ما هو أخطر من تحريم المشاركة أو إباحتها: "ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله"


فئة :  مقالات

ما هو أخطر من تحريم المشاركة أو إباحتها: "ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله"

ما هو أخطر من تحريم المشاركة أو إباحتها: "ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله"

هذه الفتاوى والدراسات الكثيفة، والتي يحرم بعضها المشاركة السياسية، وبعضها يبيح ذلك، تظهر حالة خطيرة ومرعبة في التفكير الديني والاجتماعي القائم؛ تدعو إلى القلق وضرورة المراجعة العميقة للمنظومة الاجتماعية والثقافية العميقة المحركة للجماعات الدينية ومؤيديها، سواء تلك الموصوفة بالمتشددة، والتي تحرم المشاركة السياسية أو المعتدلة التي تبيح ذلك، فهي جميعها تعطل العقل والتشاور والاجتهاد البشري في الحكم والإدارة، وتنسف من جذورها مفاهيم سلطة الأمة وولايتها على شأنها ولا تلقي بالا لما تواضعت عليه الأمم والشعوب في الانتخاب والتصويت، وما معنى ذلك أو جدواه وهناك حكم الله النازل من السماء، وما على الناس سوى أن ينتظروا حكم الله!

وكرست الجماعات الدينية السياسية اليوم مجموعة من الأحكام والمفاهيم التي حظيت بقبول عميق لا يقبل المناقشة والمراجعة، دون ملاحظة إن كانت تلك الأحكام والمفاهيم هي من الدين بالفعل! أو حتى محاولة سؤال النفس عما يترتب عليها من متواليات معقدة في العمل والعلاقات وفهم الدين وأحكامه، وتبدو محاولات تفكيك هذا الخطاب أو مراجعته وكأنها خروج على الدين نفسه وليس جدلا مع أفكار ومفاهيم بشرية ربما لا يكون لها علاقة بالدين!

ويمكن عرض أمثلة كثيرة لهذه الحالات والمفاهيم لا تتسع لها المساحة المتاحة، ولكن أجمل وأهم ما في المقالات الجارية أنها تثير الأفكار والأسئلة وتعيد عرضها وتنظيمها وتنسيقها ثم تتيحها للنقاش والنظر، وتمهد لإعادة معالجتها وتطويرها في دراسات وكتب، .. ويكفي هذه المقالة وغيرها أن تطرح الأسئلة وتحفز النقاش والنظر!

وكنت عرضت في مقالة سابقة، مفهوم "الدولة الإسلامية" الذي أخذ بعدا وفهما جديدا من غير تأصيل ونقاش، وسأكتفي هنا بالتذكير بذلك، وأقف عند مفهومي الجاهلية والحكم اللذين أسسا لدى الجماعات الدينية فهما وأحكاما بنيت عليهما، وصرنا في مواجهة متوالية شائكة من التشكلات والأفكار المنسوبة إلى الدين، وتذكر بقوله تعالى: "ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله".

لقد بنت الجماعات الدينية السياسية والقتالية أحكاما وأفكارا على أساس أن "الجاهلية" تعني ضد الإسلام، كما فهموا الآية "أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون"؛ فهناك حكم الله وحكم الجاهلية، فما ليس "حكم الله" هو حتما "حكم الجاهلية" ثم طور مفهوم الجاهلية على أنه ما ليس إسلاما.

وبداهة، فإن سلسلة طويلة من الأسئلة تنشأ في مواجهة هذا الحكم/ المفهوم، هل الجاهلية تعني الكفر؟ وهل وصف جاهلي تعني كافر؟ ما الحكم الشرعي المترتب على وصف جاهل وجاهلي؟ هل غفلت كتب الفقه والتراث الإسلامي عن هذا الحكم الناشئ الجديد واكتشفته اليوم جماعات الإسلام السياسي؟ ولكن ماذا عن كلمة الجاهلية في قواميس اللغة العربية ومعانيها الممكنة والواردة في القرآن الكريم والأحاديث النبوية والنصوص اللغوية المعتمدة، مثل الشعر العربي "الجاهلي"؟ هل الجاهلية التي يحدثنا عنها محمد أبو فارس هي أيضا الجاهلية في قوله تعالى: "تبرج الجاهلية الأولى" أو "حمية الجاهلية" وهل جاء جذر الكلمة "جهل" في القرآن والأحاديث والنصوص بالمعنى والمفهوم الذي يسوقنا إليه "الإسلام السياسي"؟ فهل الجاهلون في قوله تعالى: "وأعرض عن الجاهلين" أو "وإذا خاطبوهم الجاهلون قالوا سلاما" هم الذين لا يحكمون بما أنزل الله؟ وهل الجهالة في الآية: "إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة" هي النظام السياسي غير الإسلامي؟ وهل كان وصف الرسول لأبي ذر إنك امرؤ فيك جاهلية، يعني المشاركة السياسية مع أنظمة غير إسلامية؟ وهل كان الشاعر الجاهلي عمرون بن كلثوم في قوله: "ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا" يتحدث عن نظام سياسي واجتماعي مقابل للنظام الإلهي النازل من السماء.

وإذا كانت الجاهلية تقابل "الله" كما فهم من الآية فهل الحكم غير الجاهلي هو الحكم "الإلهي"؟ ما هو حكم الله؟ وهل يعني قوله تعالى: "إن الحكم إلا لله" أن الله هو رئيس الوزراء؟

لماذا وكيف فهم "الحكم" بأنه الحكومات القائمة اليوم والدول السياسية والسلطات، وغير ذلك من مفاهيم اتخذت مفهومها الحالي قبل ثلاثمائة سنة على الأكثر، وهل "الحكم" في القرآن والنصوص هو السلطة التنفيذية أو السلطة القضائية؟ ومن المعني بقوله تعالى: "ومن لم يحكم" هو رئيس الدولة؟ رئيس الحكومة؟ القاضي؟ النائب؟ المدير المسؤول، والواقع أن كل قرار أو فعل أو قول إنما يكون مستمدا من حكم أو هو حكم؟ فمن يكفر ومن لا يكفر؟ أليس خطأالحكم في مباراة كرة قدم أو خطأ المعلم في تصحيح الأوراق حكما بغير ما أنزل الله؟ أليس كل خطأ في حكم أو قرار يتخذه الحاكم أو القاضي أو النائب المشرع أو المسؤول هو حكم بغير ما أنزل الله؟ فمن يكفر من هؤلاء ومن لا يكفر؟ ومتى يكون "الحكم" مشمولا بالكفر والفسق والظلم المشار إليه في القرآن، ومتي يكون مستثنى؟

إن أسوأ ما وقعت فيه جماعات الإسلام السياسي، وأوقعت به كثيرا من المؤيدين والناس إقحام صفة الإسلام في حالات أو نفيها عنها على نحو يستدعي قوله تعالى: "أم لهم شركاء شرعوالهم من الدين ما لم يأذن به الله" ثم إقحام المجتمعات والدول في صراع وجدل، استنزف الجهود والموارد وأزهق الأرواح لأجل مطالب وأهداف وأفكار ومقولات لم يفرضها الله على الناس ولا طلب من أحد إقامتها؛ فالحكومة ابتداء مؤسسة ابتدعها الناس ويمكن أن يستغنوا عنها، وقد عاشت الأمة والبشرية أيضا في بلاد كثيرة قرونا طويلة، وما زال بعضها من غير حكومات ولا دول، أو أن الدولة المركزية غائبة عنها ولا تعلم عنها شيئا، ولكن المسلمين قادرون على عبادة الله وتطبيق ما أمر الله به في جميع الأحوال، وما يحتج به وتدعو اليه الجماعات من نصوص صحيحة ثابتة، لا يعني بالضرورة النتائج التي يدعون إليها على نحو قطعي ثابت لا يقبل التأويل، ولا يدع للبشر مجالاللتفكير والاختيار ... ولا الخطأ والجهل أو نقص المعرفة!

وعلى سبيل المثال، فقد تشكل اليوم فهم سائد بتحريم الرق والعبودية دون أن تتغير النصوص الدينية، فهل نتقبل اليوم دعوات لإباحة الرق والجواري والسبي بحجة أن النصوص الدينية لم تحرم ذلك، بل إن هناك تراثا فقهيا كبيرا في أحكامالرق والجواري، هل تصلح اليوم للتطبيق؟ لقد تغير الفهم من غير أن تتغير النصوص، وما يبدو اليوم صوابا يمكن أن يتحول إلى خطأ، وما يبدو اليوم اعتدالا ومقبولا، يمكن أن يتحول إلى تشدد أو سلوك خاطئ مخجل! ضرب الزوجات على سبيل المثال وضرب الأطفال يتغير موقف الناس منها ورأيهم في ذلك، وقد تتحول إلى حرام تبعا لرفض الناس لهذا السلوك وخجلهم منه!... وفي ذلك كله، فإن الناس تفكر وتتجادل وتلجأ إلى رأي الأغلبية، ليس لأن الأغلبية هي الصواب، ولكنها أداة ترجيح في الجدل والحوار بين الناس، وحتى المعاني التي تمنحها الكلمات والمصطلحات، فإنها تتغير. ولذلك، فإن تاريخ اللغة يقدم معان مختلفة ومعقدة ومتطورة على مر الزمان للكلمات، ويتبع ذلك بطبيعة الحال تغير الفهم والأحكام...