الشاعر والفيلسوف: السؤال الوجودي عند "تركي عبد الغني" و"سقراط"


فئة :  مقالات

الشاعر والفيلسوف: السؤال الوجودي عند "تركي عبد الغني" و"سقراط"

ثمة سؤال أزلي مُعلَّق على مشجب العقول والقلوب برسم إجاباتٍ لا نهائية؛ إنّه سؤال الذات بإزاء هذا الوجود.

"لماذا أنا هنا؟ [على هذا السؤال كان أدغر دايل قد أجاب]، إن الجواب الذي طالما أعطاه حكماء العالم هو: أننا هنا لنكمل أنفسنا لننمو في المقدرة على الحياة، وعلى العمل التعاوني البنَّاء؛ نحن والآخرون".

ثمة نقص حاد في الصيغة الإيجابية التي أدلى بها "أدغر دايل" نظراً للفجوة المُتحصلة بين لا نهائية السؤال المبدئي: (لماذا أنا هنا) ونهائية الإجابة. الأَوْلَى في هكذا حالات هو البحث عن إجابة لا نهائية على هكذا أسئلة إشكالية، لأنَّ الإشكال المبدئي يتجاوز محنة الذات الفردية في علاقتها بالوجود، إلى محنة الذات الجمعية. فلقد أفضى الإنسان الإنسان المُطْلَق- لحظة تفتّقه إلى هذا العالَم إلى وجود إشكالي بالمرة، لذا غدت مهمة البحث عن إجابات مريحة واحدة من الاستحقاقات البديعة للإنسان على هذه الأرض. لكن الانشغال بالخارجي دفع أعداداً هائلة من بني البشر إلى الانطواء تحت مظلّة الحياة، لذا كان إسهامهم في بلورة رؤية وجودية واضحة مساهمة هامشية وغير تأسيسية، وعليه فقد ماتت أعداد كثيرة من بني البشر دون أن تترك بصمة واضحة في العيان البشري. فدفقة الوجود ومتطلبات الحياة القاسية، جعلت الكثيرين لا يعبؤون بمآلات الجنس البشري وأسئلته القلقة، بل أُكْتفِيَ بالحدّ الموضعي والمُعاش اليومي، ولم يُسعَ ـ في غمرة الانشغال بالحياة- إلى إشهار علني للمخبوء داخلياً.

إلا أن هذه الأعداد المليونية من بني البشر غير المهتمة بالمشكل الوجودي، لم تمنع ذواتاً فردية من حمل المجموع على كتفيها والبحث عن مَخرَج لمأزقها الكبير.

في المرويات الأفلاطونية عن المُعلِّم "سقراط"(1) ثمة نقص فادح في الإجابة على سؤال الوجود من قبل الذات، لذا تجلَّى "سقراط" في (عدم المعرفة) أكثر من تجلّيه في (المعرفة). رغم أن الوجود الحق ـ بحسب أفلاطون- هو وجود في المعرفة وليس في العيان الإنسي.(2)

وفي واحدةٍ من المقطوعات الشِعرية الفضائحية للوجود الإنساني يصدح الشاعر "تركي عبد الغني"(3) بما يعتمل من عطبٍ كبير داخل الذات الإنسانية بإزاء الوجود كلّه:

"ما أثقل الشفاه

حينما تكون للسكوتْ!

ما أظلمَ الإحساسَ أن

تكون لا لشيء قَدْ

خُلقْتَ إنّما

لِكَيْ تموتْ!

ما أًصعب الإحساس أنْ

تكونَ مثلَ الأنبياء

مُرْسَلاً

في بطنِ حوتْ!

ما أقتلَ الإحساس حينما

تكون مارداً

مُقيّداً

بخيطِ عنكبوت"!.

السؤال الإشكالي هَهُنا: هل ثمة هروب انتحاري من قبل الذات القلقة قلقاً وجودياً، ناحية القلق والهدر وعدم التحقّق الكامل؟.

ثمة قلق عارم يجمع بين الشاعر "تركي عبد الغني" و الفيلسوف "سقراط"؛ كلاهما يتموضعان في منطقة الهدر الوجودي، ولا معنى لحياتهما إلا بالتيقّظ الدائم. فالوجود وإشكالاته إحداثية هائلة من إحداثيات عقليهما وقلبيهما.

وإذا كان الوجود السقراطي متموضعاً في عدم المعرفة، لناحية أن الجهل هو ميزة الإنسان في هذا الوجود، فَبِهِ يتجلَّى تجلّيه الأكبر، فهو عاجز لحظة انغماسه انغماساً كلياً في المعارف الكبرى عن فضّ الاشتباك بين ذاته القلقة والمنظومة الوجودية التي يتمثّلها في حياته.

إذا كان الوجود السقراطي كذلك، فإنَّ الوجود التركي (نسبة إلى الشاعر تركي عبد الغني) هو انعكاس كبير للفجيعة الجوّانية التي يُعاني منها الجنس البشري عموماً، ألا وهي مشكلة المُراوحة في النقطة ذاتها فيما يتعلق بالأسئلة الكبرى من مثل: ما مصيرنا النهائي؟ وإلى أين المسار ؟ وما إلى ذلك، والمشكل الوجودي عموماً.

في روايته (الأخوة كارامازوف) صدح "دوستويفسكي" على لسان "إيفان كارامازوف" (أحد أبطال روايته المذكورة): "إذا لم يكن الله موجوداً فكلّ شيء مُباح".

المفارقة العنيفة أنّ الإنسان استباح كل شيء، سواء أآمن بوجود الله، أم أنكره. والمفارقة العنيفة في طروحات الشاعر "تركي عبد الغني" هي في الإبقاء على الإنسان عند النقطة (صفر)؛ إنه يُراوِح مكانه، ولا يجد ثمة مفر من البقاء في النقطة ذاتها ابتداءً بلحظة انوجاده الأولى وانتهاء بلحظة موته. فالوجود الذاتي للذات الفردية الواحدة هو وجود جمعي لكلّ الذوات، وبالمثل وجود الذوات الجمعية هو وجود للذات الواحدة. والإشكال الوجودي الذي يُواجه الذات الفردية هو إشكال جمعي، لذا ثمة ميل إلى اعتبار التاريخ الشخصي للذات الفردية بمثابة تاريخ عابر للأزمان والذوات الأخرى. فالوجود المُمارس هو وجود أقنومي والأسئلة المُجترحة (سواء أُعِبّر َعنها من قبل ذوات حسّاسة أو بقيت في طور الكمون كما لدى غالبية البشر) هي أسئلة لا نهائية بعدد الذوات السائلة والإجابة عليها إجابة لا نهائية. والتعبير المُصاغ شعرياً من قبل "تركي عبد الغني" هو تعبير تأسيسي للذوات المُتعددة، وتوليدي في الوقت ذاته لدلالات لا حصر لها في المخيال البشري، سواء أتُعُوِملَ مع هذا المُصاغ الشعري تعاملاً جمالياً أو تعاملاً معرفياً. فإغراق البشرية في مُتتالية مُرعبة من الاستحقاقات، والزجّ بها في بئر عميقة، هو أحد التأويلات المفتاحية للمقطوعة الشعرية:

"ما أثقل الشفاه

حينما تكون للسكوتْ!

ما أظلمَ الإحساسَ أن

تكون لا لشيء قَدْ

خُلقْتَ إنّما

لِكَيْ تموتْ!

ما أًصعب الإحساس أنْ

تكونَ مثلَ الأنبياء

مُرْسَلاً

في بطنِ حوتْ!

ما أقتلَ الإحساس حينما

تكون مارداً

مُقيّداً

بخيطِ عنكبوت"!.

إنه تأكيد على أنَّ الصوت الآدمي هو صوت مُدوٍ ملأ أرجاء المعمورة، لكنه غائر في أعماق بئر عميقه؛ بئر الذات الضائعة، المسلوبة، المنهوبة وجودياً. نعم، لقد شقّت الذات غلالة اللسان وأفصحت عن مخبوءاتها العميقة، ولكن ـ ويا للأسف- مَنْ يسمع شكواها!؟. أزلاً صرخت وأبداً ستصرخ، ولكن ها هو الجرح الإنساني ما زال مفتوحاً على خيارات الملح والدم والألم.

إن اللحظة الصفرية التي أوجدها "تركي عبد الغني" تلتقي مع اللحظة السقراطية العدَمية؛ فكلتاهما تُؤرخان لرحلة الضياع الإنساني وتمنحان الوجود الإنساني بُعداً مأتمياً؛ ويمكن لأيّ إنسان (يساءل ذاته ويضعها أمام استحقاق وجودي) أن ينزوي في ركن ركين ويبكي بكاء مُرَّاً على عمق مأساته والمآلات التي تنفتح عليها خياراته الوجودية.

لقد تقدّمت البشرية خطوات جبّارة ناحية الأمام، ولكن تقدّمها لم يمنح حصانة للقلق الوجودي المُعتمل داخل الذات الفردية؛ ففي النهاية ثمة أسئلة أقلقت العقل البشري والقلب أيضاً، ولا زالت وستبقى، ومعها سيبقى الإنسان في طور الهدر والقلق المُتنامي. وإذا كان لكلٍّ من "سقراط" و"تركي عبد الغني" أن يُؤرّخا للحظة من لحظات هذا القلق، فإنّهما يستشرفان مستقبلاً (في حال أطلق الزمن للحظة الإبداعية) آدمياً يفتقد إلى الأمن والأمان الوجودي؛ فالذات مُعلّقة طرَّاً على مشجبٍ مُتقلقلٍ وغير متوازٍ وغير ثابت بالمرة. وما اختيار شاعر وفيلسوف(4) ـ ابتداءً- إلا من باب التأكيد على الدور الاندماجي لكلّ منهما داخل حقول متعددة، لاستشراف الاحتياجات العميقة والغائرة لذواتٍ مُتـعدّدة الاتجاهات والاهتمامات؛ ففي نهاية المطاف، الشاعر أو الفيلسوف هو وجود كوني بالدرجة الأولى، وانفتاح كبير على معطيات الوجود ككل، بعيداً عن أية قطعيات بين المُكونات التأسيسية (العقلية والوجدانية) للكائن البشري. والالتقاء بين ذوات مُتباعدة زمنياً في استنطاق حالة الخراب الكبير، هي واحدة من استحقاقات الوجود البشري في تمثّل المُشترَك بين هذه الذوات، والمصير المحتوم، والكأس التي شربت منها أول ذات في الوجود هي الكأس ذاتها التي ستشرب منها آخر ذات في هذا الوجود، وباليقين ستشرب منها كل الذوات البشرية آجلاً أم عاجلاً... وأبداً، أبداً لن يكون ثمة خلاص بشكل قاطع وعلى نحو نهائي


(1)بطبيعة الحال أتحدث عن "سقراط" الأفلاطوني، وليس "سقراط" التاريخي.

(2)تلميذ بوذي سألَ مُعلِّمه الذي يُلقنه تعاليم الزِنْ

"ما الذي يجب عليّ أن أعرفه أيها المُعلِّم؟.

تغلي الماء

تنقع الشاي؛

وتشربه؛

هذا كل ما يجب أن تعرفه" يُجيب المُعلِّم.

(3)إني إذ أُركِّز على المقطوعة الشعرية المذكورة أعلاه للشاعر تركي عبد الغني، فإني أحيل إلى حزمة من قصائد الشاعر، والتي تعكس في مجملها قلقاً إنسانياً عارماً من هذا الوجود والمآلات المُوحشة والمتوحشة التي يمكن أن تفتك بالكائن البشري، وتحيله إلى قشّة في مهب الريح. حتى العناوين (عناوين قصائد الشاعر تركي عبد الغني) تبدو على درجة كبيرة من الاحترافية في تجلية خبايا الرعب البشري من الوجود؛ مثل: (على قدر التعلّق) (الخطأ: هكذا تكلم المجنون) (دوران: قراءة عبثية للنص)، (اغتراب)...إلخ.

(4)في توصيفات الشاعر والفيلسوف كتبتُ في دراستي الموسومة بـِ (قلب الشاعر وعقل الفيلسوف: العنف التناصي بين الجسد الفاني والكلمة الخالدة) والمنشورة في كتاب الشاعر (كتاب مشترك) الصادر في الجمهورية التونسية ربيع العام 2013:

" الشاعرُ ـ هُنا أنفي الضمائر اللغوية لصالح الالتحام بالعالَم- يُوقِفُ اللحظة الزمنية الآنية ويمنحها أبديةً جمالية، إنَّه يتأكَّد ويتحقَّق في نَصِّهِ، منطوقه الشعري؛ فهو وإنْ كانَ حصيلةَ ذواتٍ مُشظّاةٍ سبقته في الوجود، من حيث هو يُعيد بناء الهيكل العظمي الشِعري، إلا أنَّ اللحم الذي يكسي به ذلك الهيكل هو لحم روحه، إذ تقول كلمتها الأخيرة بحقِّ هذا الوجود. فالشِواش القَبْلِي يصيرُ إعصاراً بَعْدياً بفعل حركة واحدة. ثمة فراشة تُرفرف حول النار العظيمة، وفي لحظة مدّ وجودي عنيف في الذات تتهالك فراشة الشاعِر إقدامَاً على النار المُقدّسة وتستشهد هناك، والشهيدُ حيٌّ أبداً.

والفيلسوف يُؤشْكِل الزمن ويمنح عقله المعرفي حضوراً طاغياً في العالَم، عبر إعادة تأويل الثالوث الوجودي العظيم؛ "الله" و"العالَم" و"الذات"، وهو إذ يموت جسمانياً فعقله المعرفي يتخلَّد عبر طروحاته الجريئة، من حيث هو يجترئ على القديم، فَيُعْمِل معول عقله في الصخرة الصمَّاء، ومن الذرَّات الصغيرة (بلغةِ "ديموقريطس" سابقاً و"ليبينز" لاحقاً) يبني عالماً معرفياً جديدا،ً وعلى سَنَامِه يجلس أبد الدهر، ويتَطَلَّع إلى المُطْلَق. إنَّهُ يتأكَّد في منظومته الجديدة معرفياً. جمرة عقله تتوقد ـ لأزمانٍ قادمة - إذ يُناهز الأُسس ويجترحها من جديد؛ إنَّهُ يحرق ذاته بنارِ المعرفة الكبيرة، وبنورها يستضيء الناس".