فاطمة المرنيسي.. الكتابة في مواجهة البطريركية


فئة :  مقالات

فاطمة المرنيسي.. الكتابة في مواجهة البطريركية

انتبهت الراحلة فاطمة المرنيسي (1940-2015) مبكرا في مسارها العلمي، أن تناول المشاكل الاجتماعية اليومية للنساء يتعذر دون قراءة تفكيكية نقدية للخلفيات الثقافية التي تؤسس لكل مظاهر معاناة المرأة، ومن هنا ضرورة الاشتغال على جبهتي الواقع والتراث. ظهر هذا الوعي عند المرنيسي منذ إنجاز رسالتها للدكتوراه بالولايات المتحدة الأمريكية سنة 1973 تحت عنوان "ما وراء الحجاب: الجنس كهندسة اجتماعية"، ففي القسم الأول من الكتاب، حاولت بناء نمط مثالي اعتبرته أداة منهجية لقراءة العائلة المسلمة كهندسة اجتماعية، فيما سلطت الضوء في القسم الثاني على مشاكل من صميم الحياة اليومية للنساء المغربيات.

لم يكن ذلك التقسيم المنهجي لفاطمة المرنيسي في أول أعمالها العلمية اعتباطيا أملته شروط البحث الأكاديمية، وإنما رؤية لطبيعة مشكلة المرأة في العالم الإسلامي؛ أي إيديولوجيا تاريخية دينية راسخة تسهم في إعادة إنتاج واقع بئيس للمرأة المسلمة؛ مهما كتبنا عن المرأة ودعونا إلى تحريرها في الواقع المعاصر، فلن تكون الكلمات إلا صيحات في واد، إن لم يواز ذلك تفكيك الخطاطات التاريخية الراسخة وإعادة بناء المفاهيم حول النساء في مخيال المجتمع.

من هذا المنطلق، توالت أعمال المرنيسي منذ بداية الثمانينيات مُزاوجة من جهة أولى بين النظر في الواقع ومشاكله: مثال ذلك ما كتبته في مجلة الأساس عام 1980 عن "اليد العاملة النسائية بالمغرب"[1]، وعن "الطلاق"[2]، وما نشرته في مجلة لاماليف عن "البكارة والنظام الأبوي"[3]، وعن "النساء والأولياء"[4]، و"المرأة في منطقة الغرب"[5]...إلخ.

ومن جهة أخرى، انتقدت الإيديولوجيا الدينية التاريخية وخطاباتها، فأصدرت عام 1983 "الجنس، الإيديولوجيا، الإسلام"[6]، وفي سنة 1986 "الحريم السياسي: الرسول والنساء"[7]، وفي عام 1998 "هل أنتم محصنون ضد الحريم؟"[8]. كل هذه الكتب وغيرها في السنوات الأخيرة، انتظمت في مشروع واضح راهن على تفكيك ونقد الخطاطات الذكورية في المجتمع المغربي والمجتمعات العربية. وتوجت ذلك عام 2010 بكتاب "الإسلام والديمقراطية" كون الموضوع من أشد الإشكاليات المعاصرة راهنية في علاقة المسلمين بأنفسهم وبالعالم.

لا عجب أن نجد كلمة "الحريم" المهملة في تاريخ الفكر الإسلامي، تصبح مدخلا ملائما لمعالجة قضية المرأة لدى المرنيسي، وارتقت مفهوما كليا تفسيريا يستوعب كل تصورات المسلمين الدونية تجاه المرأة، وردت الكلمة في عنوانين من كتبها فضلا عن فصول في كتب أخرى، والحقيقة أن استعمالها له كان تتويجا لعدة أبحاث راكمتها من قبل. تعرف المتخصصات والمتخصصون في العلوم الاجتماعية الجهد الفكري المضني الذي يبذل لإبداع مفهوم تفسيري، وفي كثير من الأحيان يقضي الباحث عمره كاملا ولا يفلح في ذلك.

وجدت المرنيسي في مفهوم الحريم وتشقيقاته (الحريم اللامرئي، الحريم السياسي...) ضالتها التي سمحت بقراءة وضع المرأة من داخل التراث نفسه وبشبكته المفهومية؛ فالكلمة تستعمل على نطاق واسع في التراث الديني الإسلامي، لتشير في العموم إلى ذلك الفضاء الداخلي الأنثوي الخاص المحظور على العموم، والذي لا يأخذ معناه إلا إن عرفنا أن مكانا آخر يقابله، ويحده بصرامة، هو المكان الخارجي المفتوح على كل الرجال ما عدا النساء[9]. في نهاية التحليل إن الغرض من هذا التقسيم المشيّد في التاريخ هو إقصاء المرأة عن الفضاء العام، وهو التقسيم الذي نذرت المرنيسي قلمها أن تفتك به على مدى خمسين سنة من العمل العلمي الدؤوب، حتى عبرت في أحد حواراتها أن نضالها من أجل المرأة تحقق من خلال ما تشهده اليوم على سبيل المثال من اقتسام بلاطوهات الفضائيات بين الرجال والنساء، وخروج النساء إلى العمل جنبا إلى جنب مع الرجل...إلخ. مشروع المرنيسي على وجه التحديد وبدون مبالغة، توجه نحو تدمير تلك الحدود التاريخية والذهنية الفاصلة.

الأكثر من ذلك أن المرنيسي فاجأت الباحثين، حينما بينت في كتابها "شهرزاد ترحل إلى الغرب" أن مفهوم الحريم لا يصلح وحسب لقراءة التراث الإسلامي فقط، بل أيضا يفيد في قراءة تراث الفكر الغربي حول النساء. إن دونية المرأة إرث مشترك بين الشرق والغرب، وهكذا نجدها لم تخضع للقراءة الاستشراقية التبسيطية التي طالما ألصقت بالعرب والمسلمين كل سوء حول المرأة والجنس. ولم تتردد المرنيسي في إعلان نتائجها البحثية، فمفهوم الحريم في الغرب أشد احتقارا للمرأة من مفهوم الحريم في الشرق، فإذا كان الحريم في الشرق يحيل على واقع تاريخي ومتخيل للنساء قوة فيه، وأبعد ما يكون عن الشهوانية والفراغ والعري، فإنه في المخيال الغربي يحيل على نساء خاضعات ومستسلمات، مرتعا للهو، وهو ما تجسد في لوحات الرسامين الذي كانوا يستمتعون بخلق نساء سجينات، ناسجين رباطا لا مرئيا بين المتعة والاستعباد.[10]

جدير بالتأكيد أن المرنيسي قرأت التراث الإسلامي بدون أي عداء إيديولوجي قبلي للدين في حد ذاته كبعد من أبعاد الحياة الإنسانية. ففي الوقت الذي كان الجميع ينكر أي دور سياسي للمرأة في الإسلام، رفعت المرنيسي "حُجب المعاصرين المزيفين للماضي" المتجاهلين لدور النساء، فأضاءت في "الحريم السياسي"[11] (الذي منع حينها من دخول المغرب) على البقع المُعتَمة، جهلا أو عمدا، في حياة الرسول ونسائه وسير أصحابه من بعده، وهكذا نفضت الغبار عن واقعة تقدم هند بنت عتبة إلى الرسول بعد فتح مكة مخاطبة إياه: "إننا نريد مبايعتك أنت، ومعك نريد أن نبرم ميثاقنا"، وعن قيادة عائشة لجيشٍ ضد الخليفة الرابع، وذكرت بمواقف سكينة بنت فاطمة زوجة عليّ التي ظلت تعلن احتقارها للعائلة الأموية الحاكمة. وبنفس التحدي واصلت في "سلطانات منسيات" الكشف عن النساء الحاكمات في تاريخ العرب والإسلام والأدوار السياسية للنساء في تاريخ الإنسان.

في الأخير، لابد أن نشير إلى ملمح مميز، وهو أسلوب الكتابة الذي اختارته المرنيسي للتواصل مع قرائها، ولئن كان اختيارا شكليا، إلا أنه يجسد شدة حماستها لموضوعاتها التي لا تنفع معها لغة الخشب التي يستعملها علماء الاجتماع في العادة والرغبة القاهرة والزائفة تحذوهم إلى التعبير العلمي الموضوعي!

تجنبت المرنيسي أن تكتب بلغة تقنية لتنال الاعتراف وحسب، وتبعث رسائل الاطمئنان إلى الجماعة العلمية على انضباطها الوفي الخانع للغة المعرفة السوسيولوجية السائدة. لا يهمها ذلك. حرصت أن تكون لغتها جميلة ورشيقة، تنفذ إلى الوجدان وتقنع الإحساس، قضية المرأة لا تحتاج إلى حس علمي فقط، بل إلى شعور نضالي أيضا، إحدى أدواته حرارة العبارة لا برودة الجملة. المرنيسي "أدّبت السوسيولوجيا" كما يحلو للأستاذ الطاهر لبيب أن يقول.

تحكي المرنيسي في "نساء على أجنحة الحلم" أنها تمنت، وهي طفلة صغيرة تنصت إلى حكايات عمّتها حبيبة ذات أمسية من أماسي الحريم بفاس، وهي جالسة على إزار أبيض مطيب بماء الزهر، أن تتقن مثلها فن الحكي ليلا.[12] وهذا ما يفسر حرص المرنيسي على كتابة جمالية مرهفة، نوّعت فيها بقدر المستطاع، وكللتها في السنوات الأخيرة بنشر أعمال أقرب إلى الأدب والرحلة منها إلى السوسيولوجيا، مثل: "حدائق الحب: خمسون اسما في المحبة"، و"كيد النساء، كيد الرجال: حكاية شعبية مغربية"، و"سندبادات مغربية: رحلات في المغرب العتيق"، وغيرها. إننا حينما نقرأ المرنيسي نقتنع أنها حققت أمنيتها الطفولية، وأتقنت حقا فن الحكي، مثل عمّتها تماما، لكنها حكت دفاعا عن المرأة، ولكل العالم، نهارا جهارا.


[1] Mernissi Fatima, 1980. «Le prolétariat féminin au Maroc», Al Asas, n° 24.

[2] Mernissi Fatima, 1980. «Le divorce», Al Asas, n° 15-16-17

[3] Mernissi Fatima, «Virginité et patriarcat», Lamalif, 107, 1979.

[4] Mernissi Fatima, «Les femmes et les saints», Lamalif, N° 128., 1981.

[5] Mernissi Fatima, Les femmes du Gharb. Etude empirique. Rabat: SMER. 1985.

[6] Mernissi Fatima, Sexe, idéologie, Islam. Pari, Tierce. 1983.

[7] Mernissi Fatima, Le Harem politique. Paris, lbin Michel. 1986.

[8] Mernissi Fatima,Êtes-vous vacciné contre le harem? Casablanca, Le Fenne. 1998.

[9] المرنيسي فاطمة، هل انتم محصنون ضد النساء؟، ترجمة فاطمة الزهراء أزرويل، المركز الثقافي العربي، نشر الفنك، الطبعة الثانية، 2008، ص 9

[10] المرنيسي فاطمة، شهرزاد ترحل إلى الغرب، ترجمة فاطمة الزهراء أزرويل، المركز الثقافي العربي، نشر الفنك، الطبعة الثالثة، 2010، ص 27 و41

[11] Mernissi Fatima, Le Harem politique. Paris, lbin Michel. 1986.

[12] المرنيسي فاطمة، نساء على أجنحة الحلم، ترجمة فاطمة الزهراء أزرويل، المركز الثقافي العربي، نشر الفنك، الطبعة الثانية، 2007، ص 25