الأخلاق، السيمولاكر والإلهاء: وظيفة الفن في فلسفة روسو

فئة :  ترجمات

الأخلاق، السيمولاكر والإلهاء: وظيفة الفن في فلسفة روسو

الأخلاق، السيمولاكر والإلهاء: وظيفة الفن في فلسفة روسو[1]

جواو جابرييل ليما[2]

ترجمة: رشيد أبعوض

مقدمة المترجم

تشير بعض التحليلات التاريخية إلى أن الإنسان القديم عاش لآلاف السنين دون أن يشعر بالحاجة إلى الفن، ما يعني أنه لم يكن جزءا أصيلا في بنيته الوجودية، بل استجابة لاحقة لأزمات واضطرابات اجتماعية وداخلية. وهذا الانفجار الفني الذي شهده العصر الحجري المتأخر يُقرأ كعلامة على فقدان شيء ثمين، وكأن الفن محاولة يائسة لتعويض عالم آخذ في التلاشي. لاحقا في العصر النيوليتي، يتحول الفن نحو أشكال هندسية جامدة، مما يعكس انغلاق الفنان عن الواقع الطبيعي واستبداله بعالم رمزي مغترب. ومن هنا يوصف الفن بوصفه شكلا من الاغتراب ينبغي تجاوزه؛ لأن الفجوة بين الطبيعة والفن ليست مجرد فارق، بل "حكم بالإعدام على العالم". ومع دخول الحداثة، أضبح الفن التجريدي يعزل نفسه، ويختزل في سطح مستو عليه طلاء، ليتحول بذلك الى سلعة بلا روح.

تطرح بعض المصادر أن للفنون أصولا شريرة[3]، حيث نشأت في ظل أنماط من الترف والانحلال[4]. وتربط الفنون غالبا بالترف الطبقي، بل وتعدّ أيضا شاهدا على تشوهات اجتماعية كان من المفترض أن تزول في عالم فاضل. فلو لم يكن هناك ظلم لما كانت هناك حاجة للقانون، ولو اختفى الطغاة والحروب لماتت الكتابة التاريخية. بالتالي، تصور الفنون لا كقوة خيرة بذاتها، بل كأداة للتعامل مع الانحرافات المجتمعية. وحتى الفلسفة التي تعد شكلا راقيا من التفكير، تتهم بالعقم حين تقارن بخدمة الآخرين. أما الأعمال الفنية، فغالبا ما ينظر إليها كوسائط تنقل "انحرافات القلب والعقل" خاصة حينما تستلهم رموزها من الأساطير القديمة، وتقدم للأطفال قبل أن يتعلموا القراءة، وهكذا تصبح تلك الحقيقة التي نسعى إليها، والتي وصفت بأنها "مستترة في قاع بئر" محجبة في الخفاء بفعل الفنون التي تحول دون السعي الجاد نحوها.

وهذا ما يجعنا نطرح سؤالا واضح المعالم: هل فشل حقا الفن في تحقيق وعوده الكبرى؟

 ملخص

جان جاك روسو كان، دون أدنى شك، أول من تناول بالدراسة الدور الأخلاقي للفن في الفكر الفلسفي الحديث. غير أن موقفه، وسط ضوضاء التنوير، بدا شاذًّا وغريبًا. فقد رأى روسو أن الفن مسؤول عن تدمير الفضيلة، لكنه اليوم يتحمّل مسؤولية صنع قناع أخلاقي. إن وظيفة الفن، في رأيه، ليست أن يقود الإنسان إلى الخير، بل أن يخلق هذا "القناع الأخلاقي" الذي يُبطئ انحدار الإنسان في الرذائل، أو على الأقل يُقلّل من حدوثها. فالفن لا يمنع الجريمة عن طريق بث الفضيلة، بل عن طريق محاكاة شكلية أخلاقية تحول دون وقوع أبشع الجرائم.

تسعى هذه الورقة إلى تحليل الدور الأخلاقي للفن في فكر روسو، من خلال قراءتين أساسيتين: الخطاب الأول، ومقدمة مسرحيته نرجس أو العاشق لنفسه.

مقدمة

في روما القديمة، كلما ساور الشكّ الشيوخ حيال أخلاقية مقترح جديد، كانوا يسألون –: من المستفيد؟ لقد أدرك هؤلاء الساسة القدامى أن معرفة حقيقة الشيء لا تكتمل بالنظر إلى شكله أو مادته، بل أيضًا إلى غايته ومرماه. وعلى منوال هذا القول، ينصبّ جهدنا اليوم لا على الفن ذاته، بل على غايته، على ما يحققه، على السبب الغائي لهذا الكائن الغريب: الفن. من الذي يجني ثمار العمل الفني؟ ما الغاية الحقيقية من الأدب والشعر والتصوير والنحت وسائر الفنون؟ هل يمكن القول إن للفن هدفًا أخلاقيًا؟ هل نحن في حال أفضل مع الفن أم بدونه؟ هذه الأسئلة لم تكن هامشية بالنسبة للفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو، بل كانت في صميم فكره الأخلاقي.

وفي هذه الورقة، سنُعنى بتحليل وظيفة الفن وغايته كما ظهرت في عملين محوريين من أعمال روسو: الخطاب الأول حول الفنون والعلوم، ومقدمة مسرحية نرجس أو العاشق لنفسه.

الخطاب الأول لروسو

أول معالجة فلسفية يقدمها روسو لوظيفة الفن كانت في عمله المعروف بـالخطاب حول العلوم والفنون، أو ببساطة الخطاب الأول. وكانت أكاديمية ديجون قد طرحت السؤال التالي لمسابقتها:

هل أسهمت استعادة العلوم والفنون في تهذيب الأخلاق؟

ولئن كان فلاسفة التنوير قد بالغوا في تمجيد قيمة العلم، لا سيما في معركتهم ضد سلطة الدين، فقد رأى كثير منهم أيضًا أن للفن دورًا تربويًّا، بل وحتى أخلاقيًا، في خدمة التمدن والحضارة. لكن روسو جاء بردّ مدهش، جريء، وصادم: كلا، لم تسهم الفنون والعلوم في تهذيب الأخلاق، بل العكس:

حيثما لا يوجد أثر، لا حاجة للبحث عن سبب. ولكن هنا، الأثر حاصل لا ريب فيه، والانحلال الأخلاقي واقع لا يُنكَر، ولقد فسدت نفوسنا بقدر ما تقدّمت علومنا وفنوننا نحو الكمال. لقد شوهدت الفضيلة وهي تفرّ كلما بزغ نور الفنون والعلوم في أفقنا، وهذا المشهد تكرّر في كل زمان ومكان. (Rousseau, 1997, p. 9, transl. V. Gourevitch)

لم يكن روسو يرى في الفن أو العلم خيرًا جوهريًّا، بل على العكس تمامًا: فقد اعتبرهما من العوامل التي أسهمت مباشرة في انحدار الأخلاق وتفسّخ المجتمع. لقد رأى بأمّ عينيه كيف أثّر الترف الباريسي على النفوس، لكنّه لم يكتفِ بتجاربه الشخصية، بل غاص في دراسة الحضارات القديمة، فخرج منها بما أسماه "تزامنًا لا لبس فيه": كلما ازدهرت الفنون، انحطّت الأخلاق.

ومع بروز المجتمع المدني، بدأت الفضيلة تُستبدل بالرياء والتكلّف والمظاهر. فظهرت عبارات التهذيب، وتقديس الجمال، والميل إلى الترف. وصارت الفنون والعلوم لا تستر الأخلاق فقط، بل تُضلّل وتُحرّض أيضًا على الانحراف. وقد صوّب روسو سهام نقده نحو شهوة الفنان للشهرة والتصفيق. فالفنان، كما يراه، يلهث خلف رضا الجمهور - ووراء المال طبعًا -، ولا يتورّع عن إرضاء أكثر أذواقه انحطاطًا وتعقيدًا.

كان روسو يرى أنه من العبث أن نحكم على قيمة الفن بناءً على ما يبعثه من متعة أو انفعال، أو على ما يجلبه للفنان من مال ومديح. الأخلاق يجب أن تكون الحَكَم الأعلى في كل ما يُنتَج فنيًا. ورغم أن هذا البحث لا يسعى لتعريف "الفضيلة" عند روسو بشكل دقيق، فإنه لا بد من تأكيد هذه الفكرة المركزية: أن الغاية الأخلاقية ينبغي أن تكون مبدأ الفن وغايته معًا؛ بمعنى آخر: الأثر الأخلاقي على المجتمع هو وحده ما يبرر وجود الفن.

لكن ولسنوات طويلة، أُسيء فهم موقف روسو من الفن أسوأ إساءة. فقد اتّهمه خصومه الفلاسفة بأنه يريد القضاء على الفنون والعلوم، وإرجاع البشرية إلى عصر الإنسان البدائي. وهذا، في الحقيقة، لم يكن فقط افتراءً على فكره، بل كان كابوسًا مرعبًا لرجال التنوير، وهم الذين رأوا في الفن والعلم أداة تقدم لا تقبل المساس.

لقد قضى روسو جزءًا كبيرًا من عمره يدافع عن نفسه ضد هذه القراءات الخاطئة. وفي كتابه النقدي الذاتي "روسو يحاكم جان جاك"، يكشف عن نواياه الحقيقية تجاه الفنون والعلوم، فيكتب:

"في كتاباته الأولى، كان لابد من هدم الوهم الذي يُغرقنا في إعجاب أحمق بالأدوات التي تصنع شقائنا، وكان لابد من تصحيح منظومة القيم الزائفة التي تكرّم المواهب المُهلكة وتزدري الفضائل الخيّرة. في كل موضع، يُظهر لنا الإنسانية في حالها الأصلي وهي أرقى وأذكى وأسعد، ويقابلها حال الإنسان المتحضر، الأعمى والشقي والشرير بقدر ما ابتعد عن حالته الأصلية ...لكن الطبيعة البشرية لا تعود إلى الوراء. فإذا غادر الإنسان زمن البراءة والمساواة، فلن يستطيع الرجوع إليه. وقد أصرّ روسو على هذا المبدأ.... لقد اتُّهم بإصرار بأنه يريد تدمير العلوم والفنون، وإعادة الناس إلى الهمجية الأولى. لكن الحقيقة عكس ذلك تمامًا. لقد دافع روسو دائمًا عن الحفاظ على المؤسسات القائمة، مؤكدًا أن تدميرها لن يزيل الرذائل، بل سيتركها بلا علاج، ويستبدل الفساد بالنهب". (Rousseau apud CASSIRER, 1954, p. 54- 55. Transl. Peter Gay)

حين نتأمل جان جاك روسو في شيخوخته، وهو يعود ببصره إلى الهدف من خطابه الأول، يتّضح لنا بجلاء وجهان للعمل الفني في نظره. فمن جهة، الفن هو القناة التي تنتشر من خلالها الرذيلة في المجتمع؛ وهذا ما نَبّه إليه الخطاب الأول، التحذير الذي تجاهله فلاسفة التنوير حتى ذلك الحين. لكن من جهة أخرى، الفن أيضًا وسيلة للحد من آثار الرذائل في الواقع. إنه لا يطهّر النفس، لكنه يمنع الفساد الأخلاقي من التحول إلى فعل إجرامي صريح — إلى "اللصوصية" و"العنف المنفلت". وباختصار، للفن قدرة على كبح السلوك غير الأخلاقي، وإن لم يكن قادرًا على إزالة الشرور من الجذور.

هذا الوجه الآخر للفن، وجه التخفيف من وطأة الفساد الأخلاقي، نال قسطًا من التوضيح في موضع آخر من كتابات روسو، وتحديدًا في مقدمة مسرحيته "نرجس أو العاشق لنفسه".

مقدمة نرجس أو العاشق لنفسه

كتب روسو مسرحية "نرجس" في سن الثامنة عشرة، غير أنها لم تُعرض على المسرح إلا بعد عشرين عامًا، وتحديدًا سنة 1752، حين قررت الكوميدي فرانسيز تقديمها على الخشبة. كان روسو حينها قد بدأ يُعرَف في باريس، وذاع صيته بين المثقفين. ومع ذلك، لم يكن استقبال الجمهور للمسرحية مدحًا خالصًا؛ فقد علّق أحد النقاد المعاصرين له بقوله:

"شغف السيد روسو لا يستحق التصفيق، بل الاستهجان (Fortes, 1997, p. 1­69)

وقبيل نشر المسرحية، قرّر روسو أن يكتب مقدمة قصيرة يُعلّق فيها على بعض جوانب هذا العمل "الطفولي"، بحسب وصفه. وفي ختام هذه المقدمة، أفصح روسو عن اعتبارات جديدة تتعلق بهدف الفن وغاياته. مرة أخرى، نجد في هذه المقدمة شك روسو العميق في الفنانين. فهم، كما يرى، لا يبالون بالأخلاق، وكل همّهم هو رضا الجمهور وصورتهم أمامه. ورغم ذلك، فهناك قلة نادرة من الفنانين - شواذ القاعدة- يتمكنون من تجاوز هذه الرغبة السطحية، فيُكرّسون فنّهم لقضايا الفضيلة والمبادئ الأخلاقية الحقة. ويبدو أن روسو، كما أفلاطون قبله، كان يرغب في أن يمتدّ الواجب الأخلاقي إلى الفنانين ورجال الثقافة. الانتصار على شهوة الشهرة، والتأمل في الأثر الأخلاقي للفن على الجمهور، هما - في نظره - أولى المهام الأخلاقية للفنان.

لكن روسو لا يكتفي بهذه الدعوة المحدودة، بل يذهب في المقدمة إلى طرحٍ أشمل. فحتى الكتّاب المتوسّطون، بل وحتى المسرحيون والرواة الضعفاء، قد يتبنون أهدافًا أخلاقية للفن، مثلهم مثل شيشرون وباكون. ويُشدّد روسو على أن فساد الإنسان عبر التاريخ بسبب الفن لا يلغي إمكان توظيف الفن اليوم لأغراض أخلاقية. وفي فقرة محورية من هذه المقدمة، يكتب روسو:

"إن نفس الأسباب التي أفسدت الشعوب، قد تُستعمل أحيانًا لمنع فساد أعظم [...] وهكذا، فإن الفنون والعلوم، بعد أن فقّست الرذائل، باتت ضرورية للحؤول دون تحوّلها إلى جرائم؛ فهي - على الأقل - تُغلفها بطبقة من الورنيش تمنع السم من الانفلات بسهولة. إنها تُدمّر الفضيلة، لكنها تُبقي على محاكاتها العامة، وهي في ذاتها أمر جميل. وتُدخل مكان الفضيلة اللباقة وآداب السلوك، وتُبدّل الخوف من الشر بالخوف من السخرية." (Rousseau, 2007, p. 28. Transl. C. Kelly)

بهذا المعنى، الفن لا يخلق الخير، لكنه يُجمّد الشر في شكله الخارجي. ولا تزال هذه المحاكاة، رغم كل شيء، أكثر نفعًا من انكشاف الرذيلة في صورتها العارية.

بعد أن كان يومًا ما مسؤولا عن تخريب الفضيلة، ها نحن نرى أن الفن قد تحوّل إلى أداة صناعية، لكنها فعّالة، تخدم أهدافًا أخلاقية؛ بمعنى آخر: حتى وإن كان الفن عاجزًا عن تهذيب الضمير الأخلاقي للفرد، فإنه يستطيع على الأقل أن يُؤدي دورًا ثانويًا، يُبقي على نوع من "الصورة العمومية للفضيلة" - أو ما يسميه روسو: التمثيل الزائف Simulacrum. ولشرح هذا المفهوم، يُدرج روسو تعريفًا مهمًّا في هامش من هوامشه:

هذا "التمثيل الزائف" هو نوع من اللين في الأخلاق، يُعوّض أحيانًا طهارتها، وهو مظهر من مظاهر النظام يمنع الفوضى المطلقة، وهو أيضًا الإعجاب بالأشياء الجميلة الذي يحول دون زوال الأشياء الجيدة تمامًا. إنه الرذيلة حين تتقمّص هيئة الفضيلة، لا من باب النفاق والخداع، بل تحت هذه الصورة الوديعة والمقدسة، هربًا من فظاعة أن ترى نفسها على حقيقتها عندما تتعرّى. (Rousseau, 2007, p. 29. Transl. C. Kelly)

هكذا يُصبح الفن هو الراعي لهذا التمثيل الزائف – الذي ليس فضيلة حقيقية، بل مجرد انعكاس سطحي لها: مظهر من مظاهر النظام، وذوق أخلاقي في حدود الجمال، وإعجاب بما هو حسن. الفن، بحسب روسو، يمنع النسيان الكامل لما هو خير، ويحول دون انفجار الفوضى الأخلاقية. إنّ ما يطرحه روسو هنا، هو أننا – بفضل الفن – ما زلنا نحافظ على بعض الفتات الرمزي من الأخلاق، كقشرة خفيفة تغلّف الانحلال. لكن كيف يُمكن الحفاظ على هذه القشرة؟ يُجيب الفيلسوف فيكتور غولدشميت بأن الفن – في نظر روسو – يمكن أن يخدم الأخلاق؛ لأنه يُؤخّر الانهيار الأخلاقي، أو كما يسميه بالفرنسية: retardement de la corruption تأجيل الفساد. غير أن هذا التأجيل لا يتحقق إلا إذا كان الفنان قادرًا على أن: "يمنع هذا التمثيل الزائف من أن ينقلب إلى نفاق، ويحفظ للرذيلة شعورها بالذنب". (Goldschmidt, 1987, p. 81-82) فطالما أن الفنون والعلوم والآداب قادرة على إبقاء هذا "القناع" دون أن تُصبح خادعة عن قصد، فإنها تبرّر وجودها الأخلاقي باعتبارها دواءً يؤجّل الكارثة التي سبق أن ساهمت في صنعها. روسو هنا لا يُقدّم الفن كوسيلة للإصلاح، بل كـ مسكّن روحي يمنع الإنسان من أن يُدرك قبح حالته الأخلاقية الحقيقية – لا عن طريق تقديم الفضيلة، بل عبر التمثيل الزائف للفضيلة.

بل أكثر من ذلك، يقترح روسو أن الفن يُستخدم كـ"طلاء أخلاقي (moral Varnish)، أي كغلاف خارجي يُخفي ما هو دنيء وقبيح. يمنح الفن نفسه هنا مهمة وقائية: منع الشر من أن يظهر في صورته العنيفة المتوحشة – كجريمة أو اغتصاب أو "سلب مسلح (Le brigandage) وظيفة الفن في هذه الحالة لا تكمن في بناء الفضيلة، بل في منع الرذيلة من أن تتحوّل إلى فعل واقعي مباشر. ومن ثم، فإن هذا "التمثال الزائف" الذي تُقدمه الفنون، يكون له وظيفة أخلاقية وإن كانت محدودة: كبح الاندفاع نحو الجريمة. فإذا كان لا بد للفن أن يجلب إلينا نوعًا من الفساد الأخلاقي الرمزي، فليكن في الوقت ذاته هو السدّ الأخير الذي يحول دون وقوع الشر كفعل مادي مُدمّر.

لا يزال روسو مقتنعًا بأن فن عصره لم يكن قادرًا على تغيير الحكم الأخلاقي للمواطن. ومع ذلك، فقد لاحظ أن الفن يمكنه أن يؤدي دورًا آخر: أن يُلهي الناس مؤقتًا. وهذا الإلهاء (distraction) له وظيفة أخلاقية، بحسب روسو. يُعبّر الفيلسوف عن هذا المثال النموذجي للإلهاء في هذا المقطع:

"لم يعد الأمر يتعلق بجعل الناس يفعلون الخير، بل يكفي فقط أن نُشغلهم عن فعل الشر؛ يجب أن نملأ وقتهم بالتفاهات حتى نُبعدهم عن الأفعال السيئة؛ علينا أن نُسلّيهم بدل أن نعظهم. إذا كانت كتاباتي قد أفادت القلة القليلة من الأخيار، فقد قدمت لهم كل الخير الذي أستطيع تقديمه. وربما أكون قد خدمتهم مرة أخرى، حين أُقدّم للآخرين موادًا تلهيهم، تُبعدهم عن التفكير بهم. وسأكون في غاية السعادة لو كان لي مسرحية تُصفّر وتُستهجن كل يوم، إذا كان في هذا الثمن كبحٌ لمخطط سيئ لأحد المتفرجين…" (Rousseau, 2007, p. 30. Transl. C.Kelly)

في هذا السياق، فإن "الإلهاء" لدى روسو لا يعني مجرد تشتيت الذهن، بل يعني أيضًا نوعًا من الاستجمام أو الترويح العقلي، أي أن الناس يجب أن يُمضوا وقتًا حقيقيًا في الاستمتاع بالفن، وإلا فهو ليس إلهاءً. بالتالي، تتمثل قوة الفن في قدرته على امتصاص الذهن مؤقتًا عبر تجربة ممتعة، تأسر الإنسان وتُبعده عن نزعاته الشريرة. لكن الإلهاء عند روسو ليس ترفًا بريئًا، بل هو انحراف هادف عن طريق الشر: "يجب أن نُشغل الناس بالتفاهات، حتى نُبعِدهم عن الأفعال الخبيثة".(Rousseau, 2011)

هنا يظهر أن الفن لا يُعلّم الناس كيف يكونون صالحين، بل يُبعدهم مؤقتًا عن التورط في الشر. وبهذا المعنى، يُصبح الفن، وفق تصور روسو، مجرد طريق جانبي (detour) عن طريق رئيس هو مسار الشر الأخلاقي. وهذا "الطريق الأخلاقي المنحرف" لا يعني فقط أن لدى الإنسان ميلًا إلى الرغبات الشريرة، بل يعني بالأساس الدافع المتكرر لتحويل هذه الرغبات إلى أفعال واقعية. لقد أدرك روسو أن الفن غير قادر على اقتلاع الرغبات اللاأخلاقية من جذورها. ولكنه يستطيع على الأقل أن يمنع تحققها في الواقع، من خلال امتصاص الطاقة النفسية وتفريغها في أشكال جمالية.

من هذا المنظور، يرى روسو أن كل الشر الذي قد تحتويه الأعمال الفنية مبرّرٌ أخلاقيًا، طالما أنه يمنع الناس من تنفيذ أفعال غير أخلاقية. حتى وإن عُرضت مشاهد الانحلال والرذيلة على المسرح أو في الرواية، فإن دورها يصبح مشروعًا إذا كانت تُبعد الجمهور عن ترجمة رغباتهم إلى واقع. إن الفن هنا يعمل بمثابة سدّ نفسي، أو حائط تأخير يُعيق الاندفاع نحو الفعل الأخلاقي المنحرف. لكن روسو ليس ساذجًا. فهو يعلم جيدًا أن الفن في كثير من الأحيان يكون منافقًا. فبدلاً من أن يُقلّل من ميل الجمهور لارتكاب الأفعال الشريرة، يقوم الفن أحيانًا بـ تحفيز هذه الرغبات، ويخلق أجواءً من المتعة العابرة تحرّض على الخطيئة. كل عمل فني يُثير الرغبات الأخلاقية المنحرفة في سياق تسلية وخفة، هو في نظر روسو فن منافق؛ لأنه خان وظيفته الأخلاقية الأصلية: منع الشر، لا إثارة الشهية إليه.

بناءً عليه، فإن الوظيفة الحقيقية للفن عند روسو هي:

أن يُغلق الطريق أمام الفعل الشرير، ويُقدّم بدلاً منه متاهةً أخلاقية ساحرة، طريقًا أطول، ممتعًا، وغامضًا، يقود "الراكب" إلى وجهته دون أن يسقط في هاوية الشر. بعبارة أخرى، الفن يعني – في جوهره – الإذن بالاستمتاع بالمحرّم، ولكن دون ارتكابه. الفن هو نوع من الاحتفال الرمزي بالخطيئة، لكنه لا يترك مجالًا لها لكي تقع في الواقع. ومع ذلك، حتى يؤدي الفن هذا الدور الأخلاقي، يجب أن يعزّز "التمثيل الزائف للفضيلة" (simulacrum) – ذلك الغلاف الخارجي الذي يوحي بأن الرذيلة لا تزال محتجبة، وأن المجتمع لا يزال محافظًا على مظهر النظام والخير. فـ الفن الحقيقي – غير المنافق – هو ذلك الذي يُحوّل الشر إلى مادة جمالية، وفي الوقت نفسه يمنع الجمهور من الوقوع في الرغبة الفعلية بارتكابه.

الخاتمة

سيكون من المخادعة الاعتقاد بأن روسو كان راضيًا عن هذا "الحد الأدنى الأخلاقي" للفن؛ وذلك في سبيل تحقيق حلمه بمجتمع بشري "حقيقي وأصيل (Cassirer, 1954, p. 55). لكنه، وخلافًا لأفلاطون الذي سارع إلى طرد الفنانين من الدولة، يعترف روسو بأن حتى "الفن غير الأخلاقي" في زمنه (وزمننا) يحمل في طياته أثرًا جانبيًا ذا طابع أخلاقي. هذا الأثر الجانبي، رغم هشاشته، يبقى ضروريًا من وجهة نظر روسو، ويُبرّر استعمال هذا "الدواء"، على الأقل إلى حين أن يصبح البشر مؤهلين لتحول جذري في تصورهم للفن. عندها فقط، يمكن للفن أن يتحرر من هذه الوظيفة الثانوية – أي صرف الإنسان عن فعل الشر – ويستعيد وظيفته الأساسية: أن يكون تعبيرًا خالصًا عن الحرية.

 

المراجع

Banerjee, Amal. 1977. Rousseau’s Concept of Theater. Oxford: British Journal of Aesthetics.

Cassirer, Ernst. 1954. The Question of Jean-Jacques Rousseau. New York: Columbia University Press.

Cassirer, Ernst. 1970. La Philosophie des Lumières. Paris: Fayard.

Delon, Michel, ed. 2007. Dictionnaire Européen des Lumières. Paris: Presses Universitaires de France.

Dent, N. J. H. 1996. Dicionário Rousseau. Rio de Janeiro: Jorge Zahar Editor.

Fortes, Luiz Roberto Salinas. 1997. Paradoxo do Espetáculo: Política e Poética em Rousseau. São Paulo: Discurso.

Goldschmidt, Victor. 1983. Anthropologie et Politique: Les Principes du Système de Rousseau. Paris: Vrin.

Grube, G. M. A. 1973. El Pensamiento de Platón. Madrid: Gredos.

Jaeger, Werner. 2003. Paidéia: A Formação do Homem Grego. São Paulo: Martins Fontes.

Lattman-Weltman, Fernando. 1990. Ética e Política: Uma Leitura de Rousseau e Kant. Rio de Janeiro: Iuperj.

Ménil, Alain. 1995. Diderot et le Drame. Paris: Presses Universitaires de France.

Mortier, Roland. 2000. Les Combats des Lumières: Recueil d’Études sur le Dix-Huitième Siècle. Ferney-Voltaire: Centre International d’Étude du Dix-Huitième Siècle.

Naves, Raymond. 1967. Le Goût de Voltaire. Geneva: Slatkine Reprints.

Plato. 2008. Oeuvres Complètes. Paris: Flammarion.

Rousseau, Jean-Jacques. 1852. Oeuvres Complètes de J.J. Rousseau: Avec des Notes Historiques. Paris: A. Houssiaux.

Rousseau, Jean-Jacques. 1959. Oeuvres Complètes. Vol. 1. Paris: Gallimard.

Rousseau, Jean-Jacques. 1964. Oeuvres Complètes. Vol. 3. Paris: Gallimard.

Rousseau, Jean-Jacques. 1997. The Discourses and Other Political Writings. Edited by Victor Gourevitch. Cambridge: Cambridge University Press.

Rousseau, Jean-Jacques. 2005a. Discurso sobre a Origem e os Fundamentos da Desigualdade entre os Homens (Precedido de Discurso sobre as Ciências e as Artes). São Paulo: Martins Fontes.

Rousseau, Jean-Jacques. 2005b. Carta a Christophe de Beaumont e Outros Escritos sobre a Religião e a Moral. São Paulo: Estação Liberdade.

Rousseau, Jean-Jacques. 2007. Rousseau: On Philosophy, Morality and Religion. Edited by Christopher Kelly. Lebanon, NH: Dartmouth College Press.

Rousseau, Jean-Jacques. 1920. Social Contract & Discourses. Translated by G. D. H. Cole. New York: E. P. Dutton & Co.

Rousseau, Jean-Jacques. 2011. Preface to “Narcissus, or the Lover of Himself.” Translated by Samuel Webb. Available at: https: //www.marxists.org/reference/subject/economics/rousseau/narcissus/preface.htm.

Ruzza, Antonio. 2010. Rousseau e a Moralidade Republicana no Contrato Social. São Paulo: Annablume.

Schinz, Albert. 1929. La Pensée de Jean-Jacques Rousseau. Paris: Librairie Félix Alcan.

Starobinsky, Jean. 2011. Jean-Jacques Rousseau: A Transparência e o Obstáculo – Sete Ensaios sobre Rousseau. São Paulo: Companhia das Letras.

Todorov, Tzvetan. 2008. O Espírito das Luzes. São Paulo: Barcarolla.

Voltaire, François-Marie Arouet de. 1860. Oeuvres Complètes de Voltaire: Mélanges. Vol. 19. Paris: Hachette.

Articles

Campbell, Sally H., and John T. Scott. 2005. “Rousseau’s Politic Argument in the Discourse on the Sciences and Arts.” American Journal of Political Science 49 (4): 818–28.

Façanha, Luciano da Silva. 2008. “Imitação e Imaginação, da Mímese às Paixões: A Ilusão do Reflexo para-Rousseau.” In Anais do VII Encontro Humanístico, edited by Edufma, 1–10. São Luís: Edufma.

Gonçalves, Marcos Fernandes. 2011. “A Concepção do Espetáculo como Supérfluo.” Synesis 3 (1): 1–15

Gourevitch, Victor. 1972. “Rousseau on the Arts and Sciences.” Journal of Philosophy 69 (20): 737–54

Mattos, Franklin de. 2009. “A Querela do Teatro no Século XVIII: Voltaire, Diderot, Rousseau.” O Que Nos Faz Pensar, no. 25: 45–60.

Migneau, Caroline L. 2007. “La Signification Morale du Projet de Sincérité de Rousseau.” Revue Phares 7: 1–12

Melzer, Arthur M. 1995. “Rousseau and the Modern Cult of Sincerity.” Harvard Review of Philosophy 5 (Spring): 4–21

Nascimento, Milton Meira do. 2006. “Rousseau: Da Servidão à Liberdade.” In Clássicos da Política 1, edited by F. C. Weffort, 95–124. São Paulo: Ática.

Prado Jr., Bento. 1975. “Gênese e Estrutura dos Espetáculos (Nota sobre a Lettre à d’Alembert, de Jean-Jacques Rousseau).” Estudos Cebrap, no. 14: 1–20

Vaz, Anelise. 2010. “A Igualdade Pensada e a Igualdade Possível: Reflexões sobre o Conceito de Igualdade em Hobbes, Locke e Rousseau e Considerações sobre sua Aplicabilidade.” Revista Iluminart do IFSP 4 (1): 1–15

[1] Lima, João Gabriel. “Morality, Simulacrum and Distraction: The Function of Art according to Rousseau.” Artefilosofia (Ouro Preto), no. 15 (December 2013).

[2] جواو غابرييل ليما دا سيلفا أستاذ في علم النفس بجامعة ولاية فييرا دي سانتانا (UEFS)، ضمن قسم العلوم الإنسانية والفلسفة (DCHF). حاصل على درجة الماجستير في دراسات الذاتية من جامعة ريو دي جانيرو الفيدرالية، ودرجة الدكتوراه في نظرية التحليل النفسي من الجامعة الفيدرالية لريو دي جانيرو (UFRJ)، وقد أتم أطروحته للدكتوراه سنة 2017 بعنوان: "التقليد العظيم: جاك لاكان، الفلسفة القديمة، والمسيحية (1953–1959)".

[3] Rousseau, J.-J. (1750/2001). Discourse on the arts and sciences: A discourse which won the prize at the Academy of Dijon in 1750 on this question proposed by the Academy: Has the restoration of the arts and sciences had a purifying effect upon morals? (G. D. H. Cole, Trans.). Dover Publications, 7.f

[4] Ibid,. 7