الحرية والدين: أنا أفكـر، إذن أنا حـر


فئة :  مقالات

الحرية والدين: أنا أفكـر، إذن أنا حـر

الدين مبدأ معرفة، ولعله بداية المعرفة، بداية معرفة الذات لذاتها، بإزاء موضوع خارجي، وبإزاء العالم، وإزاء الكون الذي لا يزال يبدو لنا ملغَّزاً تكتنفه الأسرار. ولأنه كذلك، فهو مبدأ حرية وقيد على الحرية في الوقت ذاته؛ فمنذ بدأ الإنسان بالتحرر من قيود الضرورة الطبيعية قيداً بعد آخر، سوى ضرورة الولادة والموت، واستوى على عرش المعرفة بستانياً للعالم وصانعاً لعالمه الخاص، راح يصنع لنفسه قيوداً من إنتاجه هو. أحد هذه القيود هو الدين؛ المعرفة الدينية معرفة غير موسَّطة، يتحول بها الدين إلى وسيط بين الإنسان وذاته، بين الفرد الإنساني وماهيته؛ لأنه لا يكون إلا بفصل الوجود عن الماهية.

إنه أحد نتاجات الحرية وأحد تجلياتها وأحد قيودها في الوقت ذاته. وبكلمة، إنه أحد أشكال اغترابها. لم يكن الدين يوماً سبيلاً إلى معرفة العالم أو معرفة الواقع، بل كان ولا يزال سبيلاً إلى معرفة الذات وتعريفها وتهذيبها والسمو بها إلى مكارم الأخلاق، "اعرف نفسك تعرف الله". ولذلك، كان ولا يزال شأناً من شؤون الذاتية أو من شؤون الروح. والموضوع الديني موضوع مباشر للمعرفة، موضوع حدس وخيال، لا يحتاج إلى توسط الحواس أو شهادتها، ولا يحتاج إلى براهين عقلية أو تجريبية، لأنه من قضايا الوجدان والضمير والعاطفة الإنسانية، بخلاف جميع موضوعات المعرفة الأخرى. نفرق، هنا، بين الدين الروحي والدين الوضعي، دين العلماء والفقهاء، دين السلطة.

إن أعمق حاجات الإنسان وأكثرها جذرية، بعد حاجاته الطبيعية، هي حاجته إلى أن يؤسس نفسه في العالم، وأن يمنح وجوده شكلاً وحياته معنى. و"الشكل، في مغزاه الأكثر عينية هو العقل بوصفه معرفة نظرية، والمضمون هو العقل بوصفه الماهية الجوهرية للواقع الفعلي، سواء كان واقعاً أخلاقياً أو طبيعياً" بحسب هيغل. الشكل الذي يعطيه الإنسان لوجوده الاجتماعي هو معرفة نظرية، ثقافة، يكتسبها بالعمل، وتشمل جميع محمولاته وتحديداته الذاتية وتجاربه الروحية وخبراته العملية، بصفته عضواً في جماعة، أو في مجتمع. ولعل أول شكل لوجود الإنسان في جماعة كان شكلاً دينياً جعل من حياة الفرد الباكرة، ومن حياة الجماعة الأولى تجربة دينية خالصة، جعلت من وجودها الوهمي أو الرمزي وجوداً فعلياً اكتسبت معه جميع أعمالها وأفعالها وعلاقاتها معاني رمزية تنم على طفولة العقل وحرارة القلب.

المصابون بقلق المعرفة والمتعطشون إليها، في كل زمان ومكان، يضربون في مسالك الحرية، بلا كلل ولا فتور، لا يخافون في مسالكهم لوماً ولا تثريباً، بخلاف المؤمنين الذين لا يساورهم شك ولا يتطرق إلى "حقائقهم" باطل، فلا إيمان عقلياً بلا شك، ولا حقيقة بلا باطل. والحرية تردد بين الشك واليقين، بين الإثبات والنفي ونفي النفي، ولذلك كان في كل زمان ومكان هراطقة وعلمانيون وملحدون وشعراء وفنانون وفلاسفة ومصلحون ومبدعون خارجون على المألوف، وكان هؤلاء قلة في كل زمان ومكان، ولكنها القلة الخلاقة، المنذورة للمستقبل، التي لا تلبث طويلاً حتى تنتج كثرة على غرارها. فالحرية هي الشرط الضروري لنمو الروح الإنساني وانبساطه في العالم وفي التاريخ.

الحرية، بخلاف الدين، ليست قيمة عابرة، بل هي صفة أساسية وجوهرية للإنسان. إنها علة أنطولوجية أولى للحياة الإنسانية، من دونها ليس ثمة حياة إنسانية، بل حياة حيوانية فحسب؛ فكل رفض للحرية هو انتحار روحي، وكل اعتداء على حرية الآخر هو محاولة لقتل الإنسان فيه، وسحق مخالف لطبائع الأشياء لما في الإنسان من "نموذج الإله وصورته"، وتحويله إلى حيوان. كل محاولة لإخماد نفحة الإبداع، ومبدأ الحرية، والتشارك المبدع للبشر في الحياة الاجتماعية تقود إلى حالة من الضعف الاجتماعي، وتقود، في الوقت نفسه، إلى الاحتقان، الذي تتحول معه حرية الإنسان المقموعة إلى عنف مدمر لتأكيد الذات وإلى تمرد أعمى.

فإذا كانت "مؤسسة المنفى" تشهد على نوع خاص من فهم الحرية، في العصور القديمة، قوامه المشاركة في تحقيق سيادة الجماعة وتماسكها الداخلي، إزاء الجماعات الأخرى، وتحدد، من ثم، دور الفرد في الجماعة وعلاقته بها، فإن مؤسسة التكفير التي يعبر عنها الدين الوضعي بوجه عام والدين السياسي بوجه خاص، هي مؤسسة المنفى الحديثة والمعاصرة، التي تعارض حرية الفرد بحرية الجماعة، ملة كانت الجماعة أو أمة أو حزباً سياسياً أو منظمة إرهابية؛ إذ لا يتطلب إخضاع أي فرد من أفراد الجماعة لشر أنواع العقاب سوى إعلانه كافراً لا حق له في الدفاع عن نفسه، ولا أمل له في العفو. كان المنفى رمزاً من رموز سلطة الجماعة على حياة الفرد وفكره وضميره، باسم سلطة عليا هي سلطة الدين، وليست في حقيقة الأمر سوى سلطة الجماعة نفسها.

هنالك دوماً الدين بوجه عام، بوصفه مفهوماً يحيل على معطى تاريخي كلي وكوني يتجاوز الإسلام والمسيحية واليهودية والبوذية والكونفوشية والطاوية وجميع المذاهب والطوائف التي انبثقت منها ومن غيرها. ودين خاص، كالإسلام أو المسيحية، على سبيل المثال، وهذا جزئي وحصري ونسبي ونمطي لا يُقنع سوى معتنقيه وأتباعه.

ومن البديهي، أن العام والكلي لا يوجدان وجوداً فعلياً، في العالم وفي التاريخ، إلا في الخاص والجزئي، وأن هذا (الوجود) لا يضيف إلى الماهية، ماهية الدين، أية قيمة ولا يمنحها أي امتياز؛ فحينما نصف الدين بأنه مسيحي أو إسلامي أو بوذي... إلخ لا يجوز أن ننسى أن كلاً من هذه الأديان هو دين أولاً، وأن الوصف (مسيحي أو إسلامي أو بوذي ..) هو تعيين وتحديد وتقليص ثانياً، وأن كل موجود فعلي هو ناتج وصائر ثالثاً، وإلا فلا مفهومية ولا معقولية ولا تاريخ.

التسامح الديني لا يعني اعتراف أتباع دين معين أو مذهب معين بالأديان والمذاهب الأخرى واحترامهم إياها فقط، بل يعني قبل ذلك وبعده اعترافهم بأن دينهم ليس الدين بألـ التعريف، بل هو دين من جملة أديان، أو دين بين أديان أخرى مساو لأي منها في القدسية وفي القيمة والمشروعية. فلا تفاضل بين الأديان والمذاهب، ولا تفاضل بين معتنقيها في الإيمان. التسامح، بهذا المعنى، هو الخطوة الأولى على طريق الحرية.

ينبع التطرف الديني والمذهبي من نظرة أتباع دين معين أو مذهب معين إلى دينهم أو مذهبهم على أنه الدين الحق والعقيدة القويمة، كل ما يخالفه زيغ عن الحق وانحراف عن الصراط المستقيم، وعلى أنه كلي وكوني، ما ينفي الأديان الأخرى أو المذاهب الأخرى، أو يحط من قيمتها في نظر هؤلاء. هنا تكمن أكبر أوهام مسلمي اليوم، ولا سيما المتطرفين منهم والمتشبعين بأيديولوجيات مذهبية، عن أنفسهم وعن دينهم، إذ يعتقدون أن "الدين عند الله الإسلام"، ويقصدون بالإسلام مذهباً بعينه أو فرقة بعينها، وأن "الإسلام دين ودنيا ودولة"، وأن "الإسلام هو الحل"، وأنه مفتاح لجميع الأقفال. "فمن ليس في فكره وفي روحه المطلق يحول نسبيَّه إلى مطلق وذلكم هو الاستبداد".

التطرف نقيض الحرية وعدوها الألد.

الدين مبدأ معرفة، لا نهاية المعرفة، ومن ثم فهو مبدأ حرية، ولكنه ليس ملكوت الحرية، بل هو، كما أشرنا، قيد على الحرية وأحد أشكال اغترابها، إذ كل مبدأ هو قيد. المعرفة، في جوهرها، تحرر من القيود، وإنتاج قيود جديدة، بقدر ما تنتج من أفكار جديدة ومبادئ جديدة و"نظريات" جديدة وتصورات جديدة وقيم جديدة، والحرية معرفة تعي ذاتها وتعمل بلا كلل على تجاوز حدودها.

الحرية، في أكثر تعريفاتها تعقيداً وغموضاً، وهو أفضل تعريفاتها على الإطلاق، هي جوهر الإنسان وماهيته، وهي لذلك جوهر الفكر وماهيته. ليس هنالك من قوة تستطيع إجبار الإنسان على أن يفكر كما تريد، في حين هناك كثير من القوى تستطيع إجباره على أن يفعل ما تريد، ولكنه إذ يفعل ذلك يخرج فعله من دائرة الفعل الإنساني، ولذلك كان كل إجبار أو إكراه أو استتباع أو استبداد أو استعباد إزهاقاً للروح الإنساني وإزهاقاً لحرية الفكر التي لا تكتمل، ولا تفصح عن مكنوناتها، إلا بالعمل، لأن العمل هو أبو الفكر والطبيعة أمه. الفكر عمل بالقوة، والعمل فكر بالفعل؛ ومن ثم، يمكن إعادة صوغ الكوجيتو الديكارتي: "أنا أفكر إذن أنا موجود" بقولنا: أنا أفكر إذن أنا حر؛ إذ الوجود البشري من دون تفكير، أي من دون حرية، هو محض وجود طبيعي حي، أي محض وجود حيواني.

التفكير والإيمان مقولتان مختلفتان، التفكير فعل حرية وإرادة وخلق وإبداع وبحث وتقص وفحص ونقد، والإيمان تصديق وتسليم. الإيمان ابن التفكير، فلا خوف عليه منه. والدين ابن الحرية فلا خوف عليه منها.

ليس بوسع أحد أن يريد الحرية للآخر ما لم يكتشف ذاته فيه، وما لم يدرك أن الآخر هو تجلي ماهيته، وأن حرية أي منهما شرط لازم لحرية الآخر، فالإنسان مرآة الإنسان. عندئذ فقط تغدو حرية الأنا هي حرية الآخر. الحرية كل لا يتجزأ، فليس من معنى لحرية الإيمان من دون حرية الشك أو الإلحاد.

في التجارب الإنسانية، على اختلافها، لم يكن الدين حائلاً دون حرية الفكر، ولعل حرية الفكر كانت في أساس نمو الدين وتطوره وازدهاره، وفي أساس نشوء المذاهب المختلفة في الدين الواحد، تبعاً لتضارب المصالح واختلاف الظروف، وإنه لمن العبث الحديث عن "إسلام بلا مذاهب"، مثلاً، أو عن مسيحية بلا مذاهب، لأن ذلك يعني الحديث عن دين خارج الدنيا وخارج التاريخ، أو عن دين تحول إلى سجن.

الذين يتحدثون عن "إسلام بلا مذاهب"، على سبيل المثال، ينطلقون، على الأغلب، من نوايا طيبة، إذ ينشدون وحدة المسلمين ونبذ التعصب والتفرقة والتمييز، من دون أن يدركوا أن الوحدة الفعلية الحية القابلة للنمو والتطور هي وحدة التعدد والتنوع والاختلاف، لا وحدة التجانس والتماثل والاتفاق. فإن إسلاماً بلا مذاهب هو إسلام بلا حرية.

فإن الناس لم يتحدوا قط اتحاداً راسخاً ودائماً ومنفتحاً على المستقبل سوى في العصر الحديث مع بزوغ مبدأ المواطنة العلماني، على صعيد الدولة الوطنية الحديثة، وبزوغ مبدأ الإنسان وحقوق الإنسان، على الصعيد الكوني، وهو مبدأ علماني أيضاً. وكلاهما: المواطن والإنسان تجريد للفرد الطبيعي، وهذا التجريد هو أساس المساواة وضمانة الحرية. المواطنة والإنسانية مقولتان لا تقبلان التفاوت والتفاضل، لأنهما من طبيعة العقل؛ والعقل أعدل الأشياء قسمة بين الناس.

التوحيد لا يعني، في أي حال من الأحوال، طمس الفروق ونفي الاختلاف وإلغاء المصالح الخاصة المتعارضة، بل يعني إعادة بناء الوجود الاجتماعي على مشتركات لا تفاوت فيها بين الأفراد والجماعات ولا تنازع عليها، من دون حذف أي صفة من الصفات غير المشتركة. المواطنة أو الوطنية، وهما بمعنى واحد، هي الشيء المشترك بين جميع مواطني دولة بعينها، والإنسانية هي الشيء المشترك بين جميع "بني آدم". على أي مبدأ غير مبدأ المواطنة ومبدأ الإنسانية لا يمكن أن يقوم مجتمع حديث ودولة وطنية منفتحة على بيئتها الإقليمية والعالمية وعضو في المجتمع العالمي وفي النظام السياسي العالمي. مبدأ المواطنة هو مبدأ حرية؛ وهو "دين" الدولة الحديثة، التي لا يجوز أن تتصف بأية صفة من صفات الفرد الطبيعي، ولا يجوز أن تنحاز إلى أي من محمولاته وتحديداته الذاتية.