العلمُ والفلسفةُ، الجمع أم التفرقة


فئة :  مقالات

العلمُ والفلسفةُ، الجمع أم التفرقة

العلمُ والفلسفةُ، الجمع أم التفرقة

يشمل الكون العديد من التجليات الواضحة والكثير من المظاهر الفلكية والأجرام السماوية المتناثرة هنا وهناك في سماء الدنيا، كما يشمل كذلك الظواهر المادية المحسوسة التي تثير الانتباه عند الإنسان بغية استدعاء المعرفة وطلب الفهم، ولا يستقيم هذا إلا عن طريق بنية السؤال الذي يعد من إنتاج الفكر البشري الباحث في الفلسفة والعلم، مَادَامَ لهما تاريخ مشترك مر بعدة مراحل بدءا بالاتصال بين الفلسفة والعلم المتربي في أحضانها وانتهى بالانفصال عنها مع دعوة عالم الاجتماع الفرنسي أوغست كونت، انطلاقاً من قانون الأحوال الثلاثة الذي مرت به البشرية في تفكيرها من لاهوتية إلى ميتافيزيقية وصولاً إلى الوضعية، وتوالت الضربات القاسية لانفصال العلم عن الفلسفة مع الفيزيائي إسحاق نيوتن، عندما طرح السؤال: كيف سقطت؟

وبسقوط التفاحة أسقط نيوتن الأبحاث والتعليلات الفلسفية من خانة العلوم، ليشق العلم طريقه متجردا من عباءة التفكير الفلسفي، يَقُدُّ قميص التفسيرات الميتافيزيقية، يلّبِسُ ثوب التجريب مستبشراً، فرحاً به في العصر الحديث، لكن هناك سؤال يدور في أذهان الكثيرين منذ زمن بعيد، ما طبيعة العلاقة بين الفلسفة والعلم؟ هل هي علاقة صدام وانفصال أم تكامل واتصال؟

قبل المخاطرة للإجابة عن هذه المشكلة التي شغلت الفلاسفة وحيرت عقول العلماء، وخفقت لها قلوب فلاسفة العلوم، نقف على ضبط مصطلح العلم والفلسفة، فنقول العلم: المعرفة المنظمة أو نظام معرفي يكشف عن العلاقات الثابتة بالاستناد إلى المنهج، حسب الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار: «هو مجموعة حجج وتجارب ومجموعة قواعد وقوانين». أما الفلسفة حسب جيل دولوز، فهي: «فن تكوين وإبداع، وصنع المفاهيم.»[1]

وقد عرف المفكر العربي محمد عبد الرحمن مرحبا الفلسفة بأنها: «البحث في ماهية الأشياء وأصولها وعلاقة بعضها مع بعض ومع الإنسان والوجود الإنساني. أنها تطلع دائب إلى الآفاق البعيدة والأسس العامة.»[2]

العلم والفلسفة الانفصال والتفرقة:

طلب المعرفة والفهم ميزة الإنسان بوصفه عاقلا، يتلقى معارف عديدة فلسفية وعلمية تتباين تارة وتتمايز أخرى، فروق واختلافات جوهرية بين الفلسفة والعلم لا نستطيع أن نغض الطرف عنها، ما جعل بعض مفكري العصر الحديث، يحملون مِعْوَل هدم التعليل الفلسفي، ويشيدون نسقا علميا، إمبريقيا حدوده العالم المحسوس، وأرضيته الصلبة، المتينة، منهجاً تجريبياً لا يشق له غبار، هذا الانفصال يكمن على مستويات عدة:

على صعيد المواضيع: تدرجت موضوعات الفلسفة من الموضوعات شاملة عامة، لا يمكن درسها بعلم محدد مثل المسائل المتعلقة بالثقافة الإنسانية ومكانة الإنسان وموقعه في هذا العالم إلى الموضوعات الأكثر تخصصًا في عصرنا كتلك التي تتناول الطابع الأخلاقي والنفسي والجمالي...؛ بينما موضوعات العلم جزئية تخضع للمنهج التجريبي، يهدف إلى وصف الظواهر الملموسة وكيفية حدوثها، إذ العلم وصفي فمثلاً كيفية عمل قلب الإنسان، وهكذا فإن كل تخصص من تخصصات العلم يكتفي بدراسة الموضوعات المتعلقة باختصاصه، فلا يمكن لعلم الفيزياء أن يدرس الكائنات الحية.

على صعيد المناهج: مناهج الفلسفة نظرية عمومًا، عقلية تأملا، تتساءل عن الأسباب التي أدت إلى وجود الظواهر؛ مُستخدمةً أدوات المنطق من تحليل وتركيب واستنتاج.... أما مناهج العلوم، فهي تقنيات خاصة بكل علم (ملاحظة، فرضية، تجربة أو برهان.) إذن: العلوم التجريبية تبحث كيفية ظهور الظواهر.

على صعيد النتائج: نتائج الفلسفة هي فرضيات أو تعميمات أقرب إلى وجهات النظر ولا يمكن وضع نهاية محددة لها؛ بينما نتائج العلم وضعية، دقيقة، كمية يمكن قياسها؛ مستندة إلى وقائع حسية تؤكد أو تدحض هذه النتائج.

العلم والفلسفة الجمع والصلة:

إن عدم التوافق بين الفلسفة والعلم ليس معناه الاختلاف والتباين بينهما، ثم الانفصال والتفرقة، بل نشير إلى حقيقة تاريخية مهمة، وهي العلوم نشأت في أحضان الفلسفة، وهذا واضح في مدرسة أيونيا عند الفلاسفة الطبيعيين الأوائل أمثال طاليس وغيرهم، كانوا يبحثون عن المصدر الأساس والعنصر الجوهري الذي يقف وراء التغيرات التي تحدث في الكون. ورغم الاختلاف بين طبيعة العلم والفلسفة إلا أنه يوجد بعض الفلاسفة حاولوا الجمع والصلة بينهما في محاولة لتغيير طبيعة الفلسفة لتتفق مع طبيعة العلم؛ ومن هؤلاء، نجد الفيلسوف الألماني فريديريك هيجل الذي قال: «إن الأمر الذي عقدت عليه العزم هو المشاركة بجهدي في أن تقترب الفلسفة من هدفها، وتتمكن من طرح الاسم الذي توصف به، وهو حب العلم من أجل أن تصبح علما حقيقيا.» ومما لاشك فيه أن من القواسم المشتركة بين العلم والفلسفة وصلات القربى هي أن تطور العلم هو تطور للفلسفة، فتطور الفكر الفلسفي ارتبط إلى حد كبير بتطور العلم، ولو رجعنا إلى بعض محاورات أفلاطون اليوناني لتحققنا من أن اكتشاف الفيثاغوريين لبعض الحقائق الرياضية «لأن العدد هو الحقيقة المعقولة المفسرة لظاهرة الصوت المحسوسة، فيمكن أيضا أن يكون الحقيقة المفسرة لجميع الأشياء سواء منها المحسوسة أو العقلية.»[3] هذه الحقائق الرياضية قد كانت أصلا من الأصول المهمة التي صدرت عنها نظرية أفلاطون في المُّثل. وكذلك فلسفة ديكارت مدينة بالكثير من أصولها لما وصل إليه العلم على يد جاليليو، بل نجد العديد من نقاط التوافق والاتصال بين العلم والفلسفة تتجلى في: الذات العاقلة، المفكرة، المتأملة في مظاهر الكون وظواهره العديدة، حيث تسعى دائما لطرح السؤال ولا تمل من إثارته؛ فالعالم يسأل الفرضيات المتعلقة بالظواهر الكونية والفيلسوف يتساءل كذلك حول عللها.

يتفق كل من الفلسفة والعلم في بنية السؤال في حد ذاته، إذ يطرح العالم كيف؟ بصيغتها الاستفهامية ويطرح الفيلسوف السؤال لماذا؟ بصيغته الاستفهامية كذلك، بغية البحث والفهم واستدعاء المعرفة التي تساهم في ترقية الإبداع الفكري وبناء الحضارة الإنسانية قاطبة وهذه سمة جلية يتميز بها كل من العلم والفلسفة.

دعوة فلاسفة العلوم في هذا العصر إلى تكامل التفكير الفلسفي والعلمي:

الفلسفة والعلم تجمعهما علاقة التكامل الوظيفي، فالفلسفة مضطرة لأن تكون مفتوحة تتلقى دروسها وأدواتها ومناهجها من العلم، وهو بحاجة ماسة للنقد الإيجابي من طرف الفلسفة، «لقد فرض العلم نفسه على الإنسان دون أن يعي ذلك.»[4] هذا الفرض دون وعي يجعل التفكير الفلسفي يصوِبه، حتى يصحح النقائص والأخطاء التي وقع فيها.

وتصويبا للمشكلة المطروحة، نقول: إن الفلسفة والعلم، إذن، جزآن ضروريان لمشروع الإنسان والإنسانية، في غاياتهما الراهنة والمستقبلية، وإن اختلفت مناهجهما وأدواتهما، بل لعل هذا الاختلاف طبيعي وضروري لقيام كل منهما بوظيفته. ولولا هذا الاختلاف الوظيفي لما تمكنا من تبادل المشكلات والنقد بما ينفع ويصوب ويعدل لاستمرار مسيرة تقدم البشرية.

 

قائمة المراجع:

  1. جيل دولوز، فليكس غتّاري: ما هي الفلسفة، ترجمة وتقديم: مطاع صفدي، مركز الإنماء القومي، طبعة عربية أولى، سنة 1997، بيروت، لبنان.
  2. محمد عبد الرحمن مرحبا: من الفلسفة اليونانية إلى الفلسفة الإسلامية، المجلد الأول، عويدات للنشر والطباعة، طبعة أولى، سنة 2007، بيروت، لبنان.
  3. أميرة حلمي مطر: الفلسفة اليونانية تاريخها ومشكلاتها، دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، طبعة جديدة 1998
  4. يورغن هبرماس: العلم والتقنية كإيديولوجيا، ترجمة: الياس حجوح، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، سنة: 1999

[1] جيل دولوز، فليكس غتّاري: ما هي الفلسفة، ترجمة: مطاع صفدي، ص: 30

[2] محمد عبد الرحمن مرحبا: من الفلسفة اليونانية إلى الفلسفة الإسلامية، ص: 28

[3] أميرة حلمي مطر: الفلسفة اليونانية تاريخها ومشكلاتها، ص: 74

[4] يورغن هبرماس: العلم والتقنية كإيديولوجيا، ص: 45