا يوجد، ضمن هذه الرؤية القرآنية للعالم القائمة على قاعدة الاستخلاف، صراع حضارات؛ إنما هناك نمو وتدافع ضمن الحضارة الإنسانية المتواصلة والموحدة بين الدوافع الكونية المدنية التي تراهن على إنسانية الإنسان وبين دوافع الهمجية والظلم بمركزيتها على الذات.

- انطلاقا من مبدأ التكافؤ الإنساني بين الذات والآخر المختلف، فإن خطاب القرآن الكريم يدعو إلى بناء تكتل حضاريّ تعارفيّ "شعوبا وقبائل لتعارفوا" ليس لمواجهة ثقافات أو عقائد أخرى بل للتواشج مع ما يزخر به الآخر من طاقات السعي إلى الحق والمعرفة والإبداع.

- غاية الاختلاف ومآل التعارف قرآنيا هما الاعتراف بخصوصية الآخر وكرامته وإنسانيته، باعتبار أن مقاربته المختلفة عن مقاربتنا للحقيقة مشروعة من شأنها أن تكون مثرية لنا وزاخرة بغنى يركز التوازن الثقافي الكوني الذي لا مندوحة عنه من أجل رقي الحياة البشرية.

- ما تثبته القراءة الثقافية للتاريخ هو أنّ الصراع الفعليّ، قديما وحديثا، كان صراعا بين القيم والمناهج داخل كل ثقافة وضمن كل فكر؛ الأمر الذي أتاح مثاقفة متواصلة بين الشعوب والمجتمعات ودافعا إلى الانفتاح والتواصل اللذين ميّزا تاريخ الأفكار في العالم منذ قرون.


[1] تنص سورة البقرة الآية 285 على أنه "آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير". وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم عن الإيمان: "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره" (رواه مسلم والبخاري).

[2] انظر سورة الإسراء الآية 36: "إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا".

[3] سورة البقرة الآية 256

[4] هذا ما أتاح للبعض أن يقول: "بوسعك أن تؤمن بما تشاء؛ لكنك لا تملك أن تعقل كما تشاء، على اعتبار أن ما يفهمه الإنسان ويعقله حتميٌّ وضروري لا يمكنه أن يتقصى منه. ضمن هذا المبدأ، نجد آيات قرآنية تؤكد على بعد الحرية في الاختيار: "وقل حق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر" [سورة الكهف، الآية 29]، بينما الآيات الأخرى التي تذكر الفهم والتدبر فإنها لا تجعل هذه العناصر مفضية بالضرورة إلى الإيمان. ومن ثَمَّ، كان العقل في الخطاب القرآني شرطا لازما للإيمان دون أن يكون كافيا، أي أنه لا يوجد تناقض جوهري بين العقل والإيمان؛ لكن مجال هذا الأخير يبقى أوسع من أن يحدّه داعي العقل.

[5] سورة الإسراء، الآية 70

[6] سورة فاطر، الآية 24

[7] سورة النساء، الآية 124

[8] سورة البقرة، الآية 195

[9] سورة النحل، الآية 125

[10] سورة النساء، الآية 114

[11] سورة البقرة، الآية 109

[12] سورة الكهف، الآية 37

[13] سورة هود، الآيتان 118- 119

[14] سورة الممتحنة، الآية 8

[15] سورة الحجرات، الآية 13