المباعدة في التواصل البينثقافي: بول ريكور وتشارلز تايلور نموذجا


فئة :  مقالات

المباعدة في التواصل البينثقافي:  بول ريكور وتشارلز تايلور نموذجا

المباعدة في التواصل البينثقافي:

بول ريكور وتشارلز تايلور نموذجا

الملخص:

أمام تحول العالم إلى قرية صغيرة بفضل الطفرات التقنوية، يسعى هذا المقال إلى التفكير في إحدى الكيفيات التي يمكن أن تسهم في الحد من بعض المعوقات التي تحول دون تحقيق التواصل البينثقافي والغايات الإيجابية المنتظرة منه. نذكر من هذه المعوقات، تحول ثقافة مخصوصة نموذجا يقاس على منواله شكل وطبيعة الثقافات الأخرى. اقترحنا في هذا الباب، ضرورة استحضار مفهوم المباعدة وما يتبعه من تعدد للعوالم الثقافية خلال عملية التواصل. ومن أجل توضيح ذلك، اعتمدنا نموذجين صارخين سلطا الضوء على ذلك، وهما المباعدة الهيرمينوطيقية عند بول ريكور، ولغة التباين الواضح عند تشارلز تايلور.

مقدمة:

يكتسي التواصل البينثقافي أهمية خاصة نظرا لاختلاف ثقافات العالم وتدافعها وشدة تقاربها بفضل الطفرة الهائلة التي عرفتها وسائل التواصل في زمننا هذا. وما يترتب عن هذا التواصل، بفعل حتمية المقارنة التي تنشأ بشكل تلقائي عند تلاقي موضوعين مختلفين، الإحساس بتفوق الذات على الآخر، أو ترسخ صورة سلبية عن الذات أمام تقدم الآخر وتطوره، أو صدور أحكام قيمة على الذات وعلى الآخر، أو اقتراح وصفات لملاحقة تطور الآخر ومواكبة ركبه (من قبيل طرح سؤال: لماذا تقدم الغرب وتخلف الشرق؟). من هنا نستمد إشكالنا الأساسي الذي نود تأمله: هل يمكن للتواصل أن يحقق أهدافه الإيجابية دون أن ينزلق بنا إلى هكذا نتائج أو مآلات؟ وما هي المحاذير التي يجب مراعاتها لضمان جودة التواصل وفعاليته؟

يرتسم جوابنا عن هذا السؤال في أن الدفع بالتواصل إلى ما هو إيجابي يقتضي تجنيبه تلك السقطات عبر ضرورة توسله بالتأويل، ما دام أن جل الأفعال الإنسانية هي أفعال ذات معنى. ويتجلى هذا التوسل في إمكانية مقاربة التواصل على أساس اقترانه بمفهوم أخر تليد وهو التباعد، من جهة، وعلى أساس الالتفات إلى عوالم اللغة التي تمثل أس الثقافة، من جهة أخرى.

بالنسبة إلى الأساس الأول؛ على الرغم من أنه قد يبدو التواصل والتباعد على طرفي نقيض في دلالاتهما العامة، فإنهما، مع ذلك، يخدمان بعضهما بعضا، ويمنح كل واحد منهما الآخر إمكانية تحقيق الفعالية واحترام جوهر مرادهما. فإذا كان التواصل يفيد الانكشاف والتقارب والانفتاح على الآخر وفهم رسائله، وكان التباعد يفيد وضع المسافات ولف الذات بالدُثُرِ لحمايتها وستر عوراتها والحفاظ على خصوصياتها، فإن جمعهما في سياق واحد يمنع الذوبان والتماهي والتطابق والتضحية بالخصوصية ومحو الذات أو إقصائها.

أما بالنسبة إلى الأساس الثاني؛ نرى أن التفكير في التواصل البينثقافي لا يمكن أن ينفك عن عوالم اللغة([1]) وعلاقتها بالعالم الواقعي للناس. ذهب همبولدت إلى أن اللغات هي رؤى للعالم، ([2]) أي وجوب التطلّع إلى كل لغة على أنها نظرة خاصة للعالم.([3]) وذهب غادامير إلى أبعد من ذلك، فقد اعتبر أن اللغة تبتلع الوجود كله، إذ لا يتصور وجود لغة منفصلة عن العالم. فلا حياة للغة إنسانية مستقلة عن العالم الذي يبلغ اللغة عبر اللغة، ولا إمكانية لتحقيق وجودها الفعلي إلا إذا كان العالم الموجود من أجل الإنسان حاضرا فيها؛ هذا العالم الذي، بدوره، يقدم نفسه في تلك اللغة. تحدد اللغة عالما لفظيا خاصا للإنسان، وتجعل وجوده في العالم وجودا لغويا بالأساس.([4]) كل من له لغة له عالم، شكل للوجود يختلف كليا عن العلاقة التي تربط الحيوانات بموطنها. عندما يتعلم أحد لغة أجنبية فهو لا يغير علاقته بعالم لغته، وإنما يحتفظ بتلك العلاقة الخاصة، لكنه يثري ذلك العالم ويوسعه من خلال عالم اللغة الأجنبية. فلا يمكن أن نشبه من اكتسب لغة جديدة بمثال الحيوان الذي ينتقل من الحياة في البر إلى الحياة في الماء.([5]) يتكشف العالم الذي تتضمنه اللغة في التواصل اللغوي. وهنا تبرز الخاصية الأخرى الأساسية للغة، عند غادامير، وهي تحققها في الحوار وبلوغ الفهم. ولا يعني هذا أن اللغة هي مجرد وسيلة، أو مجرد علامات، أو أن غرضها الفعلي هو بلوغ الفهم. فكون اللغة بطبيعتها هي لغة محادثة، فإن عملية بلوغ الفهم تجسد ماهية اللغة؛ ([6]) على اعتبار أن الفهم هو عملية حياة (Life process) تحقق فيها جماعة ما حياتها، وأن موضوع الفهم هو العالم الذي يقدم نفسه لنا في الحياة المشتركة والذي يشمل كل شيء يمكن الوصول إلى فهم بشأنه، حيث يكون الفهم المتحقق في المحادثة الإنسانية مماثلا للفهم الذي يحدث بين الحيوانات.([7])

من أجل الاستدلال على أهمية هاذين الأساسين، نقدم نموذج المباعدة الهيرمينوطيقية عند بول ريكور التي تبين أهمية التباعد في سياق التواصل، وكذلك نموذج لغة التباين الواضح عند تشارلز تايلور التي تبين أهمية التباعد وأهمية عوالم اللغة في الآن ذاته.

1- بول ريكور: المباعدة الهيرمينوطيقية

اندرج حديث بول ريكور عن المباعدة الهيرمينوطيقية في سياق رده على المفارقة التي أبرزها غادامير والمتمثلة في التعارض بين المباعدة الاستلابية (Distanciation aliénante (Verfremdung)) والانتماء إلى التراث، حيث انتقد غادامير ما سماه بالمباعدة الاستلابية التي قامت عليها العلوم الإنسانية التي تقتضي مناهجها ترك مسافة كافية بينها وبين التراث والحكم المسبق والسلطة للتحرر منهم؛ وذلك انسجاما مع القطيعة الكاملة التي اعتمدها فكر التنوير مع التراث الذي عده متناقضا تماما مع العقل الذي يظل مصدرا نهائيا لكل سلطة ومعيارا يُعيَّر به كل شيء. مقابل رفض غادامير هذه المباعدة، اعتبر أن الانتماء إلى التراث والتاريخ شرط للتأويل؛ لأن المؤول مرتبط بالتراث ومنتمٍ إليه. إنه جزء لا يستطيع التحرر منه.([8]) فلا يمكن أن يتحصل الفهم من دون فروض مسبقة، أو من دون وجود «البنى المسبقة للفهم»، بتعبير هايدغر؛ ([9]) كما لا يمكن أن نفهم من دون الحاضر ومفاهيمه الذي يشكل أفق الموقف التأويلي للمؤوِّل. يقتضي التأويل صهر أفق الماضي مع أفق الحاضر لتحقيق الفهم (التحام أفق المؤول بأفق ما يؤوله لينتج أفقا ثالثا). لا نكتفي بمعاني الماضي، كما لا نفرض معانينا على الماضي، بل ندمج التراث مع الحاضر لخلق معنى خاص. هكذا نتخلص من الموضوعية التي تبحث عن المعنى بالانقطاع إلى الماضي وسياقه (إعادة بناء المعنى الأصلي للنص)، كما نتخلص من العدمية التي نلمسها في ما بعد الحداثة التي تأجلت معها الحقيقة. بهذا الشكل يكون غادامير قد منح الوعي التاريخي معنى خاصا يجعل الماضي معاصرا دائما للحاضر.

في مقابل هذا الطرح، اعتبر ريكور المباعدة (Distanciation) ركنا أساسيا في الهيرمينوطيقا، من منطلق أنها من صميم التواصل كما هو متحقق في التجربة الإنسانية. وكان سبيله إلى إثبات ذلك وتبيّينه هو عالم النص الذي اعتبره خطابا وحدثا منظورا إليه من زاوية لسانيات الخطاب التي تتخذ من «الجملة» وحدتها الأساسية في التحليل، وليس من زاوية لسانيات الكلام/اللغة، التي تتخذ «العلامة» (الصوتية والمعجمية) وحدة أساس اللغة.([10]) يتلاحق في لسانيات الخطاب الحدث والدلالة، مما يجعل من المباعدة، مباعدة القول فيما يقال، أمرا واردا بشدة ومُحدِّدًا بؤرة كل مشكلة هيرمينوطيقية.([11])

إن اعتبار النص خطابا سيجعله حدثا، شيء ما يحدث عندما يتحدث شخص ما؛ وذلك من حيث إن الخطاب يشمل عالمين، عالم الذات الخاص وعالم ثان يحيل عليه، عالم مخاطَب موجَّه إليه، بينهما تبادل لإرساليات تفترض زمنا وتعقد حوارا، قد يطول وقد يقاطع، وتحضر فيها حركة إنجاز الكلام كما توضحها نظرية فعل الكلام (Speech-Act) عند أوستين (J.L. Austin) وسيرل (J.R. Searle). ولكونه حدثا سيرتبط، بالتالي، بالدلالة التي تحيل عليها قصدية الخطاب؛ ما دام أن كل خطاب يقترن بقصدية معينة. إذا أُنجز كل خطاب كحدث، فإن كل خطاب فُهِم هو بمثابة دلالة. وعليه، يضعنا ريكور أمام الترتيب التالي: تتجاوز اللغة، باعتبارها خطابا، نفسها كنسق، وتتحقق كحدث؛ ومن أجل تحقيق الفهم، يتجاوز الخطاب، باعتباره حدثا، نفسه في الدلالة. لنصل، إذن، إلى خصيصة الخطاب كخطاب، والتي هي تجاوز الحدث في الدلالة؛ أي إنه إذا كان الكلام قصدا مدلولا، فذلك بموجب تجاوز الحدث في الدلالة.([12])

وما يترتب عن ربط الخطاب بالدلالة هو أن هذه الدلالة تكون واسعة جدا بفعل تعدد مظاهر ومستويات القصدية التي تميزه. ويمكن لهذه الدلالة أن نتلمسها في الخطاب كأثر من حيث إنه يتميز بأن له بناء وانتماء إلى نوع ما (نوع أدبي: رواية، قصيدة، بحث، إلخ) وأسلوبا خاصا. بذلك ستكون الهيرمينوطيقا هي فن كشف الخطاب في الأثر الأدبي، ما دام هذا الخطاب لا يقدم سوى في بنيات الأثر الأدبي. هنا سيعيد ريكور التساؤل حول التعارض الذي أثاره ديلتاي بين الفهم والتفسير، وسيقر بأن التفسير هو الطريق المفروض للفهم، من دون أن يعني ذلك أن بإمكان التفسير أن يلغي الفهم بالمقابل.([13])

إن تلمس الدلالة في الأثر لا يعني تلمس قصد الكاتب؛ لأن الكتابة، في نظر ريكور، تجعل عالم النص مستقلا عن قصد الكاتب وعالمه. فلا يتطابق، بالضرورة، ما يدل عليه النص مع ما أراد قوله كاتبه. هناك بون شاسع بين الدلالة النصية والدلالة الذهنية أو النفسية. يسمي غادامير هذا الاستقلال الذي تمنحه الكتابة للنص بـ: «شيء» النص «غير المحدود» الخارج عن الأفق القصدي المحدود لكاتبه. لهذا يكمن فعل القراءة، عند بول ريكور، في تجاوز ظروف الإنتاج النفسية-الاجتماعية الخاصة للأثر الأدبي، وفي الانفتاح على قراءات لا محدودة تقيم بدورها في سياقات سوسيوثقافية مختلفة.([14]) يُفسَّر هذا الاستقلال أو الانفصال عن عالم الكاتب بكون العبور من الكلام إلى الكتابة ينتزعنا من الشرط الحواري للخطاب -فالعلاقة بين الكتابة والقراءة ليست مماثلة للعلاقة بين التكلم والإصغاء- ويفسد عمل المرجعية التي تجمع بين المتحاورين في وضع حواري يكون الوجه للوجه محددا بحالة الخطاب نفسها، ما دام أن القارئ ليس منتميا إلى الحالة المشتركة للمتحاورين. النتيجة الهيرمينوطيقية الرئيسة التي يوصلنا إليها ريكور هي أن المباعدة ليست شرطا تقتضيه المقاربة المنهجية، شيئا مضافا وطفيليا، وإنما هي خاصية ملازمة للخطاب كأثر تفرض نفسها كشرط للتأويل.([15])

يمنح النص للقارئ إمكانية التحرر من مرجعية الخطاب التي تحضر في الحوار المباشر، حيث يتم التحرر من الشبكة الفضائية-الزمنية التي ينتمي إليها المتحاوران، إذ يغيب ال «هنا» وال «آن»، اللذان يمثلان المرجع الختامي لكل خطاب. لم يعد ثمة وضع مشترك بين الكاتب والقارئ. وما يساعد على الانفكاك من المرجعية هو قدرة النص الأدبي على تدمير العالم، كما نجده في أدب الخيال -الحكاية والقصة والرواية والمسرح- والأدب الذي يدرج في الفلك الشعري، حين تكون اللغة مُحتفى بها لذاتها على حساب الوظيفة المرجعية للخطاب العادي.([16])

إن التخلص من المرجعية التي يوفرها الخيال والشعر في الأثر الأدبي الخيالي والشعري، سيتيح إمكانية الحديث عن البحث في عالم النص عما وسمه هوسرل بعبارة الوجود البشري، وهايدغر بعبارة الكينونة في العالم.([17]) بناء على ذلك، جعل ريكور الهيرمينوطيقا تبرح البحث عن غَيْرٍ ما وعن نواياه النفسية التي تتستر وراء النص، كما ستبرح تقطيع البنيات -بنيات النص- لتيمم جهة البحث عن شكل الكينونة في العالم المعروض أمام النص.([18])

بمعنى آخر، إن عدم الإحالة في النص على المرجع، يدفع إلى طرح السؤال التالي: لمّا ينفصل القارئ عن عالم الكاتب الذي لم تعد بينهما أي مرجعية واضحة ومحددة، ما هو العالم الذي يؤوله القارئ؟ إنه عالم النص الذي يقترح بنية من بنيات الكينونة في العالم. «في الواقع، ما يؤول في نص من النصوص، هو اقتراح ما للعالم، لعالم كما يمكن لي أن أقيم فيه لكي ألقي فيه واحدة من أخص ممكناتي. هو ذا ما أسميه عالم النص، العالم الخاص بهذا النص الفريد».([19]) لن يبحث القارئ في تأويله عن غيرٍ ما، عن نواياه النفسية التي تتستر وراء النص، ولكن سيبحث عن نفسه، عن فهم جديد لذاته أمام هذا الأثر الأدبي. فالفهم هو فهم الذات أمام النص، والنص هو الوسيط الذي نفهم عبره أنفسنا، حيث تسعى ذات القارئ إلى التلاؤم مع العالم الذي يقترحه هذا النص أو يبسطه أو يكشف عنه أو يوحي به. «يجب أن نقول إننا، خلافا لتقليد الكوجيتو وزعم الذات معرفة نفسها بالحدس المباشر، لا نفهم أنفسنا إلا بخفايا علامات البشرية المبثوثة في الآثار الثقافية، ماذا كنا سنعرف عن الحب والكراهية، عن الأحاسيس الأخلاقية، وبعامة عن كل ما نسميه ذاتا، لو لم يُنقَل ذلك إلى كلام ولم يُبيَّن بالأدب؟ وما يظهر هكذا أكثر تناقضا مع الذاتية، وما يقدمه التحليل البنيوي على أنه لحمة النص، هو الوسيط الوحيد الذي فيه يمكن لنا أن نفهم أنفسنا.»([20]) يمنح عالم النص الذات فرصة المخاطرة بالنفس لاستقبال ذات أخرى أرحب لا تتشكل من ما تملك الذات مفتاحه، وإنما تتشكل من طرف «شيء» النص «غير المحدود»، بتعبير غادامير، و«عالم الأثر الأدبي»، بتعبير ريكور، والذي يعطي للنص إمكانية اقتراح هذا العالم هو الخيال الذي يعد بعدا أساسيا لمرجعية النص وبعدا أساسيا لذاتية القارئ، حيث تسعى ذات القارئ إلى لقاء ذاتها عبر التيه في عالم النص وفق لعبة يكون فيها تحول العالم هو تحول للأنا.([21]) وما كان لهذا العالم أن يسدي للذات ذلك لولا المباعدة التي يقحمها الخيال في إدراكنا للواقع عبر القطع مع الكلام اليومي. بالخيال والشعر تفتح احتمالات كينونة في العالم داخل الواقع اليومي، بالخيال نعيد وصف الواقع، وبالكلام الشعري نحاكي الواقع كما تحاكي التراجيديا، حسب أرسطو، الواقع بإعادة خلقه بواسطة خرافة أو «حكاية» تصل إلى جوهره الأعمق. وهذا هو النوع الآخر من المباعدة الذي يجب على الهيرمينوطيقا اعتباره.([22])

أجمل بيير بوهلير Pierre Bühler مباعدة ريكور في خمسة تجليات، وهي: جعل اللغة خطابا، وجعل الخطاب عملا أدبيا، وجعل العمل الأدبي فعل كتابة، وإحالة النص المكتوب على عالم معيش آخر يبنيه القارئ وليس الكاتب، ومنح النص، بذلك، لقارئه إمكانات جديدة للوجود، إذ يغدو النص وسيطا لفهم الذات (Self-understanding).([23])

إن تحولات الأنا وفق عوالم النص وما تقتضيه من مباعدة في علاقة الذات بالذات، تمكن من نقد أوهام الذات، على الطريقة الماركسية أو الفرويدية، وبالتالي فهم الذات. وعليه، فإن فهم الذات يمر عبر شيء النص غير المحدود وليس بأحكام القارئ المسبقة. بهذه الكيفية تجاوز ريكور التعارض بين الهيرمينوطيقا ونقد الإيديولوجيات. والخلاصة هي أن نظرية النص تبين أن كل مستويات تحليله، بنياته ومعناه ومرجعيته، تثبت أن المباعدة هي شرط الفهم، وبذلك تكون وظيفتها بعامّة إيجابية ومنتجة.([24])

2- تشارلز تايلور: لغة التباين الواضح

في سياق الحديث عن الحكم على الثقافات، تحدث تشارلز تايلور عن الفهم في علم الاجتماع الذي نلمس فيه نوعا من المباعدة خلال التواصل الساعي إلى الفهم. ولتوضيح ذلك توسلنا هنا بما كتبه في مقال مفصل عن فهم الثقافات عنونه بـ: «الفهم والتمركز الإثني».([25])

تطرق تشارلز تايلور في هذا المقال إلى الفهم في علم الاجتماع (Verstehende social science)، أو بصيغة أخرى، إلى علم الاجتماع التأويلي الذي يجعل الفاعلين (The agents) قابلين للفهم بشكل أكبر. ويقتضي هذا الفهم اعتبار الأفراد، الذين هم موضوع الدراسة، صانعي تعاريفهم الذاتية (Self-definitions) الخاصة التي تُهيكِل ممارساتهم وتصوغها؛ أي إن لكل واحد تعاريف ذاتية خاصة به. سمى هذا الفهم بـ: «الفهم الإنساني» «Human understanding» المتحقق عبر النقاش. يستدعي هذا الفهم الإنساني، عند تشارلز تايلور، القبض على ما يسميه بـ: «الصفات المرغوب فيها» The «desirability characterizations» التي تعرِّف عالم الفرد، مثل انفعالاته، وآماله، وما يجده رائعا وخسيسا في ذاته وفي الآخرين، وما يشتاق إليه، وما يكرهه، وما إلى ذلك. نصل إلى فهمه، عندما نصل إلى فهم هذه الأشياء، وفهم الكيفية التي يتِّبعها في تطبيقها وممارستها؛ فمثلا، إذا كان يقبل الناس الأنيقين ويفهمهم، فمعنى أنني أفهمه هو أن أكون قادرا على تطبيق هذا المفهوم، أي «الأناقة»، بالمعنى الذي يملكه نحوهم. والقبض على الأوصاف المرغوبة يندرج في باب القبض على موضوع تفسيرنا (Our explananda).

والواقع أن تبني تشارلز تايلور رهان الفهم في العلوم الاجتماعية، كان من ورائه التطلع إلى وضع بديل عن الموقف العلمي والموقف التأويلي في علم الاجتماع. فليس يجب، في نظره، اقتصار غاية النظرية في العلوم الاجتماعية على التنبؤ أو معرفة نمط الأحداث الاجتماعية والتاريخية وسياقاتها باستعمال لغة واضحة، فحسب، بل يجب أن تمنح، أيضا، دلالة للفاعلين.

بالنسبة إلى الموقف التأويلي في العلوم الاجتماعية، يؤاخذه تايلور على سوء فهمين شائعين يعتريانه: الأول، تعاطف الباحث مع المواضيع –أي الذوات- التي يدرسها؛ والحال أن التعاطف ليس مطلوبا هنا بشكل ملح؛ لأن ما هو مطلوب هو الاعتبار الذي يبرز دلالة الفعل والوضعية، ويبرز اللغة الصحيحة التي يتسنى لنا من خلالها جعل ممارسات الذات واضحة. والثاني، اعتماد الطرح الذي يرتسم في تبني جهة نظر الفاعل، أو بمعنى أخرى، توظيف لغة الفاعل الخاصة به، أو بفئته، أو زمانه، في تمثيل وتوصيف ما يقوم به؛ والحال أن فهم الآخر ليس يمكن أن يعني تبني جهة نظره فقط.

أما بالنسبة إلى الموقف العلمي، ينتقد فيه تشارلز تايلور جانبين أساسيين: حياديته وكونيته المزعومتين. إن العلوم الاجتماعية المتبنية لنموذج العلم الطبيعي، والباحثة عن الحياد والكونية عبر لغة علمية لا تتلون بالثقافات ولا ترتبط بأي منها، ظلت، في منظوره، بعيدة كل البعد عن تحقيق غايتها، بل والأسوأ من ذلك أنها سقطت في التمركز الإثني. فالعقل الأداتي سليل الحضارة الغربية، الذي انطلق من مقولاته ومفاهيمه الخاصة ليفسر من خلالها كل المجتمعات، عرف قلقا في اشتغاله، وشوه أفعال واعتقادات المجتمعات الغريبة عنه كي تتماشى مع تصوراته.

لا يمكن للعلم أن يتعامل مع الصفات المرغوب فيها، إنها تتحداه كليا؛ ذلك أن لتلك الصفات رزمة من الشروط الأخلاقية القبلية التي تقتضي منا فهمها والإحاطة بها، وأن صلاحيتها تُثْبَت بطريقة تذاوتية في الحالة التي تطرح إشكالا، وأنها دائما موضوع لنزاع تأويلي غير متناه كيفما كانت أنماط الحياة؛ فضلا عن ذلك، تبدو الصفات المرغوبة التي بواسطتها نفهم الناس غير مناسبة للعلم، لأن تأويلها قد لا يخلو من عبارات تقييمية، ومن مواجهة المعايير التي تحدد ما نرغب فيه، في حين تكون لغة الخطاب العلمي مُلزَمَة بتقديم خلاصات واستنتاجات خالية من أي قيمة؛ ثم أيضا، لئن كانت النزعة العلمية تصبو إلى بلوغ علم لمجتمع كوني، فإن استعمال التوصيفات المرغوبة (Desirability descriptions) قد يحول دون ذلك، لأن تلك التوصيفات تكون ثقافية بالأساس، وكل ثقافة لها قيمها ومعاييرها الخاصة غير قابلة للتطبيق في الثقافات الأخرى، كما أن وصف الناس بلغتهم الخاصة سيعني أننا سنتعامل مع كل ثقافة وفق منطقها المخصوص، وسنصفها بعبارات مختلفة غير قابلة للمقايسة (Incommensurable)، يتعذر علينا أن نجد لها ترجمة دقيقة في لغات أخرى.

باختصار، إن ما يشكل موضوع تفسيرنا (Explanandum) المرتسم في ممارسات الفاعل الاجتماعي، وإحساسه، وآماله، ورؤيته التي يعبر عنها بعباراته، هو ما جعل تشارلز تايلور يركز في إحجامه عن الموقفين التأويلي والعلمي، المعتمدين في العلوم الاجتماعية، على اللغة التي يجب أن نستعملها في فهم الثقافات المختلفة عنا: فالموقف التأويلي حاول، في فهمه للفاعل الاجتماعي، تبني لغته الخاصة؛ أما العلمي فقد حاول، في بحثه عن الموضوعية والكونية، اتباع لغة محايدة ومجردة تدعي الكونية. لا تسعفنا اللغة الأولى، في اعتقاد تشارلز تايلور، على منح الدلالة، بينما تسقطنا الثانية في التمركز الإثني، ولا توصلنا إلى الفهم (فهم ما يفعله الفاعل وما يحسه).

وبموازاة ذلك يرفض تشارلز تايلور، أيضا، استعمال لغتنا أو نظرياتنا الخاصة -أي لغة أو نظرية خاصة بأي ثقافة معينة- في فهم الثقافات والمجتمعات الأخرى؛ لأن محاولة فهمها انطلاقا من لغتنا وقيمنا الخاصة أو تصوراتنا القبلية قد يوقعنا أيضا في التمركز الإثني، وقد يضع الكثير من الأشياء التي نريد تفسيرها في المجتمع خارج مجال التفسير. ولننظر، على سبيل التمثيل، إلى اعتماد النظرية الوظيفية في فهم الشعوب أو النظرية الماركسية في تفسير التطورات السياسية والدينية في المجتمعات: فإذا كانت الأولى، مثلا، تفترض أن الدين يلعب الوظيفة الإدماجية في المجتمع، وانطلقت من هذا الفرض كمقدمة لتفسير المجتمعات، فإن ذلك قد لا يمكننا من فهم الأدوار الأخرى التي يضطلع بها الدين في ثقافات الشعوب المختلفة والتي تتفاوت بتفاوت المجتمعات (خلق نظام تراتبي، إثارة الحماسة، صوغ أسلوب حياة يعبر عن النعيم...الخ). أما الثانية التي تقدم نفسها على أنها قادرة على تفسير تطور «البنيات الفوقية» للمجتمع، كالأشكال السياسية والدينية، بلغة وآليات تطور «القاعدة» التي هي علاقات الإنتاج، فلا نلفيها قادرة، باستنادها إلى ذلك فقط، على تفسير دقائق التطور السياسي والديني، كتفسير صعود البروتيستانتية (Protestantisme)، والانتشار المتباين للوثرية (Luthéranisme) والكلفانية (Calvinisme).

مقابل كل ذلك، اقترح تشارلز تايلور رؤيته التأويلية، أو الرؤية القائمة على الفهم (The verstehen view) في العلوم الاجتماعية، التي تجعل أطروحات النظريات الاجتماعية تدور حول الممارسات؛ وذلك ليخالف بها التوجه الذي يتبنى نموذج العلم الطبيعي في العلوم الاجتماعية، والذي اعتبره عدوا أصيلا (Original enemy)، وليخالف، أيضا، التوجه التأويلي في العلوم الاجتماعية الذي لم يُصِب عند تبنيه جهة نظر الفاعل، حيث اعتبره حليفا مخطئا (False ally)، ونعته بـ: «الأطروحة غير القابلة للتصحيح» «The incorrigibility thesis»، لأن كل ثقافة في هذه الرؤية تغدو غير قابلة للتصحيح؛ فبإلحاحنا على تفسير كل مجتمع أو ثقافة بلغتها الخاصة بها، نضع جانبا الاعتبار الذي يظهرها مخطئة أو غامضة أو واهمة.

أوجز تشارلز تايلور المشكل في أن أي محاولة للفهم البينثقافي (Understanding across cultures) ستواجه معضلة تتمثل في سؤال: أيجب أن تكون لغة النظرية البينثقافية (Language of a cross-cultural theory) بلغتنا أم باللغة الأصلية للثقافة المدروسة أو بلغة محايدة؟ وما يتبع ذلك من قبول الأطروحة غير قابلة للتصحيح أو الوقوع في التمركز الإثني والعقلي.

يخرج تشارلز تايلور من هذا المشكل بطرحه استعمال كل من لغتنا ولغة الثقافة المدروسة عبر ابتكار لغة التباين أو التضاد الواضح (Language of perspicuous contrast)، التي يقول في شأنها إنها قريبة جدا من مفهوم «اتحاد الآفاق» «The fusion of horizons» لغادامير، وبأنه يدين له بالشيء الكثير بخصوصها. تمكننا هذه اللغة من صياغة كل من نمطنا ونمط الآخرين في الحياة باعتبارهما إمكانات متبادلة مرتبطة ببعض الثوابت الإنسانية في العمل معا؛ فتصاغ بهذه اللغة التغيرات الإنسانية الممكنة، بحيث كل من نمطنا ونمطهم في الحياة يمكن أن يوصف بشكل واضح باعتبارهما بدائل لمثل هذه التغيرات. يقدم تشارلز تايلور مثالا لنظرية مستنيرة في السياسات المقارنة (Comparative politics) استعملت مثل هذه اللغة، وهي نظرية مونتسكيوه (Montesquieu): لم يكن التباين مع الاستبداد جليا بشكل كبير؛ لأنه لم يكن قائما على فهم حقيقي للمجتمعات الغَرِيبَة (التركية أو الفارسية)؛ لكن مباينة مونتسكيوه بين المَلكية والجمهورية عبر لغة التباين الواضح، أحدثت قدرا كبيرا من الفهم للمجتمع الحديث في علاقته مع الصورة التقليدية للمجتمع الجمهوري.

يمكن لهذه اللغة أن تُظهِر أن لغة فهم ثقافة الآخر مشوَّهة أو غير ملائمة في بعض الجوانب، أو أن لغتنا هي التي كذلك (مشوَّهة أو غير ملائمة في بعض الجوانب)، أو أنهما كذلك معا. في مثل هذه الحالات، نكتشف أن فهمهم يكون سببا في تغيير فهمنا الذاتي، ومنه نمطنا في العيش؛ والعكس صحيح. ذاك ما يجعل من هذه اللغة آلية يمكن أن تحدث التغيير الاجتماعي في صورة تغيير نمط العيش؛ مما يؤكد أن التغيير قد يكون نتاج تماس ثقافي دون أن يكون ثمرة تراكم أسباب وعوامل تاريخية.

بفضل لغة التباين الواضح، تلافى تشارلز تايلور مطبات الأطروحة غير قابلة للتصحيح؛ إذ لسنا في حاجة إلى أن يكون تفسيرنا بلغة فهم مجتمع الفاعلين، ولكن بالأحرى بلغة التباين؛ ولسنا في حاجة إلى اعتبارها، أي لغتهم، غير قابلة للتصحيح، ولكن بالأحرى قابلة للنقد. بفضلها أيضا، تخطى نموذجية العلم الطبيعي؛ فهي لغة تقبل بصلاحية أطروحة الفهم، وتتجنب لغة الحياد العلمي المزعومة، والسقوط في التمركز الإثني. ولكي يبرز الفرق بين موقفه والموقفين اللذين ينتقدهما، قدم مثالا حول تأويل السحر، الذي تناوله بيتر ونش (Peter Winch) في مقاله «فهم المجتمع البدائي»: ([26])

- وفق ما نجده في النظرة التقليدية للأنثروبولوجيا الغربية السابقة التي تعود إلى جيمس جورج فريزر (James George Frazer)، ([27]) اعتبر الموقف العلمي أن السحر هو نوع من المعرفة أو النشاط القبل-علمي/تكنولوجي (Proto-science/technology) (أو علم/تكنولوجيا بدئية)، التجأ إليه الإنسان البدائي كي يتحكم في محيطه، لاعتقاده بوجود أرواح وقوى سحرية. على أساس هذا التوصيف، انتُقِدَت تلك المجتمعات، وسُوِّغ الطرح الذي تقوله اللغة العلمية المحايدة: لا حاجة لنا في الوقوف على الفهم الذاتي للشعوب بجميع تفاصيله.

- ترفض الأطروحة غير قابلة للتصحيح تأويل السحر بلغة علمية محايدة، لأن ذلك، في نظرها، عين التمركز الإثني الصارخ؛ فلا يجب أن نفهم الممارسات السحرية على أنها ممارسات شبيهة بالتي نجدها في مجتمعنا، وأنها تختلف عنها فقط في الدرجة، كما لا يجب أن ننظر إليها كشيء خارج عن بنية نموذجنا العلمي والتكنولوجي الحديث. فالقبيلة لا تحدث بالرقص سببا ماديا خاطئا لجلب المطر، وإنما تحدث شيئا مخالفا ليس يمكن أن نحكم عليه على ضوء المنطق العلمي. الطقوس السحرية لها وظيفة «رمزية» أو «تعبيرية»، ولا تحيل بالضرورة على الأشياء الموجودة في العالم.([28]) رقص أفراد القبيلة يحمل معان مهمة تعبر عن التشبث بالحياة في مواجهة الجفاف، وليس يُعبِّر عن وسيلة أو ميكانيزم لجلب المطر أو لزرع السحاب مثلا. ومن هنا ليس يجوز الحكم، في الأصل، على هذه الأفعال؛ فهي تعبير عن أسلوبهم في الحياة، وعن الطريقة التي يواجهون بها نوائب الزمن وأفراحه: الميلاد، الوفاة، الزواج، الجفاف، الوفرة... إلخ. وبالتالي، ما هو مطلوب إذن هو محاولة فهم أفعالهم بمفاهيمهم الخاصة، وليس الحكم عليها بمفاهيم ممارساتنا، فهي -أي مفاهيمنا ومفاهيمهم- غير قابلة للمقايسة (Incommensurable)؛ وإن لم نفعل ذلك، فإنه سيكون من باب التمركز الإثني الأرعن.

- الرؤية التي يتبناها تشارلز تايلور تتناقض مع الطرحين السالفين، وتُلحق بهما معا تهمة الاشتراك في فرضية التمركز الإثني؛ ذلك أنه بفرضهما أن ممارسات القبيلة هي ممارسات قبل علمية/تكنولوجية (Proto-science/technology) أو أنها تحمل دلالة رمزية، فإنهما يقيمان فصلا بين المجال الواقعي المادي والمجال الرمزي، وهو فصل أتت به الحضارة الغربية مع مطلع القرن السابع عشر ميلادي، ولم يكن معلوما في التراث الفلسفي اليوناني، إذ كان من غير الواضح أن تنفصل «كيفية فهم العالم» عن «التناغم معه». فحسب أفلاطون، إذا كان مفهومنا حول الإنسان كحيوان عاقل، يتمثل في كونه الشخص الذي يستطيع فهم الترتيب العقلاني للأشياء، وكان الفهم يرتبط بذاك الترتيب، فإنه من الضروري أن نحب هذا الترتيب؛ والمفاهيم التي نصبح بها في تناغم مع العالم ونميط بها اللثام عن دلالته، هي التي يجب أن نقدم بها ذلك العالم كترتيب عقلاني؛ فعندما يكون ترتيبا عقلانيا، فإن تلك المفاهيم ستكون هي الأكثر وضوحا لتحقيق الفهم. لكن إذا ابتعدنا عن تصور التناغم مع العالم، وتوقفنا عن النظر إليه كترتيب عقلاني، وتبنينا تصور ديموقريطس حوله، فإننا سنبتعد عن حدود الفهم الواضح. ظل غياب هذا الفصل، بل وعدم قابلية الانفصال من البدء بين «فهم العالم» و«وضع أنفسنا في تناغم معه»، إلى حدود القرن السابع عشر ميلادي، بيد أن الأمر لم يبق كذلك، حيث أصبح الأول يدخل في نطاق عمل العلم، أما الثاني فيدخل في نطاق اهتمام الشعر، أو الموسيقى، أو أي شيء آخر.

باختصار، يريد تشارلز تايلور أن يقول إن الفصل بين ذانك البعدين لم يكن موجودا، وإنما أحدثته الثورة العلمية في القرن السابع عشر الميلادي، وكان أساس التقدم المذهل في علم الطبيعة خلال القرون الثلاثة الأخيرة. وعليه، عندما يؤوِّل الموقف العلمي والأطروحة غير قابلة للتصحيح الممارسات السحرية وفق ذاك الفصل، فإنهما بذلك لم ينفكا بعد عن التمركز الإثني. واستنادا إلى ذلك، سيتمثل التأويل الذي يتبناه تشارلز تايلور لفهم الممارسات السحرية، في عدم النظر إليها عبر الفصل أو عبر التمييز بين الأنشطة العلمية والأنشطة التعبيرية؛ فلغة التباين الواضح تقتضي افتراض إمكانيتي الاتحاد والفصل بين المعرفة والتطبيق من جهة، وبين الرمزية والاندماج (Integrative) من جهة أخرى.

المقاربة التأويلية بالصيغة التي يتبناها تايلور، وكما يوضح هذا المثال، تستطيع أن تقودنا بعيدا عن التمركز الإثني، وتمكننا من إحداث النقيض الملائم. فنحن دائما ما نكون مهددين بالانزلاق نحو اعتبار طرائقنا في العمل والتفكير وكأنها الوحيدة القابلة للتصور، وهذا بالضبط ما تفترضه نزعة التمركز الإثني. تسمح لنا لغة التباين الواضح بمنح الاعتبار لأسلوب عيش وتفكير كل مجتمع، ولا تلزمنا بإسقاط مفاهيمنا على فاعلين من مجتمع آخر، وتقبل بأن تكون نشاطاتهم مختلفة تماما عن أنشطتنا وغير متصلة بها؛ لأن ذلك هو ما سيمكن من فهم ممارساتهم في علاقة مع ممارساتنا، ويساعدنا على إيجاد النقيض الملائم الذي يمكننا من فهم ذواتنا بشكل أفضل، وإعادة وصف ما نحن بصدد القيام به، بل وحتى تغيير فهمنا الذاتي. في المثال المذكور، ترغمنا لغة التباين على رؤية فصل معرفة الكون والتناغم معه كشيء نحن الذين أحدثناه، وأنه إمكانية من بين أخرى في التفكير وليس إطارا وحيدا لا مفر منه لكل تفكير، بمعنى أن المنظور العلمي الحديث هو إنجاز تاريخي وليس نموذجا للتفكير الإنساني الخالد.

بموازاة نقد الذات وإعادة فهمها، تمكن لغة التباين الواضح، أيضا، من نقد الثقافات الأخرى، حيث إن فهمها الذاتي ليس شيئا غير قابل للتصحيح. بيد أننا يجب أن نتجنب انتقادها بالارتكاز على أرضية ليس لها علاقة بموضوعها، مثل ما صادفناه في المثال السابق، إذ نُظِر إليها وكأنها ارتكبت فقط مجموعة من الأخطاء العلمية/التكنولوجية. صحيح أن منظور الانفصال قد أظهر، في مجموعة من الجوانب، علو كعبه وتفوقه غير مشكوك فيه على منظور الانصهار، كتفوقه، مثلا، اللامحدود في الفهم الطبيعي للعالم، حيث النجاح التكنولوجي الكبير علامة دالة عليه؛ إلا أن منظور الاتصال له تفوقه أيضا في جوانب أخرى، إذ يمكن أن نكون أقل مستوى من البدائيين، على سبيل المثال، في الاندماج مع الطبيعة والعالم. بهذه الكيفية، إذن، تساعدنا لغة التباين في تقييم الكثير من الأشياء بشكل أكثر وضوحا، سواء في ثقافتنا أو في ثقافة الآخر.

قصارى القول، يربط تشارلز تايلور، في مقاربته التأويلية، بين التفسير وتعريف الذات؛ إذ لا يمكن أن نصل إلى تفسير ملائم للآخر حتى نفهم تعاريفه الذاتية التي يمكن أن تكون مختلفة بما فيه الكفاية عن تعاريفنا الذاتية. كما يربط فهم الذات ونقدها بفهم الآخر؛ فالطريقة التي نفهم بها مجتمعا آخرا يمكن أن تجعلنا نتحدى تعاريفنا الذاتية ونراجعها، بل وترغمنا على ذلك. وفي المحصلة، تقودنا تلك الترابطات إلى توسيع لغتنا حول الإمكانات الإنسانية، التي تخلصنا من محاولات الهروب إلى القناعة الواهمة بعصمة العلم أو الدين؛ ذلك أنه بقدر ما يفرض التفاهم المتبادل فهما ذاتيا جديدا يمكن أن يكون مزعزعا لبعض القناعات والبديهيات، بقدر ما يمكن أن تكون محاولات الهروب منه إلى تلك القناعات الواهمة (عصمة الدين والعلم) أكثر إلحاحا. كما تخلصنا من القلق الفكري والأخلاقي الذي يجعلنا نرغب في الهروب إلى الحياد المزعوم للعلم الاجتماعي أو الموضوعية الزائفة، أو إلى النسبية المُنهِكة؛ هذا القلق الذي يتم الإحساس به عند وضع نظريات حول المجتمعات الأخرى والمعبر عنه بالتساؤل عن كيف يمكننا أن نكون واثقين بأننا فسرنا ما يجري فعلا في مجتمع غريب عنا إذا كان التفسير يتطلب الفهم؟ وكيف يمكن تجنب النقد إذا كان التفسير مرتبطا بمنح الدلالة؟ وما الذي يمنحنا هذا الحق في إعلان الآخرين أنهم مخطئون تجاه ذواتهم؟

خلاصة

مآل الكلام، يسلمنا التواصل وفق مبدأ المباعدة ومبدأ تعدد العوالم التي تكتنفها لغات الناس، إلى نتيجتين أساسيتين:

الأولى، وهي إمكانية التعامل مع التواصل البينثقافي من زاوية أنطولوجية تتمثل في اعتبار التواصل آلية لانفتاح الذات على عالم شاسع من إمكانات الوجود. وعلى ذلك الأساس، ستتجلى قيمة التواصل البينثقافي في جعل الآخر يبسط أمام الذات تجربته الإنسانية الخاصة والفريدة التي تعبر عن أنطولوجيته، وتمثل إمكانية من بين إمكانات الوجود الإنساني الواسعة والكبيرة، تمنح الذات الثقة في ذاتها لتكتشف بدورها عوالمها الخاصة، وتحفزها على الإبداع والإنتاج، من جهة، كما توقد فيها شرارة النقد الذاتي لاختيارات الذات ومساراتها، والتأمل في المنجز الخاص قصد التنقيح والتجاوز، من جهة أخرى. بيد أن تحقيق ذلك يستلزم استحضار بعض الشروط الأساسية التي تتصل بالتعدد الثقافي، منها على سبيل المثال:

1- عدم اعتبار معايير الذات أو معايير الآخر هي المقياس الذي يجب اعتماده في التقييم أو الحكم؛ لأنه ليس لهذه المعايير صلاحية كونية يمكن تعميمها على كل الثقافات (عدم إمكانية المقايسة بين الثقافات).

2- عدم الحكم على الآخر وثقافته؛ لأن الثقافات غير قابلة للتقييم، وغير قابلة لأن تدرج في سلم ترتيبي قد ينتج عن ذلك التقييم أو الحكم. فهي إنتاج إنساني يمتد عبر الزمن، تشترك فيه الأجيال الماضية والحاضرة والقادمة، تشتعل جذوة عطائه زمنا وتخبو زمنا آخر.

3- تتجاوز الحقيقة حدود الثقافات، وتصب في نهرها كل الثقافات بمختلف إنتاجاتها وإبداعاتها، باعتبارها روافدا لذاك النهر.

أما الثانية: يجب أن يبتعد التفكير في التواصل البينثقافي عن مقومات العقل الذي تأصل عن الاطمئنان للمناهج التي تغنت بها العلوم الحقة والعلوم الإنسانية في البحث عن الحقيقة، لكي نؤسس عقلا يستطيع التعامل مع الثقافة بكل حمولاتها الفكرية، والجمالية، والتخيلية، والفنية، والروحانية، والأسطورية، التي تعكس مختلف أبعاد الخلق والإبداع الإنساني، كما يستطيع تقبل الثقافات بتعددها واختلافها وفق مقومات تسعف على الاستفادة من هذا التعدد بشكل أكبر دون السقوط في التوظيف الإيديولوجي والسياسي والاقتصادي الذي يسم واقع التواصل البينثقافي الحالي.

إن من شأن هذه الاعتبارات وغيرها أن تجعل من فضائل التواصل احترام الهويات الثقافية، ومحو أسباب التوظيف الإيديولوجي للثقافات في تسويغ الاستغلال والوصاية والتبعية التي تكون في الغالب مصدرا للتوتر والصراع بين الشعوب والجماعات والطوائف.

 

المراجع:

  • ريكور، بول: من النص إلى الفعل، أبحاث التأويل، محمد برادة – حسان بورقية (المترجمان)، مصر: عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية، الطبعة الأولى 2001
  • Bühler, Pierre: Ricoeur’s concept of distanciation as a challenge for theological hermeneutics. In: Verheyden, Jozef; Hettema, Theo L; Vandecasteele, Pieter. «Paul Ricoeur. Poetics and Religion». Peters; Bilingual edition (February 18, 2011), 151-165.
  • Taylor, Charles: Philosophy And The Human Sciences, Philosophical Papers 2, Cambridge University Press, 1985, First published.
  • Gadame, Hans-Georg: Truth And Method, Joel Weinsheimer and Donald G. Marshall (translators), Continuum International Publishing Group Ltd.; New édition (15 octobre 2004).
  • Heidegger, Martin: Being And Time, John Macquarrie & Edward Robinson (Translators), UK: Blackwell Publishers Ltd, 1962

[1] نذهب إلى أن اللغة والثقافة يمثلان شيئا واحدا على اعتبار أن اللغة هي جوهر الثقافة وجسدها.

[2] Hans-Georg Gadamer, Truth And Method, Joel Weinsheimer and Donald G. Marshall (translators) (Continuum International Publishing Group Ltd.; New édition 15 octobre 2004), p: 440

[3] Ibid, p: 437

[4] Ibid, p: 440

[5] Ibid, p: 449

[6] Ibid, p: 443

[7] Ibid, pp: 443-444

[8] Gadame, pp: 267- 304

[9] Martin Heidegger; Being And Time, John Macquarrie & Edward Robinson (Translators); (UK, Blackwell Publishers Ltd, 1962,); pp: 191-192

[10] بول ريكور، من النص إلى الفعل، أبحاث التأويل، محمد برادة – حسان بورقية (المترجمان)، (مصر، عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية، الطبعة الأولى، 2001)، ص ص 79-80

[11] المرجع نفسه، ص 81

[12]المرجع نفسه، ص ص 80-81

[13] المرجع نفسه، ص 85.

[14] المرجع نفسه، ص 85.

[15] المرجع نفسه، ص 86.

[16] المرجع نفسه، ص 87.

[17]اقتبس ريكور من هايدغر فكرة أن الفهم لم يعد متعلقا بفهم الغير ولكن بفهم بنية من بين البنيات التي تتحقق في العالم؛ وما يجعل الحديث عن هذا ممكنا هو الخيال الذي يحضر في النص الأدبي، حيث يتجاوز الواقع ويخلق عوالم جديدة تشكل إمكانية من إمكانات تحقق الذات لوجودها في هذا العالم.

[18] المرجع نفسه، ص ص 87-88.

[19] المرجع نفسه، ص 88.

[20] المرجع نفسه، ص 89.

[21] المرجع نفسه، ص 90.

[22] المرحع نفسه، ص 88-89.

[23] Bühler, Pierre. Ricoeur’s concept of distanciation as a challenge for theological hermeneutics. In: Verheyden, Jozef; Hettema, Theo L; Vandecasteele, Pieter. Paul Ricoeur. Poetics and Religion, (Peters; Bilingual edition February 18, 2011), 151-165. pp: 153-154

[24] المرجع نفسه، ص 90.

[25] Charles Taylor, «Understanding and ethnocentricity», in Philosophy And The Human Sciences, Philosophical Papers 2, (Cambridge University Press, 1985, First published). pp. 116-133

[26] Peter Winch, «Understanding a Primitive Society», American Philosophical Quarterly, Vol. 1, No. 4 (Oct., 1964), pp. 307-324, published by: University of Illinois Press.

[27] عالم أنثروبولوجيا إسكوتلندي (1854-1941)، ألف كتابه المشهور والضخم المكون من 12 مجلدا ’’الغصن الذهبي‘‘ «The Golden Bough » (1890) وهو عبارة عن دراسة في السحر والدين. يعتبر أول من وضع جردا للأساطير والطقوس على مستوى العالم. أسس الأنثروبولوجية الدينية والمنهجية المقارنة. واعتبر أن التطور العقلي البشري مر بثلاث مراحل: السحر البدائي، والدين، والعلم.

[28] See J. H. M. Beattie, «On understanding ritual», in Bryan Wilson (ed.), Rationality (Oxford, 1970)