تشارلز تايلور: الجذور اليهو-مسيحيَّة للحداثة الغربيَّة


فئة :  قراءات في كتب

تشارلز تايلور: الجذور اليهو-مسيحيَّة للحداثة الغربيَّة

تشارلز تايلور: الجذور اليهو-مسيحيَّة للحداثة الغربيَّة(*)


الكتاب: منابع الذَّات: تشكُّل الهويَّة الحديثة

المؤلف: تشارلز تايلور

النشر: ترجمة حيدر حاج إسماعيل، بيروت، المنظمة العربية للترجمة، 2014

معمارية الكتاب

يَمتدُّ المسار المعرفي والإنتاجي لتشارلز تايلور[1] من سنة 1964تاريخ صدور باكورة أعماله الفلسفية: The Explanation of behvour, London, Routledge and Paul Egan إلى سنة 2010 تاريخ صدور كتابه المشترك مع جوسلين ماكلور: Laïcité et liberté de conscience, Montréal, Les Éditions du Boréal/La Découverte pour la France. وبين التاريخين تقع جُلُّ كتابات مرحلتي الشباب والنضج، وقد أحصينا منها زهاء تسعة عشر كتاباً، منها الفردي ومنها والمشترك، فضلاً عن عشرات المقالات باللغتين الفرنسية والإنكليزية، ويتوسط الكتاب موضوع التقديم مرحلة الشباب والكهولة، وقد صدر سنة 1989 باللغة الإنكليزية تحت هذا العنوان:

Sources of the Self: The Making of the Modern Identity, Harvard University Press. 1989

تُرجِم إلى اللغة الفرنسية بعد تسع سنوات تقريباً[2]، وتمَّ نقله إلى لغة الضَّاد سنة 2014[3]. وقدتوزَّعت محتويات الكتاب على خمسة أقسام كبرى: استهلَّ القسم الأول منه بوضع "الأطر المرجعية" الأربعة الملازمة لطريقة تمثلنا لأنفسنا، وهي: لحظة الوجود البدئي مع العالم (المستوى الأنطولوجي للهويَّة)، إلى لحظة الوجود في العالم (المستوى الظاهراتي)، ومن ثمَّة إلى لحظة الوعي بالذات (المستوى التأويلي)، وصولاً إلى مرحلة تشكُّل المعاني المشتركة والتقويمات القويَّة (مستوى التواصل والتداول).

في القسم الثاني يمضي إلى رصد الصيرورات الطويلة لما يُسمِّيه بـ"تبطين" الروافد والمرجعيات التي نهلت منها الذاتية الحديثة، ويُحدِّدها في ثلاث مرجعيات كبرى: التأليهيَّة والعقلانيَّة والرومنطيقيَّة. يعزو تايلور ما يُسمِّيه بـ"قلق الحداثة"[4] إلى الصراع المستمر بين هذه الروافد وعدم توافقها حول رؤية موحدة للإنسان والقيم، وهو ما يفتأ في تمزيق وحدة الذات والمجتمعات الحديثة.

في القسمين الرابع والخامس من هذا الأثر تهدأ نسبياً حدَّة التوترات الناجمة عن النزاع المتواصل بين المصادر النقلية والمصادر العقلية، حيث سيُخفِّف الإصلاح الديني اللوثري 1517 من حدَّة التنافر القائم بين الديني والدنيوي، وسيقترب الإله المتعالي من شؤون عباده وحياتهم اليومية، وهو ما جسَّده البراديغم الطهري والبروتستانتي لاحقاً. سيجد هذا "الانفراج" دعامة قويَّة من لدن بعض الفلاسفة المؤثِّرين، من أمثال بيكون ولوك وهردر وروسو، تكمن قيمة هؤلاء في قدرتهم على أنسنة التعبيرات الدينية وإحالتها إلى القدرات التمثلية للذَّات المفكِّرة والحاسَّة.

بيد أنَّ بصيص الأمل الذي حدَّثنا عنه تايلور في القسمين الثالث والرابع سيتلاشى نهائياً في القسم الأخير، لأنَّ الثقافة الأداتية هي التي ستنتصر على مجمل المرجعيَّات، وسيكون لها الكلمة الفصل في تقرير مصير الحداثة الغربية.

لقد أوجدت الثقافة الأداتية مفارقة عصيَّة، إذ بقدر ما حقَّقت رهانات الحريَّة الفرديَّة واحترام حقوق الإنسان وتعميم ثمار الديمقراطية وعلوية القانون وقبول التنوع، بقدر ما أهدرت الروابط الإنسانية-الإنسانية والإنسانية-الطبيعية، محوِّلة إيَّاها إلى مجرَّد علاقات نفعانية وإجرائية خالية من كلِّ معنى. وهذه هي أبرز مظاهر "بؤس الحداثة" الأداتية.[5]

- رهانات الأثر: في المنافحة عن اتصال الحداثة بالتقليد

تنافح الأقسام الخمسة بشكل سردي وخطي وتأريخي عن أطروحة الاتصالوالوصال بين الحداثة والتقليد اليهو-مسيحي في شرايينها، فالثقافة الأخلاقية والتيولوجية لم تندثر بمقدم الحداثة العقلانية، بل ترسَّبت في أعماقنا اللاواعية وفي مخيالنا، ووقعت في دائرة النسيان.

يخوض تايلور جدالاً واسعاً مع معاصريه الذين تحمَّسوا إلى قطع الحداثة عن امتداداتها السحيقة في التيولوجيا اليهو-مسيحية، مؤكِّداً أنَّ هذه الروافد ليست فقط تشكيلات اقتصادية وسياسية واجتماعية بائدة، بل هي روح الشعوب وذاكرتها وهويَّتها.

تسعى التايلورية بهذا إلى إقناعنا بأنَّ جذور هويَّة الأنا الحديثة لا نفهمها فقط انطلاقاً من نقطة الوصول، بل بتذكُّر لحظة البدء(اللحظة الأفلاطونية والأوغسطينية واللوثرية والديكارتية والهيغلية، ومن وراء كلِّ هؤلاء تعمل التيولوجيا اليهو-مسيحية في شكلها "المتنوِّر"). وبهذه الكيفية تظفر مغانم عدَّة في وقت واحد:

-رفض المقاربات الانقطاعية للتاريخ، إذ لا توجد قطائع تاريخية حقيقية بين الحقب التاريخية، بل فقط أشكال تطوُّر وتقدُّم توحي إلينا بولادة مرحلة وأفول أخرى، وباندحار القديم وميلاد الجديد.

-نقد لحظة الحداثة باعتبارها لحظة ادّعاء العقل البشري القدرة على الاستدلال بذاته والتعرُّف إلى الموضوعات والنفاذ إلى كينونتها دون الاستعانة بقدرات خارج ذاته.

- التأكيد على القول إنَّ العلم الحديث وتطوُّر النظام الرأسمالي الراهن إنَّما يضرب بجذوره في التحالف بين الإيمان والحياة.

إنَّ غاية الاستراتيجية التأويلية-التاريخانية هي إبراز عمق الإسهام المسيحي-اليهودي القديم والحديث في نحت معالم هويَّة الأنا والجماعات الحديثة والمعاصرة، والردّ على المزاعم الوضعية القائلة بانقطاع الأزمان عن بعضها بعضاً، وعلى المزاعم الإلحادية القائلة "بموت"الله(نيتشه)، وعدم حاجة الإنسان الحديث لمرجعيات خارج قدراته الذاتية وحياته المدنية.

تقع التعبيرة الدينية ضمن إحدى المكوِّنات الرئيسة للهويَّة الحديثة، ألا وهي الألوهيَّة. تُعتبر الألوهيَّة وفكرة الإله- كما يقول أحد شرّاح الفكر التايلوري ـ إحدى أبرز الأصول الأخلاقية المكوِّنة لبنية الثقافة الغربية.[6]يمنحنا حضور الديني في مكونات الهويَّة الحديثة مصادر ذات أهميَّة في الدفاع عن جدارة الروابط بين الإنساني والإلهي، وهي روابط تُشكِّل ملامح هويَّتنا الأخلاقية.[7]

في سياق هذه الرؤية التأليفية الهيغلية الأصل يدعم تايلور شهادة مورغان، ويردُّ على سكينر الذي زعم أنَّ "موت الله" يحرِّرنا من سلطة المجهول علينا، مؤكداً أنَّ امتلاء إنسانيتنا وحريتها موكولان إلى مدى حرصنا على بقاء الألوهيَّة حيَّة فينا.[8]

لقد كان العنصر الديني بالفعل المنطلق الأوَّل لمجمل التطورات اللاحقة التي شكَّلت بنية الهويَّة الحديثة. عبَّر تايلور عن هذا الحضور التأسيسي بعبارة "الإيمانية الداخلية"[9]، وهي العبارة التي يترجم من خلالها الثورة الإيمانية المنهجية الأوغسطينية. مهَّدت هذه الثورة لنهضة القيم الدنيوية، لهذا لم تكن "الحياة العادية مأثرة المحدثين، بل مأثرة الإصلاح الكنسي الذي قاده البروتستانت والطُّهريُّون. بموجب هذا الإصلاح انتهى التنافر بين القيم الدينية والقيم الدنيوية على غرار العمل والزواج والحياة العائلية، مثلما تنبَّه إلى ذلك ماكس فيبر".[10]

ألغت "المسيحية المتنوِّرة" التعارض بين المعقول والمحسوس متجاوزة بذلك الأفلاطونية، وأثبتت بذلك أهمية الحياة العملية باعتبارها ضرباً من ضروب العبادة. ويذهب تايلور إلى أبعد من هذا مبيناً أنَّ أصل المُثل الحداثية ولا سيَّما العدالة والإحسان هي مُثل مسيحية. كتب يقول: "إنَّ الأصل الأساسي لبحثنا عن العدالة يوجد داخل تقاليدنا اليهودية ـ المسيحية (...)، وهذا أمر بدهي. فدلالات العدالة (كما نفهمها الآن) توجد في مفهوم "العشاء الرَّبَّاني" LAgape المسيحي الأصل. أمَّا طريقة تحقُّق هذه القيمة وما يجعلها ممكنة في حياتنا فإنَّنا نجدها في مفهوم "الغفران"La Grace ".[11]

إنَّ ما تغيّر في المنعطف العلماني للمجتمعات الحديثة هو المفاهيم فقط، وليس المضامين؛ وعلى سبيل المثال فعوض اعتماد مفهوم "العفو" و"المغفرة"، بتنا نعتمد مفهوم "نكران الذات". وسواء استعملنا مفهوم "النزاهة العلمية"(بنتام)، أو مفهوم "الدافع الداخلي للطبيعة"(روسو)، أو مفهوم "الإرادة الخيِّرة"(كانط)، نظلُّ دائماً إلى جوار مفهوم العفو و"المغفرة" المسيحي، "فالأفكار التي لدينا بخصوص دوافعنا الأخلاقية تشهد على مدى الاختلاط والاندماج والتأثيرات المتبادلة للمصادر المتصارعة والمختلفة. فالإيمان وعدم الإيمان يتداخلان في بعضهما بعضاً بطريقة جدّ متشابكة...".[12]

- تبطين الإيمان: لحظة أفلاطون/سانت أوغسطين

يستمدُّ الرافد التيولوجي أهميته من الجهود المتواصلة منذ أفلاطون وسانت أوغسطين لإعادة تمثل الصلات الممكنة بين الإلهي والإنساني، بشكل يحيلها إلى إرادة العقل البشري ليقول فيها كلمة الفصل. ولهذا تراه يعود بنا إلى أفلاطون بوصفه كان أوَّل من حاول ترويض الميتافيزيقا بوسائل الإدراك البشري المحدودة. لقد تحوَّل العقل في الأفلاطونية إلى سيِّدٍ على الأهواء، وباتت الفضيلة رهينة قدرة العقل على ضبط النفس وحسن قيادتها نحو مُثل الخير الواقعة خارجها. فالعقل لا يسعه أن يتطابق مع لوغوس الوجود ومُثل الخير إلا إذا أحكم قبضته على أهواء النفس وانفعالاتها. وعندها يصبح نظام العقل انعكاساً مرآويَّاً لنظام الكسموس. العقل حينئذ هو عين الروح على هذا النظام. وهنا تكمن أهمية اللحظة الأفلاطونية في سلسلة الترقيات الطويلة للهويَّة الحديثة: فالمنهجية الإيمانية لم تعد من الخارج إلى الداخل، بل من الداخل إلى الخارج.[13]

سيشهد هذا التمشِّي تجذُّراً حاسماً في اللحظة الأوغسطينية، إذ لم يعد التطابق مع المُثل هو الذي يوصلنا إلى الله، بل الغوص في أعماق الروح، فصورة الله منطبعة فيها. لهذا يتعيَّن علينا تجاوز عوائق الرُّوح وتغيير وجهتها من المحسوس إلى المثال الأعلى للخير.

"بدل أن تذهب إلى الخارج، عُدْ إلى نفسك. فداخل قلب كلِّ إنسان تسكن الحقيقة".[14] ليس الله هو فقط ما نراه، بل ما يحِّرك العين التي ترى. فالنور الإلهي ليس فقط خارجياً، بل هو داخلي.[15]

سيترتَّب عن تغير إحداثيات الإيمان من مستوى التطابق مع الخارج إلى مستوى التماهي مع الداخل، تحوُّل عملي ضخم وصفه ماكس فيبر بعبارة "الزهدية في العالمL'ascétisme dans le monde" [16]"" وتفيد هذه العبارة أنَّ السلوك الزهدي لم يعد متخارجاً مع العمل والحياة، بل هو متداخلٌ فيهما. والأهمُّ من ذلك أنَّ العمل والإنتاج سيصبحان مع الطهريَّة ضرباً من العبادة.

- "تديين" العمل و"الحياة العادية": مرحلة الإصلاح الديني

يقتضي التناغم بين "الحياة العادية" والرهان الروحي العمل على تحقيق الغايات الإلهيَّة و"مجد الله". ويعني هذا تفادي الخطيئة والإسرافات من كُلِّ نوع، بحيث "يجب أن نحيا هذه الحياة من أجل الله".[17] كان الرهبان أوَّل من نادى بإحلال حياة الصلاة صلب حياة العمل. وبناء عليه يعتبر تايلور أنَّ جذور فكرة "الحياة العادية" الأرسطية إنَّما تكمن في صلب التيولوجيا اليهودية - المسيحية[18]، إضافة إلى أنَّه "لم تكن هناك حواجز بين المؤمن واللائكي: فالأوَّل كان يُصلِّي للجميع، والثاني كان يعمل ويكافح للجميع".[19]

يعتبر تايلور أنَّ "تديين" العمل و"الحياة العادية" (أي إصباغهما بصبغة دينية) لا تعود إلى أرسطو، بل إلى البروتستانت ثم للطُّهريين. لأنَّ أرسطو كان قد ميَّز بالتفاضل بين مفهوم "الحياة العاديَّة" ومفهوم "الحياة الخيِّرة". فالأولى تُعبِّر عن مختلف أوجه الوجود البشري "بمعنى العمل وإنتاج الخيرات الضرورية للحياة، وما يتعلق بحياتنا التناسلية كالعائلة والزواج"[20]، أمَّا الثانية فتتعلق حصريَّاً بغايات الوجود الإنساني، وبالتحديد مختلف الأنشطة الروحية والذهنية والأخلاقية. يختصُّ بالحياة الأولى العبيد والحيوانات، بينما يحتكر السادة أنشطة الحياة الثانية.[21]

حينما ألغت البروتستانتية فكرة "الوساطة" و"البابوية" Papautisme "التراتبية الأكليريكية"[22]، وانفصلت عن الكاثوليكية المتمسِّكة بحياة الدَّير، أضحت الأكثر انفتاحاً على حياة الأرض والأكثر توازناً، لأنَّها تنهل من الخيرات التي سخَّرها الله للإنسان دون إفراط وجشع. هنا حدثت نقلة كبيرة في التراتب الأرسطي للحياة؛ لم تعد الحياة العملية حكراً على العبيد، ولم تعد الحياة التأملية حكراً على السادة. أصبحت "الحياة الإنسانية الحقة والكاملة تتحدَّد بواسطة العمل والإنتاج من جهة، والزواج والحياة العائلية من جهة أخرى".[23]

لم تعد النسكية خارج حياة الأرض والعمل، بل صلبهما. "يجب إذن التمتُّع بالخيرات الدنيويَّة مع بقائنا في اتصال بالألوهيَّة. يجب علينا البحث عن "مجد الله" عندما نأكل ونشرب وننام ونستريح".[24] فليس استعمال الخيرات هو المولِّد للشر، بل نوايانا السيئة، كما يقول دوماً الوعاظ الطُّهريون. يتوجب علينا أن نرغب في خيرات هذا العالم، ولكنَّ هذه الرغبة مدعوَّة إلى تجاوز هذه الأشياء إلى خالقها. "عندما استحوذ العالم على قلوبنا أوقعنا في الخطيئة أمام الله وأمام الإنسان وإزاء عملنا وحيال الدين ذاته. اشتغل إذن لوضع العالم في مكانه الطبيعي، تحت قدميك.اشتغل(...) لتدرك العالم حتى تستطيع أن تكرهه".[25]

شهدت "الحياة العادية" مع الطُّهريين تقديساً غير مسبوق. وقد تفطَّن فيبر إلى أنَّ هذه الروح مثّلت المهد الأول للرأسمالية، فقد ساهم المفهوم الطُّهري للعمل في إرساء إتيقا العمل المنظَّم والمعقلن بالتوازي مع نظام وعادات استهلاكية وحياتية نسكية. كما ساهمت التيولوجيا الطُّهرية للعمل في الثورة العلمية الحديثة.

أبرز ما يمكن تحصيله في هذا المقام هو إسهام كُلِّ الروافد في تشكيل الرؤية الأداتية للعالم. ويتضح "أنَّ هذه الرؤية ناتجة عن التقاء تيارات عديدة، فلا تجوز نسبتها إلى العلم الحديث وحده وإلى سلطة العقلانية "المتحرِّرة"، لأنَّ جذورها تضرب في عمق العلاقة القائمة بين إتيقا الحياة العادية والتعاليم التيولوجيَّة".[26]

- الإصلاح الديني يُحرِّر العلم الحديث من الرؤية الكنسيَّة للعالم: الأزمنة الحديثة

انتهى الإصلاح الديني إلى إعادة موضعة التعبيرة الدينية في العالم من خلال قدسنة العمل والحياة العاديَّة. لكنَّ مفاعيله على العلوم الوضعية الصاعدة ستكون حاسمة، حيث ستجد ميكانيكا القرن الثامن عشر في فكرة العناية الإلهيَّة التي جعلت العالم تحت تصرُّف العقل الإنساني مدخلاً للتصالح مع روح الإصلاح الديني.

وعلى ضوء هذا "سيتمثل القرن الثامن عشر صورة الكون كنظام كبير من تسلسل الكائنات المتعاونة في خدمة بعضها بعضاً".[27]

إنَّما يمنح هذا التقارب مشروعيته الإبستمولوجية هو بالتحديد فكرة "العناية الإلهيَّة". تفيد هذه الفكرة الميتافيزيقية مدلولاً ميكانيكيَّاً جعل من تحالف التيولوجيا المسيحية مع العلوم الناشئة مطلع عصر النهضة أمراً ممكناً. فالعناية الإلهيَّة المتصوّرة في الطبيعة ليست سوى الإشراف والحفاظ على ترابط الظواهر وتسلسلها وخدمة بعضها بعضاً، كما حدَّدتها سلفاً الإرادة الإلهيَّة. إنَّ ترابط الظواهر وتسلسل حلقاتها من البسيط إلى المُركَّب وخضوع حركتها إلى آليات التسلسل الداخلية هو جوهر التصوُّر الميكانيكي للعالم.

إذن طالما لا تمثل فكرة العناية الإلهية عائقاً أمام مجمل هذا التصوُّر فالإبقاء عليها لا يمثل في حدِّ ذاته مشكلاً. بل على العكس فقد يكون لهذا التقارب بين العلم الإلهي اللامشروط والعلم الإنساني المشروط نتائج مثمرة في تغيُّر العلاقة التقليدية /العمودية والاستبدادية التي طبعت الإنسان بالألوهيَّة، كما يقرُّ بذلك أفلاطونيو كمبريدج (ويشكوت، وكيدورث، ومور، وسميث)، [28] وبموجب هذا التقارب لم يعد الإنسان ذلك المتقبِّل السلبي والمستسلم، بل ذلك الفاعل الإيجابي والمشارك في صنع آيات العالم وفكِّ شفراتها.

يمكن القول إذن إنَّ أبرز تغيُّر حصل بالمقارنة مع القدامى هو الانتقال من فكرة النظام الهرمي للعقل إلى فكرة غائية العناية الإلهيَّة في الطبيعة.[29] كانت الطبيعة بالنسبة إلى القدامى نظاماً يدفعنا إلى محبَّته والتشبُّه به. ثم تحوَّلت في التصوُّر الحديث إلى مصدر للدافعية الداخلية، أي إلى "صوت داخلي" كما حدَّدها روسو.[30]

من العسير إذن أن نفكَّ التداخل والتشابك بين التأليهيَّة والانشداد للطبيعة. فرغم تحوُّل الطبيعة من نظام خارجي يطلب من العقل التماهي به (المقاربة الأفلاطونية والرواقية)، ثمَّ من مجال للعبادة والتأمل (المسيحية الوسيطية)، إلى الطبيعة "الممكننة"، الصامتة والعاطلة (المقاربة الديكارتية والميكانيكية في القرنين السابع عشر والثامن عشر)، لم ينفك الرباط التيولوجي القديم، بل استطاع أن يستمرَّ و"يتكيَّف" مع مقتضيات البراديغم الميكانيكي الظافر. ويفسّر هذا "التكيُّف" ليس فقط من جهة التيولوجيا القديمة، بل أيضاً من جهة العلم الميكانيكي الحديث، إذ كان هذا وذاك في حاجة لبعضهما بعضاً: فالتيولوجيا "المتنوِّرة" احتاجت إلى الميكانيكية لكي تجد لها موقع قدم في خارطة العالم الجديد. ويمكن القول إنَّها لو لم تتكيَّف تباعاً مع مقتضيات "الحياة العادية"، وتطور العلوم الميكانيكية لانهارت وهي في المهد. أمَّا الميكانيكية فحاجتها للتأليهيَّة هي حاجة مرحلية وظرفية سرعان ما تخبو ليظهر التباين العميق بين رؤية في تطوُّر مُطَّرد وأخرى في ثبات. ومهما تباينت تأويلات هذا "التحالف"، فقد ظلَّت الطبيعة "الممكننة" إلى زمن مديد رهينة الغائية التيولوجية، لأنَّ انسجام عناصرها وتناغم أدائها لا تُفسِّره لنا كفاية المعطيات الميكانيكية الذاتية للمادة، ويحتاج العقل إلى استدعاء الميتافيزيقا (العناية الإلهية والإله الضامن الديكارتي) لاستكمال نواقص التفسير الميكانيكي الناشئ.

بيد أنَّ الإيجابي في هذه العملية هو أنَّ تدبّر النظام البديع للطبيعة لا يخدم فقط غايات التأمُّل والصَّلاة، بل يراهن على تحويل الطبيعة بالكامل لصالح الإنسان تنفيذاً للمشيئة الإلهيَّة. فليس الخضوع لنواميس الطبيعة ولجمالها ونظامها البديعين هو ما نطالب بالقيام به، بل إعادة قراءة هذا النظام وفق اقتدارات الإنسان وحاجاته، ولو اقتضى الأمر مِّنا الحلول محلَّ الإله في الكون وتخيُّل المواد وطرائق خلق الكون وانبعاث الحياة، لأنَّنا بهذا نتناغم مع المشيئة الإلهيَّة ولا نتعارض معها.

يُمثِّل ما سمَّيناه بـ"تكيُّف" الغائية التيولوجية مع الميكانيكية الصاعدة مرحلة مُتقدِّمة من مراحل "تبطين" العقل الحديث للمصادر الأخلاقية، أي سحبها من النظام العقلاني الخارجي إلى نظام العقل الذاتي المستقل. كما يُمهِّد - حسب رأينا - "لتصفية" الحساب النهائي مع بقايا التيولوجيا داخل علوم المادَّة. ونلاحظ أنَّ الخلفية النفعيَّة التيولوجيّة هي التي "شفعت" لها بتأجيل "طردها" من نظام العقل الحديث. فالقول إنَّ "الله سخَّر الطبيعة لخدمة الإنسان، وإنَّ البحث في أسرارها هو ما تقتضيه المشيئة الإلهيَّة ولا تتعارض معه"، كان يتوافق مع الخلفية النفعية للعلم الحديث. غير أنَّ هذا "التحالف"، الذي تُفسِّره لنا حتماً معطيات تاريخية وسياسية أخرى، سيفقد شيئاً فشيئاً شروط استمراره بعد زوال العوائق الإبستمولوجيَّة والتاريخيَّة والسياسيَّة. فكان الانفصال النهائي عن التيولوجيا القديمة إعلاناً لميلاد عصر "المشاعر الأخلاقية" Les sentiments moreaux.[31] فهل مَثَّل هذا المنعطف "بديلاً انتقاليَّاً" للتيولوجيا المسيحيَّة؟


[1]ـ تشارلز تايلور Charles Taylor فيلسوف كندي، ولد في موريال سنة 1931. درَّس في جامعة ماغيل MC Gill (Montréal) من 1961 الى 1997 ثم في جامعة أكسفورد. ذاعت شهرته عندما حاول تقريب أطروحات الليبراليين الجدد وأطروحات من عرفوا بالجماعتيين les communautariens، وذلك في إطار النقاش الإنغلوسكسوني الذي أثارته ّنظرية العدالة لجون رولس 1971. كما عمل جاهداً على تقريب قضايا القارَّتين: الإنغلوسكسونية والقاريَّة، وذلك من خلال البحث في الجذور الفكرية المشتركة. وفضلاً عن هذا اتَّسمت أعماله بالموسوعية والشمولية، لكونها امتدَّت إلى كبريات المباحث الفلسفية الراهنة، لا سيَّما الفلسفة التحليلية والهرمنطيقا والفينومينولوجيا والعلوم الإنسانية وقضايا الأخلاق والسياسة. عملياًاضطلع تايلور بالعديد من المهام السياسية باعتباره مناصراً متحمساً لاستقلالية الكيباك عن الكنفدرالية الكندية. من أهمِّها: مساعد الرئيس الفيدرالي من 1966 إلى 1971.

[2]ـ مؤلفات شارلز تايلور

- The Explanation of Behaviour, London, Routledge and Kegan Paul, 1964.

- Hegel, Cambridge, Cambridge University Press, 1975.

- Philosophical Paper I, Human Agency and Language, Cambridge Cambridge, University Press, 1985,

- Philosophical Papers 2. Philosophy and the Human Sciences, Cambridge, Cambridge University Press, 1985.

- Sources of the Self. The Making of the Modern Identity, Cambridge Harvard University Press, 1989.

- Trad. Fr.: Les Sources du moi, la formation de l'identité moderne, par Charlotte Melançon, Paris, Seuil, 1998.

- Hegel and Modern Society, Cambridge, Cambridge University Press, 1979. Trad. Fr.: Hegel et la société moderne, par Pierre R. Desrosiers, ed, Cerf et Les Presses de L' Université de Laval, 1998.

- La liberté des modernes, Essais, traduits et présentés par Philipe De Lara, Paris, PUF, 1997.

- Multiculturalism and "the Politics of Recognition", Amy Gautmann et al., Princeton, Princeton University Press, 1992.

- Trd.fr.: Multiculturalisme. Différence et démocratie, par Denis-Armand Canal, Paris, Aubier 1994.

- The Malaise of modernity, Toronto, Anansi, 1991. Republié sous le titre The Ethics of Authenticity, Harvard University Press, 1992.

- Trad.fr.: Le Malaise de la modernité, Traduit de l’anglais par Charlotte Melancon, Edition du Cerf, Paris, 1994.

-The Pattern of Politics, Toronto, Mc Clelland and Stewart, 1970.

- Rapprocher les solitudes. Ecrits sur le fédéralisme et le nationalisme au Canada, Guy Laforest (dir.), Québec, Les de l'Université Laval, 1992.

- Philosophical Argument, Cambridge, University Press, 1995.

- مقالات شارلزتايلور

- "Le fondamental dans l’histoire", in Charles Taylor et l'interprétation de l'identité moderne.Centre culturel international de Cerisy -la-salle, Cerf, et les Presses de l 'Université Laval, 1998.

- "Quiproquos et malentendus: le débat communautariens-libéraux", in André Berten, Pablo Da Silveira et Hervé Pourtois, Libéraux et communautariens, PUF, 1997 Libéraux et communautariens.

- "Le juste et le bien", Revue de métaphysique et de morale, n°1, 1988, p .36 .

- “The Rushdie Controversy”, Public Culture, vol. 2, n°1, automne 1989.

- "Foucault, la liberté, la vérité", dans D.Couzens Hoy (dir), Michel Foucault: lectures critiques, Bruxelles, de Boeck- Wesmael, 1989

- "Les sources de l’identité moderne" in M.Elbaz, A. Fortin, G. Laforest (dir), Les frontières de l’identité, Presses de l’Université Laval, 1996.

- «Force et sens, les deux dimensions d’une science de l’homme», in Gary Brent Madison (dir), Sens et existence. En hommage à Paul Ricœur, Paris, Seuil.

- «Comment concevoir le mécanisme?», in Marc Neuberg (dir), Théories de l’action, Bruxelles, Mardaga, 1991.

- Taylor, “Hegel’s Philosophy of Mind” in Human agency and Language Philosophical Paper I

- “The Importance of Herder”, in Isaiah Berlin: A Celebration, Edna et Avishai Margalit (Ed), Chicago/Londres, University of Chicago Press, Hogarh Press.

- “Theories of Meaning”, in Proceeding of the British Academy, Dawes Hicks Lecture on Philosophy, vol, LXVI, London, Oxford University Press, 1982.

- “Heidegger, Language, Ecology”, in Philosophical Arguments Cambridge, Harvard University Press, 1995.

- "Suivre une règle", in Critique, août- septembre. 1995. Taylor, “Embodied Agency”, in Henry Pieterma (ed), Merleau –Ponty: Critical Essays, Washington, DC, University Press of America and Center of Advanced Research in Phenomenology.

- "Philosophical Reflections on Caring Practices", in The Crisis of Care Affirming and Rsetoring Caring Practices in the helping professions, directed by Susan S. Phillips and Patricia Benner, Washington, D.C., Georgetown University Press, 1994 ..

- "Le dépassement de l’épistémologie", in Jacques Poulain(dir), Critique de la raison phénoménologique, Paris, Cerf, 1991,

- “Quel principe d’identité collective?”, in l'Europe au soir du siècle, identité et démocratie, identité et démocratie, Paris, ed, Esprit, 1992.p.59-66.

- "The Motivation behind a Procedural Ethics", in R. Beiner et William James (dir), Kant and Political Philosophy, The contemporary legacy, New Haven, Yale University Press, 1993.

- "Les institutions dans la vie nationale", Esprit, janvier, 1994, p. 90-102.

- "L’Etat et les partis politique", in André Raynauld (éd), Le rôle de l’Etat, Montréal, Edition du gour, 1962.

- "Nationalism and the Political Intelligensia: a Case Study", Queen’s Quartely, LXXII, 1965.

- "The Agony of Economic Man", in C.L, Lapierre et al, Essays on the left: Essays in Honnour of T.C.Douglas, Toronto, McClelland and Stewart. 1971. Repris in H.D.Forbes(éd), Canadian Political Thought, Toronto, Oxford University Press, 1985.

- "Why do Nations Have to Become States?" in Stanley G.French (éd), Philosophers Look at Canadian Confederation, Montreal, Association canadienne de philosophie, 1979.

- "Language and Society", in Axel Honneth et Hans Jonas (éd), Communitative Action: Essays on Jürgen Habermas ‘sCambridge (Mass), Polity Press, 1991.

- "Comprendre la culture politique", in Raymond Hudon et Réjean Pelletier(éd), L’engagement intellectuel: mélanges en l’honneur de Léon Dion, Québec, Les Presses de l’Université Laval, 1991.

[3]. Taylor, Les Sources du moi, la formation de l'identité moderne, par Charlotte Melançon, Paris, Seuil, 1998.

[4]ـ تشارلز تايلور، منابع الذات: تكوُّن الهويَّة الحديثة، ترجمة حيدر حاج إسماعيل، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2014.

[5]. Ibid. p.214-215.

[6]. M.L. Morgan, "Religion, History and Moral discourse", in Philosophy in age of Pluralism, The Philosophy of Charles Taylor in Question, Cambridge University Press, 1994., p. 53 .

[7]. Ibid., p. 50.

[8]. Taylor, “Replies to K. Skinner”, in Philosophy in age of Pluralism, The Philosophy of Charles Taylor in Question, op.cit, p.225-226.

[9]. Taylor, Les Sources du moi, la formation de l'identité moderne, par Charlotte Melançon, Paris, Seuil, 1998. pp.280.

[10]. Ibid, pp.280-281 et 282.

[11]. Ibid. p.514.

[12]. Ibid. p.517.

[13]. Taylor, Les Sources du moi, op.cit, p. 159

- رغم تأثرها بالتيولوجيا الأفلاطونية، اعتبرت المسيحية الهيمنة العقلية على النفس والكون ضرباً من "الأيقونية"، بموجبها قد يتحول هذا "العقل إلى خادم للشيطان". سنشهد في الأزمنة الحديثة ديناميكية كبرى في مجال نقد العقل بداية من كانط، ونيتشة ومدرسة فرانكفورت، وذلك بعد أن تحوَّل هذا العقل إلى عقل أداتي استعبادي وخانق.

[14]. S. Augustin, La foi chrétienne, p.130. cité dans Taylor, LesSources du moi, op.cit, p.175.

[15]. Ibid. p.176.

[16]. Max Weber, L’éthique protestante et L’ esprit du capitalisme, Paris, Plon, 1964, trad. J.Chavy, p.161 et suivant.

[17]. Taylor, Les Sources du moi, op.cit, p. 286.

[18]. Ibid. p.278.

[19]. Ibid. p.280.

[20]. Ibid. p.275.

[21]. Ibid. p.274.

[22]. Ibid. p.287.

[23]. Ibid. p.275.

[24]. Ibid. p.286

[25]. Ibid. p.287

[26]. Ibid. p.299

[27]. Taylor, Les Sources du moi, op. cit. p.314

[28]. Ibid. p.320

[29]. Ibid. p.362

[30]. Ibid. p.364

[31]. Charles Taylor, Les Sources du moi, op.cit, p. 319.