تكفير "عيال الله"..!


فئة :  مقالات

تكفير "عيال الله"..!

يحفز ما جرى في تونس مع المفكر يوسف الصدّيق على الدفع قدماً باتجاه الفصل التام بين الدين والدنيا، وكذلك التلويح بإلغاء الكهنوتية الدينية في الإسلام. كما يحفز على رفع الصوت عالياً من قبل المثقفين التنويريين من أجل ترسيم حدود العلاقة بين الأرض والسماء، واعتبار النص الديني معطى نهائياً للإنسان، وبالتالي من حقه أن يُعمل فيه عقله، ويضيء بمصابيح رؤاه مجاهيلَه، ويجلّي معانيه.

وحسناً فعل رئيس الحكومة التونسية الحبيب الصيد، حينما أعفى رئيس "المجلس الإسلاميّ الأعلى" عبد الله الأوصيف من مهامه، بعد الرسالة التي بعث بها الأخير إلى المدير العام للإذاعة الوطنية التونسية يحتجّ فيها على البرنامج الإذاعي "عيال الله" الذي يقدمه الصدّيق، باعتباره جزءاً من "البرامج الهدمية للأمن الثقافي والعقدي، وتشويه معنى الحرية الحقيقية المسؤولة"، كما ورد في رسالة الأوصيف الذي اتهم "عيال الله" بأن مقدّمَه "يتناول فيه تحريفاً متعمّداً لمعاني القرآن الكريم والسنة النبوية، ويبدي آراء ينسبها لنفسه، وهي في مجملها آراء لبعض كبار المستشرقين المعادين للإسلام، وفي الحقيقة أن هذا النوع من الدسّ والتحريف لمعاني القرآن الكريم، قد سلكه آخرون مثل سلمان رشدي الإيراني، ومحمد أركون الجزائري، والقائمة تطول...".

وفي رسالة الأوصيف نزوع لا يخفيه صاحبه بأنه هو الممثل الشرعي والوحيد لتفسير النصوص الدينية، فهو يطالب في رسالته تفادياً لـ"إحداث الفتن العقدية والثقافية وسلامة وحدة المجتمع" أن يحلّ أعضاء المجلس الإسلامي الأعلى، مكان الصدّيق، باعتبار أن "لبعضهم تجارب طويلة في العمل الثقافي والديني بالإذاعة الوطنية".

ويحمل ما جرى مع الصديّق من تكفير بيّن، ومن تحريض واضح على إهدار دمه بعد تشبيهه بالبريطاني، من أصل هندي لا إيراني، سلمان رشدي الذي أضحى يرتبط في المخيال التديني الشعبوي بالكفر والمروق والزندقة، رغم أن روايته المثيرة للجدل "آيات شيطانية" التي التي هيّجت حفيظة الإمام الخميني فأصدر، بسببها، فتوى في 14 فبراير(شباط) 1989 بإباحة دم سلمان رشدي، تعتبر في نظر الناقد هارولد بلوم "أكبر إنجاز جمالي عند رشدي".

وبالمناسبة، فقد كان من بين أبرز المثقفين العرب الذين تعاطفوا مع رشدي، آنذاك، الرئيس التونسي السابق المنصف المرزوقي الذي كتب في جريدة "لوموند" الفرنسية في 25 فبراير(شباط) 1989، مقالاً بعنوان "قضية رشدي باسم الله؟" دافع فيه عن "حق سلمان رشدي في كتابة ما كتبه" معتبراً ذلك أمراً عادياً "يندرج في إطار حرية التعبير"، واستنكر ردة فعل العالم الإسلامي والخميني تجاهه، مشدداً على أن "كراهية سلمان رشدي لا تمثل الإسلام".

وعلى الرغم من جسارة وشجاعة مثل هذا "الموقف المرزوقيّ" تجاه رشدي، إلا أنه لم يتناهَ إلى مسامعي حتى الآن (وأعترف أن سمعي ضعيف!) أية ردة فعل تضامنية من الرئيس التونسي السابق مع مواطنه يوسف الصدّيق الذي يُعدُّ ما فعله نقطة صغيرة في بحر سلمان رشدي!

وما يلفت النظر في أزمة الصدّيق أن زوبعة الاحتجاج لم تتجاوز تونس وجوارها، ولم تتحوّل إلى قضية رأي عام عربي ودولي، رغم أن بعض المثقفين التونسيين لم يقصّروا، ودانوا رسالة رئيس المجلس الإسلامي الأعلى واعتبروه بأنه أضحى "هيئة تكفير الناس". والأهم أنهم طالبوا "بترجمة حرّيّة المعتقد والضّمير إلى قوانين وسياسات، حتّى لا تبقى مبادئ الدّستور حبراً على ورق، ولا يستمرّ التّضييق على الحرّيّات الفرديّة باسم الدّين".

الصدّيق لم يعتبر إعفاء الأوصيف من مهامه كافياً، وأعلن أنه سيلجأ إلى القضاء، لأن موقف المجلس، كما قال، أكبر من كونه مجرد مطالبة بإيقاف برنامج، بل هو دعوة واضحة وصريحة للقتل، وإهدار الدم.

وبتفعيل القوانين المدنية، تدخل قضية الصديق حيز الفضاء القضائي، ويُنظر إليها بوصفها جرماً أو جنحة أو جناية، لا باعتبارها أمراً دينياً، لأن التحريض على القتل، واتهام الآخرين والتشكيك بمعتقداتهم إنما هو دعوة صريحة لسفك دمائهم، ولنا في الروائي نجيب محفوظ مثالٌ لا يبارح الذاكرة، فقد أثارت هيئات دينية صخباً كبيراً بخصوص روايته "أولاد حارتنا" قاد إلى اتهامه بالتشكيك بالعقائد الإيمانية و"الخروج عن الملّة"، ما دفع شاباً لم يقرأ الرواية، ولعله لا يجيد القراءة أصلاً، إلى محاولة اغتياله في أكتوبر(تشرين الأول) 1995، بطعنه بسكين في عنقه.

وتأتي قضية الصدّيق في لحظة ملتبسة اختلط فيها حابل الدين الحقيقي بـ"الدين الداعشيّ المتوحش" الذي يحزّ الأعناق، ويحرق الأجساد، ويُغرق الناس أحياء في البحر، ويفجّر أجسادهم ورؤوسهم، ويتفنّن في سوْمهم سوءَ العذاب وشره وذله، ويجنّد الأطفال "أشبال الخلافة"، ليكونوا عناقيد مفخخة أو جلاوزة يتلذذون بالدم المقذوف على قمصانهم اليافعة!

الصديّق، بخطابه الديني المعتدل وقراءته المقاصدية للنص القرآني والسنة النبوية، أراد أن يجسّر الفجوة بين الدين والدنيا، ويقدّم تصوراً للشريعة لا تكون معه قيداً على حركية الكائن ومأكله ومشربه وملبسه وسعيه الدؤوب لإعمار الأرض، وتأثيثها بالخير والحق والعدل والجمال.

بيْد أن ذلك لا يكفي، إن رُمنا بناء مستقبل آمن مستقر لا تتناهبه الإثنيات والمذهبيات والضغائن الدينية، فلا بد من النظر إلى ما تحقق في أوروبا حين أدركت في لحظة مفصلية حاسمة أن الطغيان الكهنوتي بلغ حداً صار معه نقيضاً للحضارة والتمدن، وبناء الدولة التي تكفل لرعاياها الحرية، لا من خلال صكوك غفران الكنيسة، بل من خلال التشريعات والدساتير وميراث البشرية من القيم والآداب وفلسفة الأخلاق التي وصلت ذراها القصوى على يد كانط.

ولا يعني فكاك الدين عن الحياة المدنية، وفصل السلطة الدينية عن السلطة السياسية، كفراً بواحاً كما يحلو لأنصار التصنيف والتنميط أن يزعموا، فليس المطلوب القضاء على الدين ونفيه من الحياة، وإنما أن تتسامح الدولة، كما قال الفيلسوف الإنجليزي جون لوك، "مع جميع أشكال الاعتقاد دينيًا أو فكريًا أو اجتماعيًا، وأن تنشغل في الإدارة العملية وحكم المجتمع فقط، لا أن تُنهك نفسها في فرض هذا الاعتقاد ومنع ذلك التصرف".

وليس في ذلك أية دعوة معلنة أو مستترة للمسّ بدور العبادة أبداً، ولكنّ ليس من المنطقي أن يتم حكم الدنيا، بتحولاتها المتسارعة وتطوراتها التي لا تخطر في بال، وَفق نصوص دينية تقادم فعلها، وأصبحت خارج منطقة التداول الزماني، وهذا لا يبطل تأثيرها الروحي، ولا ينتقص من قدسيتها.

ليس المطلوب، وحسب، ترشيد الفقه وتأهيل الفقهاء ليكونوا متوائمين مع انفجارات العصر المعرفية والتكنولوجية، بل يتعيّن الدفع باتجاه التخفيف من سطوة الأحكام الدينية على الحياة اليومية، ما دامت هناك قوانين رادعة تضبط إيقاع الكون، وتضمن للبشر أن يتحركوا بمعزل عن قيود النصوص وسجن المقدّس، حتى لو كان هذا السجن مسوّراً بالحدائق الغنّاء وأنهار الخمر والعسل، ومحروساً بكتائب الحور العين!