نحو سياسة ثقافيَّة جديدة في ما بعد الكورونا


فئة :  مقالات

نحو سياسة ثقافيَّة جديدة في ما بعد الكورونا

نحو سياسة ثقافيَّة جديدة في ما بعد الكورونا[1]

لم يعد دور المثقَّف على الإنترنت ذلك الَّذي يبحث عن المعلومات والكتب فقط، ولكنَّه الآن أصبح شريكاً أساسيَّاً في العمل الإبداعيِّ، فكثير من الكتَّاب والرِّوائيِّين والشُّعراء يعرضون نماذج من أعمالهم الآن على الوسائط الإلكترونيَّة لتلقِّي آراء المثقَّفين الرَّقميِّين الَّذين يقومون بنقد العمل حتَّى قبل ظهوره. وفي بعض الأحيان قد يؤدِّي عدم قبولهم للعمل قيام الكاتب بتغيير في المنتج الثَّقافيِّ، حتَّى يُحقِّق رسالته المرجوَّة، وربَّما يكون هذا واضحاً بميلاد ما يُسمَّى بالنَّاقد الرَّقميِّ؛ الَّذي غالباً ما يكون مُجاملاً أو منحازاً بدون شروط موضوعيَّة. والكاتب الَّذي يستمدُّ وجودَه ونفوذَه الثَّقافيَّ من عدد أصدقائه وضغطات الإعجاب على صفحته الشَّخصيَّة، وما يصاحب ذلك من ظواهر سلبيَّة أيضاً مثل وجود تربيطات في هيئة لجان ثقافيَّة لصالح كاتب أو ناشر بعينه.

ويرتبط ذلك بقضيَّة المحتوى الثَّقافيِّ والمعرفيِّ والتَّرويج والتَّسويق لهذا المحتوى على الإنترنت، ففي عالمنا العربيِّ يعاني المنتج الثَّقافيُّ بمختلف أنواعه: (أدب - نقد - فكر - فنّ - ثقافة علميَّة - إبداعات جديدة) من مشاكل تسويقيَّة كبيرة، وفي حالة عدم وجود محتوى جيِّد، أو حتَّى وجود محتوىً هلاميٍّ غير ناضج؛ فهذا شيء سيعود بنتيجة سيِّئة على الجيل الجديد، فعلى الرَّغم من أهمِّيَّة الشَّبكات الاجتماعيَّة والإخباريَّة والثَّقافيَّة؛ إلَّا أنَّها بدون صياغة جيِّدة وثقافة تقوم على أسس وأخلاقيَّات وحضارات المجتمعات، تصبح ترسيخاً لقيم مادِّيَّة لا تُقيم وزناً للإنسان أو قيمه أو طموحاته أو مستقبله الشَّخصيِّ والمهنيِّ.

وفي ضوء ما سبق، يمكن تلمُّس ملامح سياسة ثقافيَّة جديدة تراعي الآتي:

1- الهويَّة الثَّقافيَّة: ثقافة المجتمعات هي آخِر ما تبقَّى من الهويَّات القديمة وتراثها وأصولها الحضاريَّة، وهي حائط الصَّدِّ الأخير ضدَّ طغيان موجات العولمة الثَّقافيَّة ومحاولات الاختراق الثَّقافيِّ والفكريِّ وصعود نجم ما يُسمَّى بالمواطن العالميِّ في مقابل المواطن الملتزم بثقافة مجتمعه وقيمه وتاريخه.

والهويَّة الوطنيَّة لأيِّ شعب أو بلد هي التَّاريخ المشترَك واللُّغة والثَّقافة والأمل في مستقبل أفضل في ظلِّ الوطن.

وعلى الرغم من أنَّه لم تحظَ قضيَّة في العالم العربيِّ بقدر من الكتابات والنِّقاشات، قدر ما حظيت قضيَّة الهويَّة، والَّتي تبدو في عناوين متتالية عبر وسائل الإعلام «أزمة الهويَّة»، «الهويَّة في زمن العولمة»، إلى غير ذلك من العناوين الَّتي تبحث في القضية، والَّتي تفجَّرَت أكثر ما تفجَّرت في ظلِّ ما تمرُّ به المنطقة العربيَّة من أحداث، ومع ذلك فلا زالت القضيَّة في طور التَّكوين المعرفيِّ ولم تصل لمرحلة الاكتمال الفكريِّ.

الهويَّة هي حُبُّ الوطن، والمواطنة هي الإحساس بالوطن، والانتماء هو الانتساب للوطن كمصدر للأمان، والتَّلاحم الوطنيُّ هو الاتِّحاد من أجل رفع شأن الوطن.

ولا بُدَّ من التَّكاتف المجتمعيِّ من قِبَل كلِّ المؤسَّسات وأفراد المجتمع لنجاح المبادرات الخاصَّة بالهويَّة وتنميتها من أجل تحقيق الأهداف القوميَّة.

2- مستقبل الثَّقافة: فيجب أن تكون نقطة البداية هي المستقبل، وليس الحاضر أو الماضي، فالعالم يتطوَّر بسرعة كبيرة، ولا بُدَّ من بذل الجهود لِلَّحاق بركب الحضارة، فالتَّخلُّف في هذه الحالة سيخرجنا من القطار السَّريع للمعرفة، وعند العودة لن نجد مكاننا؛ لأنَّ هناك مَن ينتظرون أن تترك لهم هذا المكان.

ولا يعني ذلك أنَّنا سنستغني عن التُّراث، نحن نحتاج إلى التُّراث لا لتقديس أفكاره أو ترديدها والتَّغنِّي بالماضي، ولكن ليكون لنا سنداً وعوناً في التَّجديد والابتكار، ولتكون مقدِّمته دافعاً للإنتاج الفكريِّ والحضاريِّ الَّذي نحتاجه.

3- الإبداع والابتكار في المجال الثَّقافيِّ: وذلك بفتح الفرصة للمبادرات الثَّقافيَّة، وهي أفكار جديدة أو رؤى مختلفة لمواجهة أسلوب أو طريقة أو مشكلة أو قصور في أحد مناحي الحياة الاجتماعيَّة والثَّقافيَّة، ويُعبَّر عنها في صورة حملة ثقافيَّة - مجتمعيَّة، وحشد إعلاميٍّ إلكترونيٍّ هادف. وبمجرَّد اشتراك النَّاس فيها تصبح الفكرة مُشاعاً والإضافات مُتاحة والكلُّ مشارك في صياغة مبادئها وتوجهاتها، ويساهم ذلك على تأكيد أهمِّيَّة دور الثَّقافة في المجتمع.

كم نحتاج إلى أن يقوم بذلك كلُّ مَن يؤثِّرون في عقل ووجدان هذا الشَّعب لإعادة قيمة مهمَّة، وهي القراءة الجادَّة من أجل مستقبل أفضل، فخبراء التَّسويق الثَّقافيِّ يلجؤون حاليَّاً إلى «المؤثِّرين» لنشر الوعي القرائيِّ بشخصيَّة مصر، خاصَّةً وأنَّ الجماهير تسعى دائماً لمعرفة سرِّ تميُّزِهم ونجاحهم.

4- التَّخطيط الثَّقافيُّ: ويتمُّ ذلك من خلال العمل على إعداد خرائط ثقافيَّة بكلِّ المناطق داخل الدَّولة؛ حتَّى يتحقَّق مبدأ العدالة الثَّقافيَّة كَمَّاً وكيفاً عند إعداد الخطط والبرامج، وخاصَّةً بالمناطق الهامشيَّة والمحرومة ثقافيَّاً، وتوفير قواعد بيانات مزوَّدة بأهمِّ الفاعلين والنَّاشطين الثَّقافيِّين والأماكن الثَّقافيَّة أو الَّتي يمكن استغلالها للأغراض الثَّقافيَّة وتطوير آليَّات الإدارة الثَّقافيَّة.

5- التَّكامليَّة والشُّمول في اتِّخاذ القرار: وذلك بالعمل على إعداد مشاريع للتَّنسيق مع الجهات التَّنفيذيَّة والتَّشريعيَّة والقضائيَّة لصياغة أفكار من شأنها تطوير المنظومة الثَّقافيَّة كَكُلٍّ.

6- ربط الثَّقافة بعمليَّة التَّنمية داخل الدَّولة: وذلك من منطلق أنَّ الثَّقافة مصدر للدَّخل دون الإخلال بالخدمة الثَّقافيَّة للمواطنين، والاهتمام بعمليَّات التَّرويج والدِّعاية والتَّسويق للمنتج الثَّقافيِّ والصِّناعات الثَّقافيَّة.

7- حرِّيَّة الفكر: من خلال الإيمان بفكرة التَّعدُّديَّة والاختلاف في التَّوجُّهات والسِّياسات والمعتقدات، والبعد عن الأفكار القطبيَّة الأحاديَّة والتَّصنيفات السَّلبيَّة المقيِّدة للإبداع.

8- الدِّبلوماسيَّة الثَّقافيَّة: وهي إحدى أدوات القوَّة النَّاعمة، ونحن الآن في أمسِّ الحاجة لبدء برنامج وطنيٍّ لدعم الدَّور العربيِّ إقليميَّاً وعالميَّاً بالمحافل الثَّقافيَّة.

9- برامج التَّعليم المستمرِّ: وذلك من خلال تأهيل كوادر وموظَّفي وزارة الثَّقافة بعقد دورات مهنيَّة وتثقيفيَّة للوعي بمتغيِّرات العصر والمستقبل القريب والبعيد.

10- المشاركة والمساندة: من خلال دعم مشاركة مؤسَّسات، وجمعيَّات المجتمع المدنيِّ في صناعة القرار الثَّقافيِّ، والمساندة الشَّعبيَّة من المثقَّفين والمهتمِّين.

[1] - ثقافة ما بعد الكورونا، سيد محمد ريان، صدر الكتاب عن دار مؤمنون بلاحدود للنشر والتوزيع -لبنان