الفنّ والحرّيّة


فئة :  مقالات

الفنّ والحرّيّة

الفنّ والحرّيّة([1])

يجب أوّلاً أن نحدّد ما الذي نقصده بالفنّ؟ الفنّ الذي نقصده اليوم ليس هو التمكّن قطعاً كما كان عليه الأمر عند الإغريق أو كما فهمته العرب؛ تقنية (Technè). الفنّ ممارسة بشريّة تفضي إلى إنتاج الجميل. والجميل كما حدّده هايدغر آخر مفكّر في الجمال، قبل أن ينتقل الفنّ إلى إنتاج شيء في العالم المعاصر، هو شكل من أشكال تجلّي الحقيقة. إذا كان الأمر هكذا، فكيف يمكن أن نطرح سؤالاً حول علاقة الفنّ بالحرّيّة؟ هل يمكن للحقيقة أن تتجلّى وفق قواعد وضوابط تُحدِّدُ لها سلفاً مساحة تَجَلِّيها؟ هل يمكن لذلك الذي تتجلّى الحقيقة عبره أن يفاوض القوانين ويتنازل قيد أنملة عن جزء ولو كان بسيطاً من تلك الحقيقة؟ الإتيان بالحقيقة أو إفساح المسالك لها عبر الجسد يرتبط أيّما ارتباط بعمليّة في مستوى تعقيد الفنّ ألا وهي الإبداع. لم يكن الأمر مطروحاً عندما كان الفنّ تقنية وتطبيقاً لقواعد موروثة، لكنّه صار كذلك عندما أصبح تعريف الفنّ هو الخلق والإبداع على غير مقالٍ سبق. فكيف تمّ ذلك؟

******

في مسلسل عائلة تيدور (Les Tudors) يذهب كاردينال بلاط الملك إلى روما ليناقش مع البابا إمكانيّة السماح لهنري الثامن بالطلاق والزواج من امرأة ثانية. كانت المهمّة صعبة للغاية. نحن في السنوات الأولى للقرن السادس عشر، ما يقارب العشرين سنة على خروج آخر ملوك بني الأحمر من غرناطة واكتشاف أمريكا من طرف كريستوف كولومبوس. وفي حضرة البابا، وبينما الكاردينال يقدّم آيات الولاء والطاعة لسدّة كبير الكاثوليك، يخرج من وراء ستارة على يسار الكرسي المقدّس شخص يلبس بطريقة لا علاقة لها برجال الكنيسة ويتلفظ بعبارات تمسّ مباشرة الذات الإلهيّة. يستقيم الكاردينال منزعجاً ويتوجّه نحو الأب الأعظم: "مولاي إنّه يسبّ الذات الإلهيّة، من يكون"؟ يجيبه البابا بهدوء: "لابأس، من حقه ذلك لأنّه عبقري". يتعجّب الكاردينال القادم من شمالٍ أوروبي غارقٍ في حروب دينيّة.

كان البابا يتحدّث عن ميكيل أنجيللو (Michelangelolo) أحد أكبر فنّاني عصر النهضة الإيطاليّة الذين صنعوا مجد أوروبا. كان حينها بصدد إنجاز جداريّة (Fresque) في سقف كنيسة الفاتيكان (la chapelle de Sixtine) موضوعها مسألة الخلق، ويظهر فيها الله على هيئة شخص مفتول العضلات يشير بإصبعه في اتجاه كائن بشري، قد يكون آدم. كانت هذه الأمور كلّها تحدث داخل الكنيسة بقرار من البابويّة. لم تكن الكنيسة وقتها تفرّق في مسألة الإتيان بالجديد بين الرسم والميكانيكا والجغرافيا والملاحة البحريّة والفنون الحربيّة...، عكس ما كان يحدث في العوالم المجاورة لأوروبا، التي كانت الأفكار فيها قد تحجّرت، وتوقّف فكر الفقهاء عند تحشية النصوص وتكرار تفاسير الأوّلين ورفعها إلى مرتبة التقديس. ما كان يجري على ميكيل أنجيللو كان يجري على المبتكرين الآخرين، كانت الكنيسة تطمح إلى السيطرة على العالم، لذا تركت الخيال يتفتّح ولم تضع له حدوداً، بل كانت تدافع عن المبدعين.

تكون الكنيسة هنا قد اعترفت بشيء دون أن تسنّه كقانون، وهو اعترافها بأنّ الإبداع لا علاقة له بسلطة خارجة عن ذات الفنّان. عندما كان الناس يعتبرون أنّ الإبداع مصدرُهُ قوى خارجة عن ذات المؤلف كانوا يفرّقون بين قوى خيِّرة وقوى شرّيرة، تكون الأولى مُلهِمة لإبداع مقبول ومحبوب، وتكون الأخرى مُلهِمة لعمل شيطاني تجب محاربته بأشكال قد تصل إلى حذف الجسد الذي يقبل مثل هذا الإلهام. اعتراف الكنيسة بفرديّة الفنّان (والمبتكِر بصفة عامّة) وتميّزه عن بقيّة العامّة لم يكن في الواقع إلّا بداية مسلسل نشأ كتّيار داخل المجتمع الأوروبي واخترق مجموع المعارف والممارسات البشريّة. سوف تبدأ مع الفنّ والميكانيكا والجغرافيا، وسوف تكتسح الفلسفة مع الكوجيتو الديكارتي. فعبارة (Je pense donc je suis) تُترجَم عادة إلى العربيّة بشكل سيّئ مثل: "أنا أفكر إذن أنا موجود". ترجمة كهذه لا تؤدّي المعنى المقصود ولا الإجرائي لهذه العبارة. الصحيح هو "أنا أفكر إذن إِنِّيٌ"، والإِنِّيّةُ تعني الفرديّة أي التخلّص من الوصاية الخارجة عن الذات: وصاية الدين، ووصاية السياسة، ووصاية القرابة الدمويّة (القبيلة)؛ لأنّ الكوجيتو تأكيد للذاتيّة وليس إقراراً بالوجود فقط. فالوجود مُتَأَتٍّ للحجر والشجر والدواب كما للإنسان، لكنّ الإنيّة لا تخصّ إلّا الإنسان الذي يعيها وعليها يؤسّس وجوداً أصيلاً كما يقول هايدغر.

سوف نفهم معنى الإنيّة عندما تكتسح عالم حرّيّة الأفراد، وعندما تُطرح كمطلب سياسي عند الموسوعيين الفرنسيين، وخصوصاً عند جان جاك روسو في كلّ كتبه وخاصّة في كتابه في أصل التفاوت بين البشر. في هذه الأجواء الفكريّة الممهّدة للثورة الفرنسيّة سوف يتحوّل الفكر تحوّلاً عميقاً، وسوف تأخذ الحرّيّة معناها الذي تدافع عنه الإنسانيّة اليوم. لا يرث الإنسان إلّا خصائصه البيولوجيّة، لا يرث وضعيته الاجتماعيّة ولا عقائد ذويه وحكّامه وأفكارهم. كلّ الأفكار والمعتقدات والوضعيّات الاجتماعيّة مكتسبة أو مفروضة على الفرد، وعليه أن يتخلّص منها إن هو أراد أن يكتشف نفسه الحقيقيّة أو إِنِّيَتَهُ. ولا تطفو الإنيّة على سطح الوعي إلّا إذا كانت غير مشوبة بالثقافة المكتسبة المفروضة من طرف الجماعة. هذا التوجّه هو الذي تأسّست على مبادئه الأستيطيقا أو علم الجمال حسب الترجمات العربيّة الرائجة في سوق المفاهيم المترجَمة.

تأسّست إذن نظريّة في الإبداع مفادها أنّ الفرد، إن هو أراد أن يبدع، فعليه أن يتخلّص من المعتقدات أيّاً كانت مصادرها أو مراجعها، وألّا يخضع لأيّة سلطة سياسيّة (إيديولوجيّة كما يقال اليوم)، وألّا يرتبط بأيّ نسق اجتماعي أو عائلي. يجب أن يرتفع إبداعه عن كلّ هذه الأطر الفكريّة والدينيّة والإثنيّة ليتبوّأ مكانة كونيّة متعالية عن كلّ هذه الخصوصيّات. وهذا الاتجاه هو الذي كان أساس الفكر الرومانسي الداعي إلى العودة إلى الطبيعة. وقد فهم عدد كبير من الناس أنّ العودة إلى الطبيعة هي الخروج إلى الغابات والبقاء متأمّلاً أمام مشاهد غروب الشمس وأمواج البحر العاتية؛ أكيد أنّ هناك شيئاً من هذا القبيل يوجد في فنّ الرومانسيّة، لكنّ العودة إلى الطبيعة تعني العودة إلى الطبيعة البشريّة عارية من كلّ ما عَلِق بها من أفكار ومعتقدات، والتي تسمّيها الأنثروبولوجيا "الثقافة". الطبيعة في مقابل الثقافة إذن.

وعلى هذا الأساس تكون العمليّة الإبداعيّة مشروطة بالعودة إلى أعماق النفس البشريّة والغوص فيها حتى الوصول إلى تلك المنطقة التي لم تصلها لا اللغة ولا الصوت ولا اللون، والتي تأخذ فيها المشاعر الصور نفسها، لا يختلف فيها البكاء عن الضحك ولا الحزن عن الفرح، ليس فيها شيء اسمه الخير وآخر اسمه الشّر. فضاء في أعماق النفس تَمَّحي فيه القياسات والمسافات والأحكام والشرائع. وكأنّي به تلك الأرض التي يتحدّث عنها ابن عربي في الفتوحات المكّيّة، التي يسمّيها الأرض التي خُلِقت من خميرة آدم، وهي الأرض التي تلتقي فيها الأرواح السعيدة وفق سقراط قبل أن تنتقل إلى اليوم الآخر. في هذا الفضاء إذن ليست هناك قياسات للطيِّب والخبيث، للشّر والخير، للجميل أو القبيح. هناك يغوص المبدع، يغطس في مائها ويعود مضمّخاً بسوائلها. لا يهمّه إن كان ما عادت به روحه يتوافق وقوانين الدين أو الأخلاق أو الدولة أو التوافقات الاجتماعيّة. ما تعود به روحه هو ما يؤسّس حقيقة الوجود البشري وإِنِّيَةَ الفرد.

من هذا المنطلق لا يمكننا أن نتحدّث عن حدود للإبداع، عن قوانين تؤطّره.

لا يمكن أن نتحدّث عن المحظور والمسموح به عندما يتعلّق الأمر بالإبداع.

  


[1] نشر هذا المقال في مجلة يتفكرون الصادرة عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود، عدد 14