"الأصول السّياسية للحريّة الدّينية" لأنطوني جيل


فئة :  قراءات في كتب

"الأصول السّياسية للحريّة الدّينية" لأنطوني جيل

تكتسب الحرّيّة الدّينية أهمّية كبرى في وقتنا الرّاهن؛ لكونها تمنح الأفراد الحقّ في الهويّة، وفي تكوين معتقدات شخصيّة وإظهارها، وانتهاك الحرّيّة الدّينيّة أو العقديّة يتداخل بشكل كبي؛ بل ويهدّد الحقوق السّياسيّة المدنيّة- مثل حقّ الحياة والتعبير- إضافة إلى الحقوق الاجتماعيّة والاقتصاديّة والثّقافيّة الأخرى، والتّمييز على أساس الدّين يؤثر في العلاقات الاجتماعيّة، بحيث يؤدّي إلى التّفكّك والظّلم والعنف والإرهاب، ممّا يمكن أن يخلّ بتوازن المجتمعات.

والحرّيّة الدّينية مرتبطة بالعقل والفكر وحرّيّة الإرادة والاختيار والاقتناع الشّخصيّة للإنسان، وهو ما تضمّنته المادّة (18) للإعلان العالميّ لحقوق الإنسان، الّتي ذكرت أنّ "لكلّ شخص الحقّ في حريّة التّفكير والضّمير والدّين، ويشمل هذا الحقّ؛ حريّة تغيير ديانته أو عقيدته، وحريّة التّعبير عنها، سواء بالتّعليم أو الممارسة أو إقامة الشّعائر ومراعاتها، سواء كان ذلك منفردًا أو في جماعة، سرًّا أو علانيّة"[1].

والحرّيّة الدّينيّة لا يجب أن تقتصر على مجتمع دون الآخر؛ بل من الضّروري أن تسود المجتمعات ككلّ، ليحلّ- بعد ذلك- نوع من التّعايش والتّآخي، لما تحمله هذه الحريّة من إيجابيّات في طيّاتها، كما أنّها - أي الحريّة الدّينية - قطعت تاريخًا طويلًا كي تصل إلى ما وصلت إليه اليوم.

ولمقاربة هذا المفهوم والبحث في طيّاته؛ صدر مؤخّرًا عن الشّبكة العربيّة للأبحاث والنّشر، في طبعة أولى (2014م)، ومن ترجمة محمّد محمود التّوبة، كتاب "الأصول السّياسية للحريّة الدّينيّة" للكاتب جيل أنطوني، وهو كتاب يقع في (368) صفحة من الحجم الكبير، قسّمه صاحبه إلى مقدّمة وستّة فصول، إضافة إلى ملحق، وقائمة بأهمّ المراجع، وفهرس للموضوعات، كان الهدف منه - كما يظهر من المقدّمة - توفير دراسة جيدة للقرّاء المهتمين بموضوع الحرّيّة عمومًا، ونظرًا إلى كون حريّة الاعتقاد والتّدين تعدّ - في الغالب - الحرّيّة الأولى، فسوف يساعدنا هذا الكتاب في فهم الكيفيّة الّتي تزدهر أو تقمع بها هذه الحريّة.

وقبل الشّروع في التّنظير لهذه المسألة، كان لا بدّ من تعريف الحرّيّة الدّينيّة، ومن أجل هذا؛ يُشير الكاتب إلى التّعريف الّذي صاغه الأُسقف بروملي أوكسنام (Bromley Oxnam)، وهو بالنّسبة إليه ـ أي المؤلّف – أفضل تعريف للحرّيّة الدّينيّة؛ إذ هو الّذي ساعد - بشكل كبير - في توضيح السّياسات التي تؤثّر عليها؛ فأوكسنام هذا يُعرّفها على أنّها: حريّة العبادة وفقًا للضّمير، وحريّة الفرد في أن يُغيّر دينه، إضافة إلى حريّة الوعظ، والتّعليم والنّشر والقيام بالنّشاطات التي تترافق معه؛ كالتّبشير، وحيازة الملكيات لدور العبادة، والوصول إلى وسائل الإعلام[2]، فأنطوني جيل - من منطلق اهتمامه الأكاديميّ كباحث في العلوم السّياسية - حاول بهذا التّعريف إيجاد طريقة منهجيّة لفهم أصول الحرّيّة الدّينيّة، الّتي لا يحدّدها - وفق رأيه - القادة والنّاشطون الدّينيّون وحدهم، فالُحكّام - ديموقراطيّون أو ديكتاتوريّون - والمسؤولون الحكوميّون والمُشرّعون؛ هم الّذين يضعون التّشريعات والأُطر القانونيّة الّتي تعمل بموجبها المؤسّسات الدّينيّة وأعضاؤها، وهو يعتقد بأنّ الفاعلين السّياسيّين لا بُدّ أن يأخذوا بعين الاعتبار مصالح عديدة عند تحديد هذه الأُطر؛ فالمستقبل السّياسيّ واحتمالات البقاء والحاجة لرفع الإيرادات الحكوميّة ونموّ الاقتصاد - كلّها - معطيات تحدّد طبيعة القوانين الّتي تتّصل بالحرّيات الدّينيّة.

في الفصل الأوّل (مقدّمة حول الحرّيّة والقوانين والدّين والتّنظيم)؛ أكّد الكاتب على أنّ بروز الصّراع المستند إلى الدّين، وتزايد حدّته مع بداية القرن الحادي والعشرين، حتّم على المثقّفين والمفكّرين دراسة الأديان وفهمها في جوهرها، بما في ذلك التّفاعلات بين الكنيسة والدّولة، والقوانين المنظّمة للعلاقة بينهما، الّتي تعدّ - بحقّ - جوهر الحريّة الدّينيّة، لكن - حتّى هذا التّاريخ - قلّة من العلماء هم الّذين سعوا إلى شرح ظهور الحرّيّة الدّينيّة، أو بشكل أكثر تحديدًا؛ شرح التّغير والتّقلبات في الحرّيّة الدّينيّة، ومعظم الدّراسات الّتي تناولت الظّاهرة؛ إمّا أنّها أكّدت عواقب الأشكال والمستويات المتنوّعة للحريّة الدّينيّة أو القانون الدّينيّ، أو ناقشت الملابسات المعياريّة للتّفسيرات المتنوّعة للحريّة الدّينية، أو قدّمت تاريخًا تفصيليًّا مع محاولة قليلة لتطوير نظريّة قابلة للتّعميم لظهور الحريّة الدّينية في الزّمان والمكان، قلّة من العلماء - فقط - أمثال: روجر فنك (Roger Fink)، وتشارلز هانسون (Charles Hanson)، وجون أندرسون (Jon Anderson)؛ هم الّذين حاولوا تقديم شروحات مطوّرة نظريًّا لظهور الحريّة الدّينية، على الرّغم من أنّ كلّ واحد منهم ركّز على حالات دراسيّة محدّدة، ولم يسعوا إلى تعميم أوسع لأفكارهم، ويحمّل الكاتب - بسبب قلّة هذه الدّراسات - المسؤولين الحكوميّين قدرًا من المسؤوليّة في ارتفاع أو انخفاض مؤشّر الحريّة الدّينيّة في المجتمع؛ إذ هم من يضعون الحدود القانونيّة الّتي تعمل بموجبها الدّوائر الدّينيّة، وبهذا يصير فهم دوافع هؤلاء الحكّام وحوافزهم حاسمًا في فهم أصول الحرّيّة الدّينيّة.

والحريّة الدّينيّة - حسب الكاتب - تتضمّن أكثر من حقّ الاعتقاد الفرديّ؛ فهي تشمل حشدًا من السّياسات الّتي تخصّ حقوق الملكيّة والتّربية والتّعليم، وملكيّة وسائل الاتّصال والتّعبير، وقدرة المتعبّدين المجتمعين على المجيء معًا وبناء كنيسة، والوصول إلى غير المؤمنين من المجتمع، "وعلى الرّغم من أنّه من الممكن - بالتّأكيد - صوغ الحريّة الدّينيّة في إطار أوامر أخلاقيّة، يكون من المهمّ - مع ذلك - أن نفهم أنّ الحرّيّة الدّينيّة؛ هي مسألة سياسيّة تنظيميّة حكوميّة، تستطيع أن تمسّ قضايا متنوّعة مثل (متطلّبات المواطنة)"[3].

فمن خلال هذا القول؛ يمكننا أن نلاحظ أنّ أنطوني جيل يقتبس "إلى حدّ بعيد من أعمال السّياسيّ والاقتصاديّ آدم سميث (Adam Smith)؛ الّذي يرى تشابهات بين القوانين المُنظّمة للدّين، وتلك المنظّمة لأشكال متعدّدة من النّشاط الاقتصاديّ، وهو ما تناوله في كتابه "نظريّة العواطف الأخلاقيّة"، وتستند هذه النّظرية الاستنباطيّة - أيضًا - إلى أفكار المدرسة الّتي تركّز على السّلوك المُستنِد إلى المصلحة؛ فنظريّة الاختيار العقلانيّ (Rational Choice Theory) الّتي اقترحها المؤلّف وبنى عليها بحثه في الأصول السّياسية للحريّة الدّينية، تقول: إنّ الناّس يرتكزون في بناء قراراتهم على أكثر الوسائل فعاليّة لتحقيق أهدافهم، بأقلّ طريقة مكلّفة وممكنة، وهي نظريّة مرتبطة - في الغالب - بالاقتصاد، إلّا أنّ المؤلّف استقدمها لشرح الأصول السّياسية للحريّة الدّينيّة، وهو - بهذا - لا يُعدّ أوّل من استخدم نظريّة مرتبطة بالاقتصاد في دراسة مجالات أخرى كالدّين، فمن المعلوم أنّ علماء الاجتماع من أمثال: غاري بيكر (Gary Becker)، ورودني ستارك (Rodney Stark)، وكارولين ورنر (Carolina Werner)، قد طوّروا منظور الخيار العقلانيّ ليشمل دراسة الدّين"[4].

وفي بحث الكاتب عن الأصول السّياسيّة للحرّيّة الدّينيّة؛ ذهب إلى أنّ التّسامح الدّينيّ المدعوم بالقوانين الّتي لا تحابي دينًا مهيمنًا، سوف يؤدّي إلى تعدّدية دينيّة زائدة، كما أنّ ارتباط التّعدديّة بالحريّة المدنيّة سيجعل الدّولة تتردّد في فرض أيّ شكل من التّشريع، الّذي سيحابي فرقة دينيّة على حساب فرقة أخرى، فالحريّة الدّينيّة: هي مسألة تنظيم حكوميّ - أوّلًا - لذلك؛ ينبغي أن نتوقّع أن تؤدّي مصالح السّياسيّين دورًا مهمّا في تقرير مستوى الحرّيّة الدّينيّة في المجتمع وشكلها.

وفي هذا الإطار؛ يأتي تأكيده على أنّ هناك علاقات تبادلية قويّة بين حريّة الدّين أو العقيدة ومستويات الحريّة والتّطوّر الاقتصاديّ؛ فنجد - على المستوى الاقتصاديّ - البلاد الّتي تفرض قيودًا شديدة على حريّة الدّين أو العقيدة يقلّ إنتاجها المحليّ الكلّيّ، وتقلّ رتبتها بمقياس التّطوّر الإنسانيّ الّذي وضعته الأمم المتّحدة، ممثّلًا لذلك بكون المرأة التي تعيش في بلاد تقيّد حريّة الدّين أو العقيدة تقلّ مشاركتها في البرلمانات القوميّة، و في الحياة المهنية، وفي التّعليم، بالتّالي، فهذه المرأة تحصل على دخل أقلّ من مثيلتها الّتي تعيش في بلد أقلّ قيودًا أو بلا قيود على حريّة الدّين أو العقيدة، وعليه؛ فإنّ حرّيّة الدّين أو العقيدة ليست حقًا أساسيًّا للفرد فحسب، لكنّها - أيضًا - مهمّة للحالة الدّيمقراطية والاقتصادية لأيّ دولة، ولرفاهيّة مواطنيها، وللاستقرار والسّلام بين سكانها، فإهمال هذه الحريّة يمكن أن تكون له عواقب وخيمة وخطيرة - محلّيًّا ودوليًّا - لذلك؛ فإنّ حريّة الدّين أو العقيدة لها أهمّية كبرى لدى الجميع، سواء لمن يعدّون أنفسهم متديّنين، أو من يعدّون أنفسهم عكس ذلك.

ومن أجل بيان أوضح وأكثر تفصيلًا؛ يتحوّل بنا المؤلّف إلى بعض السّياقات التّاريخيّة في الفصل الثّالث؛ حيث يرى أنّ الحريّة الدّينية وُلدت من التّعدّدية الدّينية؛ ففي أوربا - مثلًا - تسامح الحكّام مع الفرق الدّينيّة - بعد تردّد كبير - بعد الإصلاح البرّوتستانتيّ، وكان هذا التّسامح من أجل تخفيف حدّة النّزاع الاجتماعيّ الّذي ستتولّد عنه مجموعة من الثّورات، الّتي سيكون من أهمّ بنودها: حرّيّة التّديّن والاعتقاد، لكن - رغم هذا التّسامح - كان الحكّام يفضّلون في قرارة أنفسهم الاستبقاء على كنيسة واحدة، والسّيطرة عليها من أجل ضمان الولاء لكراسيهم السّياسية، أمّا في أمريكا البريطانيّة الاستعماريّة؛ فقد نجمت التّعدديّة الدّينيّة عن اهتمام التّاج البريطانيّ بالاستيطان، وإقامة مجتمع يحوي كلّ الطوائف من كلّ الأجناس، ومع نموّ المستعمرات والحاجة إلى تشكيل جبهة موحّدة ضدّ البريطانيّين؛ أصبح القادة السّياسيّون في حاجة ماسّة إلى تبنّي خيار إعطاء الحريّة الدّينية للجميع، لكن - مع استقلال أمريكا - عملت كلّ الجماعات الدّينيّة - بإصرار - على حماية حصّتها من السّوق الدّينية، وكان يعني هذا - في الغالب - استمالة السّياسيّين المنتمين إليها، كي يسنّوا تشريعات تجعل من الصّعب على الأديان الأجنبيّة أن تتكاثر، لكن، مع مطلع القرن التّاسع عشر ومع الهجرة المستمرّة والهجرة الدّاخلية، ومع التّنوع الرّوحي المتنامي، ومع المكاسب المستخلصة من التّبادل التّجاريّ، الّتي كان يمكن اغتنامها من السّماح للأشخاص من كلّ الأديان بالانغماس في التّجارة البحريّة، استسلمت أمريكا - في نهاية المطاف - للضّغط الّذي مارسته الجماعات الدّينية للسّماح بحريّة دينيّة أكبر.

إذن، من الواضح؛ "أنّ الحريّة الدّينيّة: هي مسألة تنظيم حكوميّ، وعلينا أن نتوقّع أن تؤدّي رغبات السّياسيين وحوافزهم دورًا مهمًّا ورئيسًا في مستوى الحريّة الدّينيّة الّذي ينبغي أن يُمنح، ففي نهاية الأمر؛ يمكن القول: إنّ السّياسيّين والاقتصاديّين مهتمّين - بشكلٍ كبيرٍ - في زيادة الإيرادات الّتي تندرج تحت سلطتهم، وكلمّا زادت أهدافهم السّياسية، الخيّرة كانت أم الدّنيئة، أصبحوا في حاجة إلى إرضاء دوائر انتخابيّة معيّنة تضمن لهم استدامة البقاء، بالتّالي، التّمتع بالمنافع السّياسيّة والاقتصاديّة، هذا التّعزيز لبقائهم السّياسيّ يتمّ عن طريق الشّرعيّة الإيديولوجيّة التي تتوفّر - بشكل طبيعيّ - نتيجة التّعاون بين الكنيسة والدّولة، التي تُعدّ المُنتج الوحيد في كثير من المجتمعات للأعراف وللقيّم الاجتماعية، إذن، فقد ضمنت السّياسة - بهذا التّعاون - الحصول على الشّرعيّة الإيديولوجيّة، عن طريق موافقة القادة الدّينيّين- الّذين لا شكّ سيكونون مستعدّين للتّخلي عن الحرّيّة الدّينيّة في سبيل المنفعة النّاتجة عن حيازة الممتلكات، والتّعيين في مناصب كنسية، والحصول على إعانات ماليّة حكوميّة، والمزيد من الامتيازات الأخرى"[5].

وفي الفصل الرّابع (المكسيك وأمريكا اللّاتينيّة): أشار الكاتب إلى أنّ قدوم الحرّيّة الدّينيّة إلى أمريكا اللّاتينيّة استغرق طريقًا أطول من الطّريق الّتي سلكها إلى الولايات المتّحدة، وذلك راجع - ربّما - إلى الغياب المهمّ للأقلّيّات الدّينيّة، وإلى سيطرة الدّولة على الكنيسة الكاثوليكيّة، لكن - بعد ذلك - انتفضت الكنيسة في وجه الدّولة بعد مدّة قصيرة من التّحرّر؛ فأزمات الدّيون الّتي واجهت الحكومات كلّها - تقريبًا - في المنطقة، دفعت مسؤولي الحكومات إلى مصادرة ممتلكات شاسعة من الأراضي الكنسية، وعلى الرّغم من فقدان الكنيسة للكثير من أصولها المملوكة ووظائفها المختلفة، فقد كانت قادرة على المحافظة على استقلالها الذّاتيّ المؤسّسيّ؛ إمّا عن طريق إعادة التّفاوض، أو الإزالة الكاملة لشروط التّعيينات الأسقفيّة.

ومع منتصف القرن العشرين، بدأت تتنامى الجماعات البروتستانتية داخل جلّ دول أمريكا اللّاتينيّة، وخبرت هذه الدّول - مع تنامي حجمها - نهضة ديمقراطيّة في ثمانينيّات القرن؛ فبدأ البروتستانت يدخلون الحلبة السّياسية بوصفهم كتلة تصويت مهمّة، للدّفع من أجل حريّة دينيّة أكبر، ومع مزيد من الانتخابات التّنافسيّة، ووصول بعض الإنجيليّين إلى الانتخابات، كان هؤلاء البروتستانتيّون ناجحين في تحرير "السّوق الدّينية" أكثر.

أمّا في المكسيك؛ فقد سيطرت الدّولة - منذ البداية - على الكنيسة وعلى السّلطات الممنوحة لها، لكن حين صار الحكم الثّوريّ المكسيكيّ مؤسّسًا ومحصّنًا من الضّغوط السّياسيّة المنافسة، وجد كلّ من قادة الكنيسة وقادة الحكومة طريقة للعيش جنبًا إلى جنب، وإزالة القوانين "الظّالمة" الّتي كانت مفروضة على الكنيسة سابقًا، ومع بروز سياسة تنافسيّة في ثمانينات القرن العشرين، امتلك الأساقفة - أخيرًا - قدرة المساومة لإصلاح القيود الدّستورية المفروضة على الجماعات الدّينيّة، فكانت النّتيجة أن استفادت الجماعات البّروتستانتية من هذه المنعطف في الأحداث، وشهدت المكسيك - مع حلول القرن الحادي والعشرين - مع كثير من الأمم الأخرى في أمريكا اللّاتينيّة عصرًا واعدًا من الحريّة الدّينيّة.

هذا ولم يكن وضع الكنيسة أفضل حالًا في روسيا وبلدان ودوّل البلطيق، وهو ما أشار إليه الكاتب في الفصل الخامس؛ فالعلاقة القانونيّة بين الكنيسة والدّولة في روسيا وفي دول البلطيق اتّخذت مسارًا مشابهًا لتلك المسارات الّتي سلكتها الدّول الأوربيّة الغربيّة، الّتي كانت تُبقي على كنائس دولة معترف بها على مدى مسارها التّاريخيّ، كما أثبتت التّجربة في روسيا أنّ المحافظة على الكنيسة الأرثوذكسيّة كانت مفيدة جدًّا للقيصر، لكن بعد الإصلاحات السّياسيّة الّتي عرفتها المنطقة لاحقًا، وبعد الانفتاح الاقتصاديّ، أصبحت السّوق الدّينيّة أكثر تنوّعًا في دوّل البلطيق، خصوصًا، في إستونيا ولاتفيا، لكن قبل ذلك، حاول القادة الشّيوعيّون للاتّحاد السّوفياتيّ سحق كلّ الانتماءات الدّينيّة والاعتقاد الدّينيّ، فكانت نتيجة ذلك؛ أن انخفضت المشاركة الدّينية انخفاضًا شديدًا للغاية، بسبب: القمع القاسيّ، والمثبطات القويّة لكلّ انتماء علنيّ لمنظّمة دينيّة، لكن الحياة الدّينيّة انبعثت من جديد - بعد انهيار الاتّحاد السّوفياتيّ - وإن لم يكن ذلك بشكل قويّ، ممّا أصبح معه ميسّرًا للكنيسة أن تستخدم اتّصالاتها السّياسيّة لتبني مساندة قوميّة، من أجل تقييد الأديان غير الأرثوذكسية، خصوصًا، تلك الأديان الّتي كانت تعدّها أديانًا "دخيلة"، وبعد الانهيار التامّ للاتحاد السّوفياتيّ وميل الكفّة إلى بعض الأقلّيات الدّينيّة، أصبح لزامًا على الدّولة سنّ قوانين تشريعيّة تضمن لكلّ فرد حريّته في التّدين والاعتقاد، وذلك حفاظًا على ما تبقّى من وحدة هذا المجتمع.

أمّا في دول البلطيق؛ فقد وصلت إلى هذه الدّول "حركات دينيّة جديدة من الشّرق ومن الغرب، وبسبب هذا الأمر؛ أورد السّياسيّون القوميّون والرّهبان مخاوف من فرق دينيّة دخيلة هي الأخرى، ولجؤوا إلى أديان تقليديّة بصفتها وسيلة لتعزيز هويّاتهم القومية المولودة من جديد، وبعد سنة (1997م)، صار من الواضح أنّ المشهد الدّينيّ تغيّر في أماكن مختلفة من هذه البلدان؛ حيث ظهرت أكثر من خمسين حركة دينيّة جديدة، مع أنّ الكثير من هذه الحركات كانت صغيرة، فقد صار واضحًا أنّ التنوّع الدّينيّ كان شيئًا لم يستطع القادة السّياسيّون والدّينيون تجاهله، وأصبح لزامًا عليهم احترام هذه التّعدّدية وسنّ القوانين اللّازمة للحفاظ على الأشخاص وضمان حقّهم في التّدين"[6].

في ختام هذا الكتاب - الّذي فضّل فيه الكاتب الحديث عن نتائج الحريّة الدّينيّة - أكّد على أنّ الحريّة الدّينيّة مهمّة من أجل صحّة أيّ مجتمع؛ فقد أظهرت الدّراسات العلميّة ارتباطًا قويًّا بين الحريّة الدّينية وبين قوّة المنظمات الدّينيّة وتنوّعها، ذلك أنّه كلّما خفّت الحواجز المفروضة حكوميًّا على المنظمات الدّينيّة، كانت هذه المنظمات قادرة على متابعة غاياتها بتكلفة أقلّ، ولكن هذا لا يعني عدم تقييد الحريّة الدّينية بالأنظمة السّائدة والقوانين العادلة التي ترعى المصالح العامّة، حتّى لا تنقلب وبالًا على أصحابها، مع وجوب خلق توازن بين الحريات الدّينيّة من جهة، وبين أصحابها والقائمين عليها من جهة أخرى، فإن وقع الخلل واضطرب هذا التّوازن اختل النّظام ووقع الظلم، وسيصبح ذلك منافيًا لمقتضى الحريّة الدّينية، وهو ما نراه اليوم في إطلاق الحرّيّات الواسعة لبعض الجهات، وفي بعض الدّول.

لقد تفاءل الكاتب - في آخر مؤلَّفه - بمستقبل الحرّيّة الدّينيّة قائلًا: "الحرّيّة الدّينيّة هي التي ستسود مع مرور الأيام؛ فمن النّاحية التّجريبيّة: كما مشى الحكم الدّيمقراطيّ قدمًا، يبدو أنّ التّاريخ يخطّ مسارًا مفعمًا بالأمل، وهذا لا يعني أنّ الحريّة الدّينية حتميّة، لكنّه يعني؛ أنّه طالما وُجِد أناس مستعدّون للقتال في سبيل الحرّيّة باستمرار، سيبقى الأمل دائمًا مشرقًا"[7].


[1]- انظر: عبد الحسين شعبان وآخرون، ثقافة حقوق الإنسان، البرنامج العربيّ لنشطاء حقوق الإنسان، القاهرة، 2001، ص ص 21- 22. وانظر كذلك: إعلان مبادئ التّسامح، اليونسكو، باريس، 1995م.

[2]- أنطوني جيل، الأصول السياسية للحريّة الدّينية، ترجمة محمد محمود التوبة، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، 2014، ص 32

[3]- أنطوني جيل، "الأصول السّياسية للحريّة الدّينيّة"، ص ص 31- 32

[4]- انظر: عبد الغني منديب، الدّين والمجتمع: دراسة سوسيولوجية للتّدين بالمغرب، أفريقيا الشّرق، الدّار البيضاء، 2006م، ص 78

[5]- انظر: مركز القدس للدّراسات السّياسيّة، الدّين والدّولة: الأردن نموذجًا، وقائع ورشة عمل، الأردن، 2010م، ص 113

[6]- جريس هالسل، النّبوءة والسّياسة، ترجمة: محمّد السّماك، دار الشرّوق، القاهرة، الطّبعة الرّابعة، 1998م، ص 52

[7]- أنطوني جيل، الأصول السّياسيّة للحريّة الدّينية، ص 339