مفاتيح سعيد شبار لإصلاح الفكر وتجديد العلوم الإسلامية


فئة :  قراءات في كتب

مفاتيح سعيد شبار لإصلاح الفكر وتجديد العلوم الإسلامية

يعد كتاب "الثقافة والعولمة وقضايا إصلاح الفكر والتجديد في العلوم الإسلامية" أحدث مؤلفات الإصلاحي المغربي سعيد شبار، الصادر مؤخرًا ضمن منشورات "مركز دراسات المعرفة والحضارة"، وهو الإصدار الثاني في سلسلة يشتغل فيها المؤلف على المفاهيم، بعد صدور كتابه الأول الذي يحمل عنوان: "النخبة والهوية والإيديولوجيا" الصادر عام 2012. (سعيد شبار، الثقافة والعولمة وقضايا إصلاح الفكر والتجديد في العلوم الإسلامية، مركز دراسات المعرفة والحضارة، سلسلة أبحاث ودراسات فكرية، 2، دار الإنماء الثقافي، الرباط، ط1، 2014، 221 ص من الحجم المتوسط).

وقد جاء الكتاب موزعًا على مقدمة وثلاثة فصول، كانت عناوينها على النحو التالي: "الثقافة والعولمة قراءة في جدل المحلي والكوني" وتضمن مبحثين، هما: في تعريف الثقافة ومقتضيات التثاقف، والثقافة والعولمة وجدل المجلي والكوني. أما الفصل الثاني، فعنوانه: "مفهوم الإصلاح وتجديد الرؤية والمنهج لتجديد العلوم والتديّن" وتضمن المباحث التالية: مفهوم الإصلاح في اللغة، والشرع، والاصطلاح، أو التداول التاريخي، من أجل منهاج قرآني تجددي في الفكر والعلوم، رؤية منهجية، ومداخل علمية وإرشادية في الإصلاح الديني والتغيير الثقافي. بينما حمل الفصل الثالث عنوان: "استئناف التجديد والبناء في العلوم دفعًا لآفاق الانفصال وربطًا بواقع وتطلعات الأمة"، وتضمن المباحث التالية: في الحاجة إلى استئناف التجديد في العلوم الإسلامية، ومن مظاهر التحيز في العلوم الإسلامية وتأثيرها على ثقافة الأمة وعطائها الكوني، وفقه الواقع، وسياق خارجي ومقامي النص، والخلفيات الفكرية الموجهة للقراءات الحداثية للقرآن الكريم، ونقد أطروحة التسوية بين الكتب المقدسة.

افتتح المؤلف عمله بالتوقف عند أهم تيارات التثاقف السائدة في الساحة العربية الإسلامية، مُبدياً بعض الملاحظات حول استعمالات هذا التثاقف عند بعض المفكرين، وإن كانوا من المصنفين عموماً في الاتجاه القومي، أو "العلماني المعتدل"، فإن بعضًا منهم يصنف نفسه في اتجاه ثالثٍ بين اتجاهين سائدين؛ اتجاه الانبهار بالغرب الثقافي والتماهي معه، واتجاه الرافضين له والمستنفرين ضده، أما الاتجاه الثالث حسب أحد المعبرين عنه بوضوح، أقصد عبد الإله بلقزيز، فهو تيار التثاقف النقدي الذي لا نعثر له على أشباه ونظائر في المجتمع الأهلي، وهو الأكثر توازنًا في الوعي العربي المعاصر، وهو يبدي، على صعيد إدراكه للغرب والثقافة الغربية بالذات، سائر أنواع الانفتاح عليها دون تردد، لكنه يحفظ لنفسه، في الوقت ذاته، حق مساءلتها وإخضاعها للنظر النقدي من باب مطابقتها للحاجات الاجتماعية والفكرية للمجتمع العربي.

في نقد التقابلات الزائفة:

يتحسر المؤلف كثيرًا على سيادة لائحة من التقابلات الوهمية والزائفة في الساحة الفكرية العربية والإسلامية، غذتها، من وجهة نظره، مؤثرات خارجية قديمًا وحديثًا، وتأسست بذلك عوامل من الفرقة والتجزئة المذهبية والطائفية الضيقة في مدارس واتجاهات قائمة بذاتها، تنتمي إلى أحد طرفي معادلة ابتدأت بـ"أهل الرأي وأهل الأثر"، و"العقل والنقل"، و"الحكمة والشريعة"، وتبلورت إلى "العلم والدين"، و"الدين والدولة"، و"التراث والتجديد"، و"الأصالة والمعاصرة"، و"الحداثة والتقليد"، واللائحة مرشحة للمزيد.

أما مرد هذه التقابلات، فمرتبطة بمناهج التأريخ والدراسة للفكر الإسلامي بمذاهبه الفقهية والعقائدية وتياراته الفكرية والفلسفية، على وجه التحديد، والإحالة على مذاهب لم تعمل على إحياء وإنضاج "ثقافة الوحدة" المؤطرة للخلاف والمستوعِبة له، بقدر ما أرخت لـ"الفرق بين الفرق" ولـ"الملل والنحل" وتعمقت في أسباب الخلاف تأصيلاً وتفريعا. أما معالم التجديد الشامل الذي يُحيي تكاليف الأمة الجماعية، كما سَطّر بعض معالمها المؤلف في أحدث أعماله، منطلقًا مما يُشبه مًسلّمة لا زالت غائبة عند العديد من فكرانيات الساحة، ومفادها أن الأصل في العلوم الإسلامية كونها نشأت ابتداءً من الوحي، وبينها وحدة عضوية موضوعية لوحدة الأصل والمصدر، وأن الخيط الكلي الناظم لكل هذه العلوم [بيت القصيد] ينبغي أن يعكس تكالمها ودورانها مع الأصل حيث دار.

إن الناظر إلى واقع هذه العلوم التاريخي والراهن، يلحظ أن كلاً منها يدور في فلك خاص وأطر مرجعية ومنهجية خاصة، حتى لكأنها جزر منفصلة بعضها عن بعض، وأن فيها من التجريد والصورية أكثر مما فيها من الواقعية لتعطلها عن المواكبة العملية. ليس هذا فحسب، فزيادة على القلاقل سالفة الذكر، سقط الفكر الإسلامي في "فخاخ" التغريب والاستلاب ومقدمات الاستتباع التي لا تعدو أن تكون فكرية ثقافية بالدرجة الأولى، ومرد ذلك إلى أن الغرب نجح في صكّ وترويج مجموعة من الدمغات والأختام الجاهزة، فنحن إزاء مصطلحات ومفاهيم، ذات قدرات تأثيرية عالية منذ عصر نهضته إلى عصر عولمته، معتبرًاً أنه من مستعجلات فكرنا الإسلامي المعاصر البدار المنظم والمنتظم للاشتغال على جبهة المفاهيم والمصطلحات، باعتبارها مفاتيح العلوم والثقافة والفكر، والتي تسحب أرصدتها الذاتية تباعًا بعامل الزحف الأجنبي الدلالي عليها، وذلك بإعادة بناءها ذاتيًا وتحريرها من كل إفادة إيجابية منها، بل إعادة تسميتها من خلال المعجم العربي، إذ يمكن لتلك المفاهيم أن تقوم بوظائف البناء الذاتي لا الإلحاقي، فتسهم في بناء حداثة الأمة الخاصة بها.

من الأسئلة المؤرقة لسعيد شبار في ثنايا هذا العمل تلك المرتبطة بتأسيس أنموذج إصلاحي بنائي للبدائل وفق الرؤية والمنهاج في ظل نظام العولمة وما تتيحه من تقريب ما كان غائبًا عنا، أي الأفق الكوني الإنساني، أفق العالمية الذي هو أحد خصائص الرسالة الإسلامية نفسها، نقول هذا أخذًا بالاعتبار مقتضى الآية القرآنية الكريمة: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين".

وجلّي، يضيف شبار، في خطاب يهم العديد من فكرانيات الساحة، ومن شتى المرجعيات، أن أي نظام فكري جامد ومتأخر عن زمانه، غير مؤهل لأن يُنتج خطابًا إصلاحيًا، وهل الآليات أو المناهج المتاحة في هذا الفكر وبالطريقة المستعملة والمتوارثة تسمح بإنتاج خطاب ومعرفة تصحيحية إصلاحية، أم أنها لا تملك إلا إعادة إنتاج الظواهر الفكرية والثقافية نفسها ولربما بصورة أسوأ؟ يضيف المؤلف بنبرة صريحة، ومن بوسعه نفي سُنّة كونية مفادها أن فاقد الإصلاح الذاتي غير مؤهل لإصلاح الوطن والأمة والإنسانية؟

كما توقف المؤلف عند لائحة عريضة من الإصلاحيين القدامى، ومعها المعيقات التي حالت دون التأسيس لإصلاح ديني، ولخصها في حتمية التمييز بين الأصول المؤسِّسة للمعرفة وتلك التي أسستها المعرفة، إذ تحولت كثير من المقررات المذهبية والفرقية إلى أصول نائبة عن الأصول وحلت محلها، مضيفًا أن العديد من حركات الإصلاح والتغيير أخطأت موعدها مع الدين ومع سُنَن ومسالك التغيير التي ينص عليها، وإن تحدثت باسمه ورفعته شعارًاً وأفكارًاً. ولهذا كانت مقولة "العودة إلى الدين" دائمًا على رأس بنود الإصلاح، دون تحديد "كيف" تتم تلك العودة، وما هي مداخلها ومراحلها، وأصولها وفروعها، وأولوياتها وارتباطاتها وامتداداتها... إلخ. إذ غالبًا ما نجد مشروع "الإصلاح" ينتهي إلى نزال سياسي معين، ومقاربة جزئية ضيقة، لا تكاد توحد وتؤطر أصحابها فكيف تفعل ذلك بمن حول أصحابها أو أبعد منهم؟

إصلاحيون قدامى ومتقدمون على المعاصرين:

إشارة نقدية تتطلب وقفة تأمل: مهما قيل بخصوص أعطاب المشاريع الإصلاحية لرموز النهضة، من مثل الطهطاوي وعبده والكواكبي، بالصيغة التي لخصها باقتدار علي أومليل، من أن "آراء الأنواريين [الأوروبيين] في المسألة الدينية قد انتقلت لتؤثر على المفكرين العرب الإصلاحيين. فما كان لهؤلاء أن يذهبوا في نقدهم للظاهرة الدينية [الدين]، والوحي، والمعجزات، إلى المدى الذي ذهب إليه الأنواريون، ذلك أن هناك فروقًا في الموقف من الدين هنا وهناك" (انظر: علي أومليل، في معنى التنوير، ضمن كتاب: حصيلة العقلانية والتنوير في الفكر العربي المعاصر، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط 1، 2005، ص 141).

والحال، كما عايناه بشكل صادم بُعيد اندلاع أحداث "الربيع العربي"، أن اجتهادات الإصلاحيين القدامى متقدمة على زمنهم السياسي والديني على حد سواء، فقد انصب جهد رفاعة الطهطاوي، في كتابه "تخليص الإبريز في تلخيص باريز" على "تطوير التعليم" و"تعليم البنات" و"هدم الآراء الفاسدة"، وهي اهتمامات لا زالت راهنة اليوم أخذًاً بعين الاعتبار مشاريع ومواقف تيارات إصلاحية دينية لا يتردد بعضها في "تحريم" تعليم البنات، أو منعهن من العمل خارج البيت، مما يُفيد أنه رغم ما يمكن أن تُؤاخذ عليه اجتهادات رموز الإصلاحية العربية منذ قرن ونيف، إلا أنها قطعًاً كانت متقدمة جدًاً مقارنة مع "الأفق المعرفي" الإسلامي السائد حينها، ومواكبة "الأفق المعرفي" الإسلامي السائد اليوم، إن لم تكن متقدمة عليه في الأفق الإصلاحي، ولهذا، بالعودة إلى كتاب سعيد شبار، ضيف هذا العرض، يمكن الانطلاق من رموز هذه المدرسة الإصلاحية في المشرق والمغرب على حد سواء، مع الأفغاني والطهطاوي وعبده والتونسي والكواكبي وابن باديس والإبراهيمي وابن عاشر وعلال الفاسي والحجوي، من تلك الطينة العلمية التي استلهمت التراث الإصلاحي التأصيلي القديم بشكل جيد، من أجل تأسيس أرضية مهمة في طرح أسئلة الإصلاح الكبرى التي تم التعامل معها [لاحقًا] باختزال كبير، بل تم التراجع عنها الآن لفائدة أسئلة واهتمامات جزئية.

وعطفًا على أحداث الحراك العربي، أو "الانتفاضات الشعبية" كما جاء في الكتاب، وجبَ التنويه بإشارة نقدية مهمة، ضمن لائحة من الإشارات الواردة في هذا العمل القيّم: ما ينبغي الخشية منه أو الحذر منه، حسب المؤلف، هو أن تكون العودة إلى الدين بحثًا عن حاجة في الدين وعد بها هذا الاتجاه أو ذلك باسم الدين أو باستناده إلى الدين، حتى إذا أخفق فيها نفض الناس أيديهم من أي إمكان إصلاحي أو تغييري باسم الدين، ولم يعد له في نفوسهم إلا طقوسه وشعائره التعبدية. أو على الأقل ذلك ما سيعطي مبررًاً لخصومه للطعن فيه مشروعًا حضاريًا ومعرفيًا وثقافيًا، وليس مشروعًا سياسيًا وحسب. أما مكمن العطب المسكوت عنه في هكذا اختزال للدين من خلال ترويج أنموذج معين من التديّن، فيُحيلنا على ما حفل به كتاب لا يقل رصانة، صدر منذ بضع سنين في الساحة الفرنسية للباحث أوليفيه روا، ويحمل عنوان "الجهل المقدس: زمن دين بلا ثقافة"، صدرت ترجمته للعربية عن دار الساقي، وهذا كتاب حافل بالعديد من المفاتيح المفاهيمية لفهم هذه الظواهر الاجتماعية التي تتحدث عن الدين وفي الدين، سواء أكانت تنهل من هذه المرجعية الفكرانية أم تلك.

مآزق فصل الدين عن الثقافة:

يُفيد هذا المأزق، أنه في التديّن، والتقييم لسعيد شبار، الثقافة قبل السياسة، وإذا تعاطى المتديّن السياسة قبل الثقافة قد تحل من الكوارث ما لا تُحمد عقباه. ويقصد بالثقافة معناها الشامل المستوعب للفقه والعلم والمعرفة والواقع، ولو بأقدار مختلفة تمكن من تدبير الاختلاف وتحقيق المصالح والحفاظ على سقف الوحدة المؤطر للجماعة.

ولأن المؤلف، على غرار أهل "الأفكار الطولى"، وهذا اصطلاح سَطّره طه عبد الرحمن، يأخذ مسافة نظرية وعملية من بعض التيارات المتصارعة في الساحة، رغم أنها تمثل أقلية، فإنه يُنبّه وينصح هذه الفكرانيات، معتبرًا أنه لا أحد يمكنه احتكار النص والتحدث باسمه، وفي المقابل، لا أحد يمكنه احتكار العقل والتحدث باسمه، فالنص رسالة للعالمين والعقل نعمة الله على الناس أجمعين، ولقد نبّه إلى هذا الدور التكاملي بين طرفي هذه الثنائيات، ونفى أشكال التعارض بينها علماء متقدمون في الأمة ومتأخرون، دون أن يعني ذلك تجاوز منطق الثنائيات أصلاً، من منطق أن الله تعالى خلق من كل زوجين اثنين، لولا أن هناك فوارق جلية بين:

-الثنائيات الوجودية التي لا يملك الإنسان إزاءها شيئًا كثنائيات الخالق والمخلوق، الدنيا والآخرة...إلخ

-الثنائيات الوجودية الاختيارية كثنائيات الخير والشر والصلاح الفساد...إلخ

-الثنائيات التي يصنع الإنسان تقابلها ويفتعل الخصومة بينها بنفسه، والأصل فيها ليس التقابل والتضاد، وإنما التكامل والانسجام.

نأتي لإحدى أهم مضامين العمل، أقصد مبحث "الخلفيات الفكرية الموجهة للقراءات الحداثية للقرآن الكريم"، حيث أورد سعيد شبار مجموعة من المُحدّدات التي تقف وراء صعود أسهم هذه القراءات، لعل أهمها التجربة التاريخية للنص اليهودي والمسيحي، وحركة النقد العنيفة التي أطاحت بقدسيته من باحثين ومفكرين ينتمون إلى الحقل الديني أو من خارجه. ومنها كذلك الرؤية التشكيكية التي شكلتها المدارس الاستشراقية التي كانت تصور الدين الإسلامي والحضارة الإسلامية وتقدمهما للاستهلاك الغربي على غير حقيقتهما وبكثير من الخلط والتشويه. وأخيرًا، نجد واقع الأمة المنحط والمتخلف، وأنماط الفكر التقليدية السائدة فيه، مع التنويه الضروري في هذا المقام، إلى أن شبار يشير في موقع آخر من العمل إلى أن نقده للتقليد ليس نقدًا للمذهبية وللمذاهب، مادامت هذه الأخيرة يُحسبُ لها أنها استطاعت أن تحافظ على بلدان أمنها واستقرارها، وأن تدرأ عنها كثيرًا من الفتن، لكنه نقد لحركة تجميد العقل التي انتشرت بقوة ووجد فيها الكثيرون ملاذًا للراحة، مما فوت على خلف الأمة فرصًا في البناء على عكس ما كان عند سلفهم.