السلفية والتحديث وثقافة التقليد : إضاءات مغاربية


فئة :  مقالات

السلفية والتحديث وثقافة التقليد : إضاءات مغاربية

في كتاب "ذكريات وشهادات ووجوه" للأستاذ الدكتور عبد الهادي بوطالب[1]، نقرأ عن الحركة السلفية في تونس ما يلي: "يمكن تأريخ بدء التنظيم السلفي في تونس بالزيارة التي قام بها محمد عبده إلى تونس في صيف سنة 1903[2]، موفدا من أستاذه جمال الدين الأفغاني، ربما لمحاولة تأسيس فرع للـ"عروة الوثقى". وساعدت هذه الزيارة على الأقل على التعريف بفلسفة الحركة السلفية المصرية، وعلى ربط حلقات الاتصال بين تونس ومقر السلفية في القاهرة".

ما يعنينا في هذه الشهادة، هو متابعتها لحركة الأفكار والمؤسسات في تونس الحديثة، وتوقفها عند موقع مفصلي في الحراك الثقافي - الفكري الحديث بالبلاد التونسية، ذلك الموقع الذي كثيرا ما يقع الإعراض بالقصد غالبا. يمكن أن ندرك أهمية هذه الوقفة حين نواصل مع الدكتور أبو طالب، وهو يعلق على أهمية زيارة محمد عبده لتونس، منبها إلى أمرين في ذلك المفصل التاريخي:

-إثارة زيارة عبده "جدلا لم ينقطع بين علماء الزيتونة المحافظين في أغلبيتهم، وبين طلبتها المتطلعين إلى الإصلاح والتجديد".

-تميز سلفية تونس، في ذلك الطور، عن التنظير السلفي في أقطار أخرى "بالتركيز على الإصلاحات السياسية"، مما أتاح المجال لظهور نخب وطنية شابة تتجاوز الفكر المحافظ.

ندرك من الأمر الأول، أن الخط السلفي الإصلاحي الوافد في صياغته المصرية الحديثة مطلعَ القرن العشرين، استطاع أن يحدث أثرا بيّــنا في النخب المتعلمة الزيتونية والمدرسية على السواء، بينما لم تتمكن الموجة السلفية النجدية السابقة، والتي ظهرت من قبل بحوالي قرن من أن تَـفلَّ من عضد النخب العلمية المحافظة.

دلالة الأمر الثاني، تؤكد أن الحضور السلفي الحديث في تونس اكتسى صبغة إجرائية، بعيدة عن المماحكات النظرية العقدية. ذات الظاهرة تبرز في الأقطار المغاربية الأخرى، حيث تمثل النفاذ السلفي في كل قطر، متفاعلا مع المقتضيات المحلية السياسية الاجتماعية أكثر من أي اعتبار آخر.

مؤدى ذلك في خصوص السياق القطري التونسي، أن تحوّلا مهمّا حصل في الفترة التي فصلت بين المد السلفي الأول الذي ظهر في مطلع القرن الثامن عشر، والوافد من منطقة نجد، وبين موجته الثانية التي عرفها العالم العربي في صياغة أحدث، قام عليها رجال السلفية الإصلاحية في مصر والشام[3]. لقد قاومت النخب التونسية بشدة السلفية في الطور الأوّل، على اعتبار أنها " ضلالة وهابية"، لكونها كانت حاملة لخطاب عقائدي مفرغ من أية أبعاد واقعية، بينما كانت الاستجابة مغايرة بعد ذلك نتيجة تحولات محلية مجتمعية من جهة، ولأنها اعتمدت خطابا له أفق فكري واجتماعي.

عند التوقف على هذا الملمح الأول من الموقع المفصلي، تبرز عدة مستويات لفهم الظاهرة السلفية الحديثة ذاتها. ما يتبيّن في جانب الخصوصية السلفية، أن الموجة السلفية الأولى كانت تعمل - ككل التوجهات السلفية - على إحياء الضمير الديني بمقاومة الانحرافات العقدية والشعائرية والسلوكية التي كانت ترى فيها تهديدا لجوهر الإسلام، وإضعافا لروحه، وهدرا لطاقات الأمة. غير أن هذه الرؤية كانت منطلقة من الذات الثقافية لإصلاح نفسها بنفسها، بما يجعلها مختلفة في ذلك مع الموجة السلفية التاليةالتي تميّزت في محاربتها للتقليد بالإقرار بأهمية التفاعل مع أوروبا، في مستوى القيم والمفاهيم، وضرورة استساغة الأفكار العصرية، والاستفادة من المنجزات الحضارية، قصد الوصول إلى نديّة يمكن بها مواجهة السياسات الغربية المعادية للمسلمين.[4]

من هنا، يتبيّن أنه كانت للسلفية الحديثة في المجال العربي دلالتان: هي من جهة تيار عقائدي، ينطلق من إعادة تقييم وتنشيط ماضي السلف، للإجابة من جهة ثانية على حاجيات وطموحات الحاضر[5]. هي بذلك تعبير عن فهم شمولي، يعتبر أن الإسلام الحق يتموقع خارج التقليد، ويعمل ضده بالدعوة إلى تنقية المعتقد والممارسة، بما يتطلب حركة إحيائية تتجاوز كل ما طرأ على البنى الاجتماعية والسياسيةوالفكرية والتربوية. إنها المقاومة للبدع في المعتقد والسلوك، بمواجهة فقهاء التقليد ومؤسساتهم التعليمية والقضائية، ونقد للفكر الذي تستند عليه.

لكن هذا الحرص على العودة إلى نقاوة الأصول، في السياق المغاربي خاصة، لا يمكن أن يتحقق بصورة تقضي على كل أثر للتاريخ في خطابها. ما تثبته عموم التجربة السلفية العربية الحديثة المغاربية، في تنوّعه، بل وتباينه أحيانا، أن زرع الحس اللا تاريخي في مسعى طهوري باسم الرجوع إلى "الإسلام الحق" غير ممكن، لأن خرق حواجز التاريخ الضخمة وتراكماته دون أيّ تمثل لمعطياته ومكاسبه المختلفة ضرب من المحال.

يقول الشيخ عبد الحميد بن باديس معرّفا الإسلام بأنه: "عقد اجتماعي عام في جميع ما يحتاج إليه الإنسان من جميع النواحي لسعادته ورقيّه"؛ ثم يضيف "إن مبدأنا في الإصلاح الديني والدنيوي، أنه لا يصلح آخر هذه الأمة إلاّ بما صلح به أولها". يزيد بعد ذلك، فيقول إن "الإسلام الوراثي لا يمكن أن ينهض بالأمم، لأن الأمم لا تنهض إلاّ بعد تنبّـه أفكارها، وتفتّح أنظارها، والإسلام الوراثي مبني على التقليد والجمود، فلا فكر فيه ولا نظر".[6]

من هذه الجمل، يتبين أن القوام الفكري للسلفية الحديثة في بلاد المغرب يتركز على مقولتين متلازمتين: إبطال التقليد بمناوءة كافة مؤسساته، مع حرص على استيعاب إيجابيات الآخر. ندرك هذا من ارتكان ابن باديس في تعريفه للإسلام إلى مفهوم "العقد الاجتماعي"، في ذات الوقت الذي لا يتردد فيه من القول بأن صلاح المسلمين في العصر الحديث يقتضي التزام الاقتداء بالسلف الصالح، في معتقدهم وسلوكهم ورؤاهم.

الأسئلة التي تطرح: كيف يتأتّى الجمع في منظومة واحدة بين عناصر لا يمكن أن تشكل بنية متماسكة؟ كيف يتاح تجديد أفكار مستعملة في منظومة ثقافية بمطابقتها مع قيم وأفكار هي إفراز لمنظومة أخرى؟ كيف يمكن اختزال مجالات المجتمع وحركيته طوال الأحقاب التاريخية، ثم القيام بإدانة الإسلام الوراثي والدعوة إلى "إسلام ذاتي" سبيله الواحد هو التعليم؟

من هذه التساؤلات تبرز المفارقة الكبرى للتوجه السلفي الحديث التي تُبرز لنا قوة ذلك التوجه، وضعفه في الآن ذاته. لقد استطاع بفضل هذا المنهج التوفيقي الداعي إلى نبـذ التقليد أن يعمل على اكتساح المؤسسة الدينية التقليدية لزعزعة مكانة الفقهاء، وسلطة المتصوفة، وأصحاب الطرق، مستفيدا في ذلك من ثغرات مختلف مراكز تلك المؤسسة، عاملا على اختراقها وثم تهميشها. مثل هذا السعي يكشف الهنات، ولا يستدعي ولا ينمّي أي حس تاريخي بديل لدى المسلم[7]. ذلك ما مكّن السلفية الحديثة حتى الفترة المعاصرة من تحطيم الأشعرية والتصوف، كما ساهمت بقوة في القضاء على التقليد الفقهي.

لكن هذه الإدانة السهلة "لـلإسلام الوراثي" لم تنتج وعيا تاريخيا جديدا، لإغفالها مصادر قوة تلك الثقافة الدينيةالتي اعترتها البدع والانحرافات، والتي تستند إلى رؤى وتنظيرات ومواقف العلماء المؤسسين، بما لديهم من الوعي والالتزام والفاعلية في واقعهم الخاص وعصرهم المنصرم. ما غاب عن موجات السلفية الوافدة على بلاد المغرب، أن هشاشة المنظومة المذهبية والعقدية لا يلغي قاعدتها التي تأسست عليها، والتي تظل ذات شرعية رغم انكفائها في دائرة التقليد؛ معنى هذا أن مجرد التصدي للمؤسسة التقليدية وإدانة التقليد لا يجدي، ما لم تقع مراجعة منهج التفكير، وبناء وعي تاريخي معاصر.

في ذات الخطأ، وقعت أنظمة وتيارات عربية تحديثية حين ظنت أنها قادرة، بمجرد ضرب المؤسسة الدينية أو استتباعها أو مناوءتها، على إلغاء أية سلطة اجتماعية منافسة تتحداها في مشروعاتها التحديثية الخاصة.

ما أفرغ المشروع الإصلاحي السلفي الحديث من الفاعلية الإيجابية في الواقع العربي والمغاربي، بخاصة اقتصاره على أن يكون قوة احتجاجية متمردة على التراث الوسيط للإسلام، لكونه شجع التقليد، وأساء إلى النص الديني وفهمه السليم، مع خلوّ ذلك المشروع من أي منهج آخر، مختلف عن المنهج التقليدي السائد، وذهوله عن أسس الممانعة التي يستند إليها "الإسلام الوراثي" في العالم العربي الإسلامي. على ذلك فلم تقـــو السلفية على إعادة نظر ناقدة في حداثة الغرب، مما جعلها تمهّد موضوعيا لدعاة التحديث القسري، الذي يرى أن القيم الحديثة ومنظومتها الحضارية والفكرية هي مكتسبات إنسانية، واكتشافات عقلية نهائية، نفوذا وهيمنة لعقود متتالية.

لمزيد توضيح هذه المفارقة، نعمد إلى حفر أولي في جذور "الإسلام الوراثي"، وبنيته الفقهية، وما يتصل بالمالكية خاصة، ذلك العنصر الذي ظل مقوّما للهوية المغاربية طوال قرون.

تاريخيا تمكّن مذهب الإمام مالك[8]، في بلاد الغرب الإسلامي، رغم التباين الشديد بين أوضاعه الحضارية والثقافية، ورغم مواكبته لمذهبين آخرين هما مذهب الأوزاعي[9] في الأندلس، ومذهب أبي حنيفة [10] في إفريقية والمغرب الأقصى في أطوار أولى. أهم ما يفسر غلبة مذهب مالك على بلاد المغرب، هو انفراد تلك المدرسة بطاقة اقتراحية، وحضور تفاعلي مواكب للواقع الاجتماعي. تجسدت هذه الخصوصية في كثرة أصول المذهب بما أفسح مجالا أوسع للتخريج، موفرا للإفتاء أدلة صالحة يختار منها الفقيه أصلحَها. لقد أدرك تلاميذ مالك أن اختلاف النَـزعات والأوضاع، ووفرة الحراك الاجتماعي، لا يمكن أن يحقِّقَ لهم تنظيم حياة بلاد الغرب الإسلامي العامة والخاصة، إلا إذا استندوا إلى نفس ذلك الواقع المتشابك المتحرك، ليجعلوا منه سندًا في امتلاك ناصية المرجعية الفقهية.

بذلك استمدت المدرسة المالكية حيويتها من تجدد الحياة في آفاق الغرب الإسلامي، فلم تعتمد التمشي الذي أقبل عليه الحنفية والمتمثّل في أهمية الجهد التنظيري الذي يتعالى بتجريده على الأحداث ومعانيها. أهميّة منهج المدرسة المالكية في المغرب في العصر الوسيط في إدراكها لما للواقع من شأن، وذلك ما دفع بها إلى فقه النوازل الذي يتيح تعددًا للآراء، ناتجا عن الاختلاف في تقدير ما تطرحه الحياة اليومية من تساؤلات، بينما ستكون معضلة الفقهاء المتأخرين خاصة، هو نظرهم إلى ذلك الواقع على أنه أمر ثابت، لاعتبارهم إياه "الواقع ـ المثال" الذّي لا ينبغي تجاوزه، لأنه في نظرهم يحافظ على حياة اجتماعية مطردة للجماعة.

من روح هذه المدرسة المالكية قبل أن تهيمن عليها ثقافة التقليد فتبعدها عن سير الحياة المركّبة، وعن مصالح الناس وأعرافهم، ندرك ما يواجه الفكر الإسلامي المعاصر اليوم من مصاعب وتحديات . ما يفيدنا به التوجه السلفي الحديث والمدرسة المالكية هو أن الفكر الإسلامي، أيا كان منزعه الفقهي أو العقدي أو الإيديولوجي، لا يقوى على البناء والإبداع إلا بالخروج من ثقافة التقليد وبالوعي التاريخي البديل. ذلك هو الخيار الذي يدفع إلى مغادرة مواقع التمركز والانغلاق على الذات، التي تحول بينه وبين فاعلية حقيقية في عالَم معولم، تضاعفت فيه التحديات المواجهة للمعتقدات والثقافات الخاصة.


[1]- عبد الهادي بو طالب (1923-2009) كاتب ومفكر وسياسي مغربي، درس بالقرويين وحصل على إجازة ودكتوراه في الشريعة وأصول الفقه، ودكتوراه في الحقوق، تخصص قانون دستوري - عمل في القضاء و التدريس الجامعي. له عدة مؤلفات في السياسة و القانون و الأدب والإسلاميات بالعربية و الفرنسية.

[2]- زار الأستاذ الإمام محمد عبده( 1849-1905) تونس مرتين، كانت الأولى سنة 1884 والثانية سنة 1903، وقد امتدت فترة أطول من الأولى، وكان لها أثر أبلغ من السابقة لكونها وطّدت العلاقة من قسم من النخب التونسية المقبلة على الإصلاح المعتمد على العلم والتربية، في حين كانت الزيارة الأولى، رغم انطلاقها من ذات الرؤية الفكرية الإصلاحية، فإنها كانت ما تزال موالية لرؤية جمال الدين الأفغاني الذي كان يراهن على نجاعة إصلاح الحاكم.

[3]- انظر لتصدي علماء الزيتونة للدعوة السلفية في مدّها الأول في ابن أبي الضياف الإتحاف ج 5 ص 63 وما يليها.

[4]- يعرّف الشيخ محمد عبده الإصلاح بقوله : " هو تحرير الفكر من قيد التقليد، وفهم الدين على طريقة سلف هذه الأمة قبل ظهور الخلاف والرجوع في كسب معارفه إلى ينابيعها الأولى، واعتباره ضمن موازين العقل البشري التي وضعها الله لترد من شططه، وتقلل من خلطه وخبطه، لتتم كلمة الله في حفظ نظام العالم الإنساني"، انظر محمد عمارة، تجديد الفكر الإسلامي عند محمد عبده ومدرسته، القاهرة 1980

[5]- راجع موسوعة الفلسفة العربية، فصل السلفية ص 733

[6]- ابن باديس أحد أبرز أعلام الإصلاح السلفي في الجزائر، ( 1889- 1940م)، راجع الأعمال الكاملة، تحقيق عمّار الطالبي، الجزائر 1968 ج3، ص ص 240-246

[7]- راجع كتاب الدكتور مصطفى الشكعة، إسلام بلا مذاهب، الداعي إلى تجاوز الخلافات المذهبية، والمعتبر أن الإسلام هو "دين فطرة" يتلاءم مع الطبيعة البشرية.

[8]- توفي الإمام مالك بن أنس سنة 197هـ/ 795م

[9]- توفي الإمام عبد الرحمن الأوزاعي الشامي سنة 157هـ/774م

[10]- توفي الإمام أبو حنيفة النعمان الأفغاني سنة 150هـ /767م