قضايا في نقد العقل الديني: كيف نفهم الإسلام اليوم؟ الدّين وتمثلاته في تشابك مع العقلانيَّة المنبثقة حديثاً


فئة :  قراءات في كتب

قضايا في نقد العقل الديني: كيف نفهم الإسلام اليوم؟ الدّين وتمثلاته في تشابك مع العقلانيَّة المنبثقة حديثاً

قضايا في نقد العقل الديني: كيف نفهم الإسلام اليوم؟

الدّين وتمثلاته في تشابك مع العقلانيَّة المنبثقة حديثاً


يمثل هذا المقال قراءة تحليليَّة لا تخلو من جوانب نقديَّة، لأحد كتب أركون الهامَّة التي تتَّسم كغيرها من كتب أركون بالصعوبة الشديدة في الطرح؛ بسبب عمق التحليلات النظريَّة وكثافة المصطلحات والمقولات الجديدة المستمدَّة من العلوم الإنسانيَّة والاجتماعيَّة الحديثة.

حاولنا من خلال هذه القراءة أن نضع أيدينا - بقدر الإمكان - على الأفكار والمصطلحات الجوهريَّة التي يتمحور حولها مشروع أركون بأكمله، ذلك المشروع الذي يُعَدُّ هذا الكتاب محاولة لاستجلائه وتأكيد أهميته، ومن هنا تأتي أهميَّة هذه القراءة، فهي ليست مجرَّد قراءة في كتاب، بل هي قراءة في مشروع أثار انقساماً حاداً حوله بين مؤيد بقوَّة ومعارض بالقوة نفسها، ممَّا يعني - من وجهة نظرنا - عدم إمعان في القراءة أو اجتهاد حقيقي في الإدراك والفهم لهذا المشروع. فمشروع أركون كبير الحجم ومتعدّد الاتجاهات، ومن ثمَّ لا يمكن إطلاق حكم عام عليه، سواء بالتأييد أو الرفض، فضلاً عن أنَّه لم يُنجز بشكل كامل حتى الآن. فمثل هذه المشاريع الفكريَّة الضخمة لا تخلو غالباً بشكل تام من أيَّة جوانب قوَّة أو أيَّة جوانب ضعف، خاصة عندما يكون صاحبها من دعاة ضرورة نقد العقل لذاته ومراجعته لنفسه.

بشكل عام، انحاز أركون في مشروعه للعقل المجرَّد، المستقل، المتحرّر من الإيديولوجيا والعنصريَّة والتعصُّب، ذلك العقل الذي يعلي من قيمة الذات ويؤكّد على شرف الإنسان وكرامته. وهذا أحد الأسباب التي جعلت أركون عرضة للقصف الحاد من المتطرفين في كلتا الجبهتين: العربية/ الإسلاميَّة والغربيَّة. فنقد أركون التاريخي الصارم لم يقتصر على التراث الإسلامي فقط، بل امتدَّ ليشمل التراث الديني بصفة عامّة. ليس هذا فحسب، بل امتدَّ هذا النقد أيضاً ليشمل تراث الحداثة الأوروبيَّة والاستشراق الكلاسيكي. لذا، لا بدَّ من الإحاطة بمشروع أركون بأكمله، وليس الوقوف عند جانب واحد منه، من أجل إطلاق أحكام أكثر موضوعيَّة وتقييمات أكثر عمقاً.

مقدّمة

يمثل هذا الكتاب عدداً من المقالات المتفرّقة التي جمعها محمَّد أركون بغرض إلقاء المزيد من الضوء على مشروعه الذي يدعوه بـ"نقد العقل الإسلامي"، وذلك عن طريق تحديد الملامح الرئيسة لهذا المشروع الذي يحتاج تنفيذه - كما يذهب أركون - إلى تضافر جهود شتى لعدد كبير من الباحثين في مختلف حقول البحث العلمي: علم التاريخ الحديث (الذي بدأ بمدرسة الحوليَّات الفرنسيَّة*)، وعلم النفس التاريخي**، وعلم الألسنيَّات، والأنثروبولوجيا، والسوسيولوجيا.

لا يكتفي أركون أثناء قيامه بهذه المهمة بالعرض النظري فقط، رغم أهميته، حيث نجده يلجأ أيضاً إلى العديد من الأمثلة التطبيقيَّة التي يحاول من خلالها استكشاف كلّ ما يتحكم في نشاط العقل البشري من عوامل متفاعلة وقوى متصارعة (سواء داخل الذات أو خارجها) من ناحية، وانعكاسات ذلك على الممارسات الفكريَّة والثقافيَّة والاجتماعيَّة والسياسيَّة للبشر من ناحية أخرى.

أولاً: مفهوم العقل الإسلامي وأبعاده الإيديولوجيَّة

يتمثل العقل الإسلامي عند أركون في التراث الديني الذي أنتجه المسلمون خلال القرون الأولى من تاريخ الإسلام، ذلك التراث الذي صار بمرور الزمن وتراكم القرون مقدَّساً. وما نقد العقل الإسلامي عند أركون سوى محاولة لتفكيك بنية الخطاب التراثي للكشف عن الأبعاد الأسطوريَّة والإيديولوجيَّة لهذا الخطاب الذي تخفي لغته تحتها لعبة الهيمنة والسيطرة التي لا يخلو منها أيُّ خطاب بشري. إنَّ الشغل الشاغل لأركون هو نزع القناع عن التاريخ (الإسلامي) الرسمي، أي التاريخ الذي كُتب تحت وطأة النظام الرسمي، ذلك النظام الذي لا يركّز إلا على الأحداث والشخصيات التي تسير في خط الإيديولوجيا التي يتبناها ويحذف كلّ ما يعارضها أو يسبب لها إزعاجاً.

من هذا المنطلق يدعو أركون المؤرخ الحقيقي "لأن يفكّك خطابات المؤرخين القدماء لكي يكشف عن استراتيجيتهم الواعية أو غير الواعية في التغطية على بعض جوانب التاريخ وإظهار بعض جوانبه الأخرى التي تلائمهم؛ إنَّه [أي المؤرخ الحقيقي] مدعو للكشف عن استراتيجيَّات الحذف والتصفية التي يمارسها المؤرخون الرسميون عندما يركِّزون على بعض الأشياء ويحذفون بعضها الآخر حذفاً تاماً"([1]).

لكنَّ هذا التراث الذي يهدف أركون إلى تفكيكه للكشف عن أبعاده الأسطوريَّة والإيديولوجيَّة لا يتمثل فقط في القراءات الكلاسيكيَّة للقرآن، بل يتمثل أيضاً في القرآن ذاته. فالقرآن عند أركون جزء من التراث الديني الإسلامي، وكلُّ ما يميزه عن باقي التراث هو أنَّه كان نقطة انطلاق هذا التراث. وبالتالي فإنَّ النقد التاريخي للخطاب التراثي يمتدُّ عند أركون ليشمل الخطاب القرآني.

وفقاً لأركون، يتشكَّل التراث الإسلامي من نوعين من النصوص([2]):

1- النصوص التأسيسيَّة (أو الأوليَّة): يصفها أركون بالمادة الثقافيَّة الأوليَّة أو الأصليَّة، وهي تتمثل في النصوص المقدَّسة (القرآن والأحاديث النبويَّة).

2- النصوص الثانويَّة: يصفها أركون بالمادة الثقافيَّة الثانويَّة. وهي عبارة عن التأويلات أو التفسيرات المختلفة للنصوص الأوليَّة بعد نزعها من سياقها التاريخي وزرعها في سياق آخر.

وفيما يتعلق بالنصوص التأسيسيَّة المقدَّسة عموماً (سواء في الإسلام أو المسيحيَّة أو اليهوديَّة)، يذهب أركون إلى أنَّ جميع هذه النصوص قد "دُوِّنت بعد فترة طويلة نسبياً من تاريخ النبوَّة، وبناءً على الذاكرة الشفهيَّة للصحابة أو الحواريين...إلخ (...)، وفي أثناء عمليَّة الانتقال من التراث الشفهي إلى التراث الكتابي تضيع أشياء، أو تُحوَّر أشياء، أو تُضاف بعض الأشياء؛ لأنَّ كلَّ ذلك يعتمد على الذاكرة البشريَّة، وهي ليست معصومة إلا في نظر المؤمنين التقليديين الذين يصدّقون كلَّ شيء. كما يعتمد [ذلك] على الصراع الإيديولوجي أو التنافسات الحادَّة على السُّلطة التي لا تخلو منها بدايات أيّ دين"([3]).

إذن، لقد تجلَّى القرآن - بحسب أركون - لأوَّل مرَّة في التاريخ في شكل خطاب شفهي في زمان ومكان محدَّدين تماماً، ثم تمَّ تدوينه أو كتابته فيما بعد، ليتحوَّل بذلك - على حد تعبير أركون - إلى "مدوّنة رسميَّة مغلقة" (المصحف). ومثله مثل باقي الكتابات المقدَّسة، فقد تعرَّض القرآن أثناء انتقاله من مرحلة الخطاب الشفهي إلى مرحلة الخطاب المكتوب إلى الكثير من عمليات الحذف والانتخاب والتلاعبات اللغويَّة التي تحصل دائماً في مثل هذه الحالات. ويدلل أركون على ذلك ببعض مخطوطات القرآن التي أتلِفت، كمصحف ابن مسعود على سبيل المثال.

وفقاً لأركون، هناك صيرورة تاريخيَّة معقدة وملأى بالصراعات، هي التي أدَّت في نهاية المطاف إلى تشكيل المدوَّنة النصيَّة الرسميَّة المغلقة بصفتها أمراً واقعاً. إنَّنا - بحسب أركون - لا نعرف شيئاً عن النقاشات الحامية التي دارت حول تثبيت النسخة الرسميَّة من المصحف إلا ما قاله لنا التراث الرسمي المفروض بقوَّة السلطة، ذلك التراث الذي لا يحتفظ عادة إلا برواية الخط المنتصر بعد أن يحذف بقيَّة الروايات الأخرى.

يقول أركون في هذا الصدد: "الخطاب الشفهي تلفَّظ به النبي طيلة عشرين سنة وفي ظروف متغيرة ومختلفة أمام جمهور محدَّد من البشر. ونحن لا يمكن أن نتوصل إلى معرفة هذه الحالة الأوليَّة والطازجة للخطاب مهما حاولنا، فقد انتهت بوفاة أصحابها، لقد ضاعت إلى الأبد"([4]). فنحن - كما يذهب أركون - "لا نملك شريط تسجيل أو فيلماً مصوَّراً يُبيِّن لنا الرسول وهو يتحدث إلى أصحابه أو يتلو عليهم القرآن لأوَّل مرَّة"([5]).

من هذا المنطلق، يرفض أركون النزعة التبجيليَّة التي تريد وضع الخطاب الأوَّل بمنأى عن كلّ تحليل بشري نقدي، أو تريد أن تُفقده صفته التاريخيَّة. فالقرآن - بحسب أركون - لا يمتلك مكانة فوق التاريخ (فوق تاريخيَّة). إنَّه يرتبط بفترة تاريخيَّة معيَّنة، فترة العصور الوسطى تحديداً، تلك الفترة التي كان يسود فيها العقل اللَّاهوتي المسجون داخل نطاق لاهوت معيَّن أو شريعة (قانون مقدَّس) معيَّنة. ويدلل أركون على ذلك بمكانة أو وضع أهل الذمَّة (المسيحيين واليهود والكفار والمشركين) في القرآن، وذلك من خلال هاتين الآيتين من سورة التوبة:

- ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ (الآية 29)

- ﴿فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ (الآية 5)

فمن خلال هاتين الآيتين - كما يذهب أركون - يمكن الكشف عن البنية الفكريَّة (أو العقليَّة) لأناس القرون الوسطى.

وهكذا ينظر أركون للقرآن من منظور تاريخي وليس من منظور إيماني تبجيلي؛ الأمر الذي جعله ينادي بتطبيق منهجيَّة النقد التاريخي والتحليل الألسني على الخطاب القرآني، مثله في ذلك مثل أيّ خطاب بشري يخضع لإكراهات نحويَّة وصرفيَّة ولفظيَّة وبلاغيَّة من ناحية، وإكراهات اجتماعيَّة أو سوسيولوجيَّة مرتبطة ببيئة معيَّنة من ناحية أخرى. فالقرآن عنده حدث تاريخي مرتبط بظروف عصره وبيئته. ويستدلُّ أركون على ذلك بألفاظ القرآن ومرجعياته التي تعود إلى شبه الجزيرة العربيَّة في القرن السابع الميلادي. ويستخدم أركون مصطلح "الظاهرة القرآنيَّة" للإشارة إلى القرآن باعتباره حدثاً تاريخياً بهذا المعنى.

من هذا المنطلق، دعا أركون إلى انتهاج القراءة التزامنيَّة* (بلغة علم الألسنيَّات) للقرآن، تلك القراءة التي تبحث عن معاني مفردات القرآن في الوقت أو الزمن الذي تشكَّل فيه القرآن، وليس المعاني السائدة اليوم، وذلك على خلاف القراءة الإسقاطيَّة أو الإيديولوجيَّة التي تُسقِط على النص معاني زمن آخر، ممَّا يُعَدُّ مغالطة تاريخيَّة.

فالخطاب القرآني، وفقاً لأركون، يبدو كأنَّه "انبجاس طالع من القلب ومفعم بالحياة اليوميَّة والأحداث الجارية للعمل التاريخي الذي قاده النبي محمد [ص] طيلة عشرين عاماً"([6]). وبذلك يصير الخطاب القرآني عند أركون إيديولوجياً، أو بديلاً للإيديولوجيا. وأركون لا يقصد هنا الخطاب القرآني في حالته النصيَّة فقط، بل في حالته الشفهيَّة أيضاً. وممَّا يؤكد ذلك قوله: "في الوقت الذي كان فيه النبي يعبِّر مباشرة وبشكل محسوس عن ممارسات وأهداف عمله ومشروعه، كان القرآن [الذي كان ما يزال في حالته الشفهيَّة، حيث لم يدوَّن إلا بعد وفاة النبي] يخلع لباس التعالي على هذه الأعمال والوقائع ويجعلها متسامية ومتعالية عن طريق ربطها بالمطلق والإرادة الغيبيَّة لله [...] وهكذا مُحيت التواريخ وأسماء الأماكن وأسماء العلم والأحداث الفرديَّة من الآيات لنزع الصفة التاريخيَّة عنها"([7]).

إذن أركون يجعل من الخطاب القرآني وهو لم يزل في حالته الشفهيَّة قوَّة أو أداة إيديولوجيَّة لجأ إليها النبي محمَّد لتبرير ممارساته السياسيَّة والاجتماعيَّة والثقافيَّة. الغريب هنا أنَّ أركون يستشهد على الوظيفة الإيديولوجيَّة للخطاب القرآني وهو في حالته الشفهيَّة ببعض الآيات والمفردات القرآنيَّة الواردة في الخطاب القرآني وهو في حالته النصيَّة. هذا رغم أنَّ أركون - كما أشرنا من قبل - يذهب إلى أنَّنا لا يمكن أن نتوَّصل إلى معرفة أيّ شيء عن الخطاب القرآني عندما كان في حالته الشفهيَّة مهما حاولنا. فكيف، إذن، يستخدم أركون آيات من المصحف - الذي لا يتطابق من وجهة نظره مع القرآن كما نطق به النبي أوَّل مرَّة - لكي يدلل بها على وقائع وأحداث إبَّان حياة النبي، تلك الحياة التي لا يمثل الكلام المكتوب في المصحف تعبيراً حقيقياً عنها؟

من هذه الآيات التي يستشهد بها أركون على الوظيفة الإيديولوجيَّة للخطاب القرآني إبَّان حياة النبي، قوله تعالى: ﴿فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10) ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآَيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20)﴾.

يذهب أركون إلى أنَّ هذه الآيات تعرض مشهداً من نقاش سياسي واجتماعي جرى في زمن النبي، ولكن تمَّ الصعود به إلى المستوى الديني ليتحوَّل أو ينقلب من صراع بين فريقين سياسيين إلى صراع بين الله والإنسان.

كذلك يذهب أركون إلى أنَّ مفردتي "المؤمنين" و"الكافرين" في الخطاب القرآني تشيران إلى فريقين سياسيين: الأوَّل يتمثل في القوَّة السياسيَّة الجديدة التي كان محمَّد بن عبد الله يتزعمها، والتي أكَّدت وجودها في المدينة بعد ذلك. والفريق الثاني يتمثل في المعارضة (أهل مكة) التي ناصبت محمَّداً وأتباعه العداء سياسياً واجتماعياً. كما يذهب أركون إلى أنَّ مفردة "الأمَّة" في القرآن تشير إلى الاتحاد التحالفي الذي أقامه محمَّد مع القبائل المحليَّة (من يهوديَّة وعربيَّة) من أجل توسيع قاعدته السياسيَّة.

يتكَّلم أركون هنا بلغة قاطعة وكأنَّ لديه فيلماً مصوراً يعرض له كلَّ ما كان يحدث إبَّان حياة النبي. واستشهاده بالآيات القرآنيَّة لإثبات دعاويه أمر يدعو للتعجب؛ لأنَّ القرآن المدوَّن في المصحف ليس موضع ثقة من وجهة نظره، ليس فقط لضعف أو قصور الذاكرة البشريَّة التي تمَّ الاعتماد عليها في عمليَّة التدوين، بل أيضاً لأنَّ عمليَّة جمع القرآن بعد وفاة النبي قد تأثرت بالصراع الحامي والتنافس الشديد على السلطة والشرعيَّة.

ثانياً: إشكاليَّة الدراسة العلميَّة للتراث وأهميتها

يطابق أركون بين التراث والإسلام، فالإسلام عنده - مثله مثل التراث - يتّسم بالتاريخيَّة. فالإسلام - بحسب أركون - يمثل عمليَّة (أو سيرورة) اجتماعيَّة وتاريخيَّة متواصلة وغير منقطعة. وبذلك يصبح الإسلام عند أركون مفهوماً مفتوحاً، أي غير محدَّد بشكل نهائي ومغلق، ومن ثمَّ فإنَّه لا يمكن أن يكتمل أبداً. وعلى مَنْ يعترضون عليه من الناحية اللاهوتيَّة بقوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ (المائدة: 3)، يردُّ أركون قائلاً: "إذا كان الوحي قد اُغلق نهائياً بموت النبي، فإنَّنا نجد أنَّ أمر تفسيره وشرحه وترجمته إلى معايير شعائريَّة وأخلاقيَّة ـ قانونيَّة ما يزال مستمراً حتى يومنا هذا. وبهذه الطريقة (أي بهذه الممارسة التي تقوم بها الذات على ذاتها وتحت ضغط التاريخ) نجد أنَّ الأمَّة تولِّد الإسلام أو تنتجه كتراث حي"([8]).

إنَّ الإسلام [عند أركون] ليس كياناً جوهرانياً لا يتغير ولا يتبدَّل على مدار التاريخ. إنَّه ليس كياناً أبدياً أو أزلياً لا يتأثر بأيّ شيء ويؤثر في كلّ شيء، كما يتوهَّم جمهور المسلمين. هذا تصوُّر مثالي وغير تاريخي للأمور (...)، إنَّه [أي الإسلام] ناتج عن الممارسة التاريخيَّة لفاعلين اجتماعيين شديدي التنوع والاختلاف من أندونيسيا إلى إيران إلى أقصى المغرب"([9]). حتى الإسلام الوليد، فإنَّه ناتج عن "الممارسة التاريخيَّة المحسوسة لفاعل اجتماعي يُدعى محمَّد بن عبد الله"([10]).

إذن الإسلام عند أركون ليس شيئاً آخر سوى الفكر أو العقل الإسلامي (التراث الإسلامي). وبما أنَّ هذا الفكر، بما في ذلك العقائد والتصوُّرات الدينيَّة، يرتبط بسياق تاريخي واجتماعي معيَّن، كانت الدراسة العلميَّة للإسلام تتطلب بالضرورة الاستعانة بعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا التاريخيَّة من أجل التوصُّل إلى تحقيب زمني لتاريخ الإسلام يكون أكثر مصداقيَّة وقرباً من حقائق التاريخ والتركيبة الفعليَّة للمجتمعات، بدلاً من التحقيبات الزمنيَّة الخادعة التي تفرضها الكتب المدرسيَّة، بل وحتى الكثير من الدراسات الأكاديميَّة والجامعيَّة، على عموم المسلمين.

سعياً وراء هذا التحقيب الزمني الأكثر مصداقيَّة لتاريخ الإسلام، استعار أركون من ميشيل فوكو مصطلح "الإبستيميَّة"* (النظام الفكري العميق) لاستخدامه كمعيار لتحقيب تاريخ الفكر الإسلامي. يقول أركون عن هذا المعيار: "أعتقد أنَّه معيار جاد ومتين جداً؛ لأنَّه يتيح لنا أن نفهم سبب التواصليَّة التاريخيّة الطويلة بين الإسلام المعياري الأولي وبين الخطاب الأصولي السائد حالياً، مروراً بالخطاب الإصلاحي (أو السلفي) في القرن التاسع عشر"([11]).

يقول أركون في هذا الصدد: "هناك استمراريَّة إبستمولوجيَّة بين أوَّل تبلور لصيغة الإسلام في القرون الهجريَّة الأولى وبين الصيغة التي يتَّخذها الخطاب الإسلاموي الأصولي السائد حالياً [...] أقصد أنَّ أنماط الإدراك والتصوُّر، وأنماط المحاجَّة والتأويل ورؤية العالم ما تزال هي هي [كما كان عليه الحال قبل ألف وأربعمائة سنة]"([12]).

على ضوء هذا التحقيب الإبستمولوجي، يميّز أركون بين أربع مراحل أساسيَّة في تاريخ الإسلام (أو الفكر الإسلامي)، هي:

1- مرحلة القرآن والتشكّل الأولى (1هـ - 150 هـ): في هذه المرحلة لم يظهر على الساحة الإسلاميَّة المفهوم الأرسطوطاليسي أو الفلسفي الحديث للعقل، أي العقل الاستدلالي البرهاني. ويستدل أركون على ذلك بالخطاب القرآني الذي لم يشتمل أبداً على كلمة عقل على هيئة المصدر، حيث لا يوجد سوى عبارات استفهاميَّة من قبيل: "أفلا تعقلون"، "أفلا يعقلون"، "صمٌ بكمٌ عميٌ فهم لا يعقلون"...إلخ. إنَّ الطابع الرمزي المجازي يطغى - بحسب أركون - في القرآن على الطابع المنطقي العقلاني القائم على المحاجَّة. لذا، فإنَّ مفهوم العقل في القرآن لا ينفصل عن الحساسيَّة والخيال والشعور. فهذه العبارات الواردة في القرآن لا تتطلب الفهم المنطقي الذي يطابق بين الفكرة الواضحة والحقيقة الخارجيَّة أو الواقعيَّة، بل التنبيه إلى ضرورة الاندهاش والتعجب من نعم الله على البشر، هذا الاندهاش وذلك التعجب اللذان يمثلان عمليتين من عمليات الروح أو القلب وليس العقل، وممَّا يؤكد ذلك - بحسب أركون - أنَّها ترد دائماً بعد التذكير بهذه النعم وقدرة الله على التدخل في تاريخ النجاة الأخروي.

2- مرحلة العصر الكلاسيكي (من 150هـ - إلى 450هـ تقريباً): يصف أركون هذه المرحلة بالعصر الذهبي. فهي التي شهدت نشوء العقل الاستدلالي البرهاني بعد أن دخلت الفلسفة اليونانيَّة ومنطق أرسطو إلى المجال اللغوي والثقافي العربي. في هذه المرحلة تشكَّل الفكر الإسلامي ونضج على أيدي الأئمة المؤسّسين: أئمة المذاهب الكبرى من سنيَّة وشيعيَّة وإباضيَّة.

3- مرحلة العصر السكولاستيكي: يصف أركون هذه المرحلة بعصر الانحطاط. لأنَّها اقتصرت على تكرار واجترار الأفكار والتعاليم التي نشأت في المرحلة الكلاسيكيَّة. وهذه المرحلة ما زالت مستمرَّة حتى الآن من خلال ما يُطلِق عليه أركون الإسلام المعاصر، الذي يتمثل عند أركون في حركات الإسلام السياسي الراديكالي أو الأصولي.

4- مرحلة النهضة أو المرحلة الليبراليَّة: استمرَّت هذه المرحلة من عام 1880م إلى عام 1950 تقريباً. وكانت هذه المرحلة محاولة لاستدراك ما فات واللحاق بركب الحضارة الحديثة. ولكن لم تنجح هذه المحاولة لأسباب عديدة، من أهمها: تغليب تحرير الأرض من الاستعمار الخارجي على تحرير الفكر الإسلامي من هيمنة العقل السكولاستيكي التقليدي المرتبط بتعاليم مذهب معيَّن وإقليم معيَّن يزعم أصحابه امتلاك الحقيقة الدينيَّة المطلقة أو التصوُّر الوحيد الصحيح للإسلام.

لكن، ماذا بعد الاستقلال؟ لماذا لم تَعُدْ المرحلة الليبراليَّة من جديد؟

يعود ذلك - بحسب أركون - إلى الاستبداد الداخلي الذي حلَّ محلَّ الاستعمار الخارجي. لقد استخدمت القوى الداخليَّة المعارضة للاستبداد السياسي التراث الديني كأداة لتجييش وتعبئة الجماهير حولها كسبيل للتخلص من هذا الاستبداد. فضلاً عن أنَّ ظاهرة الاستعمار لم تنتهِ تماماً حتى الآن: فما تزال القضيَّة الفلسطينيَّة معلقة؛ الأمر الذي يخلق مناخاً ملائماً لهيمنة العقل النضالي (المتسلح بالتراث الديني) وتراجع العقل الليبرالي النقدي.

لهذه الأسباب لم يَعُدْ الإسلام المعاصر (الحركات الأصوليَّة) يهتمُّ بتطوير "الفعاليَّة الفكريَّة والتفسيريَّة كما كان يفعل الإسلام الكلاسيكي، إسلام الإنتاج والإبداع والازدهار. فالانخراط السياسي هو الأهم بالنسبة إلى الإسلام المعاصر، إنَّه يتغلب على كل اعتبار آخر، إنَّه يتغلب على ضرورة إبداع مرافق فكري للممارسة الدينيَّة أو الشعائريَّة، كما يتغلب على البُعد الروحي المؤدي إلى التواصل مع مطلق الله (...). إنَّ الحركات الأصوليَّة لم تعد تفكر إلا بالقوَّة والسلطة، أو التوصل إلى السلطة بأيّ شكل. وهنا تحصل القطيعة بينها وبين الإسلام الكلاسيكي الذي شهد تعدديَّة عقائديَّة مدهشة"([13]).

على الرغم من ذلك، يذهب أركون إلى أنَّ الدراسة النقديَّة التاريخيَّة للتراث أصبحت اليوم أمراً لا يمكن منعه، لسببين([14]):

1- أعمال العنف الهائلة التي تُرتكب باسم التراث (الإسلام) في دار الإسلام وخارج دار الإسلام.

2- الثورة العقلَّية والإبستمولوجيَّة الكبرى التي كشفت عن أنَّ التراث ليس سوى معنى واحد من جملة معانٍ أخرى تولَّدت عن الممارسة البشريَّة.

وفقاً لأركون، "كلُّ المجتمعات الإسلاميَّة مضطرة للانخراط في سلك الحضارة الكونيَّة من خلال صيرورة تاريخيَّة إجباريَّة (...)، وبالتالي فلا مستقبل للخطابات الأصوليَّة الملأى بالاتهامات والغيظ والحقد على العالم الحديث واعتباره أصل الشرّ والبلاء. لا مكان لمن يلقي المسؤوليَّة دائماً على الآخرين ويعتبر نفسه بريئاً من كلّ شيء أو ليس بحاجة إلى أيّ تغيير أو تطوير أو نقد، وأحياناً إلى نقد عميق جذري. الفكر الإسلامي الآن بحاجة إلى عمليات جراحيَّة في العمق، وليس إلى خطابات التبجيل المكرورة منذ مئات السنين"([15]).

بذلك يربط أركون بين الدخول في الحداثة من ناحية، وبين نقد التراث على ضوء منهجيات ومقولات العلوم الإنسانيَّة والاجتماعيَّة الحديثة من ناحية أخرى. إنَّ نقد التراث عند أركون ليس فقط من أجل فهم التراث، بل أيضاً من أجل فهم الأحداث الجارية الآن، تلك الأحداث التي تعود جذورها إلى الماضي. لكن رغم إلحاح أركون على الدعوة إلى نقد التراث والتأكيد على أهميته، إلا أنَّه يعترف بعجز العلوم الإنسانيَّة والاجتماعيَّة عن فهم وتصنيف بعض الظواهر الضخمة. ويضرب أركون مثلاً على ذلك بحالة الجزائر التي شهدت لفترة طويلة اختراق أشكال قويَّة من الحداثة لها، ومع ذلك عادت إلى حالة أشبه بحقبة العصور الوسطى المظلمة والهمجيَّة بدءاً من عام 1988 بشكل خاص. لذا، يدعو أركون إلى "إجراء بعض التعديل على العلوم الاجتماعيَّة الأوروبيَّة ومناهجها الحديثة لكي نفهم خصوصيَّة هذه المجتمعات التي تعيش الآن حالة انتقاليَّة، قلقة، مترجرجة"([16]).

ثالثاً: نقد الاستشراق الكلاسيكي والحداثة الغربيَّة

ليس مشروع نقد العقل الإسلامي عند أركون سوى جزء من مشروع أكبر يمكن أن نُطلِق عليه نقد التراث الإنساني. ويتضح ذلك من خلال نقد أركون لمناخين من الفكر وليس مناخاً واحداً: المناخ الفكري العربي الإسلامي، والمناخ الفكري الغربي. وفيما يتعلق بالمناخ الفكري الغربي، ينصبُّ نقد أركون على جانبين، هما: الاستشراق الكلاسيكي، والحداثة.

1 ـ الاستشراق الكلاسيكي

أخذ أركون على عاتقه مراجعة الإنتاج التاريخي الاستشراقي بمجمله، وركَّز اهتمامه على ضرورة تجديد المنهجيَّة الاستشراقيَّة لكي تلحق بركب المنهجيَّة الحديثة في علم التاريخ، تلك المنهجيَّة التي تُمارس في أقسام الدراسات الأوروبيَّة والمطبَّقة بالفعل على تاريخ المجتمعات الأوروبيَّة ذاتها.

يرى أركون أنَّ هذا التمييز المنهجي داخل أروقة الجامعات الغربيَّة بين الدراسات الاستشراقيَّة المنصبَّة على العالم العربي والإسلامي وبين الدراسات المنصبَّة على العالم الأوروبي والغربي يعود في الأساس إلى إهمال وازدراء متعمَّد للشرق تقف وراءه نزعة شبه عنصريَّة.

سنحاول في السطور التالية أن نحدّد أهمّ النقائص أو العيوب التي أخذها أركون على المنهجيَّة الاستشراقيَّة الكلاسيكيَّة. يأخذ أركون على الاستشراق الكلاسيكي تقطيع الموضوع المدروس وتقسيمه من أجل تسهيل دراسته، ممَّا يتعارض مع كليَّة الواقع، أو بتعبير آخر، وحدة الحقيقة الاجتماعيَّة/ التاريخيَّة. ويضرب أركون مثلاً على ذلك بتعميم جميع المستشرقين مصطلح "إسلامي" أو "إسلام" على نطاق جغرافي واسع جداً ومليء بالفئات العرقيَّة/ الثقافيَّة الشديدة التنوُّع والاختلاف من حيث اللغات والعقائد والبنى الاجتماعيَّة والأنثروبولوجيَّة والتجارب والأنظمة السياسيَّة، ممَّا يُعدُّ طمساً لهذه التعدديَّة الخصبة والغنيَّة تحت تسمية واحدة: العالم الإسلامي([17]).

كذلك فإنَّ كتب المستشرقين، مثلها في ذلك مثل كتب التاريخ الإسلامي، لم تهتم إلا بالقطاع المدجَّن والرسمي من المجتمع، أي القطاع الخاضع للسلطة المركزيَّة؛ بينما لم تهتم بالمناطق البريَّة النائية الخارجة عن نطاق هذه السلطة، تلك المناطق الملأى بالممارسات الثقافيَّة المدعوَّة بالشعبيَّة والعقائد الدينيَّة المدعوة بالوثنيَّة (من قِبـَل الجناح الرسمي المدجَّن). لقد اقتصرت كتب المستشرقين على دراسة ثقافة هذا القطاع المدجَّن، وما تولَّد عنها من أرثوذوكسيَّة دينيَّة رسميَّة*. ليس هذا فحسب، بل وقفوا في دراستهم لهذه الأرثوذوكسيَّة عند الكشف عن مضامينها ووظائفها ومدى توسُّعها وانتشارها دون المساس بالشروط الإبستمولوجيَّة لشرعيتها أو وضع هذه الشرعيَّة على محكّ المناقشة والتحليل الداخلي، متعللين في ذلك بأنَّ القيام بهذه المهمَّة يدخل ضمن مهمَّة الفلسفة وليس علم التاريخ([18]).

من الأشياء الأخرى المهمَّة التي يأخذها أركون على المنهجيَّة الاستشراقيَّة الكلاسيكيَّة عزل العالم الإسلامي عن محيطه الطبيعي، وكأنَّ الإسلام يمثل نطاقاً عقائدياً وثقافياً وحضارياً منفصلاً ومتمايزاً عن كلّ ما عداه (وبشكل خاص عن النطاق الحضاري الأوروبي أو الغربي). فالعالم الإسلامي - كما يذهب أركون - عاش علاقات تبادل قويَّة مع العالم الغربي في بعض الفترات، والمستشرقون أنفسهم يعترفون بذلك. ومن هذا المنطلق، فدراسة الإسلام، أو أيَّة ظاهرة دينيَّة، يجب أن تتمَّ بشكل مقارن مع جميع الأديان الأخرى، سواء أديان الكتاب أو غيرها.

يرفض أركون أيضاً نزعة التخصُّص الضيقة عند المستشرقين الكلاسيكيين، تلك النزعة التي تميل إلى عزل قطاعات التاريخ العام للمجتمع (القطاع الاقتصادي أو الثقافي...إلخ) عن بعضها بعضاً، وإلى تشكيل كلّ قطاع على هيئة نطاق مغلق لا علاقة له بما يجاوره. فيتخصَّص كلُّ مؤرخ في دراسة هذا القطاع أو ذاك ويعزله عن بقيَّة القطاعات الأخرى. وهكذا يُجزَّأ التاريخ العام ويُبعثَر ويفقد وحدته([19]).

يعيب أركون أيضاً على الاستشراق الكلاسيكي وقوفه عند المنهجيَّة الفيلولوجيَّة التي لا تعبأ إلا بالكشف عن الفترات الزمنيَّة التي تعود إليها المخطوطات وعن أصحابها الأصليين. إنَّ عالم الفيلولوجيا إذ يكتشف التسلسل الزمني الحقيقي للنصوص والوقائع والأحداث التاريخيَّة، وإذ يعزو المؤلفات والشهادات لأصحابها الحقيقيين، وإذ يكتشف النَسب الحقيقي للمفاهيم، فإنَّه - كما يذهب أركون - يُشكِّل بذلك مادة علميَّة، وهذا يُعَدُّ عملاً مهمَّاً يجب احترامه. لكنَّ هذا العمل يمثل مرحلة أولى لا بدَّ أن تتبعها مرحلة أخرى، ألا وهي التحليل الأنثروبولوجي الذي يفتح لنا إمكانيات جديدة لتأويل وتفسير الوثائق التي تمَّ توثيقها وتحقيقها عن طريق عالم الفيلولوجيا. فعن طريق الأنثروبولوجيا يتمُّ تفكيك مضامين التراث الديني للكشف في النهاية عن تأثير الخيالات والأوهام في حركة التاريخ وأفعال البشر. فالأنثروبولوجيا لا تهتم - كما يذهب أركون - بالأسماء والوقائع أو الأحداث التي تحصل في وضح النهار، وإنَّما تهتمُّ بالوظائف الرمزيَّة، والإبداع المجازي، والأسطرة، والمخاتلة، والأدلجة، والتقديس، والتعالي، كلُّ تلك العمليات المرتبطة بالخيال، التي توجد في جميع الثقافات وإن اختلفت أديانها ولغاتها.

وهكذا يمكن عن طريق الأنثروبولوجيا دراسة التراث الإسلامي بشكل متحرّر، خارج السياج الدوغمائي المطلق. فالأنثروبولوجيا تعلمنا كيفيَّة التعامل مع الثقافات الأخرى بروح منفتحة ومتفهمة. إنَّها تمارس عملها كنقد تفكيكي على الصعيد المعرفي لجميع الثقافات البشريَّة - بعيداً عن التأويلات الإيديولوجيَّة - من أجل الكشف في نهاية المطاف عن عنصر الخيال فيها.

إلى جانب ذلك، يرفض أركون الطريقة الاستشراقيَّة في الكتابة والنظر إلى الثقافات الأخرى، تلك الطريقة التي يضخِّم بها المستشرقون من تأثير الإسلام إلى درجة أنَّهم يجعلونه يشمل كلَّ شيء ويتدخل في كلّ شيء داخل المجتمعات التي انتشر فيها، في حين أنَّ الإسلام مجرَّد عامل من جملة عوامل أخرى تتضافر معاً في حسم حركة التاريخ الإسلامي وتحديد وجهته.

2 ـ الحداثة

يأخذ أركون على الباحثين استخدامهم لمفهوم الحداثة بشكل غير نقدي أو غير تاريخي في أحيان كثيرة. فهم "لا يميزون بين مراحل الحداثة المتتالية والمسلمات الضمنيَّة التي هيمنت على كلّ مرحلة. فهناك أولاً حداثة القرن السادس عشر وتبحُّرها الفيلولوجي اللغوي، وهناك ثانياً حداثة عصر التنوير وعقلانيته المتميزة، وهناك ثالثاً حداثة القرن التاسع عشر وعقلانيته المتطرفة في علميتها ووضعيتها وإيمانها المطلق بنظريَّة التطور، وهناك رابعاً وأخيراً مكتسبات الحداثة الحاليَّة وعقلانيتها الأكثر انفتاحاً ومرونة وقلقاً وحركيَّة وتواضعاً وتردداً وتفكيكيةً واختراقاً لكّل أنواع الثقافات، وليس الانغلاق داخل ثقافة واحدة مركزيَّة هي الثقافة الأوروبية"([20]).

تتمثل المرحلة الرابعة والأخيرة من متتالية الحداثة عند أركون - تلك المرحلة التي ما زالت في طور التشكيل - فيما يُسمَّى بـ"عصر ما بعد الحداثة"، ذلك العصر الذي يهيمن عليه ما أطلق عليه محمَّد أركون "العقل الاستباقي" أو "العقل المنبثق".

على خلاف ما يعتقد المثقفون العرب، يذهب أركون إلى أنَّ ما بعد الحداثة ليست تجاوزاً للحداثة، بل هي استمراريَّة لها. ويستشهد أركون على ذلك بمقولة هابرماس: "الحداثة مشروع لم يكتمل".

وفقاً لأركون، لم يقطع الأوروبيون حتى الآن كلَّ مراحل الحداثة؛ لأنَّ الدولة حلت محلَّ الدين، ولم يحصل العقل على استقلاليته بشكل كامل بالقياس إلى الدولة، بما في ذلك الدولة الديمقراطيَّة الحديثة. فحتى هذه الدولة تحدّد سقفاً معيَّناً لحريَّة التعبير.

لكنَّ أركون يذهب إلى أنَّ أوروبا تنتقل الآن من مرحلة الحداثة التي يهيمن عليها عقل التنوير إلى مرحلة ما بعد الحداثة التي يهيمن عليها العقل المنبثق. والفارق الوحيد بين عقل التنوير والعقل المنبثق عند أركون هو أنَّ الأول يثق في نفسه ثقة مطلقة ويدَّعي أنَّه يرتكز على يقينيات. أمَّا الثاني فإنَّه يراجع نفسه باستمرار من أجل تصحيح مساره أو تعديله إذا لزم الأمر.

فرغم أنَّ عقل التنوير قد ولَّد في بدايته عصراً جديداً من التقدُّم والانطلاق نحو التحرُّر الفكري والسياسي من هيمنة العقل اللاهوتي، إلا أنَّه راح بدوره يتجمَّد وينحرف عن مساره* في مرحلة لاحقة (حداثة القرن التاسع عشر بعقلانيتها المتطرّفة)، وهذه - على حدّ تعبير أركون - عادة كلّ شيء ينتصر ويترسَّخ.

يذهب أركون - ردَّاً على منتقديه من الجانب الغربي بسبب نقده للحداثة - إلى أنَّ نقده للحداثة ليس بدعة من عندياته، بل سبقه إلى ذلك في الغرب نفسه فلاسفة كبار، أمثال: آلان تورين ويورغين هابرماس.

كما ينبهنا إلى أنَّ حديثه عن متتالية الحداثة لا ينبغي أن يُفهم منه أنَّ هناك تسلسلاً زمنياً خطياً بين العقل اللَّاهوتي (أو القروسطي) وعقل الحداثة. فمثل هذا التسلسل التاريخي الخطي لا وجود له في حقيقة الأمر. ويضرب أركون مثلاً على ذلك ببعض المفكرين في العصور الوسطى في الشرق الإسلامي الذين بلوروا أفكاراً يمكن وصفها بأنَّها حداثيَّة، من أمثال: التوحيدي، والمعري، وابن باجة، وابن رشد...إلخ. ويضرب أركون مثلاً آخر على ذلك ببعض مَنْ يعيشون في أكثر بلدان الغرب حداثة بأجسادهم، لكنَّهم ينتمون بعقولهم لحقبة العصور الوسطى، كالتيار المسيحي التقليدي الذي لا يختلف في شيء عن التيار الإسلامي التقليدي.

خاتمة

مشروع نقد العقل الإسلامي هو مشروع لم يكتمل بعد، حيث يحتاج تنفيذه إلى وقت طويل وإلى تضافر عدد كبير من المتخصّصين في شتى العلوم الإنسانيَّة والاجتماعيَّة الحديثة. لذا، يمكن أن نقول إنَّ مشروع أركون أقرب ما يكون إلى خطة أو برنامج عمل أكثر من كونه مشروعاً ناجزاً. وأركون نفسه قد أشار إلى ذلك مراراً وتكراراً في كتاباته وحواراته التلفزيونيَّة.

والهدف الأساسي من هذا المشروع هو - كما يذهب أركون - الكشف عن مواقع التراث التي علاها الغبار وطَمَسَ معالمها مع مرور الزمن المتطاول، وذلك من أجل إعطاء حقّ الكلام للمهمَّشين والمنبوذين على مرّ التاريخ، أي كلّ أولئك الذين طُمست أصواتهم ومُحيت آثارهم من قِبـَل إرادات القوَّة والهيمنة التي أتيح لها أن تنتصر وتطغى على ما عداها. فضلاً عن أنَّ النقد الجاد والمسؤول للتراث - كما يذهب أركون - سوف يساعدنا على فهم المشاكل الكبرى والمعقَّدة التي نعاني منها الآن. فبحسب أركون، هناك علاقة وثيقة بين الماضي والحاضر. وكما أنَّ الحاضر يضيء الماضي عن طريق الاسترجاع والمقارنة، فإنَّ الماضي أيضاً يضيء الحاضر. بذلك يمكن أن نقول إنَّ أركون لا يسعى من خلال مشروعة النقدي التفكيكي إلى الهدم، بل إلى البناء الذي لا يمكن أن يتمَّ قبل هدم القديم. ولا يعني ذلك التخلص من كلّ القديم، فالتراث - كما يذهب أركون - مليء بالعديد من الجوانب الإيجابيَّة التي يمكن الانطلاق منها في عمليَّة البناء. أمَّا ما أصبح ميتاً ومعرقِلاً لحركة التقدُّم والتطوُّر فلا بديل عند أركون عن طرحه جانباً.


* يعود تأسيس هذه المدرسة إلى لوسيان فيفر ومارك بلوك عام 1929م. اهتمَّت هذه المدرسة لأوَّل مرَّة بدراسة أثر الأوضاع الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة للشعوب في توجيه حركة التاريخ، ومن ثمَّ على نوعيَّة الأفكار والعقائد السائدة، دون الاقتصار فقط على العرض الوصفي الحيادي للأحداث السياسيَّة وأخبار الملوك والسلالات المتعاقبة التي يهتمُّ بها عادة المؤرخ التقليدي. وأوَّل مَن طبَّق هذه المنهجيَّة على دراسته للشرق الإسلامي هو - كما يذهب أركون - المؤرخ الماركسي كلود كاهين. رغم إشادة أركون بهذه المنهجيَّة التي بلورتها مدرسة الحوليات (منهجيَّة التاريخ الاقتصادي والاجتماعي) وحديثه عن أهميتها في إلقاء المزيد من الضوء على واقع المجتمعات الإسلاميَّة، إلا أنَّه أخذ على كلود كاهين تطرُّفه في تطبيقها، ذلك التطرُّف الذي يعود إلى تبنيه النظريَّة الماركسيَّة. فالعامل الاقتصادي والاجتماعي ليس هو العامل الوحيد الحاسم في تحديد وجهة التاريخ كما يذهب أركون.

** تقوم هذه المنهجيَّة - كما يذهب أركون - على دراسة العلاقة بين العقليَّة الفرديَّة والعقليَّة الجماعيَّة في فترة تاريخيَّة ما. فهذه المنهجيَّة تقوم على الربط بين علم النفس وعلم التاريخ، بين الدراسة الفرديَّة والدراسة الجماعيَّة. وفقاً لهذه المنهجيَّة، يتمُّ النظر إلى أيَّة شخصيَّة تاريخيَّة ليس فقط باعتبارها شخصيَّة مستقلة، بل أيضاً باعتبارها عضواً في مجتمع يتأثر بظروفه الاجتماعيَّة والسياسيَّة والاقتصاديَّة. فهذه المنهجيَّة تساعد على إضاءة الشخصيَّة التاريخيَّة والعصر الذي تعيش فيه هذه الشخصيَّة في آن واحد.

[1]. أركون محمَّد، قضايا في نقد العقل الديني: كيف نفهم الإسلام اليوم؟ ترجمة وتعليق هاشم صالح، دار الطليعة، بيروت 1999 ص 151.

[2]. انظر أركون محمَّد، الفكر الإسلامي ... قراءة علميَّة، ترجمة هاشم صالح، المركز الثقافي العربي، ط2، 1996، ص ص 32-33.

[3]. أركون محمَّد، قضايا في نقد العقل الديني: كيف نفهم الإسلام اليوم؟ ص 232.

[4]. المصدر نفسه، ص 187.

[5]. أركون محمَّد، قضايا في نقد العقل الديني: كيف نفهم الإسلام اليوم؟ ص 188.

* يجمع أركون في دراساته حول التراث بين المنهجيَّة التاريخيَّة التطوريَّة diachronic عند المؤرخين وبين المنهجيَّة التزامنيَّة synchronic عند الإنثربولوجيين. وبذلك يتجاوز أركون التعارض الشهير بين التاريخ والبنية. وفقاً لأركون، إنَّ الفكر الإيجابي الواقعي هو الذي يدرس التغير والانقطاع كما يدرس الاستمراريَّة والبنية المتصلة.

[6]. أركون محمَّد، قضايا في نقد العقل الديني: كيف نفهم الإسلام اليوم؟ ص 284.

[7]. أركون محمَّد، الفكر الإسلامي ... قراءة علميَّة، مصدر سابق، ص 72.

[8]. أركون محمَّد، الفكر الإسلامي ... قراءة علميَّة، ص 21.

[9]. أركون محمَّد، قضايا في نقد العقل الديني: كيف نفهم الإسلام اليوم؟ ص 174.

[10]. المصدر نفسه، ص 186.

* استخدم ميشيل فوكو الإبستيميَّة بمعنى النظام الفكري العميق أو الأركيولوجي كمعيار لتحقيب الفكر الأوروبي على هذا النحو: فكر العصور الوسطى الممتد حتى عصر النهضة، ثم فكر العصر الكلاسيكي (بدءاً من ديكارت)، ثم فكر الحداثة (بدءاً من كانط).

[11]. المصدر نفسه، ص 103.

[12]. المصدر نفسه، 103.

[13]. المصدر نفسه، ص 174.

[14]. المصدر نفسه، ص 182.

[15]. المصدر نفسه، ص 225.

[16]. المصدر نفسه، ص 101.

[17]. انظر: أركون محمَّد، قضايا في نقد العقل الديني: كيف نفهم الإسلام اليوم؟ ص ص 72-73.

* يشير أركون بهذا المصطلح إلى المذهب الديني الذي يُنظر إليه باعتباره هو وحده المستقيم والصحيح وما عداه بدع وهرطقات.

[18]. انظر المصدر نفسه، ص 74.

[19]. انظر المصدر نفسه، ص ص 85-86.

[20]. المصدر نفسه، ص ص 98-99.

* يضرب أركون مثلاً على ذلك بـ"هتلر" الذي لم يولَد في إحدى البلاد العربيَّة أو الإسلاميَّة التي لم تشهد الحداثة بعد.