رسول محمد رسول: في الفيلسوف، إنسان التنوير ومفكر صباح الغد


فئة :  حوارات

رسول محمد رسول: في الفيلسوف، إنسان التنوير ومفكر صباح الغد

ابراهيم مجيديلة: صدرَ لكم في الآونة الأخيرة (سنة 2016) كتابًا بعنوان (ما الفيلسوف؟ إنسان التنوير ومفكر صباح الغد) فما هي الرسالة التي تسعون إلى تبليغها من خلاله؟

رسول محمد رسول: ببساطة، تراني لم أجعل عنوان كتابي هذا (ما الفلسفة؟) إنما (ما الفيلسوف؟....) لأختلف بذلك وأردّ على كل أولئك الذين يعتقدون بفكرة "موت الفيلسوف" على غرار نخبة النقّاد، والمفكِّرين، والفلاسفة؛ الذين كان يستمتعون منذ منتصف ستينيات القرن العشرين بعبارة "موت المؤلِّف" وفي السنوات الأخيرة (موت الناقد) كما هو عنوان كتاب رونان ماكدونالد؛ فالفيلسوف مازال حيًّا وسيبقى كذلك، وعملية إماتة الفيلسوف تراها قديمة في ثقافتنا العربية؛ فقد كان أبو حامد الغزالي (ت 505 هجرية) ورغم قلقه المعرفي، رمى الفلاسفة بالتهافت فهم، وبحسب منظوره، متهافتون، سواء كان موت الفيلسوف أو التمهيد لذلك برغبة منه، أو بطلب من السلطان السياسي لذلك الزمان، لا سيما أن الغزالي جرّب أن يكون مثقف سُلطة يستجيب لرغبات السلطان في حينه، وذلك عندما سمح لنفسه بعنونة كتابه التكفيري/ التبديعي؛ وهو الأول من نوعه في تأريخ ثقافتنا الفلسفية العربية، (تهافت الفلاسفة) ولم يقل (تهافت الفلسفة) فالعداء لهذا المقاتل ضد الجهل والتخلف (الفيلسوف) تراه مؤصَّلًا في ثقافتنا، حيث جاء تاليًا أبو عمرو ابن الصلاح الشهرزوري (577 - 643 هـ) الذي عمل على تسفيه وتحقير الفلاسفة، ووصفهم بالزنادقة عندما ربط بين التمنطق والتزندق، فمن يفكِّر بمنطق عقلي هو زنديق خارج عن الملة "منْ تمنطق فقد تزندق".

ابراهيم مجيديلة: هل تعتقد أن تداعيات ذلك ما زالت قائمة حتى الآن؟

رسول محمد رسول: ما هو مؤسف أننا نعيش تداعيات وتبعات هكذا مثبطات لعزيمة العقل العربي والإسلامي، وللأسف هي مثبطات شائعة بين الناس على الصعيد العمومي والشعبي، وهذا الجهل الذي يندس في الوعي العمومي ظاهرًا وباطنًا في "لا وعيه" ما زال قائمًا حتى اللحظة، وفي ضوئه تمَّ إلغاء تدريس الفلسفة في التعليم الأولي، بل والجامعي منذ مطلع ثمانينيات القرن العشرين، وتم إغلاق أقسام الفلسفة في بعض الجامعات العربية سوى تلك الدول التي ما زالت تتشبث بتدريس المعرفة الفلسفية؛ لأنها الخيار العقلاني الوحيد لضبط حالة الوعي العربي المتردية والغارقة في أوحال الخرافة والجهل، وتلك هي الغاية النهائية، حتى وصل الأمر بأن دولًا عربية تُطلق مشاريع معرفة كبرى وتنفق عليها ملايين الدولارات لكنّها تتحسَّس من نشر الكتب الفلسفية، وتراها تدّعي التنوير العقلي لكنها غارقة في أوحال الخوف من الفلسفة بل الكراهية للمعرفة الفلسفية.

ابراهيم مجيديلة: هل تعتقد أن صحافتنا تشترك في هذا التغييب للفيلسوف؟

رسول محمد رسول: ما زالت صحافتنا العربية لا تسمّي صاحب الفكر الفلسفي بـ "الفيلسوف" بل تكتفي بعنوان "مفكِّر" أو تنزل إلى درك أسفل، وهو تخلُّف، وتسمي الفيلسوف "كاتب" فهناك "لا وعي" حتى لدى النخبة الصحافية التي تفرض سلطتها على الأداء اليومي، فهناك "لا وعي" قابع لديها ينفر من وجود الفيلسوف ومن تسميته، وتلك كارثة مضاعفة تتشارك بها هذه النُّخب لتهميش وجود الفيلسوف ودوره، أليست التسمية وجود، أليست تسميتنا لإنسان ما بأنه "فيلسوف" هي تعبير عن وجود؟

أعود إلى سؤالك، ففي كتابي هذا أعيد الاعتبار للفيلسوف ابتداء من عنوانه، أعيد الاعتبار لمكانة هذا الإنسان المفكِّر بعقله وضميره في الحياة والوجود، أعيد الاعتبار نفسه للفيلسوف بوصفه وجودًا وموجودًا معًا.

ابراهيم مجيديلة: ما هي الصورة العامّة التي يقدمها تأريخ الفلسفة عن شخصية الفيلسوف؟

رسول محمد رسول: إنها صورة مشرقة بقدر ما هي عاتمة، التاريخ في كل زمان ومكان تراه يحفل بالفلاسفة، بعد سقوط بغداد سنة 656 هجرية دخل العرب والمسلمون في مراحل من غياب الحياة الفلسفية، بل الثقافية الفاعلة أيضًا، فلم يظهر فلاسفة آخرين على غرار الكندي والفارابي وابن سينا والرازي وقبلهما جابر بن حيان.

كان سقوط بغداد في ذلك العام هزيمة كبرى للعقل الفلسفي بالمشرق العربي كله، بات العقل العربي يجتر بقايا ما تركه هؤلاء من نشاط فلسفي قوامه العقل حتى جاءت موجات الاستعمار المغولي والفارسي والعثماني والبريطاني التي فعلت، أول ما فعلت، العمل على طمس التفكير العقلي لصالح الخرافة والجهل والتفكير الشعبي الساذج الذي يفكِّر الحياة بالغريزة والحس الباهت في ظل الشعور بالهزيمة والخوف والحرمان والتخلُّف المعرفي والعوز الاقتصادي والتردي الصحي، لينحسر دور التفكير الفلسفي سوى ما كان منه يعتاش على ضماضم الماضي التليد.

ومثلما فعل الغرب الأوروبي في عصور نهضته الحديثة على استعادة دور الفيلسوف اليوناني والروماني بل العربي أيضاً في أيام تألقه وعطاءه الباهر، كذلك فعل العرب في عصر نهضتهم الحديثة عندما عادوا إلى أمجادهم الفلسفية، ولكن شتان بين التجربتين، فلقد تركت موجات الاستعمار المغولي والفارسي والعثماني والبريطاني، وأخيرًا الأمريكي، أثرًا فادحًا في تسطيح الوعي العقلي العربي، وهو التسطيح الذي ما زال قائمًا حتى اليوم وتلاحظ أننا ندفع ثمن هيمنته علينا.

أعتقد أن العودة إلى الفيلسوف؛ هو عنوان الشروع بخلق حياة فلسفية عربية نفتقدها منذ قرون، ومن هنا، لا بدَّ للمجتمع والدولة من التمسُّك الحيوي بعودة الفيلسوف إلى طاولة الحياة المعاصرة، إلى مائدة الشراكة في الحياة الثقافية والعلمية بل والسياسية حتى، فمن دون الفيلسوف لا توجد سوى حياة ثقافية خالية من العقل، ومن ثقافة العقل، ومن جسارة الإيجابية، وهل هناك إنسان من دون عقل؟ بالتأكيد لا يوجد إلاّ إذا كان شبيهًا بالحيوان غير الناطق.

لقد حفل التأريخ بصور متعدِّدة من الفلاسفة، وكان ذلك محطّ ثراء للأسف نحن لم نستثمره لصالح حياتنا الراهنة وذلك لأسباب عديدة منها؛ أولًا: ضمور الحياة الفلسفية في مجتمعاتنا؛ بمعنى أن حياتنا الثقافية خاوية من الحراك الفلسفي الفاعل. ثانيًا: وجود ثقافة الخوف الشائعة من كلمة "فلسفة" ومن كلمة "فيلسوف". ثالثًا: ثقافة الاحتقار الشعبية حتى للرنين الصوتي للكلمتين "فلسفة وفيلسوف". رابعًا: هيمنة ثقافة التحريم والتكفير التي أشاعتها الحركات السلفية القديمة/ الجديدة في أشكالها الإجرامية والدموية كجماعة "تنظيم القاعدة" و"داعش" وقبلهما، وربما بعدهما، مما سيتفرّع عنهما. ناهيك، وهذا خامسًا: عن الخواف الزائف الذي تبديه الحكومات العربية من الفلسفة والفلاسفة بحجّة ضغوط الإسلاميين والإسلامويين عليها معًا، وهو تبرير زائف؛ فالأنظمة العربية الراهنة، كما السابقة، لا تريد أي صوت للعقل الفلسفي؛ لأنَّ هذا الصوت، كما هو صوت الإصلاح الحقيقي، يثير صداعها وقلقها من صحوة ويقظة الفرد العربي في مجتمعاتها التي تحكمها بشتى أساليب فلسفة ما بعد الحداثة أو الحداثة السائلة أو الحداثة الفائقة إلاّ الفلسفة.

ابراهيم مجيديلة: هل يُفترض أن يكون شهيد الفلسفة (سقراط) نموذجًا لكل فيلسوف، ويلقى نفس مصيره؟

رسول محمد رسول: هذا يرتبط بالتلقي الخاص بكل واحد منّا لشخصية سقراط الذي كان شهيد الحكمة عمومًا وليس الفلسفة فقط، شهيد الفضيلة والخداع السلطوي والنُّخب المجتمعية الفاسدة والمحسوبيات الضارة. وراهنًا نحن نعيش أزمة حكمة، وأزمة فضيلة، وأزمة خداع مجتمعي طبقي وسلطوي فاسد، نعيش طامة كبرى اسمها المحسوبيات، وهي أنظمة عيش جهوية غرائزية مدمرة تنخر مجتمعات الفوضى الخلاقة العربية، وأنموذجها العراق بعد هزيمة الدولة فيه، وحلّ الجيش، وتدمير البنية التحتية، وتصدير الديمقراطية الأمريكية الهوجاء إليه بغية التحديث، لكنّه التحديث الذي أعاد العراق، مثلًا، إلى العصور الوسطى، عصور الظلام الجهوي بكل أشكاله؛ المذهبية والعرقية والمناطقية والعشائرية.

تريد الولايات المتحدة الأمريكية إدخالنا في مرحلة الحضارة السائلة أو الحداثة الفائقة عنوة، وهي حداثة ما بعد حداثية (يسميها زيغمونت باومان بالحداثة السائلة) لم تقدِّم للبشر سوى الخراب والضياع والموت بصور مجانية فادحة؛ فها هو العراق تسيل فيه الفضيلة بل الفضائل إلى أنهار الفساد الأخلاقي، كل شيء في العراق يسيل عن أصله نحو خرابه وضياعه، فالبشر جميعهم شهداء الخراب، جميعهم سقراط الذي تجرّع شراب السم ومجتمعاتنا الآن تتجرَّع الشراب ذاته؛ ألا ترى معي أن مجتمعاتنا العربية تعيش موتها البطيء وهي تتجرع سمّ الفوضى الخلاقة التي لا تريد للإنسان العربي أن يتذوَّق الإصغاء إلى صوت العقل الحكيم؟

ابراهيم مجيديلة: ما هي الأدوار المنتظرة من "الفيلسوف" في عالمنا الإسلامي والعربي؟

رسول محمد رسول: إنها كثيرة، وتراني في هذا الكتاب دخلتُ إلى تأريخ تصوّرات الفيلسوف لنفسه، لذاته، لكيانه، ولكينونته، دخلت إلى وجوده؛ لأنظر كيف ينظر هو نفسه إلى ذاته كفيلسوف، كيف يرسم وظيفته وأدواره في المُعاش الإنساني والحضاري والثقافي والمعرفي برمته، واستعرضتُ، في هذا المجال، الكيفية التي ينظر فيها ثلاثة من الفلاسفة الألمان الكبار إلى الفيلسوف، فقد دخلتُ إلى عالم إيمانويل كانط، وفريدريش نيتشه، ومارتن هيدغر؛ أي إنني استعرضتُ مفهمة هؤلاء الفلاسفة الثلاثة الكبار التي ظهرت خلال قرن ونصف، وهذا لا يعني أنه لا توجد رؤى أخرى، ولكنّني حرصتُ على تقديم هذه الرؤى لأهميتها في تأريخ الفلسفة الأوروبية كونها انطلقت من منظورات ثلاثة هي: المنظور الابستيمولوجي لدى كانط، والمنظور القيمي لدى نيتشه، والمنظور الأنطولوجي لدى هيدغر، وكلها تجتمع على أن الفيلسوف إنما هو إنسان يعيش في صميم الحياة والوجود، وهي منظورات غير ميتافيزيقية، وهذا ما نحتاجه في عالمنا العربي والإسلامي، وهو لا يعني أنّنا نبخس حق المنحى الميتافيزيقي في التفكير البشري ولا نرفضه جُملة وتفصيلًا، لكنّني أعتقد أن معركة الإنسان العربي هي معركة معرفة، ومعركة قيم، ومعركة وجود في آن واحد، حتى هذه اللحظة.

لقد قلتُ في كتابي (ما الفيلسوف؟) بأن للفلسفة وظيفة حيوية في راهننا تتمثل "بممارسة تفكيرية تُعيد بناء الوجود البشري والمعرفي لإنساننا العربي المأمول وفق طاقة قدراته العقلية ومكانته ا لأنطولوجية، وذلك من خلال أربعة مسارات متعاضدة متجاورة، هي: مسار معرفي قوامه العقلانية النّقدية الإنسانية ويتم فيه إحياء مبدأ العقل الإنساني النَّقدي بوصفه الأداة الآمنة التي منشأنها التعامل الحيادي مع البشر؛ بوصفهم كائنات حرَّة التفكير من دون أن يغيِّب الضرورة الأنطولوجية. ومسار قيمي قوامه إحياء القيم الإنسانية العامة كقيم التعايش السِّلمي والتواصل الحضاري والثقافي بين الأفراد والمجتمعات والحضارات؛ وذلك بالانطلاق من مبدأ أن الإنسان هو القيمة الأعلى في الوجود. ومسار مجتمعي قوامه إحياء ثقافة المسؤولية الجماعية – المجتمعية غير المتعصِّبة، ولا المتطرِّفة، ولا التكفيريّة أو التبديعيّة، بغية تقويض وتفكيك الوعي التحريمي والتكفيري والتبدُّعي والتدميري المتطرِّف الناتج عن أهواء جهويَّة مرضيَّة متعصِّبة سواء أكان تدينية أم مذهبية أم عرقية أم مناطقية. ومسار أنطولوجي قوامه أن الإنسان هو كائن أنطولوجي، والمجتمع هو كيان أنطولوجي، والعالَم كيان أنطولوجي، والسلوك الفردي كيان ذاتي - أنطولوجي. ما يعني ضرورة إحياء الوعي بأنطولوجيا الوجود والحياة والسلوك اليومي، للحدّ من هيمنة التفكير الإيديولوجي المتطرِّف التي باتت مفاعيله تتحكَّم بمصائر العالم والبشر أجمعين. ولعل مشروع المفكِّر العراقي "الدكتور عبد الجبّار الرفاعي" يعدّ بذرة في هذا الاتجاه الأنطولوجي عبر كتابه "الظمأ الأنطولوجي للمقدَّس" وكذلك مشروع المفكَّر اللبناني "الدكتور مشير عون" في كتابه "هيدغرو الفكر العربي" الذي يعدُّ أيضًا بذرة مماثلة (ص 34-35).

في كتابي هذا، كان تأكيدي على "أن أنموذج الفيلسوف المأمول راهنًا، لا بدَّ له أن يستحضر إرادة الرغبة العقلية الحقيقية المقتدرة بالتنوير بعيدًا عن أية ميول جهويَّة أو أسطورية أو خرافية متعالية، كما كان حال التنوير الأوروبي في بعض أشكاله، التنوير الذي استركن باحات هذه الميول حتى سقط في فخاخها مهزومًا، يستحضر إرادة التخلُّص من الشُّعور الحاد بالغربة السَّلبية عبر تفكيك هذا الشعور ودحره صوب الانفتاح التفاعلي الخلاق بين الفيلسوف والمعرفة والواقع المعاش. وكذلك تفادي التعالي على أنموذج فيلسوف يمكن أن يكون هاديًا لمشروع تنويري ما، وتبديد مخادعة الحدوث التاريخاني لفعل التفكير الفلسفي التي يبديها هذا الطرف أو ذاك من دُعاة اليأس الذاتي الذين عجزوا عن وصل معرفتهم الفلسفية وملامستها مع حراك الواقع المجتمعي خارج الإطار المؤسَّساتي. والنَّظر إلى ما يجري في الواقع كاستثناء وحدث وانقطاع، لا كمجرَّد صيرورة غُفل تأتي وتمر وتذهب، بحيث تهيئ، هذه الثلاثية المفهومية، لبنية المعرفة الفلسفية طابعها في أن تكون الاستثناء المعرفي، والحدث المعرفي، والانقطاع المعرفي، وتهيئ تجربتها التاريخانية أيضًا لولادة فيلسوف الاستثناء المعرفي، فيلسوف الحدث المعرفي، فيلسوف القطيعة/الانقطاع المعرفي الفلسفي الأصيل.

بهذا يمكن أن تصبح المعرفة الفلسفية التنويرية الإنسانية العقلانية النّقدية أكثر من كونها مجرَّد تخصُّص معرفي أكاديمي خبيء أسوار الجامعات أو سجينها الراجف. وبذلك، وبذلك فقط، يمكن للفيلسوف أن يوقظ الحوار مع ما يجري في العالم، يوقظ التنافذ التواصلي مع مصير العالم من خلال التفكُّر الأصيل الذي هو مصيره الوجودي والأنطولوجي كإنسان وهبته طبيعته البشرية القدرة على التفكير الخلاق في ما يجري، وما يكون، وما سيكون، أو ممكن (أنْ) يكون" (ص 52 - 53).

ولهذا تراني أعتقد بأنه "لا بدّ للفيلسوف من تجديد دوره على نحو تزامني مزدوج؛ تجديد دوره المعرفي الخلاق، وتجديد دوره الوجودي اليقظ معًا، ومعاودة ذلك الدور بأصالة خلاقة فائقة في انهماكه االتاريخاني، وذلك عبْر تبديد عزلته "عزلة الفيلسوف الصامتة" عمّا يجري حولـه في الواقع المُعاش، بلا استعجال مُسائلة ذلك الـ "ما يجري، وما يحدث" في الواقع على نحو متروٍّ. وبذلك، يتحوَّل الفيلسوف المأمول من مجرَّد كائن طاووسي مفتون بذاته وبمعرفته الفلسفية التي له دون غيره، بحسب أوهامه ومن باب الاحتكار النَّرجسي لاغير، إلى مُتفلسف تاريخاني أصيل ينفتح على الوجود اليومي غير الاستهلاكي ليضيء دروبه بحيث يجعل من نظامه المعرفي الذي لا بدّ أن يكونه الفيلسوف وهو يلاقي العالم من حوله، نظام معرفي مُوطَّد العلاقة مع حراك التاريخ الجاري، ومع حركيته التاريخانية المعاشة فعلًا، على نحو تعاضدي مُتزامن في حضوره وانشغاله بما يحدث ويجري حوله" (ص 64).

ابراهيم مجيديلة: أريد الذهاب إلى وسط كتابك، إلى "الفصل الثاني" الذي ضمَّ ثمانية فصول مصغرة مكثفة حيث فلسفتك في العقل وإشكاليات أخرى؟

رسول محمد رسول: نعم، يبدو لي وسط الكتاب مهمًّا، بل عمقه الفكري الخاص به، فهو يمثل بالنسبة لي وجهات نظري في القضايا التي تناولتها، وتحديدًا منحاي العقلي النقدي التنويري الإنساني الذي يشدني التفكير فيه وبه؛ فمنذ كتابي الأول (العقلنة.. السبيل المرجأ) الذي صدر ببغداد سنة 1992، شرعت برؤيتي في التفكير العقلاني واتخذته مسارًا لي، وعدت مرة أخرى لأتناول المسار نفسه في كتابي (نقد العقل التعارفي) الذي صدر في سنة 2004، وكذلك في كتابي (نقد العقل التدميري) الذي صدر في سنة 2009، لكن يبقى الكتاب الأول هو التأسيسي في هذا المجال ليتطوّر الأمر أكثر وبكثافة عالية في كتابي (ما الفيلسوف؟) حيث الرؤية تتسع نحو العقلانية النقدية الإنسانية، وهو ما تطلَّب التطرق إلى جملة مشكلات ناشئة ترتبط بها كمشكلة العقل المدني، والعقل الإصلاحي، والعقل الجهوي، والعدمية الجديدة، والموقف من التفكير الجهوي بكل أشكاله، كذلك الموقف من الغيرية، وتفكيك الكراهية، والموقف من الحقيقة المفتوحة. يمثل وسط الكتاب أو الفصل الثاني من كتابي شرعة الرؤى التي تميز خطابي الفلسفي من عصرنا وإشكالياته. باختصار أقول: إن وسط كتابي هذا يمثل فلسفتي بشأن العقلانية النقدية الإنسانية.

ابراهيم مجيديلة: بأي معنى يمكن الحديث أن "الفيلسوف الطائفي"؟

رسول محمد رسول: في كتابي هذا لم استخدم مصطلح "الفيلسوف الطائفي؛ بل استخدمت مصطلح "فليسوف الطائفة" وقلت تحديدًا: إنه، "وفي ظلِّ مشروعات تفكيك الدولة الوطنية وتمزيقها إلى ولايات مذهبية، وإلى أقاليم عرقية ومناطقية، ووفق أجندات تقسيمية جديدة للمنطقة العربية، فإننا يُمكن أن نشهد ولادة ارتدادات ظلامية مُضاعفة سينصرف فيها الفيلسوف عن عالمية المعرفة الفلسفية إلى بؤر معرفيّة جهويَّة، فلا غرابة أن يظهر فيلسوف الطائفة أو فيلسوف الولاية، وفيلسوف العرق أو فيلسوف الإقليم، وفيلسوف القبيلة أو فيلسوف العشيرة، ليظهر عمل العقل الفلسفي مندحرًا في فضاءات ضيّقة وعقيمة ظلامية يبدو فيها مغتربًا عن أنطولوجيته العقلية النّقدية المفتوحة على العمق الإنساني" (ص 33).

في هذا النص، احذر مما أسميته بـ"الارتدادات الظلامية المُضاعفة" كأن ينحدر الفيلسوف من عالمية المعرفة الفلسفية وكونيتها وإنسانيتها العامة نحو بؤر ضيقة، وأقصد بها "البؤر الجهويَّة" كأن تكون الطائفة المذهبية بؤرة جهويّة، وأن يكون العرق بؤرة جهويّة، وأن تكون المنطقة بؤرة جهويّة يرجع إليها الفيلسوف كحاضنة معرفية وثقافية وحضارية، وهو أمر شائع في الغرب وأوروبا، فهذا "صموئيل هنتنغتون" وهو فيلسوف وليس مجرد كاتب في الشأن السياسي أو الاستراتيجي، دعا العالم وعبر نظريته سيئة الصيت "صدام الحضارات" إلى تجييش الهويات الجزئية الجهوية، ناهيك عن فلاسفة العنصرية والتمييز العرقي، فالفيلسوف الطائفي هو الذي ينحدر من عالمية الإنسان وعالمية الفكر الفلسفي صوب قاع الجهويّات الجزئية، هذا الفيلسوف يصادر قيمة الإنسان كإنسان ويفكِّر في الإنسان بوصفه (مجرد جهة تابعة سواء لمذهبية أم عرقية أم مناطقية) وبذلك هو ينسجم بل يتماهى مع "نظرية صدام الحضارات" وأفكار صاحبها هنتنغتون التي أثارت الفوضى في العالم، ناهيك أيضًا عن نظريات "المحافظين الجُدد" الذي سار هنتنغتون في دروبها.

ابراهيم مجيديلة: ألا يُفترض أن ينحاز "الفيلسوف" إلى قضية ما؟

رسول محمد رسول: وهذا حق للفيلسوف، ولكن انحيازه لا بدَّ أن يقوم على دعامات أساسية؛ فلا ينبغي أن ينسى الفيلسوف بأنه (إنسان الإنسان) كذلك لا ينبغي أن ينسى بأنه هو الابن الشرعي للمعمورة الكونية، وليس ابنًا لعرق فقط أو طائفة دينية فقط أو منطقة معينة فقط، ولا ينسى كذلك بأنه الكائن المفكِّر ضمن عالمية بشرية؛ لأن الفلسفة ذات لغة عالمية، فهي ليست مجرد فلكلور شعبيٍّ يخص فئة أو قبيلة أو عشيرة معينة دون غيرها. وعندما تتوفَّر مثل هذه الدعامات للفيلسوف، فإنه يمكن أن ينحاز إلى جُملة مفاهيم ومسائل وقضايا وخطابات معينة متداولة بين الناس؛ فالفيلسوف هو إنسان عالمي الوجود لأن الفلسفة في حدِّ ذاتها هي هكذا، وهذا هو انحيازه الأول بل والأساسي في حياته ووجوده، ولا بأس أن ينحاز إلى قضية ما، شرط أن تنسجم مع كل ما هو إنساني عقلاني أنطولوجي كوني.

ابراهيم مجيديلة: بالعودة إلى عنوان كتابكم (ما الفيلسوف؟ إنسان التنوير ومفكر صباح الغد)، فما هو "صباح الغد" الذي ينشده الفيلسوف العربي؟

رسول محمد رسول: الفيلسوف في حدِّ ذاته هو الإنسان الذي يفكِّر في الغد بقدر تفكيره في اليوم أو الحاضر فهو (إنسان مستقبلي) لا يتغافل عن منطوق "ما ينبغي أن يكون" وهذه العبارة هي ابنة بارّة للمستقبل، وذلك منطلق غير حجاجي حتى نقبله أو نرفضه.

وعندما قرأت الأعمال الكاملة لنيتشه في ترجماتها العربية، وجدت التفكير في الغد أو في المستقبل يستأثر باهتمام هذا الفيلسوف الجذري، لا سيما أنه قال "أما الفلاسفة الحقيقيون فهم آمرون ومشرّعون، إنهم يقولون: هكذا يجب أن يكون" ما يعني أنهم يفكِّرون اللحظة التالية، يفكِّرون صباح اليوم التالي. وفي ضوء ذلك راح نيتشه يقول عن الفيلسوف بأنه "إنسان للغد وبعد الغد" كما وثقّت هذا النص في كتابي حيث قلت: "إن الفيلسوف هو كائن الغد، كائن صباح الغد أو صباح اليوم التالي الذي يفكِّر في هذا المستقبل بقدر ما يمدّ الأواصر معه ليصنعه، إلاّ أن الفلاسفة، مُنتجو الغد، لا يصنعوا الغد هكذا، وعلى نحو آلي أو ميكانيكي معقلن أو حسابي أوتعاطفي، إنما بإحساس مسؤول كون الفلاسفة هم "عذاب ضمير عصرهم الخبيث" كما كان يقول نيتشه" (انظر: ص 147).

الفيلسوف العربي هو ضمير عصره وعندما لا يكون كذلك فهو خارج مسرح العقل والتاريخ، أما صباح الغد فهو الصباح المفكِّر فيه بمنحى عقلاني إنساني نقدي أنطولوجي يُعيد الإنسان المغترب عن إنسانيته إلى ذاتها، ويعيد العقل الإنساني إلى نصابه بعد اغترابه عنه نحو اللامعقول، ويُعيد التفكير البشري إلى منحاه النقدي بعد أن كان منزاحًا عنه صوب التسليم الأعمى بكل ما تُنتجه الحاضرة من معطيات يقبلها الإنسان دون تمحيص معرفي ولا قراءة نقدية.

فلاسفة صباح الغد لا يدحرون الفلسفة إلى ما بعدها، كما يفعل ريتشارد رورتي انطلاقًا من رؤية أمريكية براغماتية تتغنى بموت الفلسفة وربما موت الفيلسوف النْسقي بشكل عنفي لا تميل إليه الفلسفة عندما تدحرهما وفقًا لتعبير (ما بعد الفلسفة) وهو تعبير إقصائي يحفل بموضة "المابعديات" التي تلهث بها فلسفات ما بعد الحداثة (تشارلزجينكس، هو أول من استخدم تعبير ما بعد الحداثة، وأطلق عليها جيل ليبوفاتسكي اسم حضارة الخفة قبل عامين).

وهذا لا يعني أنّني أرفض جذريًّا المصطلحات التي تبدأ بتعبير (ما بعد) بل إنني استخدمته منذ عام 2001 عندما صدر كتابي (الغرب والإسلام.. قراءات في رؤى ما بعد الاستشراق) لكني لم أنفي الاستشراق ولم أرحِّله إلى الموت، بل تراني وقد تحدَّثت عن جُملة الرؤى التي ظهرت في تسعينيات القرن العشرين تلك التي غيّرت موقفها من العرب والمسلمين، ولكن حادث الحادي عشر من سبتمبر 2001 أعاد الرؤى الإيجابية بشأن الإسلام والعرب إلى المربع الأول، وهو مربع تعجُّ به النظرات السلبية إلى عالمنا العربي والإسلامي.

وفي النهاية، وعندما ينظر الفيلسوف إلى الإنسان من حيث هو (إنسان) يكون قد وضع إصبعه على جوهر التفكير الفلسفي في الغد، الذي هو تفكير مستقبلي تنشدهُ الفلسفة وينشدهُ الفيلسوف بأصالة مقرونًا بالتفكير في الراهن والحاضر بوصفه التفكير في ما يحدُث وما يكون وما يجري، وتلك مَهمة من مَهام الفيلسوف العربي المعاصر، لا بدّ أن يضطلع بها برحابة ذهن وصبر دؤوب.