الفكر الأخلاقي المتقدم فكر يثق بالإنسان


فئة :  مقالات

الفكر الأخلاقي المتقدم فكر يثق بالإنسان

إن أي إصلاح ديني إسلامي مرتجى "ينطلق من الداخل" يستلزم الإصغاء إلى التقليد الفكري الأخلاقي الغزير الذي أُنتج زمن ازدهار الحضارة الإسلامية الذي أشرنا إليه في الصفحات السابقة؛ وذلك من أجل استجلاء نزعة الأنسنة وقيم العدالة والعقلانية والحرية والمساواة الإنسانية التي انطوت عليها أعمال المعتزلة وأفكارها، ومسكويه والتوحيدي والجاحظ وابن سينا وابن رشد، ومدرسة التصوف على اختلاف ألوانها ومستوياتها.

لقد انقطع الفكر الإسلامي عن التمثُّل والتطوير للأفكار المستنيرة التي قدمها الفلاسفة المسلمون قديماً، نحو ما جاء به، مسكويه في كتابه تهذيب الأخلاق، وانقطع هذا الفكر ولم يطوِّر الأفكار الأخلاقية العميقة التي انطوت عليها مؤلفات أبي حيان التوحيدي المعاصر لمسكويه، وما انفك هذا الفكر، منذ عصور الانحطاط حتى الآن، يتقوقع حول فكر هوياتيٍّ مغلق، يقيِّد حرية الإنسان، ويكبِّل إرادته، ولا يثق به، ويقيم حواجز عالية تجاه الآخر والمختلف، وصولاً إلى تسويغ التمييز والإقصاء والعنف ضده. من هنا بقي مصير علم الأخلاق وآداب التصرُّف والسياسة في العالم الإسلامي مرتبطاً مباشرة بمصير العلاقات الصراعية أو غير الصراعية بين اللاهوت والفلسفة. وآخر ممثل لهذا الصراع في تاريخنا وأكبر ممثل له هو ابن رشد، الذي كان لحظةً عابرة في هذا التاريخ. وقد كان قبله التيار العقلاني المعتزلي فاصلاً قصيراً وإشعاعاً عابراً في عهد المأمون وجيل مسكويه والتوحيدي الذي تلاه.[1]

نحسب أنَّ من الأفكار العميقة والجريئة التي تناولها علماء الكلام وفلاسفة المعتزلة ما بين القرنين الثاني والثالث للهجرة قولهم: (بالرغم من أهمية التنبه إلى منطلقاتها وخلفياتها الميتافيزيقية المرتبطة بعقيدة العدل الإلهي): إن الإنسان لديه المقدرة على تشخيص العمل الحسن والعمل القبيح من خلال عقله. وحين كان الأشاعرة يعتقدون أن الحسن والقبح "شرعيَّان ونصِّيَّان" أي أن الحَسَن ما حسَّنه الشرع، والقبيح ما قبَّحه النص الديني، اعتقد فلاسفة المعتزلة أن الحُسن والقبح "ذاتيَّان وعقليَّان"، وأن الإنسان قادر على أن يميز الحسن من القبيح بعقله، وأن الأوامر والنواهي التي تصدر عن الشريعة تؤيد ما شخَّصه العقل قبلاً وفي مرتبة سابقة.[2] وقد شرح ونظَّر للفكرة بشكل أوسع وأشمل الفيلسوف الألماني إيمانويل كانْت من بعد، عندما قعَّد مفهوم القانون الكلي الأخلاقي والمبدأ الأخلاقي الأعلى.

وعلى مستوى تعيين القوانين الأخلاقية الكلية، «قالت المعتزلة، مثلاً، إن شكر المنعم يُعدُّ قانونا كلياً أخلاقياً، وأداء الأمانة هو قانون كلي أخلاقي، والإنسان يمكنه تشخيص ذلك بعقله، وهكذا. لقد وضع المعتزلة بعض القوانين العقلية، وقد تحرَّك كانْت من موقع تعيين القوانين أيضاً، وكان هناك عنصر مشترك بينهما، وهو أن الإنسان هو الذي يعيِّن لنفسه وبعقله وظيفته الأخلاقية، فعقل الإنسان هو الذي يكتشف القانون الكلي الأخلاقي، ويستطيع تطبيقه في مجالات عدة، وعندما تتعلق الإرادة بهذا العمل تكون الإرادة حرة».[3]

إذن، كان فكر المعتزلة فكراً متقدماً، لأنه قدَّم رؤية متقدمة للإنسان، فبينما تُقدِّم المنظومة السلفية الفقهية رؤية تكاد في مجملها «لا تثق بالإنسان»، وتسعى جاهدة لتأكيد نقصه وقصوره وحاجته لمن يبيِّن له الطريق الصحيح ويحذره من الشرور والأخطاء والفتن والآثام، قام الفكر الاعتزالي، في رؤيته الميتافيزيقية، في حقيقة الأمر، على «الاعتراف الصريح بأن الإنسان هو الذي (يخلق أفعاله) جميعاً، بخيرها وشرِّها، وهو مؤهَّل لذلك بجبلة الخلق التي أودعها الله فيه، ومن ثم فهو يمتلك الإرادة الحرة والقدرة المؤثرة، وأنه، بحكم التكوين، يمتلك الأدوات اللازمة لذلك كله، وعلى رأسها العقل، الذي هو قادر في ذاته على إدراك الأشياء والحقائق، بما في ذلك معرفة الخير والشر والحق والباطل والحسن والقبيح».[4] لكن التجربة الاعتزالية في احتفائها بالحرية والعقل لم تقوَ على الوقوف في وجه الرياح الفقهية السَّلَفية التي أحبطت النزعة العقلانية المتحررة لدى المعتزلة، وبذلك «فقدَ العقل المسلم بنفيها فرصة مبكرة على ممارسة التعقل الحر داخل دائرة الإيمان».[5]

ويذهب باحثون إلى أن العقل، من حيث هو "منهج"، لا يترادف مع الفلسفة من حيث هي "رؤية" تصدر عن مناهج مختلفة ومتعددة، وأن "العقل المنهج" هو العقل الكلي الذي يكاد أن يتطابق مع مفهوم "الفطرة" الإنسانية، التي فطر الله عليها الإنسان بما هو إنسان، ومن ثم فهي مضطردة في النوع الإنساني كله، أو هي الحد الأدنى المشترك بين البشر من "قدرة الإدراك" أو "الحدس المباشر".[6] وفي سياق المقابلة والتقويم مع أفكار شاعت في الفكر الغربي، يذهب بعض الباحثين إلى اعتبار أن «مصطلح الفطرة مفهوم تدشيني، بمعنى أنه يمثل ركيزة إبستمولوجية في المنظومة الخُلُقية في القرآن الكريم ﴿فِطْرَةَ اللهِ التي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ﴾ (الروم: 30 و31)، إذْ إنه يؤكِّد أولاً أن أصل الإنسان خيِّر بطبيعته الأولى، وهذا بدوره يُخرج ضمناً كل الرؤى والمناهج الخُلُقية التي ترتكز في بلورة نظريتها على أصل الشر في الإنسان، كما نرى عند جون لوك وعموم الرؤية الخُلُقية الغربية».[7]

على هَدْي هذه الركيزة الإبستمولوجية وسواها في المنظومة الأخلاقية الإسلامية، طوَّرت الحضارة العربية الإسلامية في عصرها الكلاسيكي نزعة "الأنسنة" منذ منتصف القرن الثاني الهجري، وصولاً إلى منتصف القرن الخامس الهجري. هذا الزمن كان زمن البُوَيْهيِّين الذي انتشر فيه الرخاء الاقتصادي، والنشاط الفكري الفلسفي، وعمَّتْ فيه الحيوية الثقافية التي انشغلت بالإنسان؛ أدباً، وفكراً، ونقداً، وثقافة أصولية، وفلسفة، ومحاورات ومناظرات كانت تتوجه إلى الإنسان من حيث هو قيمة عليا ومركزية. غير أنَّ نزعة "الأنسنة" هذه لم تُعمَّر طويلاً؛ إذ سرعان ما اختفت على إثر انتشار فكر عصور الانحطاط في الحضارة الإسلامية، وما زالت تلك النزعة، بما تعنيه من رؤية بذرية للحداثة والعقلانية الإسلامية، ضعيفة في الفكر الإسلامي المعاصر، الأمر الذي يدفع محمد أركون، أحد أهم من بحث في هذه المسألة ونادى بضرورة إحياء تلك النزعة الأخلاقية العقلانية العربية والبناء عليها، إلى القول باستغراب، بسبب هجر تلك النزعة والنكوص عنها: «نكاد نشعر أحياناً بأنَّ تاريخ المجتمعات العربية والإسلامية هو تاريخ معكوس: بمعنى أنه يمشي عكس التيار، أيْ تيار الحضارة والرقي».[8]

لقد كانت مقاربات علماء الفلسفة والكلام المسلمين وفلاسفة المعتزلة حينذاك مقاربات متقدمة وعميقة بشأن الثقة بالإنسان، وتأكيد استقلاليته في سلوكه وتصرفاته، غير أن غلبة الفقهاء على الفلاسفة وعلماء الكلام، جعلت تلك المقاربات محدودة التأثير، ولم يُصَر إلى أن تتحول تياراً غالباً ومنتشراً في التفكير الإسلامي حتى عصرنا الحالي الذي تفرض فيه الحداثة والعولمة وسواهما تحديات أمام العقل المسلم لكي يكون، في الآن نفسه، منسجماً مع دينه، ومنفتحاً ومتفاعلاً بكل ثقة وإيجابية مع العصر وشروطه.


[1] انظر: محمد أركون، نحو تاريخ مقارن للأديان التوحيدية (بيروت: دار الساقي، 2011)، ص ص 167-168

[2] انظر في ذلك: محمد مجتهد الشبستري، قراءة بشرية للدين، ترجمة أحمد القبانجي (بيروت: منشورات الجمل، 2009)، ص ص 155-156

[3] المرجع السابق، ص 156

[4] عبد الجواد ياسين، السلطة في الإسلام، مرجع سابق، ص 137

[5] المرجع السابق، ص 169

[6] المرجع السابق، ص 186

[7] رضوان زيادة، وكيفين جيه أوتول، صراع القيم بين الإسلام والغرب (دمشق: دار الفكر، 2010)، ص 104

[8] محمد أركون، نزعة الأنسنة في الفكر العربي: جيل التوحيدي ومسكويه، ترجمة هاشم صالح (بيروت: دار الساقي، 1997 )، ص 11