التطرف الديني باعتباره منتجا للسلطة السياسة


فئة :  مقالات

التطرف الديني باعتباره منتجا للسلطة السياسة

تجادل هذه المقالة في أن الأنظمة السياسية العربية كرست التطرف الديني بوعي وتخطيط مسبق، ولا ينقض هذه المقولة أن تكون السلطات السياسية تدير سياسات حازمة في ملاحقة المتطرفين ومواجهة جماعات التطرف والإسلام السياسي؛ ذلك أنها أنظمة سياسية، رغم عدائها مع الإسلام السياسي والتطرف والإرهاب، فإنها لا تختلف معه في الفهم والتطبيق، وفي ذلك يتحول الصراع مع الإسلام السياسي إلى صراع على الدين والشرعية الدينية والسياسية وليس صراعا أو اختلافا حول فهم الدين وسياسات الدولة والمجتمع، وفي النتيجة، فإنه حتى في حال إضعاف الجماعات الدينية المتطرفة والإرهابية، فإن البيئة الملائمة لنشوء وازدهار هذه الجماعات وأفكارها تظل قائمة، وتظل الفرص مهيأة لاستمرار التطرف الديني والكراهية وعودة الجماعات المتطرفة في أسماء وهيئات جديدة مختلفة، ويؤدي ذلك بطبيعة الحال إلى استمرار الصراع وإدامته؛ ما يضعف التنمية الاقتصادية والاجتماعية، ويؤثر سلبا على البيئة الثقافية والاجتماعية السائدة، وينشئ توترات وأزمات اجتماعية وطائفية وسياسية، وإلى تدخل دول وقوى خارجية أجنبية، وتطور الصراع وزيادته تعقيدا وصعوبة..

إن قضاة القرون الوسطى كانوا أكثر تساهلا في تطبيق العقوبات وأكثر تسامحا من المحاكم الإسلامية الحديثة  

وقد شغلت مقاربات كثيرة في تفسير الظاهرة الدينية العنفية والمتطرفة تفسيرا دينيا أو اقتصاديا، ولكنها وجهات نظر تنقضها وقائع كثيرة تجعلها لا تصلح لفهم وإدارة الصراع مع التطرف الديني، كما أنها أثبتت فشلها واقعيا، ولم تنجح طوال العقود الماضية في مواجهة الجماعات الدينية المتطرفة والإرهابية، بدليل الصعود والانتشار المتنامي للتطرف والإرهاب في أنحاء واسعة من العالم العربي والإسلامي، وتزايد قدرة الجماعات المتطرفة وأعمال العنف والكراهية المنتسبة إلى الدين على اكتساب مزيدا من المؤيدين، وتجنيد الأنصار والمقاتلين، .. وفي ذلك، فإن المقالة ترجح تفسير صعود الإسلام السياسي والتطرف الديني بالسياسات الحكومية وتطبيقاتها الدينية.

تستند التشريعات في معظم الدول الإسلامية إلى الشريعة الإسلامية، وإن كانت تخالفه في بعض الأحيان، وتستمد منه حرفيا قوانين الأسرة والأحوال الشخصية، كما تدير الحكومات أنظمة تعليم ديني في المدارس والجامعات وتنظم شؤون الدعوة والإفتاء والإمامة والمساجد والأوقاف، ...

ويجري فهم تطبيق الشريعة في الدول والمجتمعات الحديثة بطرق مختلفة ومتعددة، فهناك فهم وتفسير عصري ليبرالي، وهناك فهم اجتماعي اشتراكي، وهناك أيضا فهم محافظ متشدد، حسب الاتجاهات السياسية نفسها، وجرى خلاف بين مناهج وأدوات فهم الشريعة، ولكن الاتجاهات العصرية والتحديثية في فهم الدين كما في أمثلة ونماذج محمد عبده وعلي عبد الرازق وخالد محمد خالد وعلي محمود طه، تراجعت لصالح تفسير محافظ، وفي هذا السياق فقد عوقب علي عبد الرازق، وطه حسين، ونصر حامد أبو زيد، ...

وانتصر النموذج المحافظ في فهم الدين وتطبيقه لأسباب عدة، أهمها الاتجاه السياسي المحافظ في الدول العربية، إضافة إلى ملاءمة الفهم المحافظ اللدين مع استعادة الهوية والثقافة الوطنية والمحافظة على التراث الوطني، فالشريعة الإسلامية هي المكون الأساسي للمشروع الحضاري الإسلامي، ويأتي لاحقا في الأهمية صعود التدين في العالم، ولكن كان من الممكن جدا أن يمضي هذا التدين في اتجاهات عدة، ليبرالي وعصري وعقلاني ويساري ومحافظ، ..

ومن الملفت في رأي أستاذ علم الاجتماع في جامعة لندن سامي زبيدة[1] (كتاب الشريعة والسلطة في العالم الإسلامي) أن قضاة القرون الوسطى كانوا أكثر تساهلا في تطبيق العقوبات وأكثر تسامحا من المحاكم الإسلامية الحديثة، وهذا الأمر يجعل زبيدة يتمسك بمقولة إن عمليات الدعوة إلى تطبيق الشريعة أو تطبيقها بالفعل هي تعبيرات سياسية واجتماعية متعددة تعبر عن جماعات وقيادات محافظة تسعى لاسترداد السلطة أو التمسك بها، وسلطات سياسية تبحث عن الشرعية، وحركات سياسية معارضة تسعى لإضعاف السلطات وإحراجها فتزايد تلك عليها، وحركات قومية ووطنية واستقلالية ترى في الشريعة مظلة لمواجهة الاستلاب والغزو والاحتلال، وإطارا للاستقلال وبناء المشروع الحضاري الخاص بالأمة.

ويتفق مع زبيدة أيضا سكوت هيبارد أستاذ العلوم السياسية في جامعة دي بول بولاية إيلينوي والجامعة الأمريكية في القاهرة[2] (كتاب السياسة الدينية والدول العلمانية، مصر والهند والولايات المتحدة الأمريكية) الذي يرى أن صعود اليمين الديني في الولايات المتحدة لم ينشأ من داخل المجتمع المدني، ولكن بواسطة مجموعة من العاملين بالحزب والأثرياء الذين سعوا إلى استخدام الكنائس المسيحية للحدّ من أهمية الاعتبارات الاقتصادية كأساس للتصويت يتخذه الأمريكيون الفقراء، وقد عمل زعماء الدول العلمانية والمسؤولون السياسيون على تطبيع أيديولوجيات دينية رجعية، وساعدوا على وصول الأفكار والنشطاء المرتبطين بالحركات الأصولية، والأمر نفسه برأي هيبارد جرى في مصر والهند.

ولم يكن انبعاث السياسة الدينية رد فعل للتجاوزات التي جرت في حقبتي الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، ولكنه نتاج لاستراتيجية الحزب الجمهوري لاستقطاب المتدينين، وقد نفذت ذلك في حقبة التسعينيات شركات للعلاقات العامة ومراكز بحوث نجحت في إقناع الطبقة الكادحة أن مشكلاتهم هي نتاج للثقافة المتحررة وليست نتيجة للرأسمالية التي أعقبت الثورة الصناعية.

واستخدم حزب المؤتمر الهندي بعد عقود من السياسات العلمانية الدين لدعم سياساته الطائفية، وعلى سبيل المثال لم تكن أحداث العنف المناهضة للسيخ، والتي أعقبت حادث اغتيال أنديرا غاندي (1984) اندفاعا تلقائيا نتيجة لمشاعر الحزن والأسى، ولكنها رد فعل منظم من قبل زعماء حزب المؤتمر لتذكير السيخ بوضعهم الثانوي داخل المجتمع الهندي.. واستخدمت عوامل الخوف من الإرهاب والانفصاليين لدعم استراتيجية الحزب.

لم يكن الظهور الجديد للسياسات الدينية تقوى جديدة أو فشلا في التحديث والعلمانية، ولكنه عودة إلى الجدل القديم حول طبيعة وأساس النظام الاجتماعي  

وظهرت محاولات سياسية واجتماعية لإعادة فهم الدين بطريقة أكثر تنظيما كما فعل حسن البنا والمودودي والهندوسي دي سافركار بهدف تكييف التقليدي في شكل سياق حديث، .. فقد رأوا في الإنعاش الديني وسيلة لاسترداد مجتمعهم السياسي ومواجهة التحدي الغربي. وكان فهمهم للدين انتقائيا ومشبعا بالأفكار الوطنية، وتأثروا أيضا بالفاشية ومفاهيمها الأساسية عن الأمة وافضلية الجماعة على الفرد، وشكلوا أنفسهم وأحزابهم السياسية على نهج التركيب التنظيمي للفاشيين والنازيين في إيطاليا وألمانيا، وأعادوا كتابة تاريخهم القومي بأسلوب يعبر عن الهوية الطائفية.

كان نجاح الحركات الأصولية في النصف الأول من القرن العشرين محدودا بسبب معارضة القادة السياسيين لذلك وتوجههم الليبرالي، ولأنهم رأوا في القومية العلمانية وسيلة لدمج عدد مختلف من المجتمعات، وتكوين حياة سياسية مشتركة، واستعانت هذه النخب بالتفسير الليبرالي للدين (النموذج الناصري القومي والعصري، ونموذج غاندي الذي يستمد قيم السلام والتسامح من الهندوسية، ومارتن لوثر كنغ المبشر المسيحي) وشجعت القيادات السياسية في منتصف القرن العشرين رؤية للتنمية القومية تجاوزت الخلافات العرقية والدينية، وصاحب ذلك برامج في الولايات المتحدة والهند ومصر بهدف العدالة الاجتماعية وعدم التمييز والارتقاء بمستوى معيشة الفقراء، ورأى المحللون ذلك تلاشيا للمجتمع التقليدي وظهور حداثة جديدة وعلمانية متقدمة اقتصاديا وداعمة لأهداف وأفكار ما بين المنتصف واليسار سياسيا.

ثم صعدت موجة دينية جديدة تنسب فشل التنمية إلى غياب الدين، واتجهت النخب السياسية أيضا إلى تجنيد مشاعر العقيدة الدينية الجديدة وتبنيها، وأشعل المسؤولون في الدول لهيب الطائفية، أدت إلى غياب التسامح، وانقسام عميق في الحياة السياسية، وساعد خطاب القومية الدينية الذي تبنته الدول على جعل التعصب أمرا مقبولا لدى الاتجاه السياسي السائد.

ولم يكن الظهور الجديد للسياسات الدينية تقوى جديدة أو فشلا في التحديث والعلمانية، ولكنه عودة إلى الجدل القديم الذي احتدم في أوائل القرن العشرين حول طبيعة وأساس النظام الاجتماعي، وساهمت النخب السياسية في ذلك إضافة الجماعات الدينية، لم يكن الانبعاث المعاصر للسياسة الدينية فهما أكثر أصالة للمجتمع، بل هو أقل من كونه عودة إلى بعض تقاليد الماضي، إنه ببساطة نتاج ثانوي للطبيعة الحديثة للسياسة الشعبية المعاصرة.

وعلى الرغم من نجاح الحكومة المصرية في القضاء على التهديد الجهادي، فلم يؤثر الصراع بشكل كبير في أهمية الإسلام في السياسة المصرية، .. وتمكن التحدي الإسلامي حتى في حالة هزيمته من إعادة تشكيل الخطاب السياسي، وظهرت الجماعات الإسلامية على أنها المعارضة الرئيسة ضد الدولة، وهو ما حدث بفضل سياسات نظام الحكم، وعلى الرغم من نجاح السادات في تهميش اليسار السياسي فقد سمح للمارد الإسلامي بالخروج من قمقمه، وبنجاح عملية اغتياله على يد اعضاء من جماعة الجهاد فقد طرحه المارد أرضا، وبدأت توجهات كل من مؤسسة الإسلام الرسمية والمعارضة الإسلامية في التحول على نحو متزايد إلى الإيمان برسالة مشتركة، وهي دعوة المجتمع المصري مرة أخرى إلى العودة إلى الإسلام، حتى وإن اختلفوا عل من ينبغي أن يكون الحاكم في النهاية.

وعندما استخدمت حكومة مبارك علماء الدين في معركتها مع الجهاديين كان لذلك تبعاته غير المتعمدة المتمثلة في تمكين المؤسسة الدينية الرسمية وتشجيعها، ولم تكن آراؤها عن دور الدين في الحياة العامة تختلف كثيرا عن آراء المعارضين الإسلاميين للحكم. ولم يتصف الصراع مع الجماعات الإسلامية بالرؤى المتنافسة حول المجتمع، ولكن بالشعبية الدينية المتصارعة.

واستمرت حكومة مبارك على نهج نظام حكم السادات الذي سبقها في استخدام الدين والقومية لغرس قبول تام لسلطة الدولة، وأسهم ذلك في إضفاء الصبغة الإسلامية على المجال العام، وإضفاء الصبغة الطائفية على السياسة المصرية، وخلق ذلك أيضا بيئة اضطهد فيها المسيحيون الأقباط والمفكرون العلمانيون، والذين لديهم آراء دينية معارضة وبتورط من الدولة في أغلب الأحيان. كما أسهم ذلك في تشكيل المفاهيم الشعبية بخصوص دور المرأة في المجتمع، وساهمت الدولة بتشجيعها للتفسير والتفكير الديني المحافظ داخل الحياة العامة في تشكيل مجتمع يبالغ في التدين وفي اقحام الدين في المجال العام وفي الانقسام الطائفي.

يعد الدين جزءا مهما من تكوين الهويات الجماعية، ولذلك فهو يمنح قاعدة مهمة للتضامن الاجتماعي والحشد السياسي 

وباستخدام الدين في مواجهة اليسار ثم الجهاديين فيما بعد قوض نظاما حكم السادات ومبارك القاعدة الفكرية لإسلام عصري ليبرالي، كما أسهما أيضا في تشويه فكرة قابلية الدين للتفسيرات المتعددة، وكان أبرز ضحايا المعارك الأيديولوجية هو المفهوم المتعلق بمصر كمجتمع تعددي، وأسهم ذلك في التوترات والانقسامات الاجتماعية، وفي فشل التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وقد أشار إلى ذلك تقرير التنمية الإنسانية العربية لعام 2002، والذي عرض أوجه العجز الرئيسة داخل المجتمع العربي: الحرية السياسية وحقوق المرأة وإنشاء مجتمع على قدر كاف من المعرفة.

لقد أفسدت العلاقات المتسقة بين الدين والدولة المتطلبات الرئيسية للمجتمع المنفتح، واستبعدت قطاعات كبيرة من السكان خارج الحياة العامة، وأدى هذا إلى حالة يمكن وصفها بالقول تحالف الاتجاه الديني المحافظ مع السياسي المحافظ.

الصراع على الدين باعتباره موردا للتأثير

يعد الدين جزءا مهما من تكوين الهويات الجماعية، ولذلك فهو يمنح قاعدة مهمة للتضامن الاجتماعي والحشد السياسي. ونتيجة لذلك، فقد كان الدين أداة جوهرية بالنسبة إلى الخطاب المعاصر للقومية الحديثة وأمور أخرى متفاوتة تتعلق بالطائفية. ومن الملفت أن النخب العلمانية هي التي تبنت هذه الرؤية الدينية للحالة الاجتماعية الحديثة عن طيب خاطر، .. لقد كانت إحدى الخصائص المحددة للفترة الزمنية التي أعقبت الحرب الباردة انبعاث السياسة الدينية داخل بعض الدول والمناطق حول العالم.. وظل شرح هذه الظاهرة تحديا، وبخاصة أن الحداثة ارتبطت بالعلمانية.

لماذا ظل الدين مؤثرا؟

يحدد هيبارد أربعة أسباب لأهمية الدين وتأثيره في المجال السياسي:

1- ظل الدين مرتبطا بالسياسة الحديثة بسبب علاقته بالهويات القومية والطائفية والشرعية الأخلاقية، ويظل الدين مؤثرا على نحو هائل في بناء وحشد الهويات الجماعية.

2- يوفر الدين إطار عمل لتفسير الأحداث وللتعبير عن الغاية الأخلاقية، ويمنح لغة معيارية للحياة العامة، ويساعد على إجازة وتقديس السلطة السياسية أو المطالبات بتولي السلطة.

3-  يوظف المسؤولون السياسيون الدين من جميع الأطياف والهويات الدينية من أجل غايات وأهداف سياسية.

4-  تنظر النخب السياسية إلى المتدينين باعتبارهم جمهورا انتخابيا تسعى للتودد إليه.

وفي الجدل حول الهوية والأغلبية والأقليات والوحدة والتنوع يعتبر الدين مركزيا، لأنه يوفر قاعدة أخلاقية لكل من هذه الرؤى المختلفة للمجتمع، ويعكس ذلك التناقض ما يطلق عليه سكوت آبلباي (كتاب الدين والعنف والمصالحة) الالتباس الجوهري للدين: ألا وهو التوتر المستمر بين التفسيرات المتنافسة لدين ما ونمط الحياة الاجتماعية الذي يتصوره كل من هذه التفسيرات، ومن ثم لا تعكس الأيديولوجيات الدينية والمذاهب الأصولية الخلاف بين التقليد والحداثة، ولا تمثل عودة إلى التقليد، على العكس تلك أيديولوجيات تجسد تفسيرا انتقائيا للتقليد الديني، وجرى تطويرها بوضوح لمصلحة سياق سياسي حديث.

ومن المهم جدا هنا الملاحظة أن المسلمين المحافظين لديهم غالبا العديد من أوجه الشبه مع يهود "الحريدية" والمسيحيين البروتستانت، ما يؤكد أن الصراع ليس صراعا بين القيم والأفكار.

ويرد المنظور المادي السياسة الدينية المعاصرة إلى الدوافع والكوامن الاقتصادية والسياسية، رغم استخدامها لهجة دينية ثقافية. وفي هذا السياق، يرد انبعاث السياسة الدينية إلى فشل التنمية، أو إلى أنها رد فعل لبيئة اجتماعية واقتصادية وسياسية سريعة التغير، ووفق هذا المنظور فإن التحولات في الانتاج الاقتصادي والخيبة من النتائج تساهم في الانجذاب إلى السياسة الدينية؛ ما يؤدي إلى ظهر مجموعات من المنشقين والميل إلى التطرف، أو على الأقل دعم ضمني للأيديولوجيات المتطرفة وتأييد للحركات التي تعبر عن النقد الثوري للوضع الراهن.

ولكن ذلك لا يفسر لماذا صعود الدين من بين المصادر الأيديولوجية الأخرى، لماذا لم يصعد الخطاب اليساري والماركسي الذي ينتقد السياسات الاقتصادية الليبرالية، والتي الحقت الضرر بالفقراء، كما أنه منظور لا يفسر لماذا يصوت الفقراء ضد مصالحهم الاقتصادية فينتخبون نخبا محافظة تدير سياسات اقتصادية تضر بالفقراء، ولماذا ينتخب الهندوس من الطبقة الدنيا حزب بهاراتيا جاناتا في الهند؟ لماذا يضع مثل أولئك الأفراد الاعتبارات الثقافية قبل مصالحهم الاقتصادية؟

الدين مسألة معقدة، وليس هناك تفسير واحد متجانس للدين، ولا يوجد معان دينية ثابتة ولكنها تتغير؛ ما ينشئ جدالا متواصلا بين التفسيرات المتعددة للدين، ويتطور هذا الجدل لينشئ طوائف ومذاهب دينية متعددة، ويحدث "صدام الحضارات" الحقيقي داخل التقاليد وليس فيما بينها، كما يحدث اليوم في الشرق العربي.

يكمن مدى ارتباط الدين بالنسبة إلى البلدان الحديثة في قدرته على تقديس النمط الحالي من علاقات القوة، ويوفر الدين أيضا إطار عمل معياريا وبالتالي يوفر معنى للسياسة الحديثة من خلال إرشاد الأيديولوجيات الطائفية أو الوطنية، ويحفز القبول الشعبي، ويعتبر الدين قادرا على توفير الإطار الفكري لأيديولوجية الاتحاد في الدولة، وتوفر الأيديولوجية قاعدة فكرية وغالبا انفعالية للسلطة أو للمطالبة بالسلطة، وهكذا تغير الأيديولوجيا علاقة السلطة بين الحاكم والمحكوم إلى نظام كامل متناغم من الحقوق والواجبات المقبولة، ومن دون هذا الدعم تكون الدولة أكثر بقليل من آلية للإجبار والقسر.

ليس هناك تفسير واحد متجانس للدين، ولا يوجد معان دينية ثابتة ولكنها تتغير

ويعد الدين محوريا بالنسبة إلى قضية الشرعية، لأنه يوفر أساسا أخلاقيا وثقافيا للمطالب المتنافسة بتولي القيادة السياسية، .. وأيا كان توجه الدولة محافظا أو متحررا أو متدينا أو علمانيا، فقد استخدمت الدول الحديث لغة عامة دينية بهدف بناء التضامن القومي والشرعية الأيديولوجية، وينتج المسؤولون السياسيون موقفا يبدو وكأنهم متسقون مع الدين أو الوطنية او كليهما، وبالتالي فإن المعارضة تكون إما غير وطنية أو غير متدينة أو كلاهما.

ويرتبط الدين بالجدل حول هوية الأمة وتنشئ كل رؤية تفسيرا للدين يؤيدها، ثم تتعدد مناهج تفسير النص الديني، مثل الجدل بين المجاز والحرفية، واستخدام المنطق في الفهم أو عدم استخدامه، ففي النزعة الليبرالية إلى أولوية الضمير الفردي يفسر الدين على أنه شأن خاص وليس عاما، وتكرس الأفكار التنويرية والتسامح الديني، وفي المقابل، فإن التفسيرات الأصولية والمحافظة تميل إلى أن الصواب واحد، وتكون الآراء والتفسيرات الأخرى خطأ وخروجا على الدين، ويمتد ذلك بطبيعة الحال إلى الجدل على تعريف الأمة.


[1] سامي زبيدة: الشريعة والسلطة في العالم الإسلامي/ تأليف سامي زبيدة. ترجمة عباس عباس، بيروت: دار المدار الإسلامي، الطبعة الأولى، 2007

[2] سكوت هيبارد: السياسة الدينية والدول العلمانية، مصر والهند والولايات المتحدة الأمريكية/ تأليف سكوت هيبارد، ترجمة الأمير سامح كريم، الكويت: المجلس الوطني للثقافة، 2014