التحدّي الجماعوي أيّ تصوّر للكونيّة؟
فئة : ترجمات
التحدّي الجماعوي
أيّ تصوّر للكونيّة؟
هنري روينا - رويز
ترجمة: منوبي غباش
يقوم الإدماج الجمهوري على العلمانيّة التي تحرّر القوانين من التقاليد الدينيّة أو العرقيّة الخاصّة، وتهدف إلى تعريفها انطلاقاً من مقتضيات الحق. إنّ ذلك التحرير، كما رأينا، هو الذي يجعل القبول، ثمّ الاستقرار الدائم بل النهائي، ممكناً في إطار مؤسّسي مشترك بين الجميع. بطبيعة الحال يوضع ذلك الإطار في سياق موروث عن التاريخ، ولذلك يكون موسوماً بمرجعيّات خاصّة في مستوى تنظيم الفضاء والزمان كما في مستوى تنظيم المَعالم الجماعيّة: العمارة، الروزنامة، الاحتفالات... إلخ. هي موروثات لا يمكن إلغاؤها بتعلّة تسهيل عمليّة الإدماج. ولكنّ المهمّ ليس وجود هذه العناصر، بل كونها بعد الآن لن تكون حاملة لإدانة أو امتياز. دائماً، في مكان ما وفي لحظة ما، يتعلق المرء بالعيش، ولا يمكن لهذه الخاصيّة أن تُمحَى باسم مُثُل عليا تكوّنت خارج تلك الحدود، انطلاقاً من مسار تباعد عن الذات هو الذي جعل ذلك التجاوز ممكناً.
سيكون، إذن، من غير الدقيق اعتبار أنّ الكوني اختار مسكنه في مكان محدّد، أو أنّ بإمكانه أن يفعل ذلك، إلّا بمعاودة السقوط في وهم المركزيّة العرقيّة، الذي استُعمل منذ عهد قريب من قِبل الإيديولوجيا الاستعماريّة. وللسبب نفسه سيكون أيضاً من الخطأ التفكير في تلك المُثُل العليا تجلّياً لنمط حياة خاص من بين تجلّيات أخرى، نوعاً من التعبير الاصطلاحي الثقافي (Idiotisme culturel). يلتجئ إلى هذا الخلط الأخير كلّ الذين يتحدّون العلمانيّة، ويرومون تسميرها في رؤية جزئيّة للعالم، بل في خاصيّة ثقافيّة لها القيمة نفسها التي للممارسات الخاصّة بشعب معيّن. وهكذا يكون من اليسير رفضها بعد ذلك باسم «الهويّة الثقافيّة» والمحافظة، تحت هذا الوسم، على علاقات التبعيّة أو الامتيازات.
إنّ الحجاب المفروض، وختان البظر، وقانون العائلة، والتفضيل العمومي للدين على الإلحاد، هي أشياء وقعت المطالبة بها باسم تلك «الهويّة الثقافيّة». ولا يتمّ تصوّر العلمانيّة، في حال قبول العبارة، إلّا بوصفها تقنيةً بسيطةً لإدارة التعدّد الثقافي أو التعدّد الديني على خلفيّة إضفاء قيمة على التحالف الجماعوي الذي يُعدُّ عينيًّا وحارًّا، قريباً من الجذور ومهتمّاً بالأشخاص المباشرين، وفي تعارض مع دولة وقوانين طابعها التجريدي هو علامة على عدم إنسانيتها وبرودها، وهي تشتمل بشكل أناني على الممارسات الفاسدة والمصلحيّة لرأسماليّة كلبيّة. وبالفعل، إنّ هذه الرؤية تنتشر تدريجيّاً: وهي تتمثل في الخلط بين قيم الديمقراطيّة؛ أي العلمانيّة، والمَثَل الأعلى الجمهوري، وميكانزمات اقتصاد منتج للحرمان، وفي تفخيم البُعد الإحساني لعقيدة نابعة من تراث مقيّم إيجاباً بمقدار ما كان مكبوتاً لزمن طويل بل منفيّاً بواسطة حداثة هي من الآن فاقدة للأهليّة. وفضلاً عن ذلك، تبدو ذكرى الاستعمار داعمة لنزع الأهليّة الذي أنتجه ذلك الخلط. لقد أصبح شائعاً الجمع بين جول فيرّي المستَعمِر وجول فيرّي المعَلمِن، كما لو أنّ بين المسارين قرابة بديهيّة. كذلك يقود مخيال ذاكرة جماعيّة مسكونة بالشعور بالذنب إلى التشكيك في المقتضى العلماني، وعندما تواجه بادّعاءات الإسلامويّة السياسيّة، فإنها تعيد إنتاج ردّة فعل كولونياليّة جديدة. لا يتوانى منظّرو الإسلامويّة عن استغلال هذا التشكيك إلى أبعد حدٍّ ليقوموا بحرب استنزاف ضدّ العلمانيّة الجمهوريّة. أمّا الخصوم التقليديّون للعلمانيّة، فإنّهم وجدوا الفرصة سانحة للدعوة إلى انفتاحها؛ أي إلى مساءلتها من جديد.
إنّ الخلط الجدالي بين العلمانيّة والإلحاد، بين الإلحاد وجرائم الستالينيّة، أو بين الإلحاد و«المياه المتجمّدة للحساب الأناني»، هو أحد أشكال خطاب التحقير الأكثر انتشاراً. أمّا فيما يتعلق برواية الجماعة المتماسكة حول عقيدتها وتراثها كهويّة مألوفة ومطمئنة، ومتلائمة مع التبعيّات الموجودة بين الأشخاص والمعطاة باعتبارها طبيعيّة بل مقدّسة، فيبدو أنّها تُطرح بديلاً لهذا العالم اللّاإنساني القائم على التبادل وعلى قوانين مجرّدة لا يمكن تبيّنها لمّا كان الواقع يكذّب مقتضياتها المثاليّة. وهكذا يفقد الإدماج الجمهوري والعلماني كلّ مصداقيّة. ولكنّ سبب فشله، ظاهريّاً على الأقلّ، يتمثل في وضعيّات لا ترتبط به لأنّها تتعلق بدوافع تتجاوزه.
الرابطة الاجتماعيّة والعلمانيّة
إنّ ما هو مطروح هنا، في الواقع، هو تصوّر الرابطة الاجتماعيّة، واستمرار تعارض معيّن بين جماعة قريبة ومجتمع بعيد. لا يمكن فهم الكلمة المستحدَثة، التي أصبحت مستعملة؛ أي الجماعوية، إلّا بالنظر إلى اختيار بين بديلين في طريقة تصوّر الرابطة الاجتماعيّة الشاملة. إنّ ذلك الاختيار هو ما يجب توضيحه. يعرّف تونيز (Tonnies)، في كتاب (الجماعة والمجتمع: مقولات علم الاجتماع الخالص)[1]، الجماعة بأنّها نوع من الاتحاد بين الأشخاص يقوم على اتفاق ضمني حول معايير الحياة المشتركة، التي تصبح عفويّة بفعل استمراريّة التقليد. تُنظّم الجماعة الممارسات والأخلاق دون أن يكون ذلك التنظيم موضوع تداول، فهي تحدّد مجال اختصاص العُرف وتكيفاته، ومجال الاعتقاد والمخاوف التي يثيرها، والخضوع الخفي لمرجعيّة لم تطرح للنقاش، هي بصفة عامّة الدين. وقريباً من العلاقات العفويّة في نطاق العائلة أو القبيلة، تنتظم الجماعة بحسب علاقات قويّة بين الأشخاص، تقترن بالقوّة المعياريّة للعقيدة المشتركة لترسم إطاراً للحياة هو، في الوقت نفسه، قريباً ومألوفاً، طقسيًّا وخرافياً. وفيها يقترن قُربُ «العيش معاً» مع المسافة التي يتطلّبها العنصر المقدّس لكي يشرف على الجماعة ككل. تتمثّل الجماعة نفسها، في أغلب الأحيان، بطريقة تجعل الأفراد الذين يكوّنونها غير موجودين لذواتهم. فهم مجرّد دواليب آلة كبيرة بحسب الصورة الآليّة التي استعملها دوركايم (Durkheim) لوصف «التضامن الميكانيكي» في المجتمعات التقليديّة، مجرّد أعضاء في جسم كلّي بحسب مجاز العضويّة في النموذج العضواني الذي كثيراً ما يتمّ استعماله.
يفترض «المجتمع»، وهو متميّز عن «الجماعة»، نوعاً مختلفاً من الروابط هو الرابط الذي تنشئه اتفاقيّة اختياريّة وعلنيّة مبرمة بين إرادات فرديّة تتمتّع بالاختيار الحرّ، وتتجلّى كذواتٍ لها حقوق. يمكن أن تأخذ تلك الاتفاقيّة شكل دستور مؤسّس للقواعد والقوانين التي تنظم الحياة العامّة. لا يفضي نموذج الاجتماع المقام هكذا إلى «المجتمع المدني» مفهوماً بوصفه فضاءً للأنشطة الاقتصاديّة والحياة الاجتماعيّة، بقدر ما يقود إلى «الجمهوريّة أو المدينة، مفهومة بوصفها تنظيماً عقلانياً للفضاء المشترك بين الجميع وللخير العام الذي تتطابق معه. إنّه فضاء سياسي يستطيع فيه كلّ واحد، في ما وراء الدور الذي يقوم به في إطار تقسيم العمل، أن يتدخّل بوصفه مواطناً، حاملاً لجزء من السيادة وصانعاً، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، القوانين التي عليه طاعتها.
يتطابق الطابع العام لملفوظات القوانين المصاغة نسبة إلى ضمير الغائب مع التحرّر من علاقات التبعيّة بين الأشخاص، وتعني في دولة القانون المعاصرة انشغالاً بالمساواة بين الجميع، يستبعد كلّ تمييز بحسب الأصل أو الجنس أو القناعة الروحيّة. إنّ نتيجتها المنطقيّة هي فكرة أنّ الأفراد فحسب هم الذين لهم حقوق. وفي حال وجود تمييز من النوع نفسه بين الأفراد بسبب خصوصيّة يشتركون فيها، فإنّ إلغاء هذا التمييز لا يتمثل في الاعتراف بتلك الخصوصيّة بما هي كذلك، بل بالعمل على أن يتعامل معها القانون شيئاً مجرّداً لكي، على سبيل المثال، لا يُعدُّ الحصول على وظيفة، أو التمتّع بحق، متعارضاً مع تلك الخصوصيّة. في إسبانيا «الوطنيّة-المسيحيّة»، لا يتمتّع الملحدون أو اليهود أو المسلمون بالحقوق نفسها التي يتمتّع بها الكاثوليك. ولا يمكن أن يتمثّل إلغاء هذا التمييز، بصورة بديهيّة، في إعطائهم منحة جبر ضرر من خلال إغداق امتيازات، ولا في منحهم حقوقاً خاصّة بصفتهم «جماعة جزئيّة».
الفضاء العمومي والخصوصيّات
لا يتكوّن الفضاء العمومي بإضافة تجمع وتجاور الجماعات، بل بإنتاج أصلي لفضاء كونيّة مكوَّنة بصورة عينية من المصلحة المشتركة بين الجميع، التي هي مصدر، بسبب نظامها الخاص، للانفتاح على أفق منفصل عن الحدود الملازمة للخصوصيّات المختلفة؛ ذلك أنّه في أفق رفع المظالم ليس للملحدين، بما هم كذلك، أن يتمتّعوا بحقوق جماعيّة، بل أن يُمنحوا، بوصفهم بشراً، إمكانيّة اختيار معتقداتهم الروحيّة بحريّة، مع استبعاد كلّ عقيدة مفروضة أو مفضلة. وتلك الحريّة، التي لا يمكن وصفها بأنّها «ملحدة» أو «دينيّة»، تتعلق ببساطة بملكة التحديد الذاتي معرّفَةً في مستواها الأكثر عموميّة. وذلك يعني أيضاً أنّ «تجريد» المُثُل العليا، الذي يحرّر تلك الملكة، ليس كذلك إلّا باعتبار أثر انغلاق التبعيّات العينيّة أو منطق المجموعة القبَلي الذي مبدؤه هو تحديد معيار توحيد يتضمّن الإقصاء.
في جمهوريّة علمانيّة، يكون لمختلف المؤمنين والملحدين واللّاأدريين مكانتهم التي تتطابق مع الحقوق نفسها والواجبات نفسها. أمّا في إطار مجموعة أو في بلد يجعل من دين معيّن معياراً رسميًّا، فلن يكون للمؤمنين الآخرين والملحدين واللّاأدريين المكانة نفسها ولا الحقوق نفسها؛ ذلك أنّ معيار التوحيد هو نفسه معيار الانتماء ومعيار الإقصاء. يمكن أن ندرك بسهولة، في مثل هذا السياق، أنّ الاعتراف بالحقوق الخاصة التي تكون الذوات المتعلقة بها مجموعات بعينها، بحسب وسم عرقي أو ديني، يلغي أو يبطل حقوق الأفراد الذين يكوّنونها بحسب مبدأ «مزهريّات متصلة» هو غاية في الشؤم. يوشك ارتداء الحجاب المفروض أو فرض قرين، مثلاً، أن تصبح أشكال عنف مكابَدة مناقضة لحريّة الاختيار الفردي. وهي مدركَة بفضل ميسم «الحقوق الثقافيّة» بوصفها مجرّد تجلّيات هوويّة يُنظر إليها بتعاطف، حتى أنّ الشعور بالذنب المرتبط بذكرى الاستعمار يسبغ عليها لون نوع من الثأر الممنوح.
ليست العلمانيّة أبداً متعارضة مع إثبات الخصوصيّات، بل إنّها تجعله بالعكس ممكناً على قاعدة المساواة، مع حماية الفضاء العمومي من سيطرتها. وهذا الانشغال ليس اعتباطيّاً بالمرّة، بل إنّه أساسي إذا ما رأينا أنّ الفضاء العمومي هو شرط إمكان الحريّة في إطار المساواة بين الجميع. يتعلّق الأمر بضمان الحقّ في الاختلاف من دون الانحراف نحو اختلاف الحقوق وتدمير الفضاء المرجعي المشترك.
لا يعني غض النظر عن الخصوصيّات، قانونيًّا، إنكارها بل يعني أنّها، من هنا فصاعداً، لا تصلح معياراً مشتركاً بين الجميع. إنّ واقع كونها متعدّدة يدلّ على أنّه لا ينتج عنها إلّا الصراع. إذا كان الملحدون والمؤمنون المنتمون إلى ديانات مختلفة يريدون جميعاً أن يضعوا ختم قناعاتهم الخاصّة على المعيار المشترك العمومي، فإنّ الصراع سيكون حتميّاً. تتمثل الصعوبة، إذن، في السماح لهذه الخصوصيّات، على الرغم من كلّ شيء، بأن تُعاش وأن تُثَبَّت لأنّها تتلاءم مع ما هو أساسي لتكوين الأفراد، وخاصّة وجودهم الشخصي، مع تجنّب أن تصبح مصدر مواجهات افتراضيّة أو واقعيّة. يتمثل الحلّ الجمهوري والعلماني في تعيين تلك الخصوصيّات ضمن الفضاء الشخصي، بالمعنى القانوني، وذلك لا يعني أبداً تجريدها من البُعد الاجتماعي.
وهكذا، يمكن أن يأخذ البديل بين المجتمع والجماعة معنى آخر: ليس المجتمع المنظّم في شكل مدينة؛ أي «جماعة سياسيّة»، غير متلائم مع وجود «الجماعات» التي تقيّمُ إيجاباً بعض الخصوصيّات، وذلك بحسب شرط ثلاثي: أوّلاً، «الحريّة» المطلقة لأعضاء الجماعات الجدد في أن ينخرطوا فيها، أو يمتنعوا عن ذلك، وفي أن يعرفوا هم أنفسهم مستويات المعياريّة التي يعترفون بها لها، وكذلك درجة مشاركتهم فيها. وحده الفرد ينبغي أن يبقى ذاتاً جديرة بالحق. ثانياً، المساواة التامّة في التعامل مع كلّ الخيارات الروحيّة ومع كلّ أخلاقيّات الحياة، بشرط أن تثبت في إطار احترام الحقّ المشترك. وأخيراً، «أولويّة القانون المشترك بين الجميع» إزاء كلّ تبعيّة جزئيّة يمكن أن تنتج عن هيمنة جماعات معيّنة على غيرها. نرى أنّ هذه المقتضيات الثلاثة غير قابلة للانفصال، ويتضمّن الواحد منها الآخر في إطار جمهوريّة علمانيّة.
أمّا فيما يخصّ تمازج السكّان، الذي يحصل في إطار ملائم لاستقبال المهاجرين، فإنّه يساهم بقدر كبير في «علمنة» المعالم، التي أفرغها القانون العلماني من كلّ بُعد ديني أو معياري خاص. إن الاحتفالات نفسها، التي تندرج أحياناً في إطار أقدَم (عيد الميلاد، الاحتفال الوثني بانقلاب الشمس في فصل الشتاء (solstice))، أو المرتبطة بأحداث ليس لها علاقة خاصّة بالدين (أوّل أيار/مايو عيد العمال، 14 حزيران/يونيو الاستيلاء على سجن الباستيل، 11 تشرين الثاني/نوفمبر أو 8 أيار/مايو، الهدنة armistice)، يمكن أن تأخذ دلالة ذات أهميّة أوسع من مجرّد تعيين محلّ الإقامة.
حقوق الفرد والاستكمال الشخصي
هل تتجاهل العلمانيّة، التي تعتبر الفرد وحده صاحب الحقوق، أهميّة الرابطة الاجتماعيّة والانتماءات التي تكوّن الشخص؟ إنّه أحد النقود، التي كثيراً ما تمّ توجيهها إليها، نقد يكتسب أهميّة بقدر ما تدمّر العولمة أحاديّة الجانب بعض التضامنات التقليديّة أو المكتسبة بواسطة الصراعات الاجتماعيّة. يجمع المثل الأعلى العلماني، بحسب النقد الشائع، بين تجريدين متناظرين؛ من جهة تجريد جمهوريّة جامعة للناس بحسب علاقات الحقّ وقوانين عامّة تجسّدها، ومن جهة أخرى تجريد الفرد المرفوع إلى مرتبة الكونيّة بصرف النظر عن الخصوصيّات العُرفيّة أو الدينيّة التي تنزع إلى وَسْم شخصيته من خلال الإشراب التربوي أو التأثير العائلي، أو من خلال التكيّف الهووي.
إنّ هذا الاعتراض ذي الزناد المزدوج قابلٌ للرفض؛ لأنّه يقوم على مسلّمتين متقابلتين؛ تريد الأولى أن تقنع بأنّ هناك تعارضاً مطلقاً بين الشخص العيني الغارق في خصوصيّاته التي لا يُعرّف إلّا بها، والفرد المجرّد المرشّح لأن يكون مواطناً وشخصاً حرّاً يتمتّع مثل الآخرين بالحقوق نفسها ويظهر، بسبب ذلك، شبحاً قانونيًّا غير متجسّد. تطرح الفرضيّة الثانية اعتراضاً جذريّاً هو الآخر بين المجموعة العينيّة الممهورة بتقاسم إطار حياة وتاريخ ومرجعيّات دينيّة وثقافيّة مهيمنة، والجمهوريّة المحدّدة بالقوانين المشتركة التي تجعل منها اتحاداً في الحقّ ذي قيمة كونيّة. من المناسب ملاحظة أنّه في الحالتين يؤوَّل كون العلمانيّة تشدّد على الحقّ والمرجعيّات الكونيّة القابلة للتقاسم بين الجميع باعتباره ينتمي إلى نزعة قانونيّة ضيقة متضامنة مع نزعة فرديّة ضيقة هي الأخرى، ومتداخلة مع نزعة مركزيّة جمهوريّة قاهرة للخصوصيّات. إلّا أنّ هذه النظرة تدلّ على عدم فهم أساسي لمعنى الكونيّة العلمانيّة. لا ترمي هذه الأخيرة بالفعل إلى سحق أو نفي الخصوصيّات، بل إلى وضعها في أفق يتقبّلها دون أن يتنازل لأيّ منها. وهي تعطي كلّ كائن حريّة اختيار مرجعيّاته، والأخلاق التي تناسب حياته، وكذلك قناعاته الروحيّة أو الدينيّة. وهكذا تصلح الحقوق الكونيّة لتأسيس التدبير الذاتي الحرّ لدى كلّ فرد مفرد. الخصوصيّة والكونيّة، إذن، مترابطتان. أمّا بالنسبة إلى الخصوصيّات الثقافيّة، فيمكنها أن تساهم في إضفاء الطابع الاشتراكي أو في الانفتاح الاجتماعي على الكونيّة شريطة أَلَّا تتحوّل إلى أدوات هيمنة باسم الهويّة الثقافيّة. إنّها تصلح، باختصار، وسيطاً بين الفردي والكوني إذا كانت لها حقاً قيمة تربويّة وتكوينيّة، وذلك مع استبعاد كلّ علاقة سلطة وهيمنة. يمكن أن تتضمّن الدعوة إلى حقّ ممارسة ثقافة خاصّة، بسبب البلبلة، إكراهات مقنّعة قليلاً أو كثيراً، مبرّرة بسرعة وموسومة باستحضار الإرث الثقافي. تلك هي النقطة المظلمة في النزعة الثقافيّة وفي النزعة الجماعويّة وفي المفهوم الغامض لــــ «الحقوق الثقافيّة».
من بؤس العالم إلى الجماعوية
لا يمكن الخلط بين الاستئصال، الذي هو دائماً مؤلم لمّا يكون انتقالاً من أفق مألوف إلى آخر غريب، وهيمنة ثقافة على أخرى إلّا على سبيل التعميم والخلط الذي لا أهمية له. يمكن أن تُثير الوضعيّات الاقتصاديّة والاجتماعيّة، في المقابل، شعوراً حقيقيّاً بالإقصاء، وخاصّة عندما تُضاف إلى ردّات فعل عنصريّة أو معادية للأجانب بسبب انعدام الثقة الذي يبخس على الفور إطار الاستقبال بحكم تكرّره. يمكن بسهولة استغلال الحنين إلى الأصول الذي يتحوّل الى استيهام هُوَوي يستخدم لغايات سياسيّة-دينيّة أو إكليريكيّة منذ أن تأخذ أشكال الحرمان منعرجاً حاسماً. ولكنّ الأسوأ، من دون شك، هو تشجيع هذا الاستيهام الهووي بالمحافظة على التشوش بخصوص عناصر الإقصاء الحقيقيّة، وبتشجيع إثبات مضاد ومتشنج للاختلاف عوض مواجهة الأسباب التي تُضعف مسار الاندماج.
في بريطانيا العظمى شجّعت الليبراليّة المتطرّفة النزعة الجماعويّة، فقد راهنت الدولة، التي تخلّت عن مسؤوليّاتها في مجال العدالة الاجتماعيّة والخدمات العموميّة، على تناوب المنظّمات الخيريّة، وهي في الغالب دينيّة، وبعضٌ منها، بحسب تحليلات جيل كيبل (Gilles Kepel)، في كتابه (انتقام الله)[2]، وضع أسس «أسلمة من الأسفل» متناغمة مع الانحراف الجماعوي. وقد كانت المطالبة بقانون الأحوال الشخصيّة دائماً باسم الاختلاف الثقافي ملمَحها المميّز. يعتقد الفرد المتوحّد الذي يشعر بأنّه متروك من قِبَل الفضاء العمومي أنّه يجد ملاذاً أو مساعدة في دفء الجماعة التي تمجّد أصولها أو تهيّئ مرجعيّة دينيّة مؤسِّسَة لهويّة مُتخيَّلة. يبدأ المنحدر الجماعوي، إذن، كتمجيد للاختلاف الحصري والتعويضي: إنّه الواحد والآخر في الوقت نفسه. يحصل اغتراب غير محسوس كلّما كان الفرد لا يتعرّف إلى وجودٍ آخر غير ذلك الذي يأخذه من تماهيه اللّامحدود مع جماعة دينيّة، تماه يعيشه باعتباره عنصر اكتماله الطبيعي، باعتباره وسطه المغذّي، وبوصفه «ثقافته» بمعنى حصري بقدر ما يؤدي دوراً تعويضيًّا.
ذلك يعني أنّه لتجنّب مثل هذا الانحراف، على كلّ فرد أن يكون سيّداً على كلّ الحقوق التي تعطيها له الجمهوريّة العلمانيّة، وأن يختبر أصالتها في قلب الحياة الاقتصاديّة والاجتماعيّة. عدا ذلك، سيكون منجذباً بشكل بديهي إلى ما يبدو له أنّه فضاء أكثر إنسانيّة، أكثر ألفة مهما كانت أشكال الخضوع التي يتطلّبها. إنّ الجماعويّة جواب سيّئ عن سؤال مصاغ بشكل سيّئ. هل يجب اعتبار الاعتناء بالذاكرة وبالتراث الثقافي غير متلائم مع التمتع بالحقوق الكونيّة المعتَرف بها لكلّ كائن إنساني بغضّ النظر عن أصوله وخصوصيّاته؟ يدلّ طرح السؤال في هذه الحدود على وجود قلق حقيقي. ألم يصبح معنى تلك الحقوق غامضاً منذ أن جعلها واقع الإقصاء العملي غير قابلة للقراءة؟ ألم يصبح الإثبات الحرّ لتراث ثقافي مرتبط بالأصول مشوّشاً منذ أن حصل الاعتقاد بأنّه يتوجّب ملاءمته للخضوع لسلطات مهيمنة، وفي الوقت نفسه، لتقاليد رجعيّة؟ ثمّة تناظر وتكامل مدهشان بين هذين السؤالين. إنّ جواب الجماعويّة السيّئ مرتبط بمشروع الهيمنة الذي تشتمل عليه. إنّه يهدف، بتعلّة التضامن، إلى فرض معايير أخرى غير معايير القانون المشترك بين الجميع، وإلى استعمال المرجعيّة الدينيّة وفق النمط الرجعي الذي يتمسّك بوظيفتها التعويضيّة المتنكّرة في الاعتزاز الهووي.
يمكن أن يأخذ الشعور بالإقصاء أو التخلّي، غير المبرّر من منظور علمانيّة القوانين، صلابة بسبب التجربة الاجتماعيّة. يتولّد عن هذه الظاهرة في المقام الأول الميل إلى الانطواء الجماعوي، حتى وإن استمدّ منه متعصّبو الأصوليّة الدينيّة بعد ذلك فائدة قصوى من خلال دفع الاستيهام الهووي إلى أقصاه.
الجماعوية والتطرّف
إنّ رفض التمييز بين الفضاء العام والفضاء الخاص، ورفض الاستقلال المتبادل للسياسي والديني هو علامة المسار المتطرّف والجماعوي. لقد توافرت له المناسبة للاستهزاء بحقوق الفرد في بلد الاستقبال حيث هي معلنة، ولكن دون اهتمام بإعطائها مضموناً واقعيّاً من خلال تطوير فعل وقائي ضدّ كلّ أشكال الإقصاء الاجتماعي المختلفة.
يبقى أنّ رفض التمييز بين الفضاء الخاص والفضاء العام يوجد على طرف نقيض للعلمانيّة. كذلك يستدعى التطرّف، لأنّه منتظم مع إرادة هويّة واحدة، كاملة، فرديّة بقدر ما هي جماعيّة وتُخضع كلّ مجالات الحياة دون تمييز. إنّه، بوصفه شكلاً من أشكال التوتاليتاريّة، يعيد إنتاج صورة جماعة دينيّة تتمثل نفسها جسماً بالمعنى الدقيق. عندما تشعر مجموعة بشريّة بأنّها محاصرة بعالم تعتبره معادياً، فإنّها تجد أو تعتقد أنّها تجد في انسجامها الداخلي المعمّم أفضل شكل للممانعة. يستحوذ الزعماء الدينيّون، الذين يهيمنون عليها، على ذلك الشعور، فيعطون لذلك الانسجام الصيغة الأكثر تسلطيّة والأكثر إكراهيّة، مدّعين تحقيق التضامن بوساطة فرض القانون الديني على كلّ جوانب الحياة مهما كانت السجلّات والميادين. يتجلّى المسار المتطرّف، إذن، من خلال نزعة إيمانيّة (fidéisme) عمياء مصدّقة بكليّة النصّ المقدّس الذي يمثّل المرجع الأساسي. تصبح النصوص، التي تُعدُّ مقدّسة، طريقة استعمال في شكل كتيّب للحياة اليوميّة يرتّب أدقّ تفاصيلها. والقراءة التي تجعل نقلها القانوني ممكناً هي قراءة حرفيّة متجاهلة لكلّ تنسيب قد يفترضه السياق. ولكنّها، في الآن نفسه، تمارَس بطريقة انتقائيّة جدّاً تستبعد كلّ مقطَع لا يمكن أن يندمج في التوظيف السياسي المقصود. إنّ خصائص مسار كهذا ليست خاصّة بدين معيّن. سيكون، إذن، من غير الدقيق ومن غير العادل نسيان أنّ كلّ ديانة توحيديّة قدّمت صياغتها الأصليّة للجماعويّة، حتى وإن كانت الأشكال التي اتخذتها هذه الأخيرة مختلفة. وبالإضافة إلى ذلك يمكن أن نرى أنّ تلك الأشكال التقليديّة تطابقها اليوم محاولات للاستيلاء على الفضاء العام باسم الأديان الثلاثة الكبرى التي أشرنا إليها.
أشكال الجماعوية
إنّ النموذج الثيوقراطي الأوّل الكبير للجماعة الدينيّة والسياسيّة هو المملكة العبريّة الأولى التي وصفها اسبينوزا في الفصل الخامس من كتابه (رسالة في اللّاهوت والسياسة). بسبب الخشية من الإله المشرّع تجمّعت حشود من البشر في تلك المملكة بوساطة اعتقاد إيماني غذّته الخرافة. خشية خفيّة ولكنّها كليّة الوجود؛ لأنّها مستبطَنة بقوّة، حيث لا تترك للوعي الفردي أيّ هامش للحياد والنقد، وعي مقموع ومستعدّ للإذعان لأوامر ممثلي إله خارجي وجبّار لا يعطي «عهداً» لشعبه إلّا بشرط خضوع هذا الأخير له بصورة تامّة وحصريّة. شعب مختار، أرض موعودة، طقوس اعتراف ثابتة وخاصة بأمّة، تقوّي الجماعة التي تكوّنت عبر الوعي بهويّتها المتخيَّلَة، وفي الوقت نفسه تنظّمها من خلال الخلط الشامل بين الأخلاقي والمدني والطقسي. الرابطة الاجتماعية هنا لاهوتيّة-سياسيّة بصورة شاملة، ولا تترك خارجها أيّ فضاء خاص. إنّها تنتظم حول تمييز بين مجموعة المؤمنين الذين تربطهم الخوف والخرافة بإله متمسّك بقوته وصفاته الحصريّة، ووسطائه المبرَّئِين الذين يهدفون إلى احتكار السلطة الزمنيّة بنشر ما يُقدّرون أنّها مضامين النصّ المقدّس بشكل سلطوي بل اعتباطي. ومنذ ذلك الحين لا يوجد الروحي إلّا بوساطة الهيمنة السياسيّة التي تطالب به. وعلاوة على ذلك، إنّ ما هو مطروح هو الحصول على الخيرات الماديّة: لا تُمتلَكُ الخيرات إلّا في إطار نظام سياسي أمني. يصور موضوع الشعب المختار دمج المؤمنين التابعين لدين خاص من خلال إقصاء آخرين. والجماعة تمهر نفسها بحسب نزعة امتثاليّة قويّة ينسقها موضوع التحالف مع إله ملائم لشعب واحد. تلتحم تلك الجماعة في ذاتها بوساطة الحكاية الكبرى لهويّة متخيّلة، حكاية الشعب الذي اختاره الله والمنفصل بوضوح عن كلّ الشعوب الأخرى التي تُعدُّ كافرة، والتي يجب في اللحظة المناسبة تحطيم أصنامها.
بحسب نصّ سفر التثنية (الآية 7) (Deutéronome)، يتوجّه موسى إلى العبرانيين بهذه العبارات: «متى أتى بك الربّ إلهك إلى الأرض التي أنت داخل إليها لتمتلكها، وطرد شعوباً كثيرة من أمامك: الحثّيّين والجرجاشيّين والموريّين والكنعانيين والفِرزّيّين والحِوِيّين واليبوسيّين، سبعة شعوب أكثر وأعظم منك، ودفعهم الربّ إلهك أمامك وضربتهم فإنّك تُحرّمهم. لا تقطع لهم عهداً، ولا تُشفق عليهم، ولا تصاهرهم. بنتك لا تُعطِ لابنه، وبنته لا تأخذ لابنك. لأنّه يُرَدُّ ابنك من ورائي فيعبد آلهة أخرى فيَحمَى غضب الربّ عليكم ويهلككم سريعاً. ولكن هكذا تفعلون بهم: تهدمون مذابحهم، وتكسّرون أنصابهم، وتقطّعون سواريهم، وتحرقون تماثيلهم بالنار. لأنّك أنت شعبٌ مقدّسٌ للربّ إلهك. إيّاك قد اختار الربّ إلهك لتكون له شعباً أخصّ من جميع الشعوب التي على وجه الأرض» (*).
في النموذج الثيوقراطي تكون حياة الجماعة، التي ترى نفسها شعباً مختاراً، موسومة بارتياب البعض المماحك والثابت إزاء البعض الآخر. كلّ واحد يترصّد جاره لكي يحكم على سلوكه وعلى مدى مراعاته التامّة للطقوس التي يُفترض أن تشهد على سلامة الإيمان. وتكون السلطة اللّاهوتيّة-السياسيّة مُمجّدَة باستمرار والطاعة متاخمة للعبوديّة. لا توجد 'هرطقة' يمكن التسامح معها، والغياب التام للمراجعة النقديّة يُعمَّق أكثر بفعل الخلط الشامل بين السياسي والديني. يجب أن نلاحظ أنّه في مثل هذا السياق يقوم التضامن المحصّل على الخشية وعلى التحكّم الشامل بالضمائر الفاقدة للقدرة على الحياد. تقوم الهويّة الجماعيّة، وهي هويّة متخيّلة في شكل خيال مكوّن، على لعبة تكيّفات وامتثاليّات جامدة. ولذلك لا يستطيع «الشعب المختار» أن يكون في مستوى فهم المسار التاريخي الذي يتعلق به الوهم الذي يتمسّك به عن نفسه. وهو مستعدّ لإقصاء كلّ شخص، بتهمة الخيانة، يتجرّأ على التشكيك في الاختيار الانتقائي أو على توضيح التشكّل التاريخي لتلك الأسطورة. ذلك ما قام به اسبينوزا (Spinoza). ونعرف كم كلفه ذلك: الإقصاء المرفق بالتهديد الذي طال حياته وإقامته. وهكذا في ظل جماعويّة كهذه لا مكان للحريّة الفرديّة، أو للعقل النقدي، أو للمعرفة المتنوّرة. كلّ مفكّر حر متّهم بأنّه «خائن»[3]. بعد أن طُرد من الجماعة اليهوديّة في أمستردام (Amsterdam) سيكون اسبينوزا مشتبَهاً به، بوصفه يهودياً هذه المرّة، لدى الكالفينيين (Calvinistes)، فالديانة اليهوديّة الرسميّة ليست في الأخير معنيّة بذلك الطرد (ostracisme) كما يبيّن ذلك كتاب يرماياهو يوفال [4](Yirmiyahu Yovel).
إنّ ما سبق لا ينتمي إلى التاريخ فحسب، فالطائفيّة اليهوديّة تغذّي اليوم تصوّراً حصريّاً للأمّة الإسرائيليّة ينفي كلّ حقٍّ للفلسطينيين على أرضهم، ويجعل من المواطنين العرب في إسرائيل مواطنين من درجة ثانية. في مواجهة هذه الحركة تقاوم التقدميّة العلمانيّة المكوّنة من عدد من الإسرائيليين، بهدف تفادي انحراف دولتهم نحو كيان عرقي-ديني ذي طابع عنصري على مستوى الواقع على الرغم من الانتساب إلى الديمقراطيّة على مستوى الحق. يجب التذكير بأنّ الحركة السياسيّة-الدينيّة غوش أمونيم (Goush Emounim، «كتلة المؤمنين»)، التي تأسّست بعد الحرب الإسرائيليّة العربيّة عام (1973)، تهدف إلى الجمع بين إعادة تهويد (Rejudaïsation) كاملة لدولة إسرائيل على حساب كلّ تصوّر علماني، والاستيلاء على أراضي الفلسطينيين باسم التحالف المبرم بين إله إسرائيل والشعب الذي يُسمّى مختاراً، والذي مُنح «الأرض الموعودة». لقد كانت تلك الأرض مسكونة من قِبَل شعب آخر، ولكنّ التصوّر العرقي-الديني لم يأخذ ذلك الأمر في الاعتبار، فقد وسّع الجماعويّة الإقصائيّة على مستوى دولة بكاملها. إنّه لأمر ذو مغزى أن تستعمل غوش أمونيم، التي تتبعها بعض قطاعات الرأي الإسرائيليّة مفهوم أرض إسرائيل (Eretz Yisrael) التوراتي لكي تقلب المعنى القانوني لــــ«دولة إسرائيل».
هنا أيضاً ينتشر التصوّر الجماعوي حول قالب لاهوتي-سياسي مُنتج للإقصاء ومُثبّت في عقيدة هُوَويّة تفرض على الأفراد التقيّد بخيال مقدّس. وفي الحالة القصوى، إنّ ذلك التصوّر يتسبّب في الموت كما رأينا مع مذبحة الفلسطينيين، التي ارتكبها متطرّف في الخليل، أو مع اغتيال إسحاق رابين (Yitzhak Rabin) على يد أحد المتعصّبين. تجعل الخرافة المرتبطة بالسرديّة التأسيسيّة من الديني رافعةً لشرعنةِ سياسة معيّنة. توجد هذه الخاصيّة في النزعات الطائفيّة الأصوليّة المسيحيّة والإسلاميّة. بالنظر إلى ذلك يتناغم تصوّر تعسفي وظلامي للرابطة التي توحّد بين الجماعات مع تصوّر إقصائي للعلاقة مع الجماعات الأخرى. وهكذا تتكوّن لعبة مرآة سلبيّة لجماعات متعارضة، كما يمكن أن يُرى ذلك في الشرق الأدنى، في الصراع بين المتطرّفين اليهود التابعين لغوش أمونيم والمتطرّفين المسلمين التابعين لحماس.
في المقام الثاني، ومن دون القيام بمماثلة غير مشروعة، يجب ذكر النموذج العضواني للكنيسة بوصفها جسماً صوفيًّا (corpus christi) كما يعرّفه بولس الرسول. ينطبق هذا النموذج على الجماعة الدينيّة: «لأنّه كما أنّ الجسد واحدٌ وله أعضاءٌ كثيرةٌ، وكلّ أعضاء الجسد الواحد إذا كانت كثيرةً هي جسدٌ واحدٌ، كذلك المسيحُ أيضاً؛ لأنّنا جميعاً بروح واحد أيضاً اعتمدْنا إلى جسد واحد، يهوداً كنّا أو يونانيين، عبيداً أو أحراراً، وجَميعُنا سُقينا روحاً واحدة. فإنّ الجسد أيضاً ليس عضواً واحداً بل أعضاء كثيرةٌ. إن قالت الرِجْلُ: لأنّي لست يداً، لستُ من الجسد. أَفلمْ تكن لذلك من الجسد؟ وإن قالت الأذن: لأنّي لستُ عيناً، لستُ من الجسد. أَفلم تكن لذلك من الجسد؟ لو كان كلّ الجسد عيناً، فأين السمعُ؟ لو كان الكلّ سمعاً، فأين الشمّ؟ وأمّا الآن، فقد وضع الله الأعضاء كلّ واحد منها في الجسد كما أراد. ولكن إذا كانت جميعها عضواً واحداً، فأين الجسد؟ فالآن أعضاء كثيرة، ولكنْ جسدٌ واحدٌ [...] وأمّا أنتم فجسدُ المسيح وأعضاؤه أفراداً» (رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كورنثوس 12، 12-27). وصف أرنست كانتاروفتش الحركة المزدوجة المتمثلة في رسوخ القوّة الروحيّة للكنيسة في القرن، وتقديس الدولة المَلَكية الدنيويّة؛ أي الدولة المتصوّرة جوهريّاً كسلطة هيمنة. لقد كتب ما يأتي: «في حين أنّ الفكرة العظيمة للكنيسة، بما هي جسم صوفي يمثل المسيح رأسه (corpus mysticum cujus caput Christus)، تتضخّم بمحتوى دنيوي تعاوني بقدر ما هو قانوني، تحاول الدولة العلمانيّة نفسها -مندفعة، بمعنى ما، من الطرف الآخر-أن تحصل على تعظيمها الخاص وعلى إجلال شبه ديني»[5].
كذلك يجب أن يتطابق الترابط الحميمي بين الضمائر في المحفل الكنسي مع وحدة «الجسم الصوفي» للمملكة، وهو أبدي مثل الجسم الصوفي للكنيسة: لا يمكن أن يبرز أيّ انشقاق لا في النظام السياسي المقدّس بوساطة الكنيسة، والمفكّر فيه بما هو طبيعي من خلال التصوّر العضواني للجسم الاجتماعي، ولا في النظام الديني حيث تكون طاعة السلطات الكنسيّة ضمانة للخضوع الزمني والروحي في الوقت نفسه. يتحدّث كانتاروفتش، بخصوص هذا الموضوع، عن «جماعة سياسيّة متمتّعة بخاصيّة صوفيّة تعبّرُ عنها الكنيسة بوضوح»[6].
يتميّز النظام الرمزي، وهو يتعلّق بمنطق الهيمنة وبالفصل بين رجال الدين واللائيكيين، بطريقة ما لإنتاج الاعتقاد أو لرعايته. «سلطة الملك هي سلطة الله. وتلك السلطة هي، بالفعل، لله بالطبع وللملك بالنعمة (natura et gratia). إذن الملك هو أيضاً الله والمسيح ولكن بالنعمة، ومهما فعل فإنّه لا يفعل كإنسان فحسب بل كشخصٍ أصبحَ المسيحَ والله بالنعمة»[7].
لا شك في أنه من غير المفيد التأكيد على الدور الذي أدّته الجماعويّة المسيحيّة في القمع التقليدي الذي تعرّض له أولئك الذين لم يفكّروا -أو لم يعتقدوا- كما ينبغي. لقد قُطّعوا، باعتبارهم غرغرينا (gangrène) المسيحيّة الرسميّة، كما يُقطع عضو فاسد. يشير فولتير (Voltaire)، في الفصل الرابع عشر من (رسالة في التسامح) (Traité sur la tolérance) (بعنوان «حول ما إذا كان عدم التسامح من تعليم يسوع المسيح»)، إلى أنّ كلّ استعمالات الأناجيل لتبرير الاضطهاد باسم الإيمان ونشر قوانين الإكراه الديني هي غير مشروعة. إنّها تبالغ في قراءتها المتحيّزة للنصّ دون أدنى اهتمام بالتأويل العقلاني. ويمكنها، في بعض الحالات، أن تستخدم بعض الصياغات المتنازع فيها مثل القول المعروف «أجْبِرهُمْ على الدخول» (Compelle intrare) (لوقا 14، 23). ولكنّ التناقض الناتج عن قراءة حرفيّة بصورة سطحيّة لهذا الأمر يظهر عندما نواجهه بمقطع آخر، مثلاً الحثّ على إيتيقا المعاملة بالمثل. والذي يمكن أن يُستلهم منه رفض كلّ إكراه أحادي الجانب: «فكلّ ما تريدون أن يفعل الناس بكم افعلوا هكذا أنتم أيضاً بهم؛ لأنّ هذا هو الناموس والأنبياء» (متّى، الموعظة على الجبل 7، 12). باختصار يبدو أنّ التبرير اللّاهوتي لنظام ثيوقراطي يحوّل القانون الديني إلى قانون سياسي ملزِمٍ ضعيفٌ جدّاً.
إذا كانت المسيحيّة اليوم تقدّم وجهاً أكثر جاذبيّة إلى حدّ أنّها تطالب بقرابة من حقوق الإنسان التي احتقرتها طويلاً، فإنّها لم تصل إلى ذلك بسبب تطوّرها العفوي. لقد كانت الصراعات الشديدة من أجل حريّة الضمير والمساواة بين الناس مهما كانت اختياراتهم الروحيّة -وقد رأينا ذلك- ضروريّة. ويمكن التساؤل عن مدى جدّيّة اعتناق قيمٍ تمّ تحقيرها في السابق، عندما يلاحظ أنّه في كلّ مكان تتمتّع فيه الكنائس بامتيازات في الفضاء العمومي، مثل إمكانيّة فرض تعليم ديني، لا تتخلّى عن ذلك بشكل عفوي، وهو ما ينبغي أن تفعله لكي تحترم المساواة بين المؤمنين والملحدين وحريّة الضمير المطالب بها قيماً نابعة من المسيحيّة. والأخطر من ذلك أنّ إصرار الفاتيكان، في النقاشات المتعلقة بالميثاق الأوروبّي للحقوق الأساسيّة، على أن يكون هناك اعتراف بديْنٍ للدين في مستوى ديباجة نصّ سيأخذ قيمة دستوريّة، وذلك في السجلّ الأساسي للمعيار، يشهد على إرادة تمييز واضحة. يتوجّه النصّ القانوني وينطبق على كلّ المواطنين، سواء كانوا مؤمنين أم ملحدين أم لاأدريين. لماذا، إذن، عليه أن يتوقع دفعة واحدة ذلك الامتياز أو ذلك التمييز؟ وإذا كان الدين، بوصفه شهادة روحيّة حرّة، لا يتلاءم مع إرادة سلطة زمنيّة، فلماذا هذا الانشغال بوَسْم المرجعيّات المؤسّسة للمعيار القانوني؟ ألا يمكن الاستنتاج، من مطالبة ليست في محلها، أنّه يوجد هنا ما يشبه أثرَ جماعويّة مسيحيّة، بما أنه في أوروبّا الموسومة عقائديّاً يتمتّع المواطنون الملحدون أو اللّاأدريون بحقوقٍ أقّل مقارنة بالآخرين. الكاردينال راتسنغر (Ratzinger)، مفكّر الصدمة في المذهب الكاثوليكي المنشغل باستعادة مكانة القانون العام، واضح في هذه النقطة: «إنّ هذا الانطواء على الحياة الخاصّة، وهذا الاندماج في مجمّع كلّ أنساق القيم الممكنة، يتعارض مع ادّعاء حقيقة الإيمان الذي هو مطلب عمومي»[8]. ويقول أيضاً: «عندما تصبح الكنيسة نفسها دولة تضيع الحريّة. وتضيع الحريّة أيضاً عندما تُلغى الكنيسة ككيان عمومي يتمتّع بتأثير عمومي»[9]. باختصار، إنّ إرادة طرح مسألة المساواة بين الملحدين واللّاأدريين والمؤمنين على اختلافهم تكشف عن نوع من المسيحيّة لم تكتسب بعدُ القيم التي تدّعي أنّها تدافع عنها.
يلاحظ برتراند راسل (Bertrand Russell) في كتابه (لماذا لست مسيحيًّا؟): «من الممتع سماع المسيحي الحديث وهو يفسّر كيف أنّ المسيحيّة مطبوعة بالرقة والعقلانيّة، دون أن يأخذ في الاعتبار واقع أنّ تلك الرقة والعقلانيّة نتجتا عن التعليم الذي تمتّع به الناس الذين كانوا مضطهدين في عصرهم من قِبل كلّ المسيحيين المتشدّدين»[10]. لم تقطع المسيحيّة، بصورة عفويّة، مع أشكال الاستيعاب المفروض وقمع غير المسيحيين أو المسيحيين الذين يُعدّون هراطقة بالنسبة إلى العقيدة. في إسبانيا، طوّر المَلِكان الكاثوليكيّان إزابيل دي كاستيل (Isabelle de Castille) وفيردناند دي أراغون (Ferdinand d'Aragon)، إلى أقصى حدّ، «القوميّة-الكاثوليكيّة»، فاضطهدا كلّ الذين لا يتبنّون بصورة عفويّة هذا العنصر الهووي المُفتَرَض، وخاصّة المسلمين واليهود (انظر تراجيديا «المرتدّون» conversos). باختصار تستند «الهويّة المسيحيّة» لأوروبّا، في الوقت نفسه، إلى الخيال الخطر والأسطورة النافية للتنوّع.
في المقام الثالث، أخيراً، يمكن ذكر تصوّر الأمّة الإسلاميّة؛ أي جماعة إنسانيّة توحّدها عقيدة دينيّة غير مشروطة وتمتدّ سلطتها المعياريّة إلى كلّ جوانب الوجود. تكوّنت الجماعة المسلمة الأولى، بحسب حكاية الأصول المثاليّة التي تحوّلت إلى أسطورة، حول النبي محمّد عام (624) ميلادي لمّا هدّدها الجيش المكيّ بالإبادة. إنّ موضوع الحرب المقدّسة الدفاعيّة (الجهاد)، مفصولاً عن هذه الظروف، يأخذ معنى الحرب المقدّسة الهجوميّة. وكذلك معنى الشريعة -التي يتمثل معناها الأصلي، بحسب جوليان بيرك (Julien Berque)، في «الطريق المستقيم»، «النهج المرسوم»- تمّ تأويله بطريقة مشطّة بوصفه نظاماً قانونياً ملزِماً يُترجم في الواقع السياسي القانونَ الديني. إنّها عودة إلى مقتضى أساسي بحسب الأصوليين. ولكنّ الأساسي، بالنظر إلى ذلك، هو تأويل مُغرِضٌ للنصّ الديني بهدف استعماله تبريراً غير قابل للمراجعة، بحكم قداسته، لمشروع هيمنة أرضي. تتغذّى الجماعويّة هنا على نوع من الأسطورة يسمح لها بتحويل، بالنسبة إلى الخيال الجماعي لمجموعة إنسانيّة، مشروع سياسي للهيمنة إلى مقاومة بطوليّة في ظلّ مناخ معادٍ. في الهند، تهدف جماعة التبليغ (جمعيّة إسلاميّة دعويّة) إلى تحقيق انسجام المسلمين الذين هم أقليّة مقارنة بالهندوس. تُمثّل سيرة محمّد وفتحه مكّة مرجعاً. مع سلسلة كاملة من التوجيهات المعياريّة لتنظيم الوجود، يتحوّل الديني إلى معيار قانوني وسياسي انطلاقاً من توسّل بالنص موجّه بمشروع الهيمنة المراد إقامته.
يأخذ موضوع الحرب المقدّسة الدفاعيّة (الجهاد)، بعدما أخرج من سياقه، معنى الحرب المقدّسة الهجوميّة. فبعد فتح مكّة عام (630) كان الأمر يتعلق بجعل سكّانها الوثنيين يتخلّون عن معتقداتهم طوعاً أو كرهاً فاتهِموا بأنّهم اضطهدوا المسلمين الأوائل. تحيل الآيات المكتوبة نتيجة لذلك إلى وضعيّة عينيّة مثّلت تهديداً للمسلمين. وكلّ استعمال للتحريض على العنف، الذي تحتويه خارج هذا السياق، هو إذن بلا أساس. يتّضح ذلك في آيات معروفة في القرآن مثل الآية (36) من سورة التوبة: {*إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} (*). يجب ملاحظة أنّ صيغة الجملة تبدو دالّة على أنّ من الظلم قتال المشركين إذا لم يكن ذلك القتال ردّة فعل على الاضطهاد الذي قاموا به. وهو ما يؤكّد الطابع الدفاعي للدعوة إلى القتال. يمكن أن نذكر أيضاً الآية (123) من سورة التوبة: {يا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفّارِ}. وأمّا أتباع «ديانات الكتاب» الأخرى، فيجب إخضاعهم بفرض الجزية عليهم: {قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ} [التّوبَة: 29]؛ وذلك لتجنّب كلّ إضعاف داخلي للجماعة المسلمة بسبب انقسامات دينيّة ممكنة.
تناقض كلّ الآيات من هذا النوع مبدأ حريّة الضمير المعلَن عنه في سورة البقرة (الآية 256): {لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ}. كما أنّها لا تنسجم أيضاً مع إنكار كلّ سلطة إكراه للنبيّ، وكلّ الذين يدّعون أنّهم يتكلّمون باسمه. إنّ سورة الغاشية جدّ صريحة بخصوص هذه النقطة: {فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ *لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ *إِلاّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ *فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الأَكْبَرَ} [الغَاشِيَة: 21-24]. إنّ هذه الآيات تجعل من تعذيب الكفار شأناً خاصّاً بالله، وتمنعه على الناس الذين يتكلمون باسمه. وإذا كان ثمّة عذاب، فهو يحصل في لحظة «العودة»؛ أي في نهاية الوجود الزماني. إنّ ماهيته، إذن، روحانيّة وليست زمانيّة. نجد هنا ما يعادل الحساب الأخير عند المسيحيين في «آخر الزمان». لا يستطيع أيّ إنسان أن يتوقعه أو يحوّله إلى عقوبة أرضيّة، وفي ذلك إدانة لكلّ خلط بين اللّاهوتي والسياسي.
من هنا المكانة المتنازع فيها للحقّ الذي يُعدّ «إسلاميّاً» في المجال الديني وفي مجال تنظيم السلوك، والحال أنّ نصوصاً قطعيّة في القرآن تقيم تمييزاً بين النظامين المرجعيين: التذكير هو تذكير بالقول الإلهي وليس بأصوليّة لاهوتيّة-سياسيّة. لقد وَضّح المفسّرون، الذين ينتمون إلى الإسلام المستنير، أنّ «آيات الحرب» لا معنى لها ولا مُبرّر لوجودها إلّا بالنظر إلى وضعيّة تاريخيّة محدّدة هي اليوم متجاوَزة، وأنّه من غير المشروع إعطاؤها قيمة خارج نطاق ذلك السياق. غير أنّ الآية (256) من سورة البقرة (*)، وهي واضحة بالنسبة إلى العقل، لا تتطلّب أيّ تأويل نسبوي. يطبّق أولئك المفسّرون تأويليّة طالب بها ابن رشد في (فصل المقال)[11].
زد على ذلك أنّ تحويل الإيمان الإسلامي إلى قانون سياسي يتجاهل أنّ كلمة «شريعة» تعني أوّلاً وأساساً «الطريق المرسوم». وبحسب جاك بيرك (Jacques Berque) أيضاً يحيل المصدر الاشتقاقي، بوصفه معنى أوّلاً، على «الطريق الذي تسلكه قطعان الماشية نحو المسقى». لا يتعلق الأمر مباشرة بمنظومة تعليمات شرعيّة يمكن أن يكون لها معنى قانوني وسياسي في مجال التنظيم الفعلي للمجتمعات. نجد في القرآن، وتحديداً في الآية (18) من سورة الجاثية، ما يوافق ذلك: {ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ}. من بين ستة آلاف آية يشتمل عليها القرآن أقلّ من سبعمئة آية تتضمّن أوامر شرعيّة، سواء ما تعلق منها بالعبادات أم بالمعاملات[12]. إنّ فرض الشريعة قانوناً سياسيًّا ليس أمراً بديهيّاً، ولكنّه ناتج عن استعمال النصّ القرآني في معنى لاهوتي-سياسي وأصولي قابل للاعتراض، استعمال يحتقر التفاسير كما يحتقر سياقات تدوين السور.
يلاحظ جيل كيبل (Gilles Kepel) أنّه في بريطانيا العظمى تطوّرت حركة «إعادة أسلمة من الأسفل» شديدة الشبه بحركة التبليغ، وسريعة الانتشار في المجال الاجتماعي الذي هجرته الدولة أثناء الإصلاحات الليبراليّة القصوى التي قام بها المحافظون. لقد اكتسبت تلك الحركة سمعة ووجاهة حقيقيّة لدى المجموعات المعزولة في غيتّوهات (ghettos) وقد فرضت عليها سيطرة دينية صارمة. تمثل قضيّة سلمان رشدي، التي وقعت عام (1988) مناسبة للتنبيه على أنّه لا أحد فوق القانون السياسي-الديني الذي يُلزِم كلّ مؤمن بالتطبيق الحرفي لتعليمات الإمام، وإلّا عُدَّ خائناً لجماعته وعومل باعتباره كذلك. يصبح التجديف والردّة خيانة عقوبتها الموت كما تبيّنُ ذلك الفتوى التي أصدرها الخميني ضدّ كاتب (الآيات الشيطانيّة).
تنحرف الجماعويّة الإسلامويّة، بسبب أصوليّة تثيرها عادة الوضعيّة الاجتماعيّة، إلى سلسلة من المطالب الرمزيّة والسياسيّة والقانونيّة. يتعلق الأمر اليوم، في كلّ مكان، بالحصول على حقّ ارتداء الحجاب الشرعي. وغداً ستطال الرقابة المواد المدرسيّة التي تعدّ هدّامة. وبعد غد، وباسم هويّة ثقافيّة مُنَظّر لها بمهارة بوصفها رفضاً للاستعمار الجديد، ستتمّ المطالبة بقانون للأحوال الشخصيّة من المتحكّمين في الجماعات بهدف تعطيل القوانين الجمهوريّة التي تُمثّل عائقاً أمام ممارسة الوصاية. في فرنسا، لا يتردّد بعض المفكّرين القريبين من «اتّحاد المنظّمات الإسلاميّة في فرنسا» (UOIF) في وصم كلّ تذكير بمبادئ العلمانيّة بالأصوليّة، ويدعون إلى إعادة إصلاحها لكي تقبل بالمطالب المضادّة للعلمانيّة. «توجد حالة اعتراف متبَادَل واحترام مشترك لا يمكنها أن تكتفي بالإثبات النهائي والقاطع لإطار علماني ولد في إطار تاريخ لم يشارك المسلمون في صنعه (...) إنّ التفكير بأنّه لا شيء يسمح باعتبار كهذا يعني الترجمة الحرفيّة لنزعة أصوليّة تطابق بين مرحلة من التقليد الفرنسي وتبريره بوساطة المطلق»[13]. في هذا (القول) استعمال غريب للتنسيب التاريخي، الذي لا يطال التراث الإسلامي. فبعنوان قانون للأحوال الشخصيّة يُفتَرَض أنّه موجود في القرآن، تُطالَبُ العلمانيّة بأن تتأقلَم؛ أي أن تنفي ذاتها بتكريس استثناءات من القانون المشترك. واضح هنا أنّه يتمّ نفي القيم الأساسيّة للعلمانيّة، وأنّه لا يرادُ أن يُرى فيها سوى جهاز قانونيٍّ طيّع وقابلٍ للتغيير بحسب علاقات القوّة. أمّا الحجّة التي تقول إنّ المسلمين لم يشاركوا في التحرّر العلماني، فهي تشهَد على عمى خاص. لم يكن ذاك التحرّر قضيّة خاصّة بالدولة وبدين بعينه، بل إنّها مسار أكثر عموميّة لتحرّر مزدوج، تحرّر الدولة من كلّ وصاية دينيّة مهما كانت، وتحرّر المؤسّسات الدينيّة نفسها من الدولة.
بوجود ذلك الموقف لدى مفكّرين دينيين، بدت الجمهوريّة العلمانيّة أحياناً عائمة بتبنّيها صياغات تتضمّن خطر فرز المواطنين من ذوي العقيدة الإسلاميّة. كانت تلك هي الحالة في أواخر عام (1999) عندما نظّم وزير الداخليّة استشارة هدفها تكوين جهاز مُمثِّل للمسلمين في فرنسا. يصف التقرير الأوّلي حالة «حقوق وواجبات المسلمين في فرنسا». وهو يتميّز بتأكيده على المواطنة، واعتبار الدين خياراً عوض أن يُقيّد الناس. ولكنّ الصياغة سرعان ما تغيّرت لصالح الإحالة إلى «علاقات بين السلطات العموميّة والديانة الإسلاميّة في فرنسا». يتعلق هذا التغيير، كما تلاحظ عن صواب كلٌّ من ميشال تربالا (Michèle Tribalat) وجان هيلان كالتنباش (Jeanne-Hélène Kaltenbach) في كتاب (الجمهوريّة والإسلام)[14]، بمسار توافقي أكثر ممّا يتعلق بمنطق جمهوري، لما كان يُعتقَد أنّ من اللازم إضافة تدابير خاصّة للقانون المشترك، وإجبار «المواطنين المسلمين» على تعريف أنفسهم بوصفهم مسلمين، كما لو أنّ الانتماء الديني أصبح هو العامل الهووي الحصري. وأخطر من ذلك، وبطلب من منظمة الجمعيّات الإسلاميّة في فرنسا، تمّ حذف الإحالة إلى حريّة كلّ شخص في تغيير الدين أو المعتقَد من نصّ الإعلان الأوّلي. ومن المعروف أنّ عقوبة الردّة، في الصيغة المتطرّفة من الإسلام، هي الموت. باختصار انخرطت الجمهوريّة في مسار غير آمن بهدف الحصول على تصريح بالوفاء من جزء من مواطنيها، وهو ما يمكن أن يكون فيه شيء من وصم (الجمهوريّة) بالعار. إذا كان القانون المشترك والعلماني واقعة تفرض نفسها على الكل، فلماذا، إذن، وضع النقاط على الحروف بالنسبة إلى البعض؟ وبعد أيام قليلة، انتقلت من هذا المسار إلى التواطؤ الصريح برفض إظهار تبعات إطار الحقّ المشترك بخصوص كلّ محاولة لتفعيل معايير خاصّة بجماعة دينيّة. يمكن فهم هذا الرفض في الحالة التي يؤدّي فيها التنويه الانتقائي بحريّة تغيير الدين إلى الشكّ في أنّ كلّ المواطنين المسلمين هم قبْلِيّاً متمسّكون بشكل متطرّف بالإسلام، وهو ما ليس صحيحاً بطبيعة الحال. إنّ المطالبة بإعلان الوفاء للجمهورية في هذه الحالة لا معنى له.
بالنسبة إلى العلمانيّة، التي تعتبر الفرد ذاتاً تتمتّع بالحقّ، تمثل الجماعويّة الخطر الأكبر. يتضمّن المَثَل الأعلى العلماني ثقافة عدم تحيّز متبصّرة في إثبات القناعات، ولكنّها لا تتطلّب أيّ تنميط. وإذا كانت لا تعترف إلّا بالفرد ذاتاً تختصّ بالحقّ، فإنّها ترمي إلى تحريره، من حيث المبدأ، من كلّ وصاية تمارَس باسم الهويّة الدينيّة وباسم الهويّة الثقافيّة. يتعلّق الأمر بحفظ الخصوصيّة، والاختيار الحرّ للمرجعيّات الهوويّة التي تتكوّن منها. الجماعويّة هي، بهذا الصدد، تحدٍّ حقيقي تعمّقه الآثار النفسيّة والاجتماعيّة للتوتّرات والصراعات التي تجري في المستوى الدولي.
ترمي الجماعاتية إلى بناء جماعة طائفية موحّدة باتباع عقيدة سرعان ما تتحوّل إلى خضوع لأشخاص نصّبوا أنفسهم قادة. كذلك يقام نسق خضوع، بل قلْ نسق تحطيم الحريّات الفرديّة. يتمّ المرور، إذن، وأحياناً بطريقة غير محسوسة، من التضامن الجماعي الذي يطمئن ويشُدّ الأزر إلى التبعيّة الجماعويّة. لا يكون التحرير العلماني بديلاً بحق لذلك المسار إلّا إذا اقترن بتحسين شروط الوجود.
[1] - Tonnies, Communauté et société: catégories de la sociologie pure, trad. Fr., Paris, 1977.
[2] - Gilles Kepel, La revanche de Dieu, Paris, Seuil, coll. «Points actuels», 1992.
(*) استعملنا هنا ترجمة الكتاب المقدس الصادرة عن دار الكتاب المقدس، القاهرة، الطبعة الثالثة، 2012.
[3] - ذلك ما قام به فيلسوف كليفيناس (Lévinas) على الرغم من أنّه معروف كمفكر احترام الغيريّة: «ارتكب سبينوزا خيانة، في تاريخ الأفكار، فقد جعل حقيقة اليهوديّة منوطة بوحي العهد الجديد [...]، ومنذ ذلك الحين يظهر للعيان الدور المشؤوم الذي أدّاه اسبينوزا في تقسيم الإنتلجنسيا اليهوديّة، وإن كانت المسيحيّة، بالنسبة إلى ممثليها كما بالنسبة إلى اسبينوزا نفسه، ليست إلّا حقيقة قبل الأخيرة». انظر: (E. Lإvinas, Difficile libertإ, op.cit., p. 155)
[4] - YirmiyahuYovel, Spinoza et autres hérétiques, Seuil, 1991, notamment p. 277 et sui.
[5] - انظر، بخصوص هذه المسألة، التحليل المفيد لبلاندين كريغل في كتاب: سياسة العقل. Blandine Kriegel, La politique de la raison, Payot, Paris, 1994, p. XVIII-XXIII et Heidegger et thإologie politique.
[6] - E. Kantorowicz, Les deux corps du roi, op. cit. p. 171.
[7] - Ibid. p. 55.
[8] - Mgr Ratzinger, èglise, Œcuménisme et politique, Fayard, Paris, 1987, p. 287.
[9] - Ibid., 217.
[10] - Bertarnd Russel, Pourquoi je ne suis pas chrétien?, trad. J.-J. Pauvert, 1960, p.64. (*) يعتمد الكاتب على ترجمة ماسّون الفرنسيّة للقرآن: Le Coran, trad. D. Masson, Gallimard, coll. «Folio classique», 1976, t. I, p. 229. (*) {لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصامَ لَها وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.
[11] - Averroès, Traité décisif, Garnier-Flammarion, 1996.
[12] - انظر، في ما يخصّ هذه النقطة، كتاب محمّد سعيد العشماوي: الإسلام السياسي. Muhamed Saïd Al-Ashmawy, L'islam politique, La Dإcouverte, 1990, p. 30 et 31.
[13] - Tariq Ramadan, «Pour une laïcité ouverte», Le Monde, 13 octobre 1994.
[14] - Jeann- Hélène Kaltenbach et Michèle Tribalat, La République et l'islam, Paris, Gallimard, 2002, p. 162 et suiv. (*)






