الكندي واستقبال الفلسفة اليونانية


فئة :  ترجمات

الكندي واستقبال الفلسفة اليونانية

الكندي واستقبال الفلسفة اليونانية

أعطانا الفصل السابق فكرة عن الأثر الضخم لحركة الترجمة في عصر الخلافة العباسية، والتي نقلت الأعمال العلمية والأدبية اليونانية إلى العربية([1]). ولم يكن الجزء الفلسفي من هذه الأعمال يشكِّل سوى جزء صغير من هذه الحركة. فقد سارت ترجمة الأعمال الفلسفية جنباً إلى جنب ترجمة الأعمال العلمية، مثل مؤلَّفات جالينوس الطبية، ومؤلَّفات إقليدس في الرياضيات وبطليموس في الفلك. وكانت أكثر مجموعات الترجمة إنتاجاً في العصر العباسي من حيث كمِّيَّة الأعمال المترجمة، هي مجموعة حنين بن إسحق (808 - 873) وابنه إسحق بن حنين (ت 910). أنتج حنين ومدرسته ترجمات كثيرة، تضم أعمال أفلاطون وأرسطو (خاصة أعمال أرسطو المنطقية)؛ ويتميز حنين بترجماته لمؤلفات جالينوس، والتي شكَّلت أساس أعمال حنين نفسه في الطب([2]).

وقد سبقت هذه المجموعة مباشرة؛ مجموعة أخرى تحلَّقت حول أبي يوسف يعقوب بن إسحق الكندي (ت 870). لم تنتج مجموعة الكندي ترجمات كثيرة كالتي ترجمتها مجموعة حنين، إلا أن بعض الأعمال التي ترجمتها كان لها أثر حاسم في طريقة الاستقبال العربي للفكر اليوناني. ومن شبه المؤكَّد أن اختيار النصوص المستهدفة للترجمة قد حددته جزئياً الاهتمامات الفلسفية للكندي نفسه ولمعاونيه. وقد اتخذت الترجمات أشكالاً عديدة؛ فالبعض منها التزم بالنص الأصلي، لكنه مضطرب بالمقارنة بترجمات حنين، والتي كانت أفضل منها لاعتمادها على أكثر من مخطوط للنص الواحد، ولاعتمادها على مصطلحات فنِّيَّة أكثر دقَّة ونضجاً([3]). والمثال [على اضطراب الترجمة] هو ترجمة مجموعة الكندي لكتاب أرسطو «ما بعد الطبيعة»([4]). وكانت ترجمات أخرى عبارة عن إعادة صياغة بتصرف كبير للنص اليوناني، حيث تحرَّرَ المترجم من النص الأصلي، وغَيَّرَ من ترتيب الفقرات، بل وأضاف إليها فقرات كتبها أعضاء مجموعة الترجمة بأنفسهم. والمثال على ذلك تلخيص لكتاب «النفس» لأرسطو([5])، والكتاب الشهير «أثولوجيا أرسطاطاليس»*، و«كتاب الإيضاح في الخير المحض»** (المعروف في اللاتينية بـ«كتاب العلل» Liber de Causis).

تعطينا المقاربة الـمُستخدمة في هذه الترجمات المتصرِّفة مُؤشراً على الهدف من حركة الترجمة، وبالأخص هدف جماعة الكندي. لم يترجم الكندي نفسه، ومن المحتمل ألا يكون قد قرأ باليونانية، لكنه أشرف على عمل المترجمين واستفاد من ترجماتهم في مؤلفاته([6]). وقد وصف الكندي مشروعه على أنه يتمثل في: «إحضار ما قال القدماء في ذلك قولاً تاماً... وتتميم ما لم يقولوا فيه قولاً تاماً، على مجرى عادة اللسان وسنَّة الزمان»*. وهذا ما تطلَّب وضع معجم عربي للفلسفة، وهو ما بدأته جماعة الكندي وظهر نتاجه في أعماله. وعلى سبيل المثال؛ فالكتاب المسمَّى «رسالة في حدود الأشياء ورسومها»، والمرجح أنه للكندي، يقدِّم عرضاً شاملاً للمعجم الفلسفي العربي حديث النشأة آنذاك، معتمداً على المصادر اليونانية**. وكما سنرى في حينه، فإن تقديم الكندي للفكر اليوناني كان مقصوداً منه، من بين أشياء أخرى، التعامل مع مشكلات فكرية معاصرة له، من بينها مشكلات ناشئة عن علم الكلام.

وقد سعى الكندي لتحقيق هذه الأهداف في رسائل مختلفة الطول، موجَّهة لرعاته (وأغلبها لأحمد بن الخليفة المعتصم بالله). وكان إنتاج الكندي غزيراً. وتوضح قائمة أعماله أنه كتب المئات من الأعمال في مجالات متنوِّعة، تغطِّي الميتافيزيقا والأخلاق وعلم النفس، والطب والرياضيات والفلك والبصريات، بالإضافة إلى موضوعات عملية مثل الكيمياء والمعادن([7]). وأغلب هذه الأعمال مفقود، والباقي منها يشهد على هشاشة التعليم الفلسفي في ذلك العصر؛ إذ وصلنا الكثير من أعماله في مخطوطة واحدة.

ونظراً لاعتماد الكندي على الفلسفة اليونانية، والتنوُّع الشديد للموضوعات التي كتب فيها، وعدم وجود رابط واحد في أعماله التي وصلتنا، فمن الصعب علينا أن نرى نسقاً متكاملاً يخرج منها. وليس هذا بالأمر المفاجئ؛ نظراً لسعي الكندي نحو إدماج مستويات مذهبية مختلفة من الفلسفة اليونانية، خاصة الأرسطية والأفلاطونية المحدثة. ولم يكن يقدر على تولي هذه المهمة بمصادره القليلة، لولا أن الطريق كان ممهَّداً له من قِبَل أواخر فلاسفة العصر القديم كما سنرى. فقد حذا الكندي حذوَهم في مؤلفاته الفلسفية*.

الميتافيزيقا باعتبارها لاهوتاً

من بين تلك الأعمال [التي ظهر فيها الجمع بين الأرسطية والأفلاطونية المحدَثة]، فإن أهمها وأكثرها تعقيداً هو «كتاب الكندي إلى المعتصم بالله في الفلسفة الأولى»، وهي رسالة من أربعة أجزاء (ويبدو أنها كانت في الأصل تحوي المزيد من الموضوعات، لكنها مفقودة)، ومخصَّصة لدراسة موضوع الميتافيزيقا([8]). والجزء الأول الذي يعلن عن الهدف من الكتاب، هو في حقيقته دفاع عن الفكر اليوناني؛ إذ يُقِرُّ الكندي بأن الفكر اليوناني يجب التسامح معه والترحيب به، على الرغم من مصدره الخارجي، لأن بحث المسلمين عن الحق يُدَعِّمه مَن بحث عنه قبلهم. ولا ينسى الكندي الإشارة إلى دلالة ميتافيزيقا اليونان لقُرَّائه المسلمين. فالميتافيزيقا في نظره تتضمن، بل وهي في الأصل، بحث في الله [الربوبيَّة بتعبيره]: «وأشرف الفلسفة وأعلاها مرتبة الفلسفة الأولى، أعني عِلم الحق الأول الذي هو علَّة كل حق»**. وقد أثَّر هذا الاختزال للميتافيزيقا إلى اللاهوت على أجيال عديدة من الفلاسفة في قراءتهم لأرسطو، وقد صرح ابن سينا فيما بعد أن الفارابي هو الذي حرَّره من سوء فهمه لميتافيزيقا أرسطو، وقد تمت الإشارة إلى أن سوء الفهم هذا كان سببه هو تفسير الكندي لمبحث الميتافيزيقا الأرسطي على أنه يبحث في الألوهيَّة حصراً([9]). لقد نظر الفارابي إلى الميتافيزيقا على أنها بحث في الوجود بما هو موجود، وأنها لا تبحث في الإله إلا بالعرض [لا بالذات] وتبعه ابن سينا في ذلك. أما الكندي، فعلى العكس، إذ لا يترك أي مسافة فاصلة بين الميتافيزيقا واللاهوت.

وبالطبع، فإن الجزء الذي وصلنا من «كتاب الكندي في الفلسفة الأولى» يبلغ ذروته النهائية بتقرير عن طبيعة الله، إلا أن الطريق الذي سلكه الكندي لهذه الغاية غريب. ورغم أن كتابه مليء بالإحالات إلى أرسطو؛ إلا أنه يحوي موضوعين غير أرسطيَّين بالمرَّة. الأول هو رفض الكندي لأطروحة أرسطو في قِدَم العالم. والحجج التي يثبتها الكندي ضد قِدَم العالم مأخوذة من يحيى النحوي؛ الفيلسوف المسيحي اليوناني الأفلاطوني المحدث الذي أحدث نزاعاً شهيراً ضد أرسطو في هذه القضية بالذات([10]). تُظهر هذه الحجج أن العالم المخلوق لا يمكنه أن يكون لامتناهياً، وأن الزمان بما أنه مقياس الحركة؛ لا بُدَّ له من بداية. وفي ذلك يختلف الكندي عن التراث الأرسطي اللاحق له، فقد اشتهر ابن سينا وابن رشد بدفاعهما عن أطروحة أرسطو في قِدَم العالم.

وأما الموضوع الثاني في كتاب الكندي «في الفلسفة الأولى»، فهو مناقشته للوحدة. يبدأ الكندي بتوضيح أن كل الأشياء في العالم المخلوق تتصف بالوحدة والتَّعدُّد معا؛ فعلى سبيل المثال: فالأشياء المكوَّنة من أجزاء هي كثيرة في أجزائها، واحدة؛ لأن أجزاءها تُكوِّن شيئاً واحداً. ولا يمكن لذوات الأجزاء أن تكون واحدة بالحقيقة؛ لأن الواحد بالحقيقة عند الكندي هو الواحد من كل جهة، وغير المكوَّن من أجزاء. ولذلك، فإن المخلوقات ترجع إلى مصدر للوحدة، تكون به واحدة، ويكون هو الواحد بإطلاق الذي ينتفي فيه أي كثرة([11]). ويطور الكندي حجَّته بالاستعانة بكتاب «المقولات» لأرسطو (وكذلك بكتاب إيساغوجي لفرفوريوس) كي يعرض لنا الأنحاء التي يمكن أن «تُقال» على الشيء، وهي تشمل الأعراض والأجناس والأنواع وأصناف أخرى كثيرة، ثم يذهب الكندي إلى أن أيَّاً ما يقال على شيء يجب أن يتضمن الكثرة. وهذا واضح من المثال القائل «هذا الفيل يزن طنَّين» و«هذا الفيل عمره عشرون عاماً»، حيث نجد أننا ألحقنا بالفيل الوزن والزمن، وكلاهما منقسمان بالعدد (أي: بالاثنين في حالة الأطنان، والعشرين في حالة السنوات). وهذا أيضاً ما ينطبق على قضايا [لا تتَّضح الكثرة من منطوقها لكن تتضمَّنها]، مثل «هذا جسم» و«هذا الحيوان ينتمي إلى نوع الفيل»؛ إذ نجد في هذه الحالة نوعين من الكثرة: الأول هو: «الجسم» المنقسم لكثرة نظراً لتعدُّد أجزائه، والثاني هو مقولة «الفيل»، إذ تتضمَّن الكثرة لأنها تشير إلى أفيال كثيرة. وبالتالي فليس هناك تصوُّر أو محمول يُحمل على شيء يتضمن الوحدة المطلقة.

ولأن الله الذي هو مصدر كل وحدة، هو الواحد الحق والغاية من البحث كله، فإن حجة الكندي تتضمن لاهوتاً سلبياً*حاسماً؛ فكل ما يمكن أن يُقال عن أي شيء؛ لا يمكن أن ينطبق على الواحد الحق. يقول الكندي: «فالواحد الحق إذن لا ذو هيولى، ولا ذو صورة، ولا ذو كمِّيَّة، ولا ذو كيفيَّة، ولا ذو إضافة، ولا يوصف بشيء من باقي المقولات، ولا ذو جنس، ولا ذو فصل، ولا ذو شخص، ولا ذو خاصَّة، ولا ذو عرض عام، ولا متحرك... فهو إذن وحدة فقط محض»**. والواضح أن هذا الإقرار يحبط كل علماء اللاهوت، فالنتيجة منه هي أننا لا يمكننا قول أو معرفة أي شيء عن الله. ورغم ذلك يكمن في هذه الأفكار أساس قوي لِلَّاهوت؛ لأن الكندي يؤكد على شيئين خاصين بالله: أن الله واحد، وأنه أصل الوحدة في المخلوقات (وكما سنرى بعد قليل، فإن هذا التأكيد حاسم للغاية في فهم الكندي لله باعتباره الخالق. فهو يعتقد أن الإله يجعل الشيء واحداً بأن يخلقه). ويمكننا بالتالي الوصول إلى منهج عام للحديث عن الله؛ فأي صفة يحوز عليها الله، فهو يحوز عليها بإطلاق، وهو خالٍ بالمطلق من نقيضها؛ كما أنه مصدر هذه الصفة لكل الكائنات. وفي هذه الحالة، فلما كان الله واحداً؛ فهو لا يمكن أن يكون متعدداً بأي جهة، وهو علة كل وحدة.

وفي عمل آخَر له، «في الفاعل الحق الأول التام، والفاعل الناقص الذي هو بالمجاز»، يستخدم الكندي المنهج نفسه للتوكيد على أن الله «فاعل»، وهو ما يعني أنه «علة فاعلة». إنه بالأحرى عند الكندي الفاعل الوحيد؛ لأنه وحده الذي يفعل دون أن يفعل فيه شيء آخَر. وبعبارة أخرى؛ فهو فاعل بالتمام وبالمطلق، وليس منفعلاً بأي جهة، تماماً كما أنه الواحد بإطلاق وليس متعدداً بأي جهة. أما الأشياء المخلوقة؛ فهي فاعلة مجازاً، لأنها لا تفعل شيئاً سوى إيصال فعل الله في سلسلة من العلل (تماماً مثلما يقول الكندي في «كتاب الفلسفة الأولى»: إن الأشياء واحدة مجازاً؛ لأنها بالفعل كثيرة). والفكرة المحورية هنا هي أن الله يفعل بأسباب وسيطة: فالله يفعل في شيء، ثم يفعل هذا الشيء في شيء آخَر، وهكذا. لكن هذه العلل الثانوية الوسيطة ليست فاعلة على الحقيقة؛ لأنها لا تفعل سوى أن تنقل فعل الله إلى الحلقة التالية من سلسلة العلل [البادئة بالله].

والواضح أننا بذلك قد ابتعدنا للغاية عن المفكِّر الذي كان له أبلغ الأثر في الكندي، وهو أرسطو؛ ذلك لأن توصيف الكندي لله وفعله يذكِّرنا بالنظرية الأفلاطونية في الـمُثُل. لقد شدَّد أفلاطون على أن الـمُثُل، بعكس الأشياء المادية، تنفي ما يناقضها: فالفيل الثقيل يكون خفيفاً مقارنةً بجبل، لكن مثال الثِّقَل في ذاته ليس خفيفاً بأي جهة. وبالمثل فالله الواحد والفاعل على الحقيقة، ليس كثيراً ولا منفعلاً بأي جهة. ورغم ذلك لم يكن الكندي يعرف أفلاطون جيداً، وما كان يعرفه عنه أتاه بطريق غير مباشر. وعلى العكس، فقد كان الكندي يعرف أرسطو جيداً، وكان يستخدم مصطلحات ومفاهيم أرسطو دوماً، في كتابه «في الفلسفة الأولى» وفي غيره من الأعمال. لكنه كثيراً ما كان يلجأ لهذه المفاهيم [الأفلاطونية] للدفاع عن رؤى وإقامة حجج ليست موجودة عند أرسطو. وبذلك، فإذا انتقلنا مباشرة من أفلاطون إلى أرسطو إلى الكندي؛ فلن يكون هناك إلا تواصل بسيط للغاية بين الفلسفة اليونانية والفلسفة العربية المبكرة.

لكن ما سبق هو مجرَّد انطباع مضلِّل، يمكننا إزالته بالوضع في الاعتبار أن أرسطو الذي وصل للكندي كان بتفسير وتأويل [الأفلاطونية المحدثة]. وقد ذكر الفصل السابق بعضاً من أعلام هذا التيار وأشار إلى أثرهم في الفلسفة العربية، لكن الأهمية الكبيرة للفلسفة القديمة في عصرها المتأخر بالنسبة للكندي جديرة بأن نخصِّص لها عرضاً مركَّزاً، لسد الثغرة بين أرسطو والكندي. فلدينا أولاً مدارس الفلسفة في العصر الهلينستي: الرواقيون والشُّكاك والأبيقوريون. ويبدو أن المدرستين الأخيرتين لم تتركا أثراً على الكندي، وأن تأثير الرواقية كان خافتاً ولا يظهر إلا في مذهبه الأخلاقي؛ أي: في عمله العزائي «في الحيلة لدفع الأحزان»، إذ يستخدم الكندي أمثولة من كتاب إبيكتيتوس في الأخلاق، حيث يقارن الحياة على الأرض برحلة في البحر يقطعها عبور سريع ليابسة وسط هذا البحر([12]).

أما التأثير الأكبر على الكندي فكان من الأفلاطونية المحدثة، والتي تبدأ من أفلوطين (205 - 270) وحتى سنة 529، عندما أغلق الإمبراطور جستنيان مدارس الفلسفة في أثينا. كان الكندي يعرف صيغاً مختلفة من تاسوعات أفلوطين و«عناصر اللاهوت» لبروقلس؛ اللَّذَين نُقِلا إلى العربية تحت اسم «أثولوجيا أرسطاطاليس» للكتاب الأول، و«الإيضاح في الخير المحض» للكتاب الثاني. كان الاعتقاد الشائع [في العصر الإسلامي] أن هذين الكتابين لأرسطو، لكن من شبه المؤكد أن الكندي كان يعلم أنهما لم يكونا من مؤلفاته. لكنه استمرَّ في النظر إلى أرسطو والأفلاطونية المحدثة على أنهما على اتفاق، وذلك لسببين، الأول؛ أن الكندي كان يتولى مهمة الدعاية لقوة وصدق الفلسفة اليونانية، ولذلك كان مُهيأً لأن يرى في كل الفكر القديم نسقاً واحداً متَّسقاً. وكان مقتنعاً بصدق فلسفة أرسطو والأفلاطونية المحدثة معاً، وبالتالي لم يكن مستعداً للاعتراف بأنهما غير متوافقين مع بعضهما البعض([13]). ثانياً، كان الكندي يقرأ أرسطو مع كم هائل من الشروحات، للإسكندر الأفروديسي الأرسطي [القح]، وللأفلاطونيين المحدثين أمثال فرفوريوس ويحيى النحوي([14]).

وهكذا، فإن تفسير الكندي لأرسطو والمبتعد عن المشائية الصريحة هو علامة على الاستمرار بين الفكرين اليوناني والعربي؛ لأنه يرجع بأصوله إلى التأويلات الأفلاطونية المحدثة لأرسطو وردود الأفعال عليه من هذا التيار. وقد رأينا فيما سبق أمثلة عديدة على ما نقول. وربما تكون أهم نقطة في هذا الصدد هي الفكرة الشائعة المأخوذة آنذاك كأمر مسلَّم به: إذ اعتقد الكندي في الله أنه علة فاعلة، وليس مجرد علة غائيَّة، واعتقد كذلك أن أرسطو كان سيوافق على هذا الفهم، على الرغم من أن العلة الفاعلة تنتج آثارها بنفسها، في حين أن الإله عند أرسطو علة غائيَّة فقط، لا يعدُّ علة إلا بكونه موضوعاً للعشق. وفي ذلك كان الكندي، وربما دون وعي منه، يتبنى تفسير أمونيوس بن هرمياس، الفيلسوف الأفلاطوني المحدث الذي كتب عملاً خصَّصه بالكامل لإثبات أن إله أرسطو هو علة فاعلة كما أنه علة غائيَّة([15]). ويمثِّل هذا التفسير إسهاماً فارقاً من الكندي في تاريخ الفلسفة العربية*؛ لأنه يجعل من الممكن النظر إلى إله أرسطو (الذي هو عقل خالص مفارق، وعلة لا متحركة للحركة)، على أنه متوافق مع نظريتين لاهوتيتين متناقضتين. الأولى هي النظرية الأفلاطونية المحدثة، وفيها يصدر العالم عن الله، من ذاته ومن خيريته وقوَّته، بتوسط العقل الكوني. والثانية هي صورة الله باعتباره خالقاً في الإسلام وغيره من الأديان. وفي النظريتين؛ فإن الله علة فاعلة ليس مجرد علة غائيَّة [كما عند أرسطو].

والحقيقة أن الكندي يعتمد كل النظريات الثلاث عن الله، الأرسطية والأفلاطونية المحدثة ونظرية الخلق الدينية؛ فهو يقول إن الله هو المحرك الذي لا يتحرك، وأنه كذلك يفيض من ذاته لمخلوقاته. وهو هنا يستخدم مصطلح «الفيض»، وكما رأينا في رسالته «الفاعل الحق الأول التام»؛ يؤكد على الفكرة الأفلاطونية المحدثة الذاهبة إلى أن الله يفعل في العالم من علل وسيطة. وفِعْلُ الله عنده هو الخلق، الذي يعني عنده «فإن كان كوناً عن ليس؛ فإن تهَوِّيه أيساً عن ليس، فكون...» (أبو ريدة 118)، وأن الله هو مبدأ الوجود و«الإنّيّة الحقة» (أبو ريدة 215)، تماماً مثلما هو مبدأ الفعل والوحدة. والحقيقة أن كل هذه الخصائص تبدو مترابطة بشدة، بل متساوية. فعندما يخلق الله، يفيض بالوحدة أو الوجود على شيء ما، والوحدة والوجود هما الشيء نفسه بالنسبة لله («ليس وحدته شيئاً غير هويته» أبو ريدة 161). وهو يعبِّر عن هذه الفكرة بطريقة أرسطية أكثر عندما يقول إن الله يخلق الشيء بإخراجه [من القوة إلى الفعل]: «له القدرة على إخراج المعاني إلى الكون» (أبو ريدة 257؛ 375). يقدِّم الكندي هذه الفكرة بمصطلحات فنِّيَّة، لكنها تتمتع بمقبولية مباشرة. فعندما يخلق الله فيلاً على سبيل المثال؛ فهو يجعل الفيل «يكون»؛ أي: يجعله واحداً بجهة ما؛ أي: يجعله «فيلاً واحداً»، ليس فيلاً يمكنه أن يوجد، بل فيل يوجد بالفعل.

سوف يستمر هذا التفسير للخلق الإلهي؛ الذي يتصف بأنه أرسطي وأفلاطوني محدث وإسلامي في وقت واحد، على امتداد التراث الفلسفي العربي. وقد سبق لعدد من الفلاسفة اليونان المتأخرين الإلماح إلى هذا التفسير. فالنظرية القائلة إن الله هو المبدأ الأول الذي هو الواحد بإطلاق ومصدر الوحدة في كل الأشياء؛ نجدها لدى كل من أفلوطين وبروقلس، اللَّذَين يأخذ منهما الكندي في كتابه في «الفلسفة الأولى». والفكرة القائلة إن الله هو مبدأ الوجود ليست موجودة بنصِّها لدى أفلوطين، بل في الصيغة العربية لتاسوعاته وهي «أثولوجيا أرسطاطاليس»، كما في «الإيضاح في الخير المحض»([16]). أما نزاع يحيى النحوي ضد أرسطو؛ فقد كان مصدراً لتعريف الكندي للخلق على أنه إخراج الوجود من اللاوجود*.

يتضمن كتاب الكندي «في كمِّيَّة كتب أرسطو» أوسع معالجة قدَّمها لنظرية الخلق، على الرغم من اضطراب هذه المعالجة، وفيها يأخذ الكندي من كتاب يحيى النحوي «الرد على أرسطو في قِدَم العالم»([17]). ففي معرض هجومه على أرسطو؛ ذهب النحوي إلى أن الله يخلق بأن يأتي بالشيء من اللاوجود إلى الوجود، ويكرر الكندي نفس الفكرة. وتكرر حجَّة الكندي في خلق العالم في كتابه «كمِّيَّة كتب أرسطو» نفس طريقة يحيى النحوي في استخدام أرسطو ضد نفسه. فقد وضع أرسطو مبدأً أساسياً، وهو أن كل تغيُّر ينطوي على الانتقال من نقيض لنقيض. فالشيء كي يصير ساخناً؛ فقد كان بارداً. ويطبق الكندي هذا المبدأ على فعل الله في الخلق، ذاهباً إلى أن هذا الفعل ينطوي على انتقال من نقيض لنقيض. وفي حالة الخلق، فأن يأتي الله بشيء إلى الوجود؛ يعني أنه لم يكن موجوداً. وهذا ما يعطي للكندي مبرِّراً، مثلما كان الحال مع النحوي، للقول بلحظة أولى في الخلق. وإذا لم تكن هناك لحظة خلق أولى، وكان العالم قديماً، فسوف يكون العالم موجوداً على الدوام، ولن تكون هناك حاجة لله كي «يخلق» العالم من الأصل؛ أي: أن يأتي به من اللاوجود إلى الوجود.

النفس

لم تكن أفكار النحوي هذه هي وحدها التي أثَّرَت في الكندي. إن أحد أهم أعمال الكندي هو رسالته «في العقل»([18]). ولا يمكن فهم هذه الرسالة إلا بربطها بأواخر الفلاسفة اليونان؛ إذ هي تعكس فهم هؤلاء الفلاسفة للمقالة الثالثة من كتاب أرسطو «في النفس» De Anima. فكي يوضح الإسكندر الأفروديسي وثامسطيوس ويحيى النحوي ما يقوله أرسطو عن العقل في هذا الكتاب؛ ميَّزوا بين مستويات أو أنواع عديدة من العقل. ويبدو أن تصنيف العقول هذا قد وصل للكندي عن طريق يحيى النحوي، على الرغم من أن الكندي لم يوافقه في كل تفاصيل معالجته.

يمثِّل الكندي النظرية القائلة إن هناك عقلاً مُفَارِقاً أول، وأن هذا العقل الأول ليس الإله، عكس ما ذهب بعض فلاسفة العصر القديم المتأخر. وتفترق العقول الإنسانية الفردية عن هذا العقل الأول. فالعقول الإنسانية تبدأ وهي في حالة الإمكان؛ أي: بالقدرة على تَعَقُّل التصورات الكلية. لكن لا تتحقق هذه الإمكانية إلا عندما يجعل العقل الأول، الذي هو في حالة تَعَقُّل دائم لكل المعقولات، «عقلنا الذي بالإمكان عقلاً بالفعل»؛ أي: يجعل العقل الإنساني يفكر بالفعل في معقول كليٍّ ما. لكن لماذا لا تستطيع العقول الإنسانية الوصول إلى هذه المعقولات بنفسها وبغير هذا العقل الأول؟ يجيب الكندي بأنه مثلما أن الخشب ليس محترقاً إلا بالقوة ويحتاج لشيء محترق بالفعل كي يحترق، مثل النار التي هي محترقة بالفعل وتجعل الاحتراق بالقوة الذي للخشب احتراقاً بالفعل، كذلك العقل الإنساني الذي هو عاقل بالقوة ويحتاج لسبب عاقل بالفعل كي يكون عاقلاً بالفعل. ويجب أن يكون هذا السبب عاقلاً لنفس المعقول الذي في حالة القوة في العقل الإنساني، تماماً مثل الاحتراق الذي هو بالفعل في حالة النار كي يسبِّب احتراقاً بالفعل للخشب. وسبب التحقق بالفعل في حالة التعقل هو العقل الأول. وعندما يحدث ذلك يُحْفَظ التصور الناتج في الحافظة الذهنية للإنسان، والتي يسميها الكندي «العقل المستفاد» - ومنذئذ يستطيع المرء التفكير بهذا التصور حينما يشاء.

والحقيقة أن الأهمية الفعلية لرسالة الكندي القصيرة في العقل هي في سبقها لنظريات الفارابي وابن سينا وابن رشد في الموضوع نفسه، أكثر من كونها مساعدة في فهم أعمال الكندي الأخرى. لم يكن من عادة الكندي أن يميز بين أنواع متعددة من العقل في أعماله الأخرى. لكن تحوي رسالته في العقل تمييزاً آخر على قدر كبير من الأهمية بالنسبة إلى مجمل نظريته في المعرفة الإنسانية. فالواضح مما سبق، أن الكندي لا يعتقد أن البشر يمكنهم تحصيل التصورات العامة أو الكلية من الإدراك الحسي؛ أي: إنني لا أستطيع تحصيل التصور العام عن «الفيل» بمجرد نظري لفيل واحد، أو حتى لسرب من الأفيال. يعتقد الكندي أننا عندما ننظر إلى فيل؛ نتلقَّى مجرد «صورة حسية»؛ أي: التمثُّل المرئي للفيل، وهو ما يجب التمييز بينه وبين التصور الخالص عن «الفيل» باعتباره نوعاً من الحيوانات، والذي يسميه الكندي كذلك «صورة»، لكنها صورة كليَّة. يظهر هذا التمييز بين الصورة الحسية والصورة العقلية في كتابيه «الفلسفة الأولى» و«رسالة في العقل»، وهو ما يُمكِّن الكندي من ضرب عصفورين بحجر واحد في تعامله مع التراث الفلسفي اليوناني؛ إذ يستطيع البقاء مخلصاً لتوجُّه أرسطو التجريبي في المعرفة بذهابه إلى أننا نعرف العالم باستقبالنا لصور حسية من خلال الحواس. وفي الوقت نفسه، يقبل الكندي عناصر أفلاطونية محدثة في نظرته للمعرفة. فوفقاً لإبستيمولوجيا الأفلاطونية المحدثة؛ يوجد عقل مفارق في حالة تعقُّل دائم لكل الصور العقلية الكليَّة، ويأتي البشر على تعقُّل هذه الصور العاقلة بفضل علاقة ما مع هذا العقل المفارق.

كانت هذه النظرية في المعرفة فارقة بالنسبة إلى معالجة الكندي للنفس. تتوزع نظريته في النفس عبر أعمال عديدة، لكنها تتركز في رسالته «القول في النفس»*، حيث تتبع النموذج الذي سبق وأن رأيناه. إذ تبدأ معالجته بطريقة توحي بالالتزام بأرسطو، لكنها تتَّجه نحو معالجة غير أرسطية بالمرة، يقول الكندي: إن النفس «بسيطة ذات شرف وكمال»، جوهر بسيط لامادي، ومتصلة بالعالم المادي بملكات بدنية([19]). وفي أسلوب يذكرنا بأفلاطون في محاورة «فيدون» وبالفيثاغورية وكتاب «أثولوجيا أرسطاطاليس»([20])؛ يشدد الكندي على أن هذه الملكات (الغضبية والشهوانية)، تنزع لأن تضلَّ النفس وتربطها أكثر بالبدن. أما خير النفس فيتمثَّل في تركيزها على جانبها العقلي. وإذا فعلت ذلك؛ فيمكنها خاصة بعد الموت، أن توجد في عالم عقلي خالص: «وإذا تجردت وفارقت هذا البدن وصارت في عالم العقل فوق الفلك؛ صارت في نور الباري» (الكندي، «القول في النفس»، في، أبو ريدة، ص275). ويمكنني أن أتيقَّن من أن نفسي سوف تبقى للمشاركة في هذا العالم الأخروي؛ لأن تمايزها عن بدني يعني أن موت بدني لن يعني موت نفسي. إن نفسي لكونها جوهراً بسيطاً لا مادياً؛ خالدةٌ.

ومثلما تعتمد إبستيمولوجيا الكندي على التمييز بين الصورة الحسية والصورة العقلية، فإن تصوره عن العالم الآخر يدعونا للتخلي عن المحسوسات والسعي للمعقولات. ويعبر عمله الأخلاقي الأساسي «في الحيلة لدفع الأحزان»([21]) عن هذه الثنائية:

فإنه ليس يمكن أن ينال أحد جميع مطلوباته، ولا يسلم من فقد جميع محبوباته؛ لأن الثبات والدوام معدوم في عالم الكون والفساد الذي نحن فيه. وإنما الثبات والدوام موجودين اضطراراً في عالم العقل (ص 31 - 32).

يؤلف الكندي هنا بين أطياف مختلفة من الفكر القديم، ويجمع فكرة رواقية مع فكرة أفلاطونية محدثة. تنص الفكرة الرواقية على أننا لا يجب أن نضع سعادتنا في أشياء العالم المادي؛ لأنها عرضة للفقد. والأحرى أن نتمسك بما هو أزليّ على الحقيقة فقط، وهنا تدخل الفكرة الأفلاطونية المحدثة؛ لأن الأشياء القيِّمة هي العالم المعقول بمعقولاته اللامادية الكلية. ومرة أخرى نرى الكندي، وهو يستبق تطورات لاحقة في الفلسفة العربية، حتى وهو يمثِّل صدى للفلسفة اليونانية، بقوله: إن الفلسفة هي الخير الأسمى لكل الإنسانية. ذلك لأن الفلسفة هي البحث في المعقولات الكلية، وتأخذنا بعيداً عن شهواتنا لأشياء هذا العالم. وما يمنحنا إياه الكندي ليس أقل ولا أكثر من النظر الدائم في هذه المعقولات، وهو رؤية الفيلسوف للفردوس([22]).

العلم الطبيعي

إن ما سبق يمكن أن يجعلنا نعتقد في عدم اهتمام الكندي بالعلوم الطبيعية، لكن هذا مجرد انطباع هو أبعد ما يكون عن الحقيقة. لقد كان الكندي يعتقد مثله مثل كل الأرسطيين ذوي الرؤى الأفلاطونية المحدثة، في أن العلم التجريبي جزء أصيل من الفلسفة. ويرجع هذا الاعتقاد جزئياً إلى [أنهم نظروا إلى] معرفة العالم المحسوس على أنها طريق غير مباشر للبحث في الله؛ يقول الكندي: «إن في الظاهرات للحواس... لَأَوضحُ دلالة على تدبير مُدبِّر أوَّل» وهو الله وعنايته بالعالم (الكندي، «في الإبانة عن العلة الفاعلة القريبة للكون والفساد»، أبو ريدة، ص214). إن قسماً كبيراً من أعمال الكندي المفقودة وتلك التي وصلتنا يختص بالعلوم الطبيعية، وهو ما يظهر من عناوينها. وأهم علمين طبيعيين يتَّضحان في أعماله التي وصلتنا هما الكوزمولوجيا والبصريات.

الكوزمولوجيا والتنجيم

مثل كل الذين أتوا بعده في التراث الفلسفي العربي؛ قَبِلَ الكندي الكوزمولوجيا التي أتته من بطليموس وأرسطو، حيث تحتل الأرض مركز الكون ذي الشكل الكروي. وهي مُحاطة بأفلاك توجد عليها الكواكب (بدءاً بالقمر والشمس اللَّذَين كانا عند القدماء من الكواكب)، وأخيراً بفلك النجوم القصوى. وتوجد إشارة لدى الكندي إلى أن النفس سوف تتَّصل بالأفلاك السماوية بعد الموت: وهو يُرجع هذا الرأي لفيثاغورس في «القول في النفس»، لكن أهم دور تقوم به الأفلاك عند الكندي؛ هو كونها أداة العناية الإلهية. ففي «رسالة في الإبانة عن سجود الجِرم الأقصى» خصَّصها الكندي لتفسير الآية القائلة: ﱡﱶﱷﱸﱠ (الرحمن، 6)؛ يُحاجج الكندي بأن النجوم يجب أن تكون حية؛ لأنها تتحرك بانتظام في دائرة كاملة حول الأرض، وبأن في النجوم نفوساً عاقلة، وحركتها هي بسبب طاعتها لأمر الله.

هذه الحركة الصادرة عن الله يسمِّيها الكندي عنواناً لأحد رسائله: «العلة الفاعلة القريبة للكون والفساد»*. وبعبارة أخرى؛ فإن السماء هي السبب المباشر لكل الأشياء التي تأتي للوجود أو التي تذهب للعدم في عالم العناصر الأربعة، عالم ما تحت فلك القمر. (أما العلة البعيدة والأصلية فهي الله نفسه). ويثبت الكندي ذلك بطريقة تجريبية: فهو يقول: إننا نرى بأنفسنا كيف أن المناخ والفصول المناخية تعتمد على حركات السماء، خاصة الشمس، كما أنه يشير إلى أن مظاهر وطباع الناس تختلف باختلاف أماكن معاشهم في العالم. وهذا أيضاً ما يُفسر بتأثير السماء. ولدى الكندي تفسيران لا يتوافقان مع بعضهما لكيفية حدوث هذا التأثير. ففي رسالته «في الإبانة عن العلة الفاعلة القريبة للكون والفساد»؛ يعتمد على الإسكندر الأفروديسي([23])، ليحاجج بأن دوران الأفلاك السماوية يُحدث احتكاكات عندما تتحرك الأفلاك حول بعضها وحول عالم ما تحت فلك القمر. يثير هذا الاحتكاكُ العناصرَ الأربعة: الأرض والهواء والنار والماء، ويمزج بينها لإيجاد أشياء العالم الطبيعي.

لكن في عمل آخَر له لم يصلنا إلَّا في ترجمته اللاتينية، عنوانه «في الشُّعاعات»**، يعطينا الكندي تفسيراً مختلفا؛ فهو في هذا الكتاب يحاول إدراج تأثير السماوات داخل معالجة عامَّة للفعل عن بُعد. ويقول إن الكثير من الأسباب تُحدث آثارها عن طريق «أشعة» تسير في خطوط مستقيمة. فالنار على سبيل المثال تُحدث الحرارة عن طريق أشعة تخرج منها إلى كل ما حولها. وبالمثل فإن تأثير نجم ما سيكون في أقرب مكان له من الأرض على امتداد خط مستقيم. والواضح أن هذا التفسير يختلف عن ذلك التفسير الأرسطي الذي وجدناه في «الإبانة عن العلَّة الفاعلة القريبة»، والحقيقة أن كلا النَّصَّين يختلفان في رؤيتيهما للتفاعل الفيزيقي؛ فكتابه «في خطوط الضوء»؛ يفسر التفاعل عن بُعد، في حين تفسر رسالة «الإبانة عن العلة الفاعلة القريبة» ما يبدو أنه تفاعل عن بُعد بأنه تفاعل مباشر؛ أي: ملامسة الأفلاك التي تُحدث الاحتكاك. وسوف يعود هذا الاختلاف في التفسير للظهور في معالجة الكندي للبصريات.

وكيفما كان تفسير تأثير السماوات؛ فإن الكندي ينظر إلى حركاتها على أنها السبب المباشر [العلة القريبة] لكل ما يحدث في العالم الطبيعي. وبينما يمكن التنبؤ على نحو يسير بتأثيرها المباشر وهو تغيُّر الفصول، فهناك علم يتخصص في التنبؤ بآثار أقل وضوحاً عن طريق تحليل حركات النجوم، وهو التنجيم Astrology. والكثير من أعمال الكندي؛ سواء الذي وصلنا أو المفقود منها، مخصص لدراسات تطبيقية في التنجيم، ويَعِدُ بحل إشكاليات مثل: «كيف أعثر على كنز مدفون؟»، و«ما أنسب وقت لي للقيام برحلة؟»، أو «ما عمر حكم العرب؟». وقد أدت مصادفات انتقال النصوص في ذلك العصر إلى تعظيم القسم المتعلق بالتنجيم في أعماله وبروز أهميته في القرون اللاحقة عليه، إلى درجة أن الأوربيين في العصور الوسطى والذين قرأوا أعماله المرتجَمة إلى اللاتينية اعتقدوا أنه كان مُنَجِّماً، لكنهم لم يخطؤوا عندما نظروا إلى التنجيم* على أنه جانب مهمٌّ من فكره، ولم تكن مصادفة أن أحد أهم وأكبر المنجمين العرب، وهو أبو معشر البلخي** (171 - 271هـ/ 787 - 886م)، كان تلميذاً أو شريكاً للكندي([24]).

ولعل أهم الجوانب الفلسفية لاهتمام الكندي بالسماوات؛ هو تأكيده أن حركاتها هي أداة العناية الإلهية. ونشهد مع الكندي في هذا الشأن إقرارين؛ الأول: يقول بالعناية العامة لكل الموجودات، والتي تأتي من النجوم التي تتحرك عن الله، والثاني: يقول بإمكان إدراك عناية الله بل والتنبؤ بها بعلم تجريبي (وهو التنجيم الذي نظر إليه الكندي على أنه علم تجريبي). وفي الوقت نفسه، تبدو نظريته الكوزمولوجية على أنها تطبيق للتمييز الذي وضعه في «رسالة في الفاعل الحق الأول التام». فالله هو المصدر الأول الـمُحدِث للفعل، وينتقل هذا الفعل بتوسط أثره المباشر وهو السماوات، إلى الآثار الأبعد؛ أي: نحن البشر وعالم ما تحت فلك القمر الذي نعيش فيه.

البصريات

من السهل علينا رؤية التوافق بين نظرية الكندي في البصريات والتراث اليوناني، حتى عندما يستبق إنجازات ابن الهيثم الكبيرة (ت 1041)([25]). كان الكندي في الأصل محصوراً بين سلطتين: سلطة أرسطو وسلطة إقليدس. ويعتمد الكندي عليهما معاً في عدد من أعماله في البصر، وأهمها (والذي وصلنا في ترجمته اللاتينية) هو «رسالة في اختلاف المناظر»، وهو إعادة صياغة وتوسيع لكتاب إقليدس «البصريات»([26])Optics. إن التأثيرات المتعارضة لأرسطو وإقليدس على بصريات الكندي تمثِّل إشكالية شائكة في فلسفته، تماماً مثل التأثيرات المتعارضة لأرسطو والأفلاطونية المحدثة. فعند أرسطو؛ يحدث الإبصار بانتقال صورة الشيء المرئي إلى العين من خلال وسط شفاف مثل الهواء. ولا يمكن نقل الوسط صورة الشيء إلا إذا كان هذا الوسط منيراً. وبالتالي فرؤية الشيء تتطلب أربعة أشياء: موضوعاً محسوساً، وعيناً، ووسطاً شافَّاً بين الموضوع والعين، وضوءاً يملأ الوسط. أما بصريات إقليدس؛ فهي على العكس، تفسر الظواهر البصرية بمخططات هندسية، حيث يسير البصر والضوء في خطوط مستقيمة. ويستخدم إقليدس هذه المخططات الهندسية لتفسير كيفية انعكاس الأشياء أو الضوء في المرآة من زوايا مختلفة، وتفسير السبب في طول أو قصر الظل. وقد شكلت القدرة التفسيرية العالية لهذه المخططات مشكلة للنظرية الأرسطية في الإبصار. يُعيد الكندي تقديم مثال سبق أن قدَّمه ثيون السكندري *Theon of Alexandria، لتوضيح المشكلة: فإذا نظرنا إلى دائرة من جانب؛ فسوف نرى خطاً لا دائرة. لكن وفقاً لنظرية أرسطو؛ فإن الدائرة لا يمكنها إلا أن تنقل صورتها هي باعتبارها دائرة من خلال الوسط. إن نظرية أرسطو لا يمكنها تفسير السبب في ظهور الأشياء بطرق مختلفة من زوايا مختلفة.

ولهذا السبب ولغيره كذلك؛ رفض الكندي النظرية الأرسطية في الإبصار، والتي كانت مجرد نظرية «تدخُّليَّة»، حيث يجب على العين أن تخرج منها أشعة للأشياء([27]). وعندما تصطدم هذه الأشعة بالأشياء نراها. والميزة لهذه النظرية أن الأشعة خطوط مستقيمة، وهو ما يناسب النموذج الهندسي الإقليدي عن الإبصار. ويطبق الكندي هذا النموذج لتفسير انتشار الضوء، إذ قدم اقتراحاً هاماً للغاية، مفاده أن الضوء ينتشر في خطوط مستقيمة وفي كل الاتجاهات ابتداء من مصدر الضوء. وهذا يتفق مع ما قاله في رسالته «في الشعاعات»؛ إذ يذهب إلى أن أشياء تتفاعل عن بُعد بفضل الشعاعات التي تنقل قوة هذه الأشياء لمسافات([28]). وفي أعماله في البصريات؛ يفضل الكندي هذا النموذج في الفعل عن بعد عن نموذج أرسطو في الفعل بالاحتكاك المباشر (حيث تلمس العين الوسط، ويلمس الوسط الشيء المرئي، وهذا ما يتيح انتقال الصورة من الشيء إلى الوسط إلى العين). وعلى الرغم من ذلك؛ فقد كان لا يزال يتحدث في كل أعماله [بطريقة أرسطية] عن استقبال «الصورة المحسوسة» في حالة البصر والحواس الأخرى.

الكندي والإسلام

وهكذا نرى في العلم الطبيعي عند الكندي إشكاليات موازية للتي في نظريته الميتافيزيقية. وهذا ما يتبعه عدم اتِّساق كثير في مذهبه، لكن الكندي دائماً ما يكون مستعداً لتدارك هذه الصعوبات باللجوء إلى القدماء والتخفيف من حدَّة الصعوبات بقدر ما يستطيع. وفي حين يستحيل علينا تقييم أعمال الكندي دون معرفة بالتراث اليوناني، فلا يمكننا القطع بأن إسهامه الوحيد هو استقبال وهضم الفكر اليوناني وتعديله. فكما أشرنا فيما سبق؛ يحاول الكندي تقديم الفلسفة اليونانية، باعتبارها قادرة على حل إشكاليات عصره، بما فيها الإشكاليات الناتجة عن علم الكلام. وأبرز علامة على ذلك هي توظيف الكندي للفلسفة في إضاءة آيات قرآنية؛ إذ يشرح في رسالته «في الإبانة عن سجود الجِرم الأقصى»؛ السبب الذي جعل القرآن يقول: "وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ" (الرحمن 6). ويأخذ الكندي هذه الآية كمناسبة ليبسط فكرته التي أشرنا إليها في السابق، وهي أن السماوات أداة العناية الإلهية، وهو يقدِّم لذلك بدرس قصير في كيفية التعامل مع الألفاظ المشتبهة في تفسير القرآن.

مثال آخر على ممارسة الكندي للتفسير الفلسفي القرآني هو السابق ذكره عن الخلق في «رسالة في كمِّيَّة كتب أرسطو»؛ إذ يأخذ الكندي الآية القائلة: "إِنَّمَآ أَمۡرُهُۥٓ إِذَآ أَرَادَ شَيۡـًٔا أَن يَقُولَ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ" (سورة يس، 82) على أنها تعني الخلق من العدم. كما يضيف الكندي بضع ملحوظات يقارن فيها بين النبي والفيلسوف؛ إذ يجب أن ينشغل الفلاسفة في بحث طويل، بادئين بامتلاك ناصية العلوم التمهيدية مثل الرياضيات. أما الأنبياء فعلى العكس، فأما الرُّسل... فلا بشيء من ذلك، بل بإرادة مرسلها جلَّ وتعالى، بلا زمان يحيط بطلب ولا غيره... فإنه إن تدبَّر مُتدبِّر جوابات الرسل فيما سئلوا عنه من الأمور الخفية الحقيَّة، التي إذا قصد الفيلسوف الجواب فيها بجهد حيلته التي أكسبته علمها، لطول الدؤوب في البحث والتروض، وما نجده أتى بمثلها في الوجازة والبيان وقرب السبيل والإحاطة بالمطلوب، كجواب النبي...*

يُعَدُّ هذا النص أوضح إقرار للكندي حول طبيعة النبوَّة. وهو يبدو للوهلة الأولى أنه يضع الفيلسوف في مكانة متدنِّية مُقَارنةً بالنبيّ. لكن بالفحص الدَّقيق سنفاجَأ بمدى تواضع علوِّ النبي. يرجع هذا العلو إلى شيئين فقط: السهولة واليقين اللَّذين يتوصل بهما إلى الحقيقة، والطريقة التي يقدم بها هذه الحقيقة (إذ إنَّ عباراته قصيرة وواضحة وكاملة). أما المتضمن في الفكرة وهو الأخطر؛ هو أن مضمون معرفة الفيلسوف ومعرفة النبي واحدة([29]). وهذا هو ما يجعلنا نفهم ما يقوم به الكندي في رسالتيه «كمِّيَّة كتب أرسطوطاليس» و«الإبانة عن سجود الجِرم الأقصى»؛ إذ قدَّم تفسيراً فلسفياً لحقيقة مُعبَّر عنها بسلاسة وبلاغة أكثر [في القرآن].

ولرسالة أخرى له هي «في ماهيَّة النوم والرؤيا» دلالة مهمة بالنسبة إلى نظريته في النبوة. وفيها يعتمد الكندي على نظريته في النفس، والتي قدمها في أعمال أخرى، حيث يُقسِّم قوى النفس إلى القوة الحاسَّة والقوة العاقلة. وتتصل بالقوة الحاسة قوة أخرى سمَّاها أرسطو «الـمُخَيِّلة» (يستخدم الكندي المصطلح العربي «القوة المصوِّرة»، وكذلك تعريب المصطلح اليوناني «فنطاسيا» phantasia). تستقبل المخيلة صور المحسوسات وتستحضرها في غياب المحسوسات ذاتها؛ فهي على سبيل المثال تمكِّننا من استحضار صورة الفيل في غياب الفيل ذاته. كما أنها تتيح لنا التركيب بين عناصر حسِّيَّة كثيرة لإنتاج صورة متخيَّلة لشيء غير موجود، مثل رجل بأجنحة. وأثناء النوم، حيث يتوقف عمل الحواس، يمكن للمخيلة أن تبقى نشطة، وتُحدِث الصور التي نسمِّيها أحلاماً. وبعد أن يعرض الكندي لكل ذلك، ينتقل إلى تفسير الرؤى النبوية. فالأشخاص الذين يحوزون على نفوس طاهرة ومُهيَّئة؛ يمكنهم استقبال صور الأشياء المحسوسة في مخيلتهم قبل أن تحدث، وبالتالي يرون المستقبل. وهذا ما يحدث بسهولة عندما لا تكون الحواس نشطة [والمخيلة فاعلة]؛ أي: أثناء الحلم. لكن لا يربط الكندي هذا النوع من الرؤيا بنوع معيَّن من النبوة الدينية، ولا يقول إن الله هو مصدر الرؤى النبوية في الأحلام (مثلما فعل في «كمِّيَّة كتب أرسطو» بالنظر إلى نبوَّة محمَّد)([30]). ومن المثير أن يقارن الباحث بين نظرية الكندي هذه وتفسيرات طبيعية أخرى للقدرات الخارقة للأنبياء؛ تلك التفسيرات التي هاجمها الغزالي في «تهافت الفلاسفة».

وبعيداً عن إشكاليات تفسير النبوة؛ تبقى دلالة أعمال الكندي بالنسبة لعِلم الكلام الإسلامي متضمَّنة وليست صريحة، لكن يجب أن نفهم الكثير من الموضوعات التي عرضناها على خلفية إسلام القرن الثالث الهجري، تماماً كما نفهمها على خلفية الفلسفة اليونانية في القرن السادس الميلادي. ومن هذه الجهة؛ فإن معاصري الكندي لم يكونوا شُرَّاحاً أرسطيين [كما كان الحال مع أعماله الفلسفية]، بل علماء الكلام، أو اللاهوت العقلي rational theology*، وخاصة المعتزلة؛ إذ تدلُّنا عناوين بعض مؤلَّفاته المفقودة على أنه انشغل في تفنيدات مطوَّلة لبعض أفكار المعتزلة، خاصة نظريتهم في الجزء الذي لا يتجزأ. لكن يبدو أن الكندي في اتفاق مع مواقف أخرى عديدة في تعريف معتزلة القرن الثالث، وإن كانت هذه المواقف لاحقة على ذلك القرن([31]). وعلى سبيل المثال: كانت إشكاليات الصفات الإلهية من موضوعات الاحتكاك بين فلسفة الكندي والكلام المعتزلي؛ فكلاهما اتَّجه نحو نوع من اللاهوت السلبي بدافع الحرص على وحدانية الله المطلقة. فبالنسبة للمعتزلة؛ يؤدي التعدد في الصفات الإلهية بجانب الذات الإلهية إلى العصف بالتوحيد، أو الوحدانية الإلهية. لنفترض أن الله خيِّر ورحيم، وأن خيريَّته ورحمته مختلفتان عن بعضهما البعض وعن ذاته، فلن نكون أمام شيء واحد، بل ثلاثة أشياء؛ الله، وخيريَّته، ورحمته. وهذا ما يتعدَّى على شرط العقيدة الإسلامية في ألا يشترك أي شيء مع الله في ألوهيته. وفي التفكير الكلامي المعتزلي في القرن الثالث، تمَّ التعبير عن هذه الفكرة بالقول إن لا قديم سوى الله، حيث فهم علماء الكلام «القديم» على أنه غير المخلوق. ولذلك أصرَّ المعتزلة على أن القرآن مخلوق، وليس قديماً بجانب الله، كما اعتقد البعض من قبلهم في أنه قديم؛ لأنه «كلام» الله. وهذا التقابل [بين القِدَم والحدوث] يساعدنا في فهم الربط الذي أجراه الكندي بين إبطاله لقِدَم العالم وإثباته لوحدانية الله المطلقة في كتابه «في الفلسفة الأولى». وكما رأينا، فإن الكندي يأخذ القضية القائلة إن العالم قديم على أنها تعني أنه غير مخلوق. وبالتالي فإن البرهنة على أن العالم ليس قديماً تتَّصل بشدة بالبرهنة على الوحدانية والفردانية المطلقة لله([32]).

لقد كانت مواقف الكندي الفلسفية عابرة، بالمقارنة بوضعه، باعتباره أول فيلسوف في الإسلام باعترافه؛ وذلك من جهات عديدة. كانت فلسفته متواصلة مع التراث الفلسفي القديم، حتى عندما كانت تتعامل مع وسط ثقافي مختلف. وقد مثَّل استقبال الكندي للفلسفة اليونانية الأجندة التي سارت عليها الأجيال اللاحقة من فلاسفة الإسلام: فعلى سبيل المثال: ظلَّت نظريته في العقل وفي الخلق محتفظة بصدى واضح على امتداد تاريخ الفلسفة في الإسلام. وفوق كل شيء، فإن إقدام الكندي ومجموعته على استيعاب وهضم الفكر اليوناني يبرهن على أن الترجمة هي دائماً نوع من التأويل، وأن الفلاسفة يكونون في أعلى درجات إبداعهم عندما يقدمون على فهم سابقيهم. ويمكن أن يبدو من الكندي أنه لم يطمح إلا في نقل الفلسفة اليونانية وإظهار قوَّتها وانسجامها الداخلي، لكن يتَّضح إسهامه الفعلي في أنه افتتح تقليداً فلسفياً في العربية سار عليه كل من أتى بعده([33]). والشيء الذي يجب أن نأخذه في الاعتبار في فهمنا لفلسفة الكندي، هو أنه لم تكن لديه النِّيَّة لأنْ يكون مبدعاً أو مُجدِّداً. لقد كان يقصد ألا يكون أصيلاً، لكنه فشل في ذلك.

([1]) حول المزيد في هذا الموضوع، انظر Gutas [58]..

([2]) لعرض شامل لسيرة حنين العلمية، انظر A. Z. Iskandar, “H. Unayn Ibn Ishaq,” in The Dictionary of Scientific Biography (New York: 1978), vol. XV (suppl. I), 230–49. والدراسة التالية فريدة من نوعها، فهي تركز على تحليل رسالة لحنين يصف فيها خبرته في ترجمة جالينوس Ḥunain ibn Isḥāq, Über die syrischen und arabischen Galen-Übersetzungen. Leipzig 1925 (= Abhandlungen für die Kunde des Morgenlandes. Band 17, 2)..

([3]) اشتكى العديد من القدماء من عيوب ترجمات مجموعة الكندي. فالصفدي على سبيل المثال يذكر أن اثنين من مترجمي المجموعة، وهما ابن ناعمة الحمصي وابن البطريق، نقلا النص الأصلي حرفياً، وكلمة كلمة، في حين كانت مجموعة حنين تترجم العبارة كلها وتحتفظ بمعناها الأصلي. يجد القارئ شهادة الصفدي مترجمة في Rosenthal [39], 17.

[الأصل العربي: الصفدي، صلاح الدين خليل بن أيبك، الغيث المنسجم في شرح لامية العجم، الجزء الأول ص46، المطبعة الأزهرية المصرية، القاهرة 1305 هـ (المترجم)].

([4]) كانت هذه الترجمة هي التي اعتمد عليها ابن رشد في «تفسير ما بعد الطبيعة»، تحقيق ونشر موريس بويج. دار المشرق، المطبعة الكاثوليكية، بيروت 1967. انظر أيضاً، A. Martin, “La Métaphysique. Tradition syriaque et arabe,” in Goulet [20], vol. I, 528–34

([5]) R.Arnzen Aristoteles’ De Anima. Eine verlorene spätantike Paraphrase in arabischer und persischer Überlieferung. (Leiden: 1998) .يعكس هذا التلخيص بوضوح ظاهرة النقل التحريفي للنص الأصلي

* منشور في، عبد الرحمن بدوي، أفلوطين عند العرب، مطبعة النهضة المصرية، القاهرة 1955

** منشور في، عبد الرحمن بدوي، الأفلاطونية المحدثة عند العرب، ص1 – 33

([6]) يجري حالياً نشر الأعمال الكاملة للكندي، في تحقيق جديد وبترجمة فرنسية مقابلة للنص العربي، ظهر منها حتى الآن مجلدين: Oeuvres Philosophiques Et Scientifiques D'Al-Kindi, ed. and trans. R. Rashed and J. Jolivet, 2 vols. so far (Leiden: 1997– ).

* الكندي، «كتاب الكندي إلى المعتصم بالله في الفلسفة الأولى»، في، أبو ريدة، محمد عبد الهادي، رسائل الكندي الفلسفية، دار الفكر العربي، القاهرة 1950، ص103

** منشور في، أبو ريدة، رسائل الكندي الفلسفية، ص163 – 179

([7]) توجد قائمة مؤلفات الكندي في: Ibn al-Nadım, al-Fihrist, ed. R. Tagaddod (Tehran: 1350 A.H./1950 A.D.), at 315–20, and trans. B. Dodge (New York: 1970), at 615–26

[الأصل العربي: ابن النديم، الفهرست، ص358 وما بعدها، المكتبة التجارية الكبرى، (د. ت.) المترجم].

* للاطلاع على دراسات أكاديمية عربية حديثة عن الكندي، انظر، سعيد البوسكلاوي (تنسيق)، الكندي وفلسفته، أعمال مهداة إلى محمد المصباحي. نشر فريق البحث في الفلسفة الإسلامية (كليَّة الآداب والعلوم الإنسانية بوجدة)، وجدة 2015

([8]) انظر الترجمة الإنجليزية وشرح عليها في: Ivry, A.Al-Kindi’s Metaphysics (Albany, NY: 1974).

** الكندي، «كتاب الكندي إلى المعتصم بالله في الفلسفة الأولى»، ص98

([9]) Gutas, D. Avicenna and the Aristotelian Tradition (Leiden: 1988).

([10]) H. A. Davidson, “John Philoponus as a Source of Medieval, Islamic and Jewish Proofs of Creation,” Journal of the American Oriental Society 89 (1969), 357–91

[الترجمة العربية: هربرت أ. ديفيدسن، يحيى النحوي مصدراً لأدلة الخلق الإسلامية واليهودية في العصر الوسيط. ترجمة وتقديم سعيد البوسكلاوي. بحوث في الفلسفة الإسلامية: من العقل إلى الوجود. ملف بحثي منشور في مؤسسة مؤمنون بلا حدود للأبحاث والنشر، 10/3/2015. المترجم].

([11]) قارن هذا النقاش ببرهان الواحد باعتباره المبدأ الأول في القضية الأخيرة من كتاب «الإيضاح في الخير المحض».

* يتأسس اللاهوت السلبي في النفي المطلق والتام للصفات عن الله، ويُعرِّف الله بأنه مخالف بالكلِّية لكل شيء وكل وصف وكل حد أو تعريف.

** الكندي، «كتاب الكندي إلى المعتصم بالله في الفلسفة الأولى»، ص160

([12]) الكندي، «في الحيلة لدفع الأحزان»، منشور في: H. Ritter and R. Walzer, Uno scritto morale ineditodi al-Kindi (Rome: 1938) and Druart [66]

([13]) أحد الأمثلة على ذلك؛ أن الكندي في رسالته «في النفس»، يذكر رأيين لأفلاطون وأرسطو في النفس متعارضين: «وقد يُظَن أن هذين القولين مختلفان»، لكنه يستمر طوال الرسالة في إثبات عدم تعارضهما. [الكندي، «كلام للكندي في النفس، مختصر وجيز»، في أبو ريدة، ص281 المترجم.].

([14]) لاحظت كرستينا دانكونا في مراجعتها لكتاب أرنزن أن الباحثين ينزعون نحو عدم الانتباه إلى أن الخلط بين أفلاطون وأرسطو نشأ من داخل شروح أرسطو في تيار الأفلاطونية المحدثة، وليس في مؤلفات مثل «أثولوجيا أرسطاطاليس». Arnzen, Aristoteles “De Anima,” Oriens 36 (2001), 340–51, at 344

([15]) Simplicius, Commentary on the “Physics”, ed. H. Diels, CAG IX–X (Berlin: 1882, 1895), 1363

[الترجمة الإنجليزية: Simplicius, , Pamela M. Huby, and C C. W. Taylor. On Aristotle Physics 1.3-4. , 2011; هذا هو الجزء الأول وتلتها أجزاء عديدة، كل جزء يتناول مقالة من مقالات «السماع الطبيعي»، آخرها: Simplicius, On Aristotle Physics 8.6-10. Translated by Richard Mckirahan. (London: Duckworth, 2001). المترجم].

* وهذا في مقابل إهمال محمد عابد الجابري للكندي في نظريته في الفكر العربي الإسلامي. راجع دراسة علي مبروك، «المشاريع العربية المعرفية المعاصرة في قبضة الأيديولوجيا»، منشور في، ثورات العرب: خطاب التأسيس، دار العين للنشر، القاهرة، 2012، ص186 وما بعدها. (أشكر الصديق الأستاذ إسلام سعد لتنبيهي لهذه النقطة).

([16]) انظر الدراسات المجموعة في: D’Ancona [51]; R. C. Taylor, “Aquinas, the Plotiniana Arabica and the Metaphysics of Being and Actuality,” Journal of the History of Ideas 59 (1998), 241–64; ودراستي: The Arabic Plotinus: A Philosophical Study of the “Theology of Aristotle” (London: 2002), ch. 5

* انظر في ذلك: البوسكلاوي، سعيد: «يحيى النحوي والكندي في الدلالة على حدث العالم»، دراسة منشورة في: الكندي وفلسفته، دراسات مهداة إلى محمد المصباحي. تنسيق سعيد البوسكلاوي. كليَّة الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة محمَّد الأول، وجدة 2015.

([17]) Adamson, P. “Al-Kindi and the Mutazila: Divine Attributes, Creation and Freedom,” Arabic Sciences and Philosophy 13 (2003), 45–77

([18]) انظر Jolivet, J. L’intellect selon Kindi (Leiden: 1971).، إذ يثبت اعتماد الكندي على النحوي في نظريته في العقل والنفس.

* الكندي، «القول في النفس»، في، أبو ريدة، سبق ذكره ص270 – 280

([19]) يبرهن الكندي في «رسالة في أنه توجد جواهر لا أجسام»، على أن النفس الإنسانية لامادية، بإثباته أنها هي المحدد للنوع الإنساني نفسه، وبالتالي فهي موضوع معقول [لأن النوع كيان معقول لامادي]. ويُعَدّ هذا البرهان تطبيقاً آخر للتمييز بين الصورة الحسية والصورة العاقلة: فالنفس صورة عاقلة وفق هذا التمييز. وتعبيرات الكندي تمكنه من الوفاء مخلصاً لتعريف أرسطو للنفس بأنها «صورة البدن».

([20]) C. Genequand,“Platonism and Hermeticism in al-Kindi’s fi al-Nafs, Zeitschrift fur Geschichte der arabisch-islamischen Wissenschaften 4 (1987/8), 1–18, and my“Two Early Arabic Doxographies on the Soul: Al-Kindi and the ‘Theology of Aristotle,’”The Modern Schoolman 77 (2000), 105–25

([21]) انظر هامش رقم 12

([22]) للاطلاع على فهم مختلف لرسالة الكندي «في الحيلة لدفع الأحزان»، انظر الفصل الثالث عشر.

* الكندي، «كتاب الكندي في الإبانة عن العلة الفاعلة القريبة للكون والفساد»، في الأهواني، ص208 – 237

([23]) S. Fazzo and H. Wiesner, “Alexander of Aphrodisias in the Kindi-Circle and in al-Kindi’s Cosmology,” Arabic Sciences and Philosophy 3 (1993), 119–53

** أثبته ابن النديم في «الفهرست»، وذكره أحمد فؤاد الأهواني، الكندي فيلسوف العرب، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1964، ص84

* هناك فرق بين التنجيم astrology وعلم الفلك astronomy. التنجيم يستهدف التنبؤ بأحداث مستقبلية بناء على تأثير النجوم والكواكب، أما علم الفلك؛ فهو يدرس الظواهر الفلكية فقط. كان التمييز غير واضح في العصور القديمة والوسطى. وكلمة «مُنَجِّم» هي ترجمة لكلمة astrologer وكلمة «عالم فلك» هي ترجمة كلمة astronomer. أبو معشر البلخي كان منجماً وعالم فلك في الوقت نفسه.

** انظر النشرة الحديثة لكتابه «المدخل الكبير لعلم أحكام النجوم»: Yamamoto †, Keiji, and Charles Burnett. The Great Introduction to Astrology by Abū Maʿšar (2 vols.). Leiden, The Netherlands: Brill, 2019.

([24]) انظر دراستي، “Abu Ma‘shar, al-Kindi and the Philosophical Defense of Astrology,” Recherches de Théologie et Philosophie Médiévales69 (2002), 245–70

([25]) D. C. Lindberg, “Alkindi’s Critique of Euclid’s Theory of Vision,” Isis 62 (1971), 469–89

([26]) Al-Kind, OEuvres philosophiques et scientifiques d’al-Kindi, ed. and trans. R. Rashed and J. Jolivet, 2 vols. so far (Leiden: 1997– ), vol. I, 438–523

* (335 – 405) عالم رياضيات وفلك سكندري، وضع شروحاً على «المجسطي» لبطليموس و«العناصر» لإقليدس، وهو والد الفيلسوفة السكندرية هيباتيا.

([27]) يمكن لهذه النظرية أن تُقارن برأي أفلاطون في محاورة «تيماوس» Plato, Timaeus, 45b–46c.

([28]) للمقارنة بين أفكار الكندي في «في اختلاف المناظر» و«في الشعاعات»، انظر P. Travaglia, Magic, Causality, and Intentionality: The Doctrine of Rays in al-Kindi (Turnhout: 1999).

* الكندي، «رسالة في كمِّيَّة كتب أرسطوطاليس وما يحتاج إليه في تحصيل الفلسفة»، أبو ريدة، ص373

([29]) لمعالجة أكثر تفصيلاً، انظر، Endress,G. “The Defense of Reason: The Plea for Philosophy in the Religious Community,” Zeitschrift für Geschichte der arabisch-islamische Wissenschaften 6 (1990), 1–49

([30]) وهذا عكس ما تقوم به الصيغة العربية من كتاب أرسطو «الحاسُّ والمحسوس»، والتي تعلن بوضوح أن الله هو مصدر الرؤى النبوية. انظر، S. Pines, “The Arabic Recension of the Parva Naturalia,” Israel Oriental Studies 4 (1974), 104–53, at 130–2

[تلخيص ابن رشد لكتاب أرسطو «الحاس والمحسوس» منشور في: أرسطو، في النفس، عبد الرحمن بدوي. المترجم].

* اللاهوت العقلي هو العلم الذي يبحث في ذات الله وطبيعته وأفعاله وعلاقته بالعالم من وجهة نظر عقلية بحتة، لا من وجهة نظر الأديان، ويعتبر المؤلف أن علم الكلام المعتزلي هو على هذه الشاكلة أو على الأقل اقترب من أن يكون لاهوتاً عقلياً.

([31]) كان ما يسمى بالمعتزلة في ذلك القرن الثالث على خلاف شديد بينهما ولم يتفقا على مذهب ولم تجمعها مدرسة فكرية. وأفضل مصدر لمعرفة معتزلة ذلك العصر هو دراسة فان إيس van Ess, J. Theologie und Gesellschaft im 2. und 3. Jahrhundert Hidschra, 6 vols. (Berlin: 1991–5)

[تمت ترجمة أول مجلدين من كتاب فان إيس إلى العربية: جوزيف فان أس، علم الكلام والمجتمع في القرنين الثاني والثالث للهجرة. الجزء الأول، ترجمة سالمة الصالح، دار الجمل، بيروت 2008. الجزء الثاني، ترجمة محيي الدين جمال بدر، رضا حامد قطب، دار الجمل، بيروت، 2016. (المترجم)].

([32]) للمزيد من المناقشة في علاقة الكندي بالمعتزلة؛ انظر Adamson, P. “Al-Kindi and the Mutazila: Divine Attributes, Creation and Freedom,” Arabic Sciences and Philosophy 13 (2003), 45–77

([33]) يجدر بنا الآن نفع القارئ بشيء من تراث الكندي اللاحق له مباشرة. كان أبو معشر، عالم الفلك الذي ذكرناه آنفاً، من بين زملائه، كما كان السرخسي وأبو زيد البخلي من تلاميذه Rosenthal, Ahmad b. at. -Tayyib as-Sarakhsi [New Haven, CT: 1943]). وقد عاش أبو زيد البلخي لفترة طويلة حتى صار معلماً لأبي الحسن العامري (ت 381) في القرن الرابع، والذي بنى على أعمال الكندي ومدرسته. كما أثَّر الكندي في عدد من الفلاسفة الأفلاطونيين المحدثين في هذه الفترة، مثل مسكويه (320 – 421 هـ). لكن حول هذه الفترة؛ لم يُفضِّل الفارابي التوليف الذي أحدثه الكندي بين تيارات الفكر اليوناني، كما أن ابن سينا كان يفضِّل آراء الفارابي على آراء الكندي؛ ما يفسر لنا السبب في انزواء الكندي في التراث الفلسفي اللاحق، الذي سيطرت عليه مهمة الاستجابة لابن سينا أو الرد عليه. وكمثال على دراسات للخط الفكري من الكندي للبلخي للعامري، انظر Rosenthal, Ahmad b. at.-Tayyib as-Sarakhsi [New Haven, CT: 1943]) Rowson, “The Philosopher as Littérateur: Al-Tawḥīdī and his Predecessors,” Zeitschrift für Geschichte der arabisch-islamischen Wissenschaften 6 (1990), 50–92, and E. Rowson, A Muslim Philosopher on the Soul and its Fate: Al-‘Āmiri‘s “Kitāb al-Amad ‘ala l-abad” (New Haven: 1988). وللأفلاطونية المحدثة في القرن الرابع، انظر J. Kraemer, Philosophy in the Renaissance of Islam: Abu Sulayman al-Sijistani and his Circle (Leiden: 1986)

[أودُّ التنبيه على أن إطلاق اسم «الأفلاطونية المحدثة» على تيارات وأشخاص في الفلسفة الإسلامية غير مألوف للقارئ العربي، لكنه تقليد مُستقِرٌّ في الغرب منذ أوائل القرن العشرين، نظراً لما وجدته الأكاديميا الغربية من عناصر الاستمرار والتواصل بين الأفلاطونية المحدثة اليونانية وبعض تيارات الفلسفة الإسلامية. المترجم].