من السلطة الدينية إلى السلطة الروحية


فئة :  مقالات

من السلطة الدينية إلى السلطة الروحية

من السلطة الدينية إلى السلطة الروحية

محمد أمين بشيبة[1]

لا عجب أو استغراب إذا رأينا حقل الاهتمامات السوسيولوجية والأنثروبولوجية ومحط اهتمامات الباحثين في هذا المجال، ووجدنا المقدس بكل تجلياته أو بشكل أوسع مجال الديني القدسي وتمظهراته الطقوسية. لقد استحوذ هذا الأخير الحيز الأكبر من المواضيع والإشكالات والأبحاث المنجزة في علم الاجتماع والأنثروبولوجيا. في هذا الصدد يقول حسن رشيق: "تكاد الطقوس تفرض نفسها على الباحثين كموضوع"[2]، مثلما يسجل نفس الموقف ضمن كتابه "سيدي شمهروش" الطقوسي والسياسي في الأطلس الكبير[3].

إن دوافع هذا الاهتمام ليست عبثية أو مجانية، بل لطبيعة العلاقات الاجتماعية التي تحكمنا وتؤسس متخيلنا عبر ممارستنا اليومية. والأهم من ذلك؛ لأن الطقوسي داخل المقدس يجد حضوره في المستوى السياسي المهيكل لبنية المجتمع وتراتباته الواضحة، وبذلك تكون علاقات السلطة التي تحكم البنية السياسية في ارتباطها بمن يعيش تحت ظل نسق هذه السلطة تنبني وتقوم على الركائز الدينية أساسا، وتتجلى وفق خاصية الديني كمحدد أساسي ومهم وباعتبار هذا الأخير رمز تثبيت الشرعية وقبول هذه الشرعية من الشعب عن طريق التعبير عنها من خلال الولاء المطلق لإمارة المؤمنين الشيء الذي يؤكد عليه محمد الطوزي، حين يشدد على ارتباط إمارة المؤمنين بالمرجعية الدينية دون غيرها.[4]

يتجسد الحكم كذلك في كيفية تصريف هذا الرأسمال بطريقة سياسية تحفظ الحاكم، وتبقي على هاته الأواصر وتجديدها كل سنة. ما يظهر حجم التركيب والتعقد بين مستويات متباينة، لكنها متداخلة وبشدة، لهذا ينبغي لهاته الحقول "أن تعرض لا بوصفها سلسلة مربعات متوازية ومتداخلة، وإنما بوصفها، عوضا عن ذلك، شكل فن [دوائر متداخلة] متعدد الأبعاد به عناصر أفعوانية [تربط متحركة كأفعى دائرة بأخرى- حقل بآخر]". كما يقترح ذلك ب. فيرتر.[5]

إن أحد هذه العناصر الأفعوانية هو الدين، الذي يقطع حقول متمايزة في مستويات مختلفة (التداخل بين الدين والسياسة). ما يجعل الصورة أكثر تعقيدا، فالقوى التي تؤثر على تقييم الرأسمال في حقل الدين (أو في أي حقل آخر) هي محصلة دينامكيات داخلية [داخل الحقل نفسه] ودينامكيات علائقية [علاقة الحقل بالحقول الأخرى] أيضا.[6]

يعتبر السلطان أو الملك المعبر الوحيد الذي يدمج بين هذين الحقلين، ويضعهما ضمن نسق واحد يحكمه بواسطة الرأسمال الرمزي الذي يمتلكه والسلطة الروحية التي تخول له هاته المهمة. "وتشكل الأضحية لحمة الحقل الطقوسي برمته مثلما تشكل قناة الاستمرارية بينه وبين الحقل السياسي.[7] يعد الملك أب العائلة الروحية التي يتجاوز اتساعها حدود النخبة، ويعمل على توسيع شبكات نفوذه داخلها، كما يعمل على الزيادة من عدد تحالفاته داخل أسرته الدنيوية. وتتحرك هاتان الأسرتان تحت قيادة شخصين متميزين يجسدهما فرد واحد: "الملك، رئيس الدولة المغربية وأمير المؤمنين الشريف"[8]. وهنا تكمن القوة الكبرى للسلطة الروحية ورمزيتها عند السلطان وبركته. سلطة تقول عنها ر. بورقية أنها تتجاوز الحدود الترابية؛ لأن السلطان هو أمير المؤمنين وإمام، وبالتالي له مبدئيا سلطة على نوع معين من البشر هم المؤمنون: فالسلطان هو المركز الروحي، باعتباره أمير المؤمنين والصلاة تقام باسمه.[9] إن هاته السلطة ذات المنبع الروحي، قد تفوق بشكل أكبر بكثير المنبع الديني، لكون هذا الأخير واحدا من بين منابع هذه السلطة، غير أنه ليس الوحيد، بل قد توجد مصادر أخرى تؤسس للسلطة الروحية، أو ما يطلق عليه ب. فيرتر "بالرأسمال الروحي". يتحدث عن ذلك قائلا: "إذا كان الرأسمال الديني يعتبر، وفقا لبورديو، بوصفه شيئا ينتج ويراكم ضمن إطار سلطة دينية مؤسسية، فإن الرأسمال الروحي يمكن أن يعتبر بوصفه سلعة أكثر انتشارا، ومحكومة بأنماط إنتاج وتوزيع وتبادل واستهلاك أكثر تعقيدا".[10] إن تعقيده وتعقده يتأسس بشكل رئيس من خلال ما يشكله كمركز لتداخل حقول عديدة، ومصالح مختلفة، تحكمها آليات الصراع والسلطة، سلطة الديني، وسلطة السياسي، ومنهما سلطة الحكم المبنية على الهيبة والهبة والخوف والخضوع، إلخ.. ولكون السلطة أو الرأسمال الروحي أشمل وأعم من السلطة والرأسمال الديني، فبإمكان أي كان أن يحصل عليها ومن مواقع مختلفة، لاعتبارات عديدة: كالحظوة المادية والرمزية "إن قيمة الرأسمال الروحي لا تحدد من قبل المحترفين [أهل الدين، الخواص] وفقط، وإنما من قبل العوام أيضا، وهو الأمر الذي من شأنه أن يقوض استقلالية حقل الدين. إن الرأسمال الروحي يمكن أن يكون عملة صالحة للتداول في حقول أخرى سوى حقل الدين، ومن ثم يكون بوسع عامة الناس أن يمارسوا سلطة روحية بفضل الرأسمال المادي أو الرمزي الذي تمكنوا من مراكمته في حقل آخر سوى الدين".[11]

لهذا السبب يشكل السلطان بحظوتيه اللتين تحدثنا عنهما سلفا مركز هاته السلطة ومؤسسها داخل حقل القداسة والحكم، آخذا ذلك من كل ما يملكه داخل مملكته الشريفة بعلاقاته والكاريزما التي تدعم حضوره، وما يملكه من رأسمال اقتصادي، واجتماعي، وثقافي، ليصب ذلك في إرساء السلطة مدعمة بالديني، وباعتبار السلطان الأب الروحي للمغاربة، وصاحب الكلمة الفصل في كل ما يحدث؛ لأن روحية سلطته تلك، تفرض كل ذلك.

[1] طالب في سلك الماستر تخصص علم الاجتماع، كلية الآداب والعلوم الإنسانية ظهر المهراز، جامعة محمد بن عبد الله بفاس

[2] حسن رشيق، الممارسة الأنثروبولوجية في المغرب، ضمن كتاب الانثروبولوجيا في الوطن العربي، حوارات لقرن جديد، أبو بكر باقادر، حسن رشيق، دار الفكر، دمشق، 2012، ص ص: 142-143

[3] سيدي شمهروش الطقوسي والسياسي في الأطلس الكبير، ترجمة عبد المجيد جحفة ومصطفى النحال، دار أفريقيا الشرق، 2010، ص: 10 "لو كان الطقوسي ثانويا، لما ابتكر رجال الحركة الوطنية الاحتفال بعيد العرش سنة 1933، ولا اللباس الوطني، ولما دعوا المغاربة، بعد نفي محمد الخامس، إلا مقاطعة صلاة الجمعة، وعدم الاحتفال بعيد الأضحى هذان المثالان يبرزان كيف أن الديني يمكن أن ينصهر داخل المنطق السياسي"

[4] محمد الطوزي، رباط الكتب، من العلماء المتمردين إلى بيروقراطية "الإيمان": حلقات مسلسل معلن لإعادة هيكلة الحقل الديني، ترجمة محمد حميمنات، 2015

[5] برادفورد فيرتر، الرأسمال الروحي: التنظير السوسيولوجي للدين مع بورديو ضد بورديو، ترجمة طارق عثمان، مؤسسة مؤمنون بلا حدود، 2017، ص: 28

[6] المرجع السابق، الصفحة نفسها

[7] نور الدين الزاهي، المقدس الإسلامي، دار توبقال للنشر، 2005، ص 60

[8] جون واتربوري، أمير المؤمنين، الملكية والنخبة السياسية المغربية، ترجمة عبد الغني أبو العزم، عبد الأحد السبتي، عبد اللطيف الخلق، دار أبي رقراق، 2013، ص: 214

[9] رحمة بورقية، الدولة والسلطة والمجتمع، دراسة في الثابت والمتحول في علاقة الدولة بالقبائل في المغرب، دار الطليعة - بيروت، الطبعة الأولى، شباط فبراير 1991، ص: 28، 30 أنظر كذلك بخصوص ارتباط أمير المؤمنين بالإمامة: - نور الدين الزاهي، المقدس والمجتمع، أفريقيا الشرق، 2011، ص: 8 حيث يقول الباحث في هذا السياق: "يستحضر الإمام المصلي (أمير المؤمنين) البركة والوراثة الروحية المجاهدة إلى جانب الشرف السلالي".

[10] الرأسمال الروحي: التنظير السوسيولوجي للدين مع بورديو ضد بورديو، مرجع مذكور، ص: 17، 18

[11] المرجع السابق: ص 29