الحقّ في الحياة.. الحقّ في الموت: تعقيبات على كتاب (البيوإتيقا)


فئة :  قراءات في كتب

الحقّ في الحياة.. الحقّ في الموت:  تعقيبات على كتاب (البيوإتيقا)

(1)

[أ]

كُنتُ قد قرأت كتاب (البيوإتيقا: الطبيعة، المبادئ، الرهانات)[1] في أروقة المستشفى العسكري في مدينة إربد الأردنية، حيث كانت والدتي تخضع لعملية تطبيب من ورم سرطاني في منطقة الكبد، وفي نهاية المطاف استقرّ رأي الأطباء على إجراء عملية جراحية لها، رغم المخاطرة الكبيرة التي تنطوي عليها هذه العملية الجراحية، التي قد تصل إلى حدّ الوفاة، فمن ناحية يتمركز الورم في منطقة التقاء شرايين لأجهزة رئيسة في الجسم، مثل الكبد والبنكرياس والمعدة والأمعاء...إلخ، ومن ناحية ثانية تجاوز عُمر أمي الـ 75 سنةً، لذا ثمة خطر كبير على جسدها الهشّ من جُرح كبير، قد يستغرق زمناً طويلاً لكي يلتئم ويبرأ.

على جانب آخر، كان ثمة إمكان آخر، بعدم إجراء عملية جراحية لأمي، لكن بعد شهرين أو ثلاثة كحدّ أقصى، سيبدأ الورم بالانتشار الكبير، إلى حدّ أنه سيُدمّر وظائف الأجهزة الرئيسة التي أشرتُ إليها أعلاه، مما يعني استحالة إجراء عملية جراحية من الأساس، وإبقائها تحت وطأة عذاب شديد.

في خيار العملية الجراحية، ثمة موت، بعد استنفاد خيارات الحياة، التي يمنحها الطبيب لمريضه. وفي خيار عدم إجراء العملية، ثمة موت، لكن من دون استنفاد خيارات الحياة التي يُوفّرها الطب، ويجعل من حياة المريض حتى وهو يأفل ويتهدّم، حياةً غير مؤلمة، أو بالأحرى، حياةً يُدارَى عبرها الألم إلى الحدّ الأقصى.

[ب]

على هامش مرض أمي، كنتُ أتناقش مع الطبيب أسامة قفاف، طبيب الجراحة في مستشفى عجلون (منطقة شمال الأردن) حول كتاب (البيوإتيقا)، وانطباق ما جاء في الكتاب على حالة أمي المرضيّة. وبما أننا واجهنا - على المستوى الأُسري - حالة مُستعصية على خياراتنا الشخصية، في الاختيار بين إجراء عملية جراحية للأمّ، مع ما يتضمنه هذا الخيار من نتائج قد تكون مؤلمة للمريض على المستوى الجسدي، ومؤلمة للعائلة على المستوى العاطفي؛ وبين عدم إجراء العملية الجراحية للأم، مع ما يتضمنه هذا الخيار من انتظار للأم، وهي تتآكل وتتهدّم يوماً إثر يوم، لا سيما أننا بإزاء ورم خبيث، ويفتك بالجسد فتكاً سريعاً.

(2)

كانت الإشراقة الصغرى، والانفتاح من ثمّ على خيار إجراء عملية جراحية للأمّ، واستئصال الورم السرطاني، رغم المجازفة الكبيرة، التي ينطوي عليها هذا الخيار؛ من كتاب (البيوإتيقا) لـ "غي ديران".

الإشراقة الكبرى كانت من الأطباء الذين أشرفوا على حالة أمي المرضية، وتابعوها لحظة بلحظة، ومن تعقيبات الدكتور أسامة قفاف على كتاب البيوإتيقا، كإطار تنظيري لحالة أمّي على أرض الواقع، والذهاب أخيراً إلى خيار إجراء العملية الجراحية، بصفتها خياراً ينطوي على حسّ أخلاقي بالدرجة الأولى، إضافة إلى استنفادها للحلول الطبية، فيما يتعلّق بحالة أمي المرضية.

[ا]

في مقدمة كتابه المذكور أعلاه، يكتب "غي ديران":

"هل يجب إطالة حياة مريض بالسرطان في مرحلته الأخيرة، وهل ينبغي إنعاش شيخ مُسنّ لم يعد يتذوق طعم الحياة؟"[2]

وفي معرض تمهيده للإجابة عن هذه الأسئلة المُؤرقة، يُفضي "غي ديران":

"لقد أثار سلوك الإنسان، منذ قديم الزمان، تساؤلات جمة؛ ما هو الموقف من الحياة الإنسانية: ولادة، مرض، معاناة، هرم (شيخوخة)، موت؟ إن القواعد الأخلاقية ومدونات ضوابط السلوك وقواعده (الديونطولوجيا Deontologie) ليست من إنتاج البشر الآن، وهي ليست أيضاً وليدة اليوم، فقد تكون مدونة قواعد السلوك الطبية هي الأقدم وهي المعروفة أكثر. وقد استمر بعد أبقراط Hippocrate إنسانويون، فلاسفة، لاهوتيون، حقوقيون في كل حقبة ومن كل بلد، في التساؤل عن شروط احترام الحياة الإنسانية وموجبات ذلك"[3]

ولربما دلّ هذا التقديم على التفاعل الحثيث والضروري بين العلم والإتيقا، أو بين ما هو طبي وعلمي وما هو أخلاقي، واندماج كثير من العلوم في مهمة الارتقاء بالسلوك الطبي الإنساني، والذهاب - كتجلّ لهذا الحس الأخلاقي والتقدّم الطبي - ناحية استنفاد خيار الحياة إلى اللحظة الأخيرة أو النَفَس الأخير، مع الحدّ الأدنى من الألم الذي يمكن أن يحيط بالمريض، حتى وهو يصارع لحظاته الأخيرة.

لكن ماذا عن الطبيب الأخلاقي؟

هذا شيء سينوّه إليه "غي ديران" هو الآخر، نظراً لأهميته المبدئية، في الدمج بين ما هو علمي وما هو أخلاقي. فـ "الاهتمام الإتيقي ينبغي أن يسكن كل طبيب وكل باحث، فليس من العادي أن تستمر دوائر العلم والإتيقا في التطور بطريقة مستقلة ومنفصلة، ومن دون التداخل إلا عَرَضاً"[4].

ولتجلية هذه الفكرة وتوضيحها، سيعمد "غي ديران" إلى تقسيم كتابه إلى عديد فصول، سيشرح عبرها ما يعنيه بالإتيقا الطبية، وعلاقتها بتحصيل أفضل شرط حياتي ممكن للمريض. لهذا يعمل على تتبّع تاريخ الإتيقا وعلاقتها - على المستوى المفاهيمي - بعلوم حافّة بها مثل القانون والديونطولوجيا، والتقاءاتها وافتراقاتها في الواقع العلمي، بما يخدم الحياة الإنسانية نهاية المطاف، ويجعل منها أكثر قابلية للعيش. وبرأيي أن هذا النوع من الكتب مهم جداً (وإن كان المؤلف في تقديمه للترجمة العربية[5]، قد أكّد إلى تقادم كتابه نوعاً ما، على اعتبار تطوّر المعارف في الأنثربولوجيا وفي الطب)، لأنه يُؤسّس ذهنياً لمسألة من الأهمية بمكان، إلى درجة تفوّقها في كثير من الأحيان، أو الأقل اعتبارها موازية للتقدّم العلمي؛ ألا وهي مسألة التطوّر الأخلاقي عند الإنسان، فالتقدّم العلمي إذا لم يرافقه حسّ أخلاقي بالمسؤولية تجاه الحياة الإنسانية، والأمل الحقيقي الذي يمكن أن يضطلع به هكذا تقدّم، فقد نذهب - ولقد ذهبنا حقاً في كثير من المواقف - ناحية خيار يؤكّد وحشية الإنسان ودمويته، أكثر من تأكيده على رحمانيته وتسامحيته وتعايشه بشكل سلمي مع بقية البشر. ولربما كان قد تجلّى هذا الحسّ الأخلاقي قديماً في القَسَم الطبي الأبقراطي، فهو يُؤسّس أخلاقياً لأيّ تقدّم طبي، لكي لا يتحوّل مُمارِس الطب إلى كائن عديم الرحمة وقاسي القلب، بل أن يكون مُعينَاً للمريض على مرضه، والتخفيف عنه قدر الإمكان على المستويين النفسي والجسدي. إذ لا زال هذا القَسَم يُردّد من قبل الأطباء في مختلف أنحاء العالم - مع إخضاعه وتطويعه للتغيرات الثقافية والدينية في الحضارات المختلفة - كتأكيد على البنية التحتية، التي يمكن أن يتأسّس عليها أي تقدّم طبي، على المستويين الذهني والتطبيقي.

صحيح أن كتاب (البيوإتيقا: الطبيعة، المبادئ، الرهانات) كتاب صغير الحجم، إلا أنه كبير الفائدة، ليس للتأسيس النظري لموضوعة الإتيقا والأخلاق الطبية بشكل عام، والإتيان بما هو جديد في هذا المجال، بل للإمكان الرحماني الذي ينطوي عليه، فالمُدونة الأخلاقية التي ينطوي عليها هذا الكتاب، تصلح لأن تكون مُرشداً - إلى حدّ كبير - لكلّ من الطبيب والمريض وأسرته على حدّ سواء، وأعتقد أنني استفدتُ منها في حالة أمي، وأعانتني على تفهّم بعض الالتباسات التي تشكلّت بسبب طغيان الجانب العاطفي على الجانب العقلي، أثناء التعامل مع حالة أمي، ففي حالات كهذه تنتصر العاطفة، وتصبح خيارات الإنسان صعبة جداً، لأنّ أيّ قرار غير مسؤول ومتهوّر، قد يقود إلى آلام معنوية لمن يحيطون بالمريض، وآلام جسدية للمريض نفسه.

[ب]

كان الفريق الطبي لأمي، قد شرح لي حالة أمي على النحو التالي:

لقد بدأ الورم السرطاني يتضخّم وينتشر بشكل سريع، لذا في حال الامتناع عن إجراء العملية الجراحية، واستئصال هذا الورم، فإنّ صحة أمي ستبدأ بالتدهور (مع التأكيد على أنّ صحتها الآن تعبانة وليست على ما يرام، بل تعاني من آلام دائمة، رغم العلاجات الملازمة لها ليل نهار)، إلى درجة حدوث أعطاب وأعطال في أجهزة وظائفها الداخلية، بما يعني الاستعصاء الكامل على العلاج، والدخول من ثمّ في نوبة ألم كبير. أي أن عدم إجراء العملية الجراحية يحتمل خياراً واحداً، ألا وهو الذهاب إلى خيار الألم الكبير كمرحلةٍ أخيرة، ستأتي بعد عديد مراحل من الألم الصغير، بدأت بواكيره من شهور طويلة، ولن ينتهي إلا مع موت الأمّ.

أما في حال إجراء العملية الجراحية، فثمة عديد احتمالات، أبرزها:

قد يكون الورم أقل خطراً مما يبدو عليه في الفحوصات المخبرية وصور الأشعة، لذا ينطوي خيار عدم إجراء العميلة، على جانب غير أخلاقي وغير مهني أيضاً، فبأيّ حقّ يمكن منع مريض من استنفاد فرصه في تحصيل أفضل علاج ممكن؟.

وقد يكون الورم أكثر خطراً مما هو عليه، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الورم هو نقطة التقاء لشرايين كثيرة، فمن الضروري إزالة - مع عملية الاستئصال - جزء من البنكرياس والكبد والمعدة والأمعاء، وقد يُشكّل هذا خطراً على حياة الأمّ، يصل إلى حدّ الوفاة.

وفي العموم، العملية خطرة، لكن نسبة نجاحها قد تصل إلى 40%، فلماذا لا تستغل هذه النسبة في تقديم الأفضل للمريضة؟.

وعليه، فخيار الجراحة يتضمن عدّة خيارات، في حين أن خيار عدم الجراحة يتضمن خياراً واحداً ألا وهو تلف المريضة، أو بالأحرى ترقّب تلف جسدها يوماً إثر يوم، دون قدرة على تقديم علاج رئيسي لها، بعد انتهاء المدة التي يبدأ فيها الورم انتشاره الكبير في جسمها.

بإزاء هذه الخيارات، وما جاء في كتاب (البيوإتيقا)، اختصر الدكتور أسامة قفاف الوضع كاملاً، لا سيما بعد أن رأى الحيرة البادية علينا بإزاء حالة الأم، والخيار العاطفي الذي يمكن أن يطبع قرارنا تجاه حالتها المرضية، فهو يرى أن الذي ينبغي عليه أن يُقرّر إذا ما كان يريد عملية جراحية أم لا هو المريضة ذاتها، ولا أحد غيرها، لأن فعل الألم يقع عليها وحدها، وليس على من يحيط بها، حتى وإن كانوا يحبونها حبّاً جمّاً، فلربما جانب الصواب خيارهم، فهم يحبون المريضة على المستوى العاطفي، لكنهم لا يعرفون أي معاناة تعانيها على المستوى الجسدي؛ لذا من الأولى أن يكون القرار النهائي لها، فهي التي تتألم ومن حقّها أن تتخذ الإجراء المُناسب الذي يُخفّف من ألمها، أو على الأقل يجعله في نطاق المعقول. وبناء على هذا فقد اختارت الأم خيار إجراء العملية الجراحية لاستئصال الورم السرطاني الذي يفتكّ بجسدها، وقد استجاب الفريق الطبي لهذا الخيار، وهم الآن بصدد إجراء التحضيرات الطبية اللازمة لإجراء هذه العملية، ومنح الأم آخر خيار توصّل إليه الطب الحديث في هذا المجال، واحترام رغبتها في استنفاد خيارات الحياة ضمن نطاق الإمكان الإنساني، وعدم تركها لآلام ستتحوّل بعد قليل إلى آلام مُروّعة، في تأكيد على حسّ أخلاقي مبدئي، على حقّ الإنسان ليس في تقرير مصيره فحسب، ضمن منظومتي (الألم عند حدّه الأدنى) و(الأمل الواقعي عند حدّه الأقصى)، بل ومساعدته طبياً وإنسانياً على التحقّق في هاتين المنظومتين، والمساهمة الفعلية في تنشيط ما هو إنساني وجعله موازياً لما توصّل إليه العلم الحديث، فسكّين الطبيب الجرّاح، بحاجةٍ من ثمّ إلى يدّ واثقة، وهي تُعْمِلُ مبضعها في أحشاء المريض، إلى أنّ ما يُقدِم عليه في هذه اللحظة الحرجة والمصيرية، سيؤكّد مصيره الأخلاقي والإنساني، جنباً إلى جنب مع خبرته الطبية والعلمية، فهو يسعى جاهداً، - مرةً بحسّه الأخلاقي في حقّ المريض بأن يحظى بفرصة كبيرة للنجاة والحياة الكريمة، ومرةً بخبرته الطبية في حقّ المريض بتجاوز ما يُلمّ به من ألم كبير - إلى تأكيد الحقّ الإنساني في الحياة. لكن في حال استنفدت سكّين ذلك الطبيب خياراتها على المستويين الطبي والأخلاقي، ولم يعد بالإمكان تقديم أيّ شيء للمريض، يصبح ساعتها حقّ الموت حقاً مقدّساً أيضاً بالنسبة للمريض، فهو بإزاء حالة كبيرة من الألم، تتصاغر أمامها حالة الأمل الواقعي الصغير.


[1] ديران، غي، البيوإتيقا: الطبيعة، المبادئ، الرهانات، ترجمة محمد جديدي، جداول للنشر والترجمة والتوزيع/ لبنان/ مؤمنون بلا حدود/ المغرب، ط1، 2015

[2] المرجع السابق، ص 31

[3] السابق، ص ص 31- 32

[4] السابق، ص 146

[5] مما جاء في المقدمة التي كتبها مؤلف الكتاب للطبعة العربية: "بالنظر إلى تطور المعارف في الأنثربولوجيا الطبية وفي الطب، يمكننا أن نحكم بأن هذا الكتاب قد تقادم نوعاً ما. صحيح أن التطبيقات تتغير لكن المبادئ تبقى ثابتة" (ص 13)