الشعبويَّة...غزارة الاستعمال وندرة الضبط


فئة :  مقالات

الشعبويَّة...غزارة الاستعمال وندرة الضبط

الشعبويَّة...غزارة الاستعمال وندرة الضبط([1])


يرجع بعضهم مصطلح "شعبويَّة" إلى نهاية القرن التاسع عشر في إطار وصف الحركة الاشتراكيَّة التي ندّد أتباعها من الشعب بالنخبة، ورأت أنَّ على هذه النخبة أن تتعلم مبادئها الرئيسة من القاعدة الشعبيَّة، لا أن تتعلم القواعد هذه القيم والمبادئ من تلك النخبة. ويبدو أنَّ هذا الأمر قد تزامن مع ثورة العمّال على أصحاب المؤسّسات الكبرى في الولايات المتحدة الأمريكيّة آنذاك، واستشراء الموقف المنتصر للشعب على حساب أصحاب رؤوس الأموال. فالمعنى الأصلي للمصطلح إذن لم يكن يحمل حسّاً سلبيّاً[2].

الشعبويَّة ظاهرة سوسيولوجيَّة وسياسيَّة تنتصر للأيديولوجي على حساب المعرفي، وللكمّي على حساب النّوعي والكيفي. هي نزعة التعصّب لفكرة لمجرَّد أنَّها تجد هوى في الأنفس ورضا في وعي البعض. والمهمّ في تقديرنا أنَّه ليس للشعبويَّة أساس علمي، وإنَّما هي من قبيل الأفكار العامَّة التي تنتشر لتوافقها مع ميولات اعتقاديَّة لها رواج سوسيولوجي واسع.

الشعبويَّة ظاهرة سوسيولوجيَّة وسياسيَّة تنتصر للأيديولوجي على حساب المعرفي، وللكمّي على حساب النّوعي

تُعدّ الشعبويَّة في المنظور السياسي سلاحاً نافق السوق، لأنَّها تعمل على استمالة الرأي العام نحو التصوّرات التي ترضي النرجسيَّة العقائديَّة أو التوجّهات الأيديولوجيَّة أو القناعات العرفيَّة لفئات واسعة من المجتمع. فلا تطمح الشعبويَّة إلى معالجة الظواهر بتحليلها وتفكيكها والانتهاء بها إلى نتائج علميَّة مدروسة ومبوّبة، وإنَّما هي ترمي إلى تغطية كلّ الظواهر بقناع "المألوف" و"العادة" و"الأصل في الأشياء"، وتستثمر الظاهر والعارض والخارجي من الحوادث وكذا الحسّاس المثير من الأفعال من أجل استمالة جمهور من المتلقين وتحمله على الانتصار لمذهبها.

الشعبويَّة هي في العموم:

- تيّار من الفكر السطحي.

- تيّار له توجّه أيديولوجي تعبوي.

- فكر يشتغل على استغلال الضعف المعرفي والهشاشة النفسيَّة.

- فكر له قدرة على الانتشار، لأنَّه لا يتطلب مجهوداً عقليّاً أو عناء معرفيّاً.

- سلاح فعّال في المعارك السياسيَّة والخصومات الأيديولوجيَّة، وله قدرة على تفكيك الوحدة الاجتماعيَّة وزعزعة العمل السياسي الفاعل.

لكنَّ الشعبويَّة ليست مقصورة على المجتمعات المتخلفة أو المجتمعات التي من خصائصها الاستبداد السياسي. فكثيرة هي المجتمعات المتقدّمة (تعرف عادة بأنظمتها الديمقراطيّة وانتصارها للحريّات) التي تكثر فيها النزعة الشعبويَّة ولا سيّما زمن الانتخابات السياسيَّة، وهذا ما لاحظناه في الحملة الانتخابيَّة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب. على أنَّ بعض المجتمعات يجتهد في مقاومة الشعبويَّة بالعلم والمعرفة ونشر الثقافة، وبعضها الآخر يساهم في الترويج لها عبر نشر الفكر الخرافي والشعوذة والثقافة المبتورة والدوغمائيَّات الدينيَّة والسياسيَّة وقتل مصادر الإبداع وبذور الحريَّات.

لا تتراجع الشعبويَّة إلّا في الفضاءات التي تنتصر للإبداع والخلق، ولا يتقلص مداها إلّا بالحثّ على الخلق الفني وانتشار الآداب وبناء المسارح ودور السينما والاحتفالات الموسيقيَّة. فالفن يخلق في الأذهان عوالم تخييليَّة ويرفع من الذوق العام ويوسّع من أفق الممكنات. والأدب يوطّد الصلة بالكتابة والقراءة ويدرّب الأنفس على الاستغراق والتأمّل ويثري الخيارات الفكريَّة للقرّاء. والمسرح يخلق حياة داخل الحياة، ومن عالمك الصغير تنطلق إلى عوالم مختلفة متباينة متباعدة فتعرف كتّاباً جدداً وثقافات مختلفة وتنفتح أمامك نوافذ الآراء الأصيلة. والموسيقى روح الحياة ونسغ الكيان الذي ينتزعك من الحدث الفارغ نحو الامتلاء بسمفونيَّة التناسق الكوني. وكذا سائر الفنون التي تشرّع الأبواب على المتنوّع والمختلف والثري.

نحن في حاجة إلى نشر قيم الاختلاف والغيريَّة وقيم التسامح والحوار وقيم التبادل والنقاش من أجل أن نرمي عرض الحائط بشعبويتنا التي هي جزء من تعصّبنا. لا بدَّ من أن نتعلم الإيمان بالعلم وبالمبدأ وبالقيم الرفيعة من أجل أن نحارب نزعة التعميم السطحيَّة والميل نحو الانتصار للفكر السائد. الشعبويَّة في معناها السلبي هي ثقافة القطيع التي تساير المجموعة ولا تساير القيمة.

إنَّ الدول التي تقتصد في الإنفاق المادّي على مجالات الدراسة والعلم والفن والثقافة هي التي تقتصد في الرقي والتحضّر. فأن نقتصر على المعرفة اليوميَّة ولا نعير التفاتاً لتطوّر الفكر والآداب والفنون، يعني أن نغلق أبصارنا أمام النموّ الاقتصادي والرفاه الاجتماعي والعدل السياسي، فبعضها آخذ بأعناق بعض. إنَّ الاستثمار في المعرفة والعلم والفن الرفيع هو الاستثمار الذي يحارب الجهل والمعرفة الاستهلاكيَّة والشعبويَّة والاستخدام اليومي الباهت للمعلومات. إنَّه بالفنون والآداب والعلوم نحارب قيماً موروثة بالية ومعارف متسرّعة لا قاع لها. فالثقافة توسّع من آفاق النظر ومن دائرة الاحتمال وتزوّد البشر بخبرات متنوّعة من شأنها أن تحارب كلّ نزعة تعميميَّة ومعرفة سطحيَّة تبسيطيَّة.

لا تتراجع الشعبويَّة إلّا في الفضاءات التي تنتصر للإبداع والخلق، ولا يتقلص مداها إلّا بانتشار الآداب وبناء المسارح ودور السينما والاحتفالات الموسيقيَّة

نحن في حاجة إلى الديمقراطيَّة وفي حاجة إلى حقوق الإنسان، ولكنَّنا أحوج من ذلك إلى ثقافة راقية وإلى معارف لها مستند علمي ورصانة فكريَّة حقيقيَّة، لأنَّ الشعبويَّة تأبى كلّ ذلك وتنسج خيوطها بالآراء الشائعة والقبليّات الخادعة.

لكنَّ للنزعة الشعبويَّة أنصاراً، ولا سيّما في حقل السياسة، توظّف من أجل الهيمنة على الطبقات الاجتماعيَّة الغالبة التي ينتشر فيها الفكر البسيط. وربّما يكمن التناقض في الصراع على التحكّم في هذه الطبقات. إنَّه الصراع بين ما يكون من عالم المثال والطوبى الذي يروّج له الشعبويون وما يكون من عالم الواقع والنجاعة والجدوى الذي عجزت النخبة العلميَّة عن تحويله إلى حلم خاصّ بالشعوب. وهكذا يتزايد عداء الشعبويَّة كتصوّر لا عقلاني لكلّ فكر علمي وعقلاني من أجل الاستئثار بالفرد الأعزل من كلّ زاد معرفي مؤسّس ومن كلّ دراية سياسيَّة معمّقة.

أخيراً لا بدَّ من التنبيه على أنَّ مصطلح "شعبويَّة" كثير الاستخدام في سياقات التنديد والتحريض، ولكنَّه قلّما تحدّد كمفهوم إجرائي في البحوث والدراسات، وهو في حاجة إلى تعميق نظر وإلى مقاربات علميَّة ومحاولات أكاديميَّة جادَّة.

[1]- نشر هذا المقال في مجلة يتفكرون الصادرة عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود، عدد 13

[2]ـ ربما يُعدّ الأرجنتيني أرنستو لاكلوا أشهر من استخدم مصطلح "الشعبويَّة" في القرن العشرين في معناه الإيجابي. وربَّما يكون الألماني فيرنر مولر أشهر من بيّن كيف تمثل الشعبويَّة النقيض الحقيقي للديمقراطيَّة. وقد عملنا على استخدام المصطلح في هذا المعنى الثاني المحمول بالشحنة السلبيَّة في هذه الورقة.