الذات خارج خطة السلطة


فئة :  مقالات

الذات خارج خطة السلطة

الذات خارج خطة السلطة

- في شأن أهمية المقاومة الإثيقية لدى ميشال فوكو -

عبدالله بوســنــيــنــة[1]

انبثقت فكرة المقاومة الإثيقية للسلطة الحيوية في فكر فوكو من صميم اللقاء مع الثقافة اليونانية والرومانية؛ وذلك من خلال اكتشافه لأهمية مبدأ الاهتمام بالذات "le souci de soi" الذي أنتجته هذه المرحلة، باعتباره نمطاً من بناء العلاقة بين الذات ونفسها على نحوٍ لم تكن فيه تحت المحددات الخارجية؛ ولعل هذا الموقف الإثيقي تجاه الحياة لدى الإغريق والرومان، هو ما جعلنا نفترض بأن نقد فوكو للنموذج الكلاسيكي الحديث - الذي أقبر صيغة الاهتمام بالذات، واستعاض عنها بفرض مناهج معرفية حوّلت الأفراد من وضع الذات إلى موضوع للمعرفة – هو نتيجة انبهار بهذا الموقف، لذا أقر فوكو بالقول: "إن اللحظة الديكارتية (...) قد لعبت بطريقتين على إعادة تقسيم وتمجيد مبدأ اعرف نفسك فلسفياً، والبخس والحط من قيمة الاهتمام بالنفس"[2] وعبر هذا التفاضل بين معرفة الذات والاهتمام بها، يكون الفكر الحديث في تصور فوكو قد أبان عن رغبته في جعل الذات مجرد كيان هشّ ترتسمُ عليه هُويات جاهزة تمنحها السلطة عبر إقامة نظام المراقبة والتحكم في الحياة الخاصة للذوات.

تتبدى هذه العودة/اللقاء، بشكل جليّ ضمن درس تأويل الذات (1982-1981)، حيث استفاض فوكو في كشف الأساليب الفنية الخاصة بالاهتمام بالذات التي ميّزت هذه الحقبة؛ فمنذ أفلاطون مثلا، يكشف فوكو أن أهمية الاهتمام بالذات كانت أرضية مهمة لإعداد الشباب لممارسة الحكم؛ وذلك ما يعكسه قوله: "يمكننا أن نرى في ألسبياد أن الاهتمام بالذات بشكل واضح، مرتبط بالحلم السياسي لشاب أرستقراطي: إذا كنت ترغب في حكم الآخرين، يجب عليك أولاً أن تهتم بنفسك"[3]، وواصل فوكو تقصّيه لهذه الثقافة التي تُعنى بالذات إلى حدود القرن الثاني بعد الميلاد؛ وبتركيزه على هذه اللحظة يكون قد أقام توكيداً على وجود انتكاسة طالت هذه التقنيات في ظل قبضة الكنيسة والسلطة الكلاسيكية على الذات؛ وذلك وفق مسلسل من عمليات الإخضاع لمدونات توجيهية تُمحي كل أثر فردي في تشكيل الذات لذاتها؛ لذا يكون استحضاره لهذه النماذج السابقة على مجيء المسيحية هو فرصة لإنتاج مبدأ قديم يقاوم به الصيغ المعيارية الحديثة التي أرهنت الذات لعلاقات السلطة والمعرفة، وبذلك تكون هذه العودة مناسبة لــ "تشكيل وتطوير ممارسة للذات تهدف منها إلى أن تكون هي نفسها صانعة لجمال الحياة الخاصة بها".[4]

يجد فوكو في هذا الثقافة التي تُـــعنى بالشكل الإثيقي للحياة، سمة فلسفات للهروب، وما يجعلها كذلك في نظره، هو إنتاجها لمبدأ الاهتمام بالذات كممارسة حرة تسمح بأن ينفتح الأفراد على ممكنات الحياة المتنوعة وغير "الــمُقوننة" عكس ما ستبلوره المسيحية لاحقا في شكل نمط من التزهد الموجّه سلفاً؛ وهذا ما يعكسه قول فوكو "بالفعل، ليس هنالك في الثقافة القديمة، وفي الثقافتين اليونانية والرومانية، اهتمام بالذات منظور إليه بوصفه قانوناً عاماً ينطبق على كلّ فرد مهما كان نمط الحياة التي يتبعها، إن الاهتمام بالذات اختيار في نمط الحياة".[5] ومنه تكون غاية الأدبيات الذاتية القديمة هي تملّك الذات لذاتها، بعيداً عن وضع البقاء تحت تصرّف وتوجيه قوى خارجية.

يسعى فوكو عبر هذا الاسترجاع، إلى إعادة تشكيل العلاقة بالذات في الفكر المعاصر على خطى بديلة عن تلك التي أقرّها النموذج المعرفي الحديث؛ وذلك عن طريق تقويض النظريات التي تقدم الذات كموضوع، بالإضافة إلى رغبته في دحض الوساطة السلبية للمسيحية التي أقامت معيارية قيمية في مجال الأخلاق، تحكمها قواعد للسلوك الإنساني وفق منطق القبول والرفض، باعتبارها ثنائية للتصنيف والتحديد أساساً. ولعل اللقاء بين فوكو ونيتشه بشأن نقد ثقافة المعيار، سيكون من هذه النقطة، إذا ما اعتبرنا أن الأول يرى أن نظام التصنيف هو بالأساس نظام للسلطة، والثاني يجد فيه نظاما للقوة. لذلك يقول نيتشه: "فالحكم حسـن لا يصدر بتاتاً عن أولئك الذين تمت معاملتهم بــالحسنى، بل الصــالحون أنفسهم؛ أي المتميزون، الأقوياء، الذيــن رفعهم وضعهم وسمو روحهم واعتبروا أنفسهم صالحين، هم الذين حكموا على أعمالهم بأنها حسنــة؛ أي بمقابلتها لما هو سافل وحقيــر وعامي ورعاعي".[6]

نجد في هذا الوصف الذي خصّه نيتشه للأخلاق الغربية الحديثة، ما يُبرّر وهم القيم التي صاغتها الحداثة، وهي تدّعي الانفصال عن الكنيسة، إذ لم تعدُ أن تكون في نظره، سوى مفعولات لإرادة القوة؛ وهذا التصور هو ما بصم أثره في فكر فوكو، وهو يبحث آثار السلطة على الذات، حيث نعثر على نفس المعنى، عندما ينتهي إلى أن وظيفة السلطة الحديثة في علاقتها بالمعرفة، هي الرغبة في تحويل الذات على نحو يسمح بأن تصير موضوعا للتحكم؛ لذا يؤكّد أن "علاقات السلطة-المعرفة ليست أشكالاً معطاة للتقسيم، بقدر ما هي قوالب للتحولات".[7]

يسمح لنا هذا القول، بأن نتأوّل استرجاع فوكو للتجربة الإغريقية والرمانية - بشأن حرية الذات في تشكيل حياتها وفق أنماط حرة – على أنها تجربة كتابة نقدية للممارسات المعيارية التي صاغتها السلطة الغربية الحديثة؛ ولم يكن بوسعه أن يقيم هذا النقد إلا في أفــق رؤية إثيقية تُعفيه من بلورة نظرية في الأخلاق، وعلى أساس هذا التأويل يبدو هذا المنعطف كصيغة من صيغ المقاومة للمقاربة المعيارية، حيث تُقام الحدود وترسيم الفوارق، وهي الرؤية نفسها التي سمحت لفوكو بدحض مقولة الذات الحقوقية التي زعمت الحداثة إرساء أسسها؛ وهذا نستشفّه من قوله: "نحن لا زلنا مرهونين إلى صورة محددة عن السلطة-القانون، السلطة-السيادة التي سطّرها منظرو الحق والمؤسسة الملكية. فعن هذه الصورة ينبغي أن نتحرر".[8] هكذا يستخلص فوكو أن الذاتية الحديثة هي ذاتية معيار وليست ذاتية حقوق.

إن مطمح فوكو على طول خطّه النقدي (الأركيولوجي والجنيالوجي)، ناهيك عن هذه "العودات" التأويلية التي أقامها في دروسه الأخيرة نحو فجر الثقافة الغربية مع اليونان والرومان، هو تأسيس قطيعة عن أشكال الذاتية الحديثة كما صـاغها المشروع المعرفي والحقـوقي؛ وهذا ما يعكس رغبته في بناء آلية للمقاومة تكون بموجبها الذات خارج خطة المعايير الثقافية والسلطوية من جهة، والنماذج المعرفية من جهة ثانية، حيث تُفرض الهُويات بشكل لا يسمح للذات بالحق في حرية الاختيار. لذا يصف دولوز هذا النمط من الخضوع بقوله: "يمُــر الصراع من أجـــــل ذاتية حديثة، عبر مقاومة شكلين حاليين للخضوع، يقوم أوّلهما على قولبة الافراد تبعاً لمقتضيات السلطة. أما الثاني، فيقوم على دمج كل فرد في هُوية معلومة ومحددة التحديد الكلي والنهائي: وعليه، فإن الصراع من أجل الذاتـية، هو صراع من أجل حق في الاختلاف، ودفاع عن الحق في التنوع والتغيير".[9]

في سياق هذا التحدي، نفهم أن مرمى فوكو المتمثل في تحرير الذات من خطة سلطة الأنظمة المعيارية، لتصير وفقها غير مشدودة بمحددات لا تشارك في بلورتها، هو نفسه المرمى الذي شغل بال دولوز، حيث الغاية لدى الفيلسوفين تتجلى في خلق قدرة لدى الذات تُبرز من خلالها تفرّدها الهُوياتي بعيداً عن لمسات السلطة، وهذا في نظرهما لن يتأتى إلاّ بإشاعة ثقافة المقاومة لكل الأشكال المؤطّرة لذاتيتنا، ودولوز يُبرز هذا أن وجود ذاتيتنا مرهون بهذه المقاومة الدائمة، حيث يقول في هذا الشأن: "إذا كان من الصحيح أن السلطة تُحاصر حياتنا اليومية وجوانيتنا وفرديتنا أكثر فأكثر، إذا كانت السلطة امست تخترق الأفراد، وتظهر عبرهم، إذا كان من الصحيح أن المعرفة ذاتها أصبحت تفرض نفسها على الأفراد أكثر فأكثر، مُنشئة بذلك تأويلات وقوالب جاهزة مُقنّنة ومنظمة للذات الراغبة، فماذا سيبقى من ذاتيتنا ؟ لن يتبقى أبداً منها شيء، ما دام من اللازم أن تنشئ نفسها كل حين كبؤرة مقاومة".[10]

إذا كانت قراءة دولوز لأعمال فوكو التي خصّها بهذا الكتاب، وجدت في فكرة المقاومة لازمة أبدية لا يمكن للذات أن تستغني عنها في مواجهة السلطة، فإنه يزكي متلازمة فوكو القائلة: "حيثما توجد السلطة تكون هنالك مقاومة"[11]؛ فالرجل يسكنه هــمُّ المراجعة النقدية لمقولات الحداثة الغربية، والتي يحكمها التصور الأرسطي بخصوص الهُوية، وهو ذات الهمِّ الذي شغل فوكو، وهو يعالج مسألة الذات لإنقاذها من تدجين المؤسسات "القانونية" وألياتها التحويلية، والتي أرستها الحداثة الغربية بشكل لم تعد فيه هذه الذات سوى مجموع صور منسوخة عن أصل سلطوي متعالٍ عنها؛ هكذا يتبدى لنا التقاطع التكاملي بين رغبة دولوز في إعلاء مقولة الهوية المختلفة، وبين مسعى فوكو في تحرير الذات من قبضة الإخضاع والتدجين.

يتعلق الأمر مع فوكو إذن، بالانفلات من قوى الاختراق التي تقيمها السلطة، وهي تروم السيطرة على الذات، لهذا نجد أطروحته بشأن المقاومة هي بمثابة دعوة إلى مضاعفة قوى الحياة ضد الأساليب المعيارية. لذا اختلق هذا المنعطف التأويلي، ليعيد التذكير بما أبدعته الحضارات القديمة من تشكيلات وفنون للعيش، سمتها الأساس هي الإرادة في التشـريع الحر لشكل الحياة، حيث كان "هدف الفلسفة الإغريقية هو إعطاء الفرد القدرة على العيش بشكل مختلف، جيّد، وبطريقة أكثر سعادة عن الآخرين"[12] من هنا تكمن جمالية الذات القديمة في كونها تحوّل الحياة إلى مشـروع ذاتي تنخرط في تطويره وفق أساليب روحية حرة، تسمح في الأخير من بناء شكل حياة بعيداً عن التشكيلات الخارجية.

لقد مكّنتنا هذه المقايسات التي أقامها فوكو بين هذه الثقافات القديمة بشأن كيفيات الاهتمام بالذات من فهم مآل الذات في التصور المسيحي والحديث، حيث تميّزا ببسط قبضة مراقبة وإخضاع الذات لقوالب تحويلية جعلت منها في المرحلة الأولى ذاتاً ناقصة بالنظر إلى كمال الإله، وفي المرحلة الثانية تشكّلت الذات، باعتبارها رهينة للقواعد القانونية. هكذا بلغنا مع فوكو أن مطلب إزالة بصمة السلطة عن الذات، لا يكون إلا بتفعيل هذه الأخيرة لاختياراتها التي تؤسّس بشكل إثيقي وليس بأمر أخلاقي؛ حيـث استمرارية السلطة لا تكون إلا في أفق البقاء على صيغة ذات باعتبارها موضوعاً.

[1]- باحث في سلك الدكتوراه، تخصص الفلسفة السياسية - جامعة ابن طفيل القنيطرة - المغرب

[2] فوكو (ميشال)، تأويل الذات، دروس ألقيت في الكوليج دي فرانس 1982-1981، ترجمة الزواوي بغوره، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت 2011، ص 23

[3] Foucault (Michel), Qu’est-ce que la critique ? suivi de « la culture de soi », Vrin, sans date, p. 90-91

[4] فوكو (ميشال)، هم الحقيقة، مختارات، ترجمة مصطفى المسناوي وآخرون، منشورات الاختلاف، الطبعة الجزائرية الأولى 2006، ، ص. 107

[5] فوكو (ميشال)، تأويل الذات، مرجع سابق، ص. 112

[6] نيتشه (فريديريك)، جنيالوجيا الأخلاق، ترجمة وتقديم محمد الناجي، أفريقيا الشرق 2012، ص، 20

[7] Foucault (Michel), Histoire de la sexualité 1 la Volonté de savoir, Gallimard 1976, p. 131

[8] ibid, p. 118

[9] دولــــوز (جيل)، المعرفة والسلطة، مدخل إلى قراءة فوكو، ترجمة سالم يفوت، المركز الثقافي العربي، بيروت/لبنان، الدارالبيضاء/المغرب، الطبعة الأولى، 1987، ص.ص. 114-115

[10] دولــــوز (جيل)، المعرفة والسلطة، مدخل إلى قراءة فوكو، مرجع سابق، ص.114

[11] Foucault (Michel), Histoire de la sexualité 1, p. 125

[12] Foucault (Michel), Subjectivité et Vérité, conférence à Dartmouth Collège, 1980, Vrin 2005, p. 41