من الإسلام في فرنسا إلى الإسلام الفرنسي


فئة :  مقالات

من الإسلام في فرنسا إلى الإسلام الفرنسي

الإسلام في فرنسا، في أوروبا، وفي الغرب بوجه عام، مكمن تحدّيات ورهانات وترتيبات، فيها ما يندرج ضمن المجال الديني الصرف، وضمنها ما يتجاوز ذلك إلى مستويات أخرى، سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو تطال العلاقة مع هذا البلد الإسلامي أو ذاك.

والواقع أن علاقة الدولة في فرنسا بالدين الإسلامي، وبالديانات السماوية عموما، لم تكن دائما عادية، ولا كانت تاريخيا من تلك التي بالإمكان الحسم فيها دون أن يكون لذلك تداعيات على الدولة "المضيفة" ذاتها، أو على طبيعة تواجد هذا الدين أو ذاك، وضمنه الإسلام، من بين ظهرانيها.

لقد تطلب الأمر، من لدن الدولة الفرنسية تحديدا، قرونا عدة كي تضمن للبروتستانت مثلا حرية دينية كاملة، كما تطلب الأمر صراعا طويلا ومريرا كي يقبل اليهود الاندماج في الأمة الفرنسية، بعد تمنع لم تحسم أمره إلا سلطة مركزية قوية سنها نابليون في حينه بقوة النار والحديد.

ولذلك، فإن المشاكل والصعوبات الكبرى التي تواجه الإسلام والمسلمين في فرنسا اليوم، إنما تقدم باعتبارها من ذات الطينة (أو تشارف على ذلك) التي عرفتها البلاد وعايشتها في حالة الديانتين البروتستانتية واليهودية. بيد أن إشكالية الإسلام في فرنسا، وفي العديد من بلدان أوروبا، تطرح لربما بحدة أكبر، لاعتبارات عدة متداخلة:

+ الاعتبار الأول لأن الإسلام في فرنسا، هو ديانة جديدة، لا بل ولربما ديانة دخيلة مقارنة مع ما كان موجودا وقائما وسائدا من ديانات. صحيح أن ثمة معطيات تاريخية تثبت تواجد بعض المسلمين هناك في بداية القرن التاسع عشر، لكن ذات التواجد لم يعرف تسارعا وكثافة حقيقيين إلا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، ثم موجة الاستقلالات السياسية التي طالت، في ستينيات القرن الماضي، معظم البلدان الإفريقية (وبعض بلدان آسيا أيضا) والتي كانت عبارة عن مستعمرات فرنسية أو تحت حمايتها أو خاضعة لوصايتها المباشرة.

+ الاعتبار الثاني، لأن عدد معتنقي الديانة الإسلامية في فرنسا، على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم وطوائفهم، عدد لا يستهان به، إذ أضحوا يمثلون، في الوقت الحاضر، ما بين 6 إلى 10 بالمائة من السكان، 40 بالمائة ضمنهم متدينون ممارسون لطقوسهم بانتظام. ولذلك، فلم يعد ينطبق على هؤلاء صفة "أقلية" كما قد يذهب إلى ذلك البعض. لقد أضحوا جزءا معتبرا ضمن النسيج الديموغرافي والاجتماعي الفرنسي، وبكل المناطق والجهات.

عدد معتنقي الديانة الإسلامية في فرنسا، على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم وطوائفهم، عدد لا يستهان به

+ الاعتبار الثالث لأن للإسلام في فرنسا خصوصية تميزه عن باقي الديانات السماوية، والتي تتمثل في كونه لا يقيم تمييزا ولا تمايزا بين الديني والدنيوي من ناحية، ولا يخضع لتراتبية محددة في تنظيمه أو في هيكليته أو في بنيته وبنيانه. بالتالي، فما دام الإسلام لا يعترف بالوساطة بين المسلم وخالقه، على شاكلة المسيحية مثلا، فإنه من المتعذر حقا إيجاد مخاطب مباشر وذو شرعية بالإمكان الارتكان إليه، ومن ثمة محاورته وإيجاد صيغ الحلول المرتضاة من لدن هذه الجهة كما من لدن تلك.

تقول بعض التقارير الصادرة بهذا الخصوص: "إننا بإزاء ديانة مخترقة من طرف تيارين كبيرين يتصارعان بكل جهات العالم، السنة والشيعة، وبإزاء مسلمين يتحددون ويتجمعون ويخضعون لبلدانهم /الأصل أكثر ما يخضعون للفضاءات الجغرافية التي تتمحور حول المساجد: إن المشكل الأساس الذي يعترض الدولة هو أنها تريد إسلاما فرنسيا، في حين أنها تجد نفسها تحاور سفارات وممثلين أجانب. اليوم، لا يعرف بلدنا إلا الإسلام في فرنسا" ... وليس الإسلام الفرنسي.

+ الاعتبار الرابع ويكمن في السياق الدولي العام، ولا سيما في ظل ما بات يسمى منذ مدة بـ"الإرهاب الإسلامي" الذي تلا إنشاء تنظيمي القاعدة وداعش ودخولهما حيز المواجهة المباشرة مع الغرب. هذا الاعتبار لا يشير فقط إلى جانب التهديدات المباشرة التي رفعت لواءها "الأممية الجهادية"، بل يشير أيضا إلى قدرة هذه التنظيمات على اختراق البيئة الإسلامية، ومن ثمة استقطاب شباب لم يعد يجد في قيم الغرب ولا في نمط عيشه، إمكانية للحفاظ على تدينه وهويته وانتمائه داخل البيئة إياها.

+ أما الاعتبار الخامس، فيتمثل في نظر العديدين، في جهل الفرنسيين بما هو الإسلام والدين الإسلامي. وعلى الرغم من ذلك، فإن العديد من الفرنسيين وإن اعتبروا أن الإسلام دين سلم وسلام، إلا أنهم لا يخفون تخفوهم وخشيتهم من "التأويلات الجهادية" لمضامينه وتوظيفها ضد قيم العيش المشترك الذي تحاول الدولة الفرنسية سنها وتكريسها... أو هكذا يقول مسؤولوها وسياسيوها والعديد من مثقفيها.

في دراسة لاستطلاع آراء الفرنسيين، نشرت في العام 2015، شكك "الشعب الفرنسي" بنسبة 47 بالمائة في قدرة الإسلام على التعايش مع قيم الجمهورية، مقابل 93 بالمائة للديانة الكاثوليكية و81 بالمائة بالنسبة إلى الديانة اليهودية. يبدو بالتالي، على الأقل بالبناء على هذه المعطيات، أن الدولة في فرنسا إنما هي أمام احتمالين أساسيين اثنين:

- إما سن سياسات عمومية تكون موجهة للمسلمين، باعتبارهم "طائفة على هامش المجتمع"، لها قوانينها وقيمها ونمط عيشها، وهو ما لا يمكن أن يستقيم من الناحية العملية والدستورية، ناهيك عن تداعيات ذلك على المستوى السياسي والأخلاقي.

- وإما العمل على فرض قواعد ومعايير جديدة يكون من شأنها إدماج مسلمي فرنسا، والحيلولة دون أن يسقطوا في مستنقع الأصولية والتطرف والعنف وجر الدين لانحرافات طائفية لا تحمد عقباها.

كل التصورات القائمة، منذ بداية الألفية الثالثة تحديدا، إنما تبدو متمحورة حول الانتقال التدريجي من منطق الإسلام والمسلمين في فرنسا، إلى منطق الإسلام الفرنسي والمسلمين الفرنسيين. والتمييز هنا ليس تمييزا شكليا أو تباينا على مستوى المقاربة. التمييز قائم بين أن يقبل المسلم العيش في فرنسا باعتباره مسلما فرنسيا، وبين أن يقبل بالعيش ذاته باعتباره فرنسيا مسلما. الهوية والانتماء يبدوان هنا سابقين على الدين، تماما كما هي سابقة على أي انتماء طائفي أو مذهبي أو ما سواهما.

ثمة مقترحات عدة قد يطول التوقف عندها هنا، بيد أن أقواها على الإطلاق دفعا بهذا الطرح، طرح الانتقال من الإسلام في فرنسا إلى طرح الإسلام الفرنسي، إنما تكمن في القول بضرورة إدماج الإسلام في العلمانية؛ أي جعله جزءا منها كما هو الحال مع باقي الديانات الممارسة. والعلمانية المشار إليها هنا ليست نفيا للأديان أو تقويضا لمقوماتها وتمثلاتها، بل هي ذاك "المعطى" المرتكز على ثلاثة مبادئ كبرى، في صيرورته كما في آليات اشتغاله: حيادية الدولة إزاء الديانات السماوية، ثم الحرية الدينية للأفراد والجماعات، ثم احترام التعددية... بالتالي، فالمطلوب هنا (والمطالب به أيضا) إنما إخضاع الديانة الإسلامية هي الأخرى لقانون العام 1905، لكن مع تكييف في بنود هذا الأخير وتوصياته حسب الظروف والسياقات الجديدة.

لا يقتصر الطرح أعلاه على ضرورة إعمال هذه المبادئ والعمل على تصريفها بالتدريج، بل يذهب حد مطالبة البلدان الأجنبية (الإسلامية على وجه التحديد) برفع يدها تماما، وقطع أية علاقة دينية مع مسلمي فرنسا، ليس فقط لا على مستوى التمثيلية، بل أيضا فيما يخص جانب التمويل وعلى مستوى إنشاء وعمل الجمعيات القائمة.

قد يبدو الطرح أعلاه سرياليا، أو غير قابل في مجمله للتطبيق. إلا أن المدافعين عنه، إنما يستشهدون، من جديد، بتجربة فرنسا مع الكاثوليك والبروتستانت واليهود... ويبينون كيف أن الصراعات الدينية المريرة التي عاشتها فرنسا مع هذه الديانات، قد استقرت بمرور الزمن وأدت بالمحصلة النهائية، إلى قبول الكل بالاحتكام إلى "الميثاق الجمهوري" وفصل الدين عن الدولة.

يقول تقرير صادر حديثا، بخصوص التمييز أعلاه: إن تعبير الإسلام الفرنسي يعني "إسلاما مندمجا تماما في قيم الجمهورية، في احترام تام لقوانينها ومؤسساتها، وليس دينا موجها عن بعد، من لدن القوى الأجنبية التي تمول المؤسسات الدينية بغرض فرض تأثير يكون منافيا للقيم التي ندافع عنها".

ولذلك، فإن أصحاب هذا الطرح، طرح الإسلام الفرنسي، يرفضون أن يكون ممثلو البلدان الأجنبية (من المغرب والجزائر وتركيا والسعودية وبعض دول الخليج الأخرى) هم من يقوم على تمثيلية الإسلام والحديث باسم المسلمين في فرنسا.

إنهم يذهبون لدرجة المطالبة بضرورة فسخ كل الاتفاقيات الدولية التي تربط فرنسا بهذه البلدان، لا سيما فيما يخص تأطير الشأن الديني وتكوين الأئمة والمرشدين. إنهم يريدون أن يكون هؤلاء (الأئمة والمرشدون أقصد) نتاج البيئة الفرنسية الخالصة، يعترفون بقيمها ويخضعون لقوانينها ومؤسساتها... وليس نتاج بيئة أخرى خارجية.

إلى جانب ذلك، فأصحاب هذا الطرح لا يرون من غضاضة تذكر في تنظيم الإسلام الفرنسي على الطريقة الكاثوليكية أو اليهودية... إنهم يدفعون، كما يذهب إلى ذلك جاك بيرك، بضرورة أن "ينفتح الإسلام على العالم" ... لكنهم يريدونه أن ينفتح أولا وقبل كل ذلك على "قيم الجمهورية" وقوانينها... وهذه مسألة أخرى سنعود لها في القادم من مقالات.