بين الوهابيّة والسلفيّة الجهاديّة: قراءة في التباسات العلاقة


فئة :  قراءات في كتب

بين الوهابيّة والسلفيّة الجهاديّة: قراءة في التباسات العلاقة

هل هناك ارتباط ما بين الوهابيّة والسلفيّة الجهاديّة؟ أين تتقاطعان وأين تتطابقان؟ وأين تفترقان وتتصادمان؟ وعلى أي مستوى يمكن التمييز بينهما؟ هذه الأسئلة وغيرها جسّدت محور العمل الأخير للباحث المغربي سمير الحمادي، الذي يحمل عنوان: "الوهابيّة والسلفيّة الجهاديّة: قراءة في التباسات العلاقة". (صدر الكتاب مؤخراً عن دار النجاح الجديدة، الدار البيضاء، ط 1، 2014).

يروم الباحث من خلال أسئلته تلك، استجلاء الحقيقة في ما يخصّ العلاقة الملتبسة التي تربط ما بين [السلفية] الوهابيّة، باعتبارها الأرثوذكسية الصارمة والمتشددة التي هي جزء أساسي من التيار الإسلامي السني الحديث والمعاصر، وتمثل في الوقت نفسه الاتجاه الديني الرسمي للدولة السعودية؛ وبين السلفية الجهادية، أو المصطلح الجديد الذي بات يُعبّر عن العقيدة/ الأيديولوجيا المؤطرة لنشاطات تنظيم "القاعدة"وأخواتها من التعبيرات الجهادية المنثورة على امتداد العالم.

يمكن تلخيص فرضية الكتاب في ما يلي: السلفية الجهادية تعبير معاصر عن التصوّرات والمعايير والمسالك (الأرثوذكسية) التي طرحتها [السلفية] الوهابيّة في صورتها النقية الصافية الخالصة: الوهابيّة الأصلية كما تتبدى في نصوصها التأسيسية، في صياغات الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وفي شروحات أولاده وأحفاده وغيرهم من أئمة الدعوة النجدية؛ فالسلفيون الجهاديون يبدون ملتزمين، بشكل كامل وعلى جميع المستويات، بأساسيات ومسلمات الدعوة الوهابيّة، التي تمثل بحواملها الفقهية الجناح الأكثر تشدداً في المنظومة السلفية السنية، في جانب العقيدة أو العبادة، وهم في أدبياتهم الراديكالية وفي تحركاتهم لا يسعون إلا إلى استعادة نموذج هذه الدعوة في أصولها الطهرانية الأولى: استعادتها بكل تفاصيلها وترجمة رؤاها الوثوقيّة وتكييفها مع ما ينبغي أن تكون عليه حركة العالم الموضوعي في اللحظة الراهنة.

بعبارة أخرى، السلفية الجهادية هي، في الأساس، تكثيف عنفي لتعاليم معتقدات السلفية الوهابيّة. إنها استدعاء واستنفار للمخزون الراديكالي (المسكوت عنه) في الوهابيّة، في بعديه الرمزي والمادي، أو لنقل إنها استقطار واعتصار لثمالة [السلفية] الوهابيّة، وانعكاس لها على الصعيد التاريخي؛ فهي تتكئ على تصورات جهازها المفاهيمي، وعلى عوالم نسقها الاعتقادي، في صياغة خطابها الاعتراضي، وتحاول تمثلها وإعادة إنتاج أفكارها وتثبيتها حرفياً في فراغات اللحظة الراهنة، على اعتبار أنها وحدها تجسد "الإسلام الحق": "الإسلام الخالص المطلق" في بساطته الأولى كما يتجلى في نصوص الكتاب والسُنّة.

بعد ذلك، عَرّج الكاتب على معالم التفاعل البحثي في المجال التداولي الغربي مع الظاهرة السلفية الوهابيّة، متوقفاً عند ثلاثة اتجاهات رئيسة:

1ـ خيار الانحيازات السياسية والأيديولوجية الصارخة، مستشهداً على الخصوص بأعمال ستيفن شوارتز، مؤلف كتاب "وجها الإسلام: البيت السعودي من التقليدية إلى الإرهاب" الذي يُعدّ النموذج الأشهر في هذا المجال، حيث يُقدم شوارتز معطيات وشواهد كثيرة لإثبات أنّ [السلفية] الوهابيّة تبقى المرجع الفكري الذي يؤسس عليه الجهاديون رؤاهم الصدامية، وأنها هي الناظم الفعلي لنشاطات تنظيم "القاعدة"، لكن ما ينال من مضمون هذه الأفكار ويجردها من كثير من عناصر حجيتها هو غلَبَة الطابع الانفعالي العدائي على لغة طرحها، فهي تبدو كتابات أيديولوجية هجائية أكثر منها أطروحات معرفية من المفترض أن يكون هدفها النهائي إنارة ظلام الفهم حول الإشكاليات مَحل البحث؛

2ـ هناك ثانياً الأطروحة المضادة، والتي تحاول أن تدفع عن السلفية الوهابيّة الشبهات والاتهامات التي تلاحقها، من خلال تقديم رؤية مغايرة للمألوف، مفادها أنّ المتن السلفي الوهابي، على مستوى الأصول والتطبيقات، ليست فيه أية نزوعات راديكالية أو مُحرّضات على العنف، وأن ما يتردد بهذا الخصوص هو محض ادعاءات ومغالطات هدفها تشويه صورة الدعوة (السلفية الوهابيّة) ومن ورائها الدولة (السعودية) التي تتبنى هذه الدعوة، وهي ناتجة عن جهل مُطبق بالموضوع أو عن دوافع خاصة مغرضة، وأنّ المشكلة ليست، على أي نحو، في أفكار محمد بن عبد الوهاب، وإنما هي في الذين يسيئون قراءة وتفسير هذه الأفكار. والنموذج الأساسي، هنا، هو ناتانا ديلونغ ـ باس، مؤلفة كتاب "الإسلام الوهابي: من الإحياء والإصلاح إلى الجهاد العالمي"، فقد بذلت في تأليفه جهداً كبيراً لإثبات عدم وجود أي تماثل أو تقارب، من أي نوع، بين [السلفية] الوهابيّة والخطاب الجهادي في تجلياته القاعديّة (نسبة إلى تنظيم "القاعدة")، لولا أنّ هذه الفرضية تحتمل العديد من التحفظات بسبب نزوعها "التعاطفي" المُفرط؛

3ـ وهناك أخيراً، مقاربة ثالثة تحاول أن تمسِك العصا من الوسط، يُعبر عنها تيم نيبلوك، مؤلف كتاب "المملكة العربية السعودية: السلطة والشرعية والاستمرارية"، ويفترض الرجل أنّ السلفية الوهابيّة، بما هي مدار فكري/ عقائدي خاص، يمكن تمثّل مدلولاتها (مجازاتها) ومقاربتها من وجوه مختلفة، كما هو حال كلّ السرديات النظرية الفاعلة في التاريخ، التي غالباً ما ينطوي داخلُها على جملة من الخطابات والتوجهات التي يمكن أن تكون متوافقة ومتكاملة، كما يمكن أن تكون متمايزة ومتنافرة، وأحياناً متناقضة.

لتجاوز هذا الإشكال وتساؤلاته، سيتقصى المؤلف مفهومات وأفكار [السلفية] الوهابيّة من مصادرها الأصلية: من كتابات مؤسسها محمد بن عبد الوهاب، حيث عقد مقارنات بما هو مبثوث في المنطوق السلفي الجهادي المعاصر ليقف على أوجه التقاطع أو التماثل النظري بينها، كما رَكّزَ أساساً على المفهومات والأفكار المرتبطة بالجانب الاعتقادي، محدداً إياها في المسائل ذات البعد السياسي (مسائل الحكم والسياسات والعلاقات الدولية).

1ـ في تعريف الوهابيّة، نقرأ للمؤلف أنها دعوة دينية طهرانية قامت لغرض أساسي هو إعادة "أسلمة"المجتمع النجدي بعد أن تفشت فيه مظاهر الشرك (من قبيل التوسل بغير الله من أعمال الدعاء والاستغاثة والتمسح بالأضرحة)، وقد حاول محمد بن عبد الوهاب في البداية أن تكون هذه الأسلمةمن أسفل، من خلال جهوده الدعوية الخاصة، لكنه واجه صعوبات واقعية كبيرة، ما دفعه إلى مراجعة استراتيجيته والتفكير في الأسلمةمن أعلى (أي من خلال السلطة السياسية)، فكان اتصاله الأول بأمير العيينة الذي ناصره ثم خذله وأجبره على ترك بلدته، وبعده أمير الدرعية الذي عقد معه اتفاقاً سياسياً ــ ثيولوجياً تمّ بموجبه تقسيم السلطة (بشكل ضمني) إلى سلطة سياسية (زمنية) يتولاها ابن سعود (وورثته من بعده)، وأخرى ثيولوجية (دينية) يتولاها الشيخ (وورثته من بعده): هنا بالذات حدث التحول في السلفية الوهابيّة، عندما تدخل الدين (المقدس والمتعالي) في مشروع الدولة (الدنيوي والوضعي)، وأصبح حاضنة وقاعدة ومنطلقاً للعمل السياسي (السلطوي)، تُخاض تحت رايته الحروب والفتوحات، من خلال تعبئة عسكرية يؤطرها مفهوم "الجهاد"، كما تُصمم الخطط والهياكل والسياسات: داخلياً وخارجياً، وتُفرض الأنظمة والقيم والثقافات، كل هذا في الإطار والاتجاه الذي يخدم حسابات ورهانات السلطة الحاكمة.

2ـ وفي تعريف السلفية الجهادية، يرى المؤلف أنّ ظهورها الأول كان، كما هو معلوم، في مصر مع نهاية ستينيات القرن الماضي، وتحديداً بعد هزيمة يونيو 1967، في ظل تفاعلات الصراع بين جماعة الإخوان المسلمين والنظام الناصري الذي بدأ بشكل فعلي في 1954، وكان سيد قطب، الذي أعدمه الرئيس جمال عبد الناصر في 1966، صاحب الدور الأساسي في صياغة الأطروحات الأولية الناظمة للفكرانية [الأيديولوجية] السلفية الجهادية، وذلك من خلال منشوره الأشهر معالم في الطريق (1962 ــ 1964)، وبعدها يرتحل المؤلف الحمادي في مسارات المصطلح، النظرية والعملية:

أ- في الشق النظري، يتوقف سمير الحمادي عند "رسالة الإيمان" (صالح سرية، 1973)، "الفريضة الغائبة" (محمد عبد السلام فرج، 1980)، "كلمة حق" (عمر عبد الرحمن، 1982)، "ميثاق العمل الإسلامي" (الجماعة الإسلامية، 1984)؛

ب- وفي الشق العملي، يتوقف المؤلف عند الاحتلال السوفييتي لأفغانستان (1979 ــ 1989)، وهو الاحتلال الذي أعطى للسلفية الجهادية دفعة جديدة على نطاق عربي ــ إسلامي واسع، من خلال تفاعلات ظاهرة "الأفغان العرب"، وفي سياق الجهاد الأفغاني، وفي مدينة بيشاور الباكستانية: مركز تجمع "الأفغان العرب"، كُتب النصان الأهم في التراث الجهادي الحديث والمعاصر: "ملة إبراهيم" (أبو محمد المقدسي، 1985) و"العمدة في إعداد العدة" (عبد القادر عبد العزيز، 1988).

بعد ذلك، جاءت حرب الخليج الثانية (1990 ــ 1991) لتشكل المنعطف التاريخي الحاسم في مسار السلفية الجهادية بالنظر إلى ما أفرزته أحداثها من تحولات عميقة في البنية الإسلامية الحركية عموماً، والسلفية، الجهادية تحديداً، بصورة خاصة، حيث وضع القرار الرسمي السعودي (9 غشت/ آب 1990) بخصوص الاستعانة بقوات أجنبية لتحرير الكويت، ومواجهة احتمالات أي عدوان عراقي على دول الخليج الأخرى، وضع ذلك القرار النظام الحاكم في الرياض في مأزق سياسي حقيقي.

ففي محاولة منه للحصول على غطاء شرعي لقراره، عمد النظام السعودي إلى استصدار فتوى بجواز "الاستعانة بالكفار" من هيئة كبار العلماء (يصفها المؤلف بـ"الفاتيكان [السلفي] الوهابي")، وكان يرأسها في ذلك الوقت عبد العزيز بن باز، إلا أنّ التمايزات الداخلية التي ينطوي عليها الحقل الديني في المملكة حالت دون إقرار موقف ديني موحد من القرار، ومن الفتوى التي استُصدرت خصيصاً لتسويغه، إذ سرعان ما اشتعلت شرارة الصراع بين المؤسسة الدينية الرسمية، وما بدا وقتها أنه "جيل سلفي" جديد اتخذ موقفاً معارضاً لأي تدخل عسكري أجنبي في المنطقة، مهما كانت مبرراته، وهو الموقف الذي اتسم بحدة فاقت توقعات النظام نفسه، خاصة بعد أن وصل الأمر إلى حد تكفيره على الملأ والدعوة إلى الخروج عليه.

ولكي نفهم كيف يتحرك ويتفاعل الصراع داخل الوهابيّة بين النموذجين: الدعوي (السلفي الجهادي) والأيديولوجي (السعودي الرسمي)، وكيف يتمخض الالتباس عن هذا الاشتباك، وتختلط الأوراق ما بين مقتضيات الديني(الدعوي) واشتراطات السياسي وإكراهاته (الأيديولوجي)، يُوثق المؤلف بعض النصوص التي قد تكون الأكثر تمثيلاً واختزالاً للفرضية التي افتتح بها الكتاب: الأول للشيخ عبد العزيز بن باز؛ والثاني للشيخ حمود بن عقلاء الشعيبي الذي يعتبره الجهاديون من مراجعهم الموثوقة، وهو أيضاً من كبار العلماء، ومن تلامذة ابن باز، للمفارقة، ومن خلال نصين اثنين، للراحلين (ابن باز وحمود بن عقلاء)، يبدو التناقض صارخاً بين موقفيْ الرجلين ومنطقيْهما، على الرغم من أنهما ينطلقان من مرجعية واحدة: السلفية الوهابيّة، بل ويَتَمَوقَعان داخل الدائرة نفسها: السلفية الوهابيّة دون سواها:

أ- فالأول: الشيخ ابن باز، يتجاوز بوضوح كامل المنظور [السلفي] الوهابي الصارم لعقيدة "الولاء والبراء" كما هو مبثوث في مُدونات أئمة الدعوة النجدية، بل إنه يصطدم معه جملة وتفصيلاً، محكوماً بموقعه السلطوي الذي يفرض عليه أن يعبر عن سياسات وتوجهات (ومصالح) النظام الذي يمثله؛

ب- أمّا الثاني: الشيخ الشعيبي، فيبدو متفقاً ومتسقاً ومتوحداً تماماً مع صحيح المتن [السلفي] الوهابي، يقرؤه، ويتمثل مفرداته ومراجعه كما هي في أصولها، دون أي تأويل أو تصرف، كلي أو جزئي، تماماً كما فعل في وقت سابق جهيمان العتيبي (وهو من تلامذة الشيخ ابن باز)، عندما أسَّسَ "الجماعة السلفية المحتسبة" لمحاربة البدع والمنكرات (بدعم من الشيخ)، فانتهى به المطاف، في نونبر 1979، إلى القيام بأول تمرد ديني مسلح في التاريخ السعودي المعاصر: احتل مع أتباعه الحرم المكي لهدم نظام ما وصفه بـ"الحكم الطاغوتي"، ما اضطر الحكومة السعودية إلى استقدام قوات فرنسية وألمانية لتحريره (بعد استصدار فتوى من 32 من كبار العلماء بجواز ذلك)، وكما فعل بعده أسامة بن لادن وأتباعه من جهاديي تنظيم "القاعدة" (الفرع السعودي تحديداً)، الذين لم يترددوا في إشعال ما يُشبِه "حرب شوارع"ضد النظام من أجل إسقاطه بدعوى أنه "يحكم بغير ما أنزل الله" و"يوالي الكفار والمشركين".

لقد اجتهد المؤلف، من خلال عمله هذا، في تحذير المتلقي والمتتبع من أنّ ظاهرة السلفية الجهادية، التي ملأت الدنيا وشغلت الناس خلال السنوات الأخيرة، شرقاً وغرباً، لا يمكن أن تُقرأ إلا من خلال اللاهوت [السلفي] الوهابي في صورته الأصولية الناجزة، قبل أن يجري إخضاع وتطويع مفهوماته ومقالاته وإقحامها، بل والتلاعب بها في استراتيجيات الحكم والسلطة (كما حدث في حرب الخليج الثانية)، مُختتماً العمل بالتوقف عند مفارقة صارخة: السلفيون الجهاديون، في اندفاعهم المحموم إلى تحرير [السلفية] الوهابيّة من إسار الأيديولوجيا، لا ينتبهون إلى حجم التناقض الذي يقعون فيه، ذلك أنّ ما ينكرونه ويحاربونه هو بالضبط ما يحاولون تدبيره: استقطاب وتقنيع وأدلجة [السلفية] الوهابيّة من جديد، لكن في الاتجاه المعاكس (العنفي) الذي يخدم توجهاتهم ورهاناتهم الراديكالية، إنهم يريدون تحرير [السلفية] الوهابيّة ليعيدوا مصادرتها لصالحهم، وهنا بالتحديد تتحرك خيوط التعارض والصراع، وعلى قاعدة هذه المفارقة يلتقي الطرفان ويفترقان.

وبكلمة، مؤلف الكتاب يُرسّخ اسمه رويداً رويداً ضمن خانة المتخصصين في الظاهرة السلفية (في شتى فروعها الحركية)، سواء عبر أعماله السابقة في هذا السياق، أو عبر مضامين "الوهابيّة والسلفية الجهادية: قراءة في التباسات العلاقة"، أو عبر مساهمته النوعية في تقرير حديث الإصدار حول الحالة الدينية في المغرب (أداء 2013 ـ 2014)، ويصدر خلال الأسابيع القادمة عن مركز "المغرب الأقصى للدراسات والأبحاث" (مقره الرباط)، حيث اشتغل على معالم التديّن السلفي الوهابي في المجال التداولي الإسلامي المغربي، وهذه شجاعة تُحسبُ للمؤلف، بحكم أنّه اشتغل على ملف مُلتهب، ما دام يهم الحقل الديني الذي أصبحت الكتابة فيه/ حوله، أشبه بالخوض في حقل ألغام.