من مدينة الرّب إلى دولة الحريّة: في الأسس الفلسفيّة للفكر السياسي


فئة :  مقالات

من مدينة الرّب إلى دولة الحريّة:  في الأسس الفلسفيّة للفكر السياسي

 من مدينة الرّب إلى دولة الحريّة[1]

في الأسس الفلسفيّة للفكر السياسي


يتحدث هايدغر، في واحد من أشهر نصوصه التي تعلقت بتحليل العصر الحديث، عمّا يسميه بـ"ماهيّة" هذا العصر، وعن "الميتافيزيقا" التي تحكمه، وتجعل منه العصر الذي صار فيه العالم قابلاً لأن يحضر ويصاغ في تصور[2]، فتاريخ العالم هو تاريخ عصور تتلو بعضها بعضاً، وليس مسار تقدّم خطي يتلو فيه الأفضل الأقل أفضلية؛ على هذا الاعتبار لن يكون تاريخ العلم أقلّ "سكوناً" من تاريخ الفن، فكما لا يمكن أن نجد أصولاً للفن المعاصر في الفن اليوناني، فليس من الممكن أن نجد أصولاً للعلم الحديث في سلفه اليوناني[3]. وليس المجال هنا هو النظر في الأصول النيتشوية لهذا الحدس، ولا لامتداداته عند من لحق من الفلاسفة ومؤرخي العلم، من فوكو إلى توماس كون، لكنّ المجال يبدو لنا مواتياً لندافع عن كون هذا الحكم، إن كان يصح في مبحثي الفن والعلم، فإنه ليس بأقل صحة في مجال السياسة والقيم، فالسياسة الحديثة ليست بحال امتداداً "تطورياً" عن السياسة القديمة، بل هي نظام مختلف تماماً، فرض ذاته حين أمكن للعصر الحديث أن يوجد ذاته ويحلّ محلّ الذي سبقه، لاعتبارات وأسباب أعمق من أن تستحضر في بحث مثل هذا.

لهذه الطريقة في النظر ميزات أكثر من أن تحصر، فهي من جهة تعصمنا من أن نتناول الأمور وفق رؤية إسقاطية تفسر السابق باللاحق، وهذا خطأ شائع جداً، وهي، من جهة ثانية، تقدرنا على فهم الأركان والشروط الداخلية التي تؤسس لـ"إبدال" السياسة في العصر الحديث وما يليه؛ لكنّ الأهم في هذه الرؤية، في نظرنا، أخيراً، أنها تمنعنا من السقوط ضحية تصور أخلاقي للتأريخ، يفرض علينا أن نفكر بأحكام القيمة، فنعتبر مثلاً أنّ السياسة القديمة أنبل وأكثر "تراجيدية" من السياسة الحديثة، أو العكس، وهو الأكثر شيوعاً، فننبري للقدح في هذه السياسة وننجرّ للحديث الأخلاقي المبتذل، عن عصور "الظلام" و"الاستبداد"، وعن "نور الحرية "الساطع" الذي "شعّ" مع بداية العصر الحديث، فاتحاً الباب أمام تحرّر الإنسان والعقل من كلّ ما يمنعهما.

إن كان ذلك كذلك، وتعالينا عن هذه الرؤى الأخلاقية في فهم الأمور، فإنّ المطلوب منا سيكون آنها، هو بيان المسلمات التي قامت عليها التصورات السياسية في الفترة ما قبل الحديثة، وبالمقابل بيان الانكسارات التي حصلت في هذا التصور، ومهّدت بالتالي لظهور "إمكان سياسي" مختلف بعدها؛ المطلوب منا سيكون، بعبارة أخرى، أن نرقى لمحاولة تبين المقدمات النظرية البعيدة التي مكنت للسياسة القديمة من أن تكون، والبدائل، في النظر والممارسة، التي مكنت لما حلّ محلها من أن يأتي.

من المشهور بين جمهرة الدارسين أنّ كلّ محاولة لفهم العالم القديم ستردنا في النهاية إلى أفلاطون، وإلى محاورة طيماوس، والسياسة ليست استثناء في هذا، ففكرة النظام ومرجعية "الكوسموس"، سواء عند فقهاء الحق الطبيعي، أو عند منظري المدينة الفاضلة، كلها تمتح أصولها من هذا المعين. ومن المشهور أيضاً أنّ كلّ سعي لتبين الأساس الصلب الذي يقف عليه الزمن الحديث، كما قال هيغل، ستنتهي إلى ديكارت. والأمر صحيح ولا ريب، بيد أنّ هاتين الإحالتين الفلسفيتين العامّتين تبقيان مجرّدتين ما لم نتبين الامتدادات الفعلية التي كانت لهما في النصوص التي توجهت مباشرة للحديث في السياسة، ونحن نزعم أنّ هناك فعلاً نصوصاً محدّدة يمكن أن نفزع إليها في هذا الأمر، ففيما يتعلق بالعصر القديم عادة ما يعود مؤرخو الفكر السياسي إلى فقهاء الحق الإلهي في الحكم، على اختلاف توجهاتهم، بيد أننا نزعم أنّ هذه النظريات كلها تجد جذورها في متن أقدم، إننا نجدها عند القديس أوغسطينوس وفي نص "مدينة الرب" تحديداً[4]، هذا النص الكبير الذي انعكست عليه، كالمرآة، كلّ سمات تلك الفترة الحرجة من تاريخ الفكر، فترة القرنين الرابع والخامس للميلاد. الأمر نفسه يصدق، في نظرنا دائماً، على العصر الحديث، فقد نجد فعلاً نصوصاً وأسماء كثيرة يمكن أن نستند إليها ونحيل عليها، نصوص وأسماء لعل أشهرها "نجوم" الأنوار الإنجليزية والفرنسية، بيد أنّ المرجعية الأهم تبقى، وهنا أيضاً، متحققة، في نظرنا، في اسم واحد ومتن واحد، أمّا الاسم فهو سبينوزا، وأمّا النص فهو "رسالة في اللاهوت والسياسة"[5]، وهو ما سنعمل على بيانه وبسط أدلته فيما بعد.

مدينة الرب وزمن الرجاء

تجسّد فلسفة أوغسطين، فضلاً عن تجربته الإنسانية، لحظة لقاء بين عالمين: عالم الفلسفة اليونانية الرومانية الموشك على الأفول، وعالم العصر الوسيط الفلسفي "السياسي" الذي بدأ يبسط سلطانه على أرجاء المعمور الحي حينها، فالرجل من الجهة الفلسفية هو أفلاطوني ـ أفلوطيني، وفكرة النظام[6] تبقى هي واسطة عقد كل ما دبّجه؛ لكنّ الرجل، من الجهة العقدية، هو كذلك الفيلسوف الذي أرسى أسس ما سوف يُسمّى بعده بالـ"الفلسفة المسيحية" ضداً على "فلسفة الوثنيين"- باصطلاحه- التي قضى عمره في دحضها والمنافحة عنها، وأمر اللقاء أو الصدام هذا، لم يتعلق معه بما هو نظري فحسب، بل إنه كان شيئاً عاشه هو "واقعياً"، فولادته، كما يتبين من نصه الشهير "الاعترافات"، تزامنت مع بداية انتشار المسيحية وتحولها فيما بعد إلى ديانة الإمبراطورية الرسمية، ووفاته تزامنت مع سقوط هذه الإمبراطورية، وبسط برابرة الشمال نفوذهم على البحر المتوسط، هكذا يذكر لنا التاريخ أنّ وفاته جاءت بعد محاصرة عنابة، التي كان هو كبير أساقفتها، من طرف هؤلاء الغزاة أنفسهم، وأنه تمنى أن يموت على أن يرى بلده تحت حكم "الكفار"، وكذلك كان أن أسقطه الداء أثناء الحصار، ولم يقم منه بعدها.

ولأننا في سياق حديث يتعلق بالسياسة تحديداً، فالأفيد أن نمهّد لحديثنا عن التصور السياسي للرجل، بهذه المسألة تخصيصاً، أي أثر زمن أوغسطين وما استبدّ به من هموم حيّة، في إرساء تصوره، قبل أن نعرج لننظر في عناصر هذا التصور، وهي العناصر التي سبق أن اعتبرناها الأصل الأقدم لكلّ الإبدال السياسي الوسطوي.

عاصر أوغسطين زمن اندثار الإمبراطورية الرومانية واندحار الكنيسة الغربية (دون الشرقية)، والسؤال الذي كان يطرح حينها على أهل ذلك الزمان هو لماذا سقطت روما بهذه الصورة، وفي هذه الفترة بالذات؟ فلاسفة وأدباء كثر عزوا هذا الأمر للعقيدة الجديدة، فتبني الإمبراطورية للمسيحية ديانة كان من نتائجه، في اعتقادهم، إماتة الروح الرومانية الحربية، وتعويضها بروح الخنوع والألم والتضحية المسيحية[7]. أوغسطين نفسه كان مواطناً رومانياً، وسقوط روما كان يمسّه هو في ذاته كإنسان عرف روما وأحبها أدباً وثقافة، لكنه لم يكن ليقبل بحكم مثل هذا يضعه في حرج المفاضلة بين عقيدته الدينية ومرجعيته الحضارية، لهذا فما كان ملقى عليه هو إيجاد جواب مختلف، يحفظ انتماءه الروماني، لكنه يحفظ خصوصاً هيبة المسيحية وبراءتها من هجمات الوثنيين والهراطقة، وإن كان ولا بدّ له من اختيار بين روما والمسيحية، فإنه لن يتردد كثيراً، فالذي أسقط روما لن يكون عنده هو الديانة الجديدة، بل العكس تماماً، إنه عدم تحرر روما كليّة من الآثار الوثنية، وعدم تبنيها النموذج "الأخلاقي" الجديد الذي جاءت به المسيحية[8]، أي بقاؤها مدينة تجعل من تشريعات الناس وأهوائهم معياراً لسلوكها، والحال أنّ مدينة الإنسان (Civitas Homini) لن تتمكن من الصمود ما لم تضع غاية لها إقامة مدينة الرب(Civitas Dei) [9].

يبدو للناظر في نص مدينة الرب أنّه من غير الممكن ترتيب مضامين هذا المؤلف الضخم، الذي يزيد عدد كتبه على العشرين، في عناصر واضحة، والعلة في ذلك أنّ أسلوب كتابته هو على النمط القديم الذي لا نجد فيه تسلسلاً منهجياً في تناول المواضيع، وهكذا فنحن نصادف تداخلاً وتكراراً وإدغاماً للقضايا في بعضها بعضاً، فهو يذكر موضوعاً دون أن يستوفيه في حينه، قبل أن يستأنفه في سياق حديثه عن موضوعات أخرى، كما نجد عنده افتتاحاً لمواضيع جديدة بعناوين ذكرت سابقاً أو العكس، وهكذا دواليك، لهذا لا ينبغي أن نتصور أنّ هناك جزءاً من الكتاب اختصّ ببسط عناصر تصور أوغسطينوس السياسي، بل هو شيء نجده مبثوثاً في ثنايا الكتاب برمته، تماشياً مع هذا فحديثه عن مدينة الرب "سياسياً" لا نجده مستقلاً، بل نحن نصادفه مطوياً في بضع صفحات أتت في سياق موضوع عام هو الرد على الكفار وأعداء المسيح. ما يلاحظه القارئ عند مطالعة هذه الصفحات هو نزوع الرجل التوفيقي دائماً، وتداخل المرجعيتين الفلسفية والدينية عنده، فمن جهة نجد الإلحاح الشديد على مفهوم النظام الأفلاطوني، والذي يتخذ سياسياً عنده صورة "العدالة" كما يقدمها الكتاب الثاني من الجمهورية[10]، حيث العدالة هي "إحلال كلّ شيء مكانه في العالم المتراتب"؛ ومن جهة أخرى نجد المرجعية الروحية المسيحية التي ترى في الإنجيل وتعاليم بولس الملاذ والخلاص الأخير. ما يلاحظه القارئ كذلك هو أنّ أوغسطينوس يبني تصوره، وللمفارقة، باعتماد تقابلات حادة، بين الإلهي والإنساني، ثم بين الإيمان والكفر، أي بين الوثني والمسيحي، لهذا نجد نبرة السجال والدفاع تتداخل مع التنظير والبناء، فحتى في ما هو أدبي، نجد الرجل يجرّد الحكم الذوقي من حياده، ليلبسه لبوساً نضالياً عقدياً[11]، هكذا ففي مقابل قصائد فيرجيل الوثنية، هناك ما يسميه هو بـ"كتاباتنا"، وفي مقابل الفلاسفة هناك "الأنبياء"؛ فالأنبياء هم من يحفظ النظام الكوني العام ويضمن تناغم الأدنى مع الأعلى، إنهم الذين يعلموننا أنّ كلّ ما يحصل هو بإرادة من الربّ ومشيئته[12]، ولعل هذا ما جعل متخصصاً كبيراً في فلسفة الرجل (إيتيان جيلسون)، يقرر أنّ أوغسطين، ورغم النزعة التوفيقية العميقة التي حكمت "لا وعيه الفلسفي"، فإنه، في مواقفه الواعية، لا يترك مجالاً وسطاً في الاختيارات، فإمّا رحمة الإله أو شقاء الشيطان، وبين هذين كلٌّ يكون ملزماً باختيار مكانه.

يبدو كلّ شيء في عالم أوغسطين محكوماً بالثيوديسا وبخطة الإله[13]، وإذا كان العالم كذلك فإنّ غاية الإنسان لن تكون هي التخلي عن عالم الفانين للتعلق بعالم الملأ الأعلى كما قد يُعتقد، إذ أنّ ذلك لن يعدو أن يكون صيغة أخرى للعقيدة المانوية (التي تبناها هو في فترة شبابه، قبل أن ينقلب عليها ويحاربها في كهولته) من حيث إنّ المانوية هي العقيدة التي تتأسس على الاحتفاء بالضعف والتعبد بالتضحية والانقطاع

عن عالم الحياة، فمراد أغسطينوس ليس هو نبذ مدينة الإنسان لأجل مدينة في السماء، بل العكس تماماً، مراده أن يقيم مدينة للإنسان، في هذا العالم، تجعل غاية لها الخلاص إلى الرب، وهذا التمييز هنا هو في غاية الأهمية، إنه إعلان عن بداية ما أسمته حنا أرندت بـ"الموقف السياسي" المسيحي، أي الميلاد الفلسفي للمسيحية كمشروع "أرضي" وليس فقط كخيار للخلاص الروحي لما بعد الحياة في الأرض، بهذا الاعتبار يمكننا أن نقول، ودونما حرج، إنّ أوغسطينوس هو الفيلسوف الذي حرّر الفكر المسيحي من معاداة السياسة، وجعل المسيحية تطالب بحقها في أن تكون نظاماً دنيوياً، حتى ولو كان هذا النظام يضع غاية أخيرة له ما يتجاوز الدنيا والسياسة والبشر[14].

كيف تكون السياسة ممكنة كفعل محايث يتخذ من المفارق غاية له؟

بأن نربط بين العنصرين على تباعدهما الظاهر، فالأرض هي محل "الاغتراب" والترحال PEREGRINATIO)) أي محل الانتظار، ونحن فيها من ينتظر الوعد، فالزمان لا يأخذ معناه وقيمته إلا حين نفهمه باعتباره خط انتظار يمتدّ من الأصل إلى الوعد[15]، غير أنه انتظار قوامه امتحان هذا الانتظار، وهنا يكون الإنسان مكلفاً بالتدليل على تعلقه بالإله، فينشئ المدينة، والمدينة لا تنتظم إلا بأربعة مكوّنات يتداخل فيها السياسي بالميتافيزيقي، فمن جهة يكون على من ينتظر أن يعتصم بالجماعة والعائلة فينشئهما، ومن جهة أخرى يكون عليه ألا ينشئ هذه الجماعة والعائلة إلا وهو يستحضر الكون في جملته، ومنه الملائكة، فالملائكة "حاضرون" في مجتمع البشر، فاعلون فيه بكلّ السبل، تماماً كما كان الآلهة فاعلين وحاضرين في حياة الوثنيين، هكذا تكون السياسة فعلاً بشرياً، لكنه فعل مشدود دائماً إلى ما يتجاوزه، في التكوين والترتيب والغاية، وكلّ ذلك في زمن أفقه الانتظار والرجاء.

لسنا نحتاج لبيان العنصر الأفلاطوني القوي في هذه الرؤية، فيكفي أن نعوض الملائكة بالعقول المفارقة لنحصل على دائرة طيماوس، لكننا محتاجون، ربما، حتى نفهم مسألة الانتظار هذه، أن ندقق أكثر في مفهوم الرجل عن الزمان، حتى نتبين أكثر مقصوده من أفق الرجاء والانتظار هذا.

يجمع الدارسون على أنّ ميزة الفكر اليوناني هي نفوره من فكرة الصيرورة، وهذا ما يفسر انتصار كلّ فلاسفته الكبار لبارمينيد، فالأصل هو الثبات، وحتى إن كانت هناك من صيرورة، فهي لا تفهم إلا في إطار ثابت أعمّ، هكذا فالحركة ليست إلا الصورة الآنية الخادعة للأبدية الثابتة الخالدة (أفلاطون)، والصيرورة الظاهرة ليست إلا تعبيراً عن هذا الأبدي الذي ما يفتأ يعود دائماً (الرواقية)، وغالب الظن أنّ هذا الأمر هو ما جعل كلّ هؤلاء الفلاسفة يجمعون على أنّ العالم قديم، وعلى أنّ نظامه دائري، فالدائرة نموذج الثبات والأبدية.

بيد أنّ التحول سيحصل مع مجيء المسيحية، حيث سيتحول الزمان إلى تاريخ، ويصير للعالم بداية هي الخلق ونهاية هي الدينونة، وتصير تجربة الإنسان قصة تبتدئ مع الخطيئة وتنتهي مع الحساب، وإن كان هناك من فيلسوف رفع هذه الفكرة لمستوى النظرية الفلسفية فهو أوغسطينوس[16]، إذ أنّ هذا الفيلسوف هو من مكّن من صياغة تصور عن الزمان يتحدد فيه وجود البشر باعتباره لحظة تفهم في إطار كلّ يتقدم، وجود لا يكتسب قيمته إلا من حيث هو انتظار لوعد سيتحقق، وزمن الانتظار هذا؛ زمن تأمّل القادم وترجّي الآتي الذي بشر وأنذر به الماضي؛ هو زمن "مدينة الرب"، المدينة التي لن تقوم فعلاً إلا حين نسعى لصياغة مجدها العابر على نموذج المجد الخالد الذي تجسّده إرادة الإله.

لماذا سقطت روما إذن؟ لماذا تداعت بهذا الشكل القاسي بعد كلّ ذلك المجد؟

ما أسقط روما هو كونها لم تتمثل "سياسياً" قيمة المسيحية، فعوض أن تجتهد في التحرر من قيمها الوثنية التي هي التكبر والاغترار والرغبة في تحقيق المجد في الدنيا، أي عوض أن تقيم مدينة الرب التي هي مدينة المجد الحق، من حيث إنها تسند مجد هذه الحياة بما يتجاوز هذه الحياة عينها؛ بقيت روما، سياسياً، في حدود الوعي الوثني، أي في حدود مدينة الإنسان التي معيارها هو الإنسان، وهذا لا يكفي، فكما أنّ حبّ الذات وحبّ المسيح لا يلتقيان عقدياً، فحبّ الرب وحبّ الإنسان لا يلتقيان سياسياً، فمبدأ "مدينة الرب" هو "حبّ الرب إلى حد امتهان الذات"، في حين أنّ مبدأ مدينة الإنسان هو "حبّ الذات إلى حدّ امتهان الرب"[17]، ولهذا فمجد روما، على عظمته لم يكن يوماً مجداً حقيقياً، لأنّ الدافع إليه لم يكن الحبّ الإلهي، بل حبّ المجد الذاتي، لهذا فالخلاص لن يأتي إلا بأن نرقى لاستكمال العقيدة "سياسياً"، بأن نجعل السياسة طريقاً لحبّ الإله وتحقيق مدينته في زمن الغربة والانتظار الذي هو زمننا نحن الأحياء.

لسنا نحتاج في اعتقادنا لبيان حجم وأثر هذه الرؤية (التحقيق المدني للعقيدة المسيحية) في تشكيل الوعي السياسي للقرون الوسطى، فقد صار هذا النص على ما يذكر المؤرخون، هو حجة الكنيسة الأقوى في ادعاء وصايتها على السلطة الدنيوية، فإذا كانت الغاية هي "ضبط ساعة" الفعل الإنساني بتوقيت الكون الإلهي، فمَن غير الكنيسة سيكون أهلاً لذلك؟ هكذا ستصير الكنيسة ورجالاتها السلطة التي يعهد إليها بتحقيق نموذج مدينة الرب، وبذلك تكون الأغسطينية، من غريغوار السابع إلى بونيفاس الثالث عشر، هي من "برّر خضوع النظام المدني للنظام الكنسي"، وكلّ من سيتوجه للنظر في المجال الفلسفي السياسي حينها، سيكون ملزماً بأن يضع هذه القاعدة مبدأ أول، حتى أنّ بعض الدارسين يُسمّي القرون الوسطى بعصر الأوغيسطينية السياسية[18] Augustinisme politique، فلم يكن من المقبول القيام بأيّ اجتهاد نظري دون أن نقيسه على معيار "الإرادة السياسية الربانية" التي تَعتَبر الكنيسة وآباءها الأوصياء عليها مرحلياً في "الدنيا"، هكذا فحتى الملوك، على قوتهم ومنعتهم، لا يكونون حائزين لمشروعيتهم في الحكم إلا باعتبارهم "قائمي مقام" يستمدّون نورهم من السلطة البابوية، التي تنعكس عليهم، كما ينعكس نور الشمس على القمر؛ والدستور في كلّ ذلك هو كتاب أوغسطينوس، الكتاب الذي يترجم عملياً وسياسياً تعاليم الإله، ولعله لهذا السبب كان نص "مدينة الرب" الكتاب الأكثر نسخاً بعد الإنجيل، طيلة العصر الوسيط.

دولة العقل وجماعة الأحرار

عندما نتحدث عن الأنوار يغلب على الأفهام أن تتوجه للقرن الثامن عشر، وأن تستحضر الفلاسفة الفرنسيين المشهورين، لكنّ تمحيض الأمر يبين أنّ الأمر أكثر قدماً من ذلك، فالأنوار مخاض وصيرورة لا يمكن أن نحدد لها فترة واحدة دون غيرها، بل إنّ مؤرخاً من حجم جاك لوغوف يردّ جذورها إلى القرن الرابع عشر، أي إلى القسم الأخير من القرون الوسطى. المسألة إذن ليست محصورة في فترة معينة، في هذا السياق يبدو لنا أنّ التنوير السياسي، بمعناه الواعي والفلسفي، نجده واضحاً قبل هذا التاريخ المشهور، نجده، وهذا جوهر الطرح هنا، عند سبينوزا، وفي كتابه رسالة في اللاهوت والسياسة تحديداً، الذي يمكن أن نقول بشأنه، ودونما خشية من المبالغة، إنّه أقوى نص في النقد السياسي والديني منذ بداية العصر الحديث، وهذا ما يفسّر في تصورنا، كمّ السب واللعن والتشهير الذي لحق بهذا النص وبكاتبه، في تلك الفترة وما بعدها، حتى وإن كان صاحبه قد نشره باسم مستعار. هكذا، فإذا كان نص مدينة الرب، بحسب تصورنا الذي تقدم، يشكل الأساس الفلسفي الذي يسند السياسة، ممارسة وتصوراً، في العصر الوسيط، فإنّ نص سبينوزا هذا يجسّد النموذج النظري الذي اجتمعت فيه أهمّ مقدمات السياسة الحديثة كما ستتحدد فيما بعد.

قد يبدو قول مثل هذا، أمام ما هو متداول، قولاً مبالغاً فيه، لكنّ الأمر ليس كذلك، فنحن نجد مؤرخي فلسفة كباراً، من ليو ستروس إلى جيل دولوز، كلهم يلحون على الأهمية القصوى لسبينوزا في نحت الوعي السياسي الحديث، والأمر يتزكى إذا ما أنعمنا النظر في بعض الأبحاث المتأخرة التي اهتمت بتاريخ الفكر السياسي الحديث حصراً، ومن ذلك ما جاء في بحث ظهر منذ بضع سنوات للباحث جوناثان إسرائيل[19].

تظهر أهمية هذا البحث في روحه الاستقصائية الدقيقة التي سعت أن تبين، باعتماد عدد هائل من النصوص والوثائق، مسار الأنوار في كليتها، وحجم الأثر الذي كان لسبينوزا في صياغة ما يُسمّى بالوعي الأنواري، هذا رغم غياب الإحالة إليه في النصوص التي أتت بعده، وهو غياب يعزوه المؤرخ لاعتبارات سياسية وثيولوجية، فسمعة سبينوزا السيئة، ومنع كتبه التي صدرت من التداول، ومنها كتاب رسالة في اللاهوت والسياسة الذي وسمه أحد معاصريه بكونه "أقبح وأكثر ما خطته يد إنسان وقاحة وجرأة على الإله على مدى تاريخ البشر"، وكذلك صدور مراسيم تمنع الحديث العلني عنه كشخص، إضافة إلى عناصر أخرى مثل التمركز الفرنسي الإنجليزي، كلها عناصر منعت نصوص سبينوزا من أن تنال حظوتها المستحقة، ولعل بيان هذا الأمر يحتاج منا لتلخيص بعض عناصر أطروحة هذا الكتاب.

يبتدئ الكاتب بالحديث عن جملة المثالب التي تحكم حديث المؤرخين عن فترة الأنوار، وأولها كون هذا التأريخ بقي، إلى اليوم، ضحية تمركز قومي فرنسي إنجليزي، فأهمّ أفكار الأنوار، وعلى عكس ما يقوله التقليد الفرنسي مثلاً، لم تكن فرنسية متعلقة حصراً بالاجتهادات التي اشتهرت في القرن الثامن عشر، بل إنّ بيانها يحتاج منا للعودة إلى "القرن الكبير"، أي القرن السابع عشر، هكذا فالأسس العامة زرعت قرناً قبل ذلك، وفي الفترة مابين 1650 و1750 تحديداً، وكلّ ما جاء بعدها كان مجرد بسط لمطويات هذه الفترة، وهكذا فأفكار ديدرو وفولتير وروسو ليست إلا صدى لعقلانية سابقة أعمق، هكذا ميز الباحث بين أنوار مؤسسة أولى، وأنوار انعكاسية جاءت تالية عليها، وفي هذه الأنوار الأولى نفسها نجد الكاتب يميز بين اتجاهات عديدة، بين النيوتونية والديكارتية الجديدة أولاً، ممثلة في ليبنتز خصوصاً، ثم بين ما يحمل عنده صفة التيار "الجذري" ثانياً، وهو التيار الذي يبقى في تقديره أهمها جميعاً، والجذرية لا تحضر عنده هنا إلا باعتبارها اسماً آخر لفلسفة سبينوزا، فوسط التيار المحافظ الذي حاول الدفاع عن امتيازات النظام القديم، والتيار الوسطي الذي اجتهد في تدبير الصدام الحاد بين التصور القديم والتعاليم الجديدة، نجد موقفاً لم يهادن في شيء وهو السبينوزية. النتيجة الأولى التي ينتهي إليها إسرائيل من كلّ هذا اعتباره أنّ من غير السليم أن نفهم الأنوار باعتبارها حركة موحدة ومتجانسة، فهذه الفترة كانت تحكمها صراعات وتقاطبات قوية، حيث كنا نجد مثلاً التوجه التوفيقي يتعارض مع الجذري من جهة، ومع المحافظ من جهة أخرى، وفي فترة أخرى كنا نجد هذا المذهب التوفيقي يتحالف مع نظيره المحافظ ضداً على الاتجاه الذي يسميه بـ"الجذري"، وهذا الصراع نجد صداه يتردد في كتابات هذه الفترة كلها، ومنها كتابات سبينوزا، فالديكارتيون، وليبنتز على رأسهم، كان الهمّ عندهم هو التميّز عن سبينوزا والتبرؤ منه وقطع الصلة بدعاويه، بل والتضييق عليه، وهو التضييق الذي تشهد به شكوى الفيلسوف الهولندي، الذي لم يعتد الشكوى في العادة، في مراسلاته لأصدقائه، من الديكارتيين "البلداء" الذين يكيدون له أكثر من أهل الملة أنفسهم، وما يفسر أيضاً موقف ليبنتز الغريب، حين أنكر أي معرفة بسبينوزا أو لقاء له به رغم زيارته له سنة 1675، إذ أنّ تهمة السبينوزية أو الاتصال بصاحبها كانت خطيرة العواقب حينها.

مهما يكن من أمر هذه الأطروحة وقوتها أو ضعفها، فإنّ أهمية بحث جوناثان إسرائيل في نظرنا، تتمثل في كونه غيّر من التصور التاريخي "الرسمي" عن معنى الأنوار ومسارها، هذا فضلاً عن كونه، في نظرنا دائماً، يمتلك قدراً كبيراً من الحجية قياساً إلى النصوص التي أمامنا، ومنها هذا النص الكبير "رسالة في اللاهوت والسياسة".

تقابلات الوحي والعقل

هناك، مبدئياً، عنصر تلاقٍ قوي بين سبينوزا والأب أغسطينوس، وهو مفهوم النظام، إذ أنّ فلسفة سبينوزا لا تفهم هي أيضاً إلا داخل مفهوم "النظام الذي لا شيء يقع خارجه"، غير أنّ هناك فرقاً جوهرياً في المعنى الذي يعطيه كلٌّ من الفيلسوفين لمعنى النظام، فإذا كان الأب أوغسطين يستند إلى نظام إلهي تراتبي "أخلاقي"، فإنّ سبينوزا يتحدث عن قواعد وقوانين "طبيعية" محايثة، فكلّ ما يحدث يخضع للحتمية صحيح، لكنها حتمية فيزيائية وليست ميتافيزيقية، إذ لا إمكانية في نظام سبينوزا للحديث عن الملائكة أو الآلهة، كما هو الشأن مع أوغسطينوس، فكلّ ما يحصل يتحقق في إطار الطبيعة الصماء التي لا تقبل أيّ استثناء في سير قوانينها، لهذا فالحديث عن الكائنات المفارقة والمعجزات هو "محض هذيان"، لأنّ كلّ ما هو مضاد لقانون الطبيعة مضاد للعقل، وما يضاد العقل ينبغي نبذه مباشرة.

لا يستطيع قارئ الرسالة العارف بتراث أوغسطينوس ألا يستشعر في أحايين كثيرة أنّ سبينوزا يتحدث وكأنه يتوجه لأوغسطين رأساً، وهذا ما يظهر مثلاً عند حديثه عن الأنبياء، فإذا كان هؤلاء، عند أوغسطينوس كما تقدّم، هم فلاسفة الزمن المسيحي الجديد، ضداً على كلّ فلاسفة العهد الوثني، فإنّ الأنبياء عند صاحب الإيتيقا لا يمكن أن يكونوا بحال "فلاسفة"، ولا حتى متحدثين باسم الإله، لأنهم أهل خيال ليس إلا، والحال أنّ الخيال هو أدنى درجات المعرفة، لهذا فهم ليسوا إلا انعكاساً لوعي الإنسان البسيط، بل و"السوقي"؛ هكذا يعبر سبينوزا، وبلغة صادمة قياساً إلى عصره، من العبث البحث عن الحكمة في الوحي، أو السعي لإيجاد معرفة طبيعية بالعلل فيما يقول نقلته، إذ أنّ الوحي، في عُرفه، محض عبث وخالص وهم، فالنبي هو كائن "العلامات" المشتركة الذي لا طاقة له على تبين المفاهيم أو صياغة الأفكار العقلية المتواطئة، لهذا كان مذهب الأنبياء هو النقيض التام لمذهب أهل العقل الراغبين في فهم قوانين الطبيعة[20]، فالقول بما قاله موسى عن طبيعة الإله، كونه ناراً مثلاً، ليس أكثر من خرافة[21]. وليس هذا الوحي المضاد للعقل خاطئاً معرفياً فقط، بل هو مذنب أخلاقياً أيضاً، إذ أنّ ما ينبغي أن ننتبه إليه، في تصور سبينوزا، هو أنّ التفكير باعتماد المعجزات والخوارق، كان وما يزال هو السبب الذي ينبغي أن نردّ إليه الكثير من الويلات والآلام التي لحقت بالناس عبر التاريخ[22].

لا شيء يرجى من الوحي إذن، إذ هو ليس في مضمونه إلا نسيج تناقضات[23]، لهذا فلا معنى للقول بسلطة للوحي على العقل، فهذا لن يكون دليل تقوى بل دليل جنون، إذ من الجنون أن نخضع مصائر الناس لاستيهامات شخصية "مريضة"[24]. يتكرر هذا الشعور الذي ينتابنا بحديث سبينوزا لأوغسطينوس أيضاً حين يتجرد، في هذا النص دائماً، للحديث عن أتباع الرسل من أهل الثيولوجيا، فضداً على الفيلسوف الروماني المسيحي الذي اعتبر هؤلاء الأوصياء على النظام في مدينة الرب، نجد سبينوزا يعتبر أنّ رجال الدين، في معارضتهم للعقل، وفي الهيمنة التي منحوا للنصوص المقدّسة على غيرها، هم الذين رسّخوا قواعد التصورات الخرافية؛ ومضادة العقل هذه ليست عندهم عرضية، بل هي راسخة في تعاليمهم لدرجة يجد معها سبينوزا ألا أمل مطلقاً في محاولة توعيتهم، فالأمر لا يحتمل أي "توفيق"، لهذا فهو يدعوهم صراحة، ومنذ المقدمة، لعدم قراءة نصه، فحين تكون الأمور متباعدة لهذا الحد، يصير سعي التوفيق المزعوم هذا مجرد تربيع للدوائر.

إذا ما تحوّلنا للنظر فيما يتعلق بما أسميناه سابقاً بنظرية "الانعكاس" التي هي واحدة من أسس الأوغسطينية، وحدّها- كما صيغ مع نظرية الحق الإلهي في الحكم- اعتبار سلطة الحاكم "انعكاساً" أدنى لنور الكنيسة الذي يستمد من الأعلى، فإننا نجد سبينوزا يهاجمها بلغة غريبة، لغة أقرب ما تكون لمعجم الماركسية اللاحقة، هكذا فالحديث باسم الإله في السياسة، عنده، ليس إلا رغبة في التسلط، تتخذ من الدين حجاباً وستاراً غايته إطالة أمد استعباد الناس[25]، فرجال الدين يعدون الشعب بالآمال المفارقة، حتى يمنعوهم عن السعي لتحقيق آمالهم في هذا العالم، وليت أنّ هذه الوعود قد أنتجت شيئاً ذا فائدة "عملية"، على زيفه، فالتاريخ يشهد أنّ تدخل رجال الدين في أمور الدولة، وادعاءهم مثل هذه الادعاءات، لم ينتج إلا الضرر للجميع؛ لم ينتج سوى الاستبداد والحرب والظلم[26].

الحرية كمعيار، الحرية كغاية

ما الذي يقدّمه سبينوزا بديلاً عن مدينة الدين واللاهوت هذه، التي هي مرادف للقهر ومعاداة الحياة؟

يمكننا أن نجد مداخل عديدة للحديث في هذا الشأن، لكنّ البديل الأفضل عنده، ولا نقول الأمثل، يكون في سعينا لإقامة ما يسميه هو بجماعة العقل أو دولة العقل، ودولة العقل هذه لها معيار وغاية واحدة هي الحرية، لهذا فأهم مفهوم في تصور سبينوزا السياسي، في نظرنا، يبقى هو الحرية، على ما في هذا المفهوم من صعوبات، خصوصاً إذا تناولناه في إطار مفاهيم أخرى من مثل الطبيعة والمجتمع والحق عنده. وأول شرط في نظام الحرية هو ألا تكون الدولة أو المدينة قائمة ضداً على الحقوق الطبيعية - كما هو الشأن عند هوبز مثلاً- بل أن تكون تصريفاً، بحسب المستطاع، لضمان وجود أكبر قدر من الحقوق الطبيعية، فالمدنية لا ينبغي أن تتأسس على أيّ منع، وإن كان فليكن بغاية تدبير الحقوق فقط، فالمنع هنا ضرورة عملية وليس غاية "أخلاقية"، والفرق بين الأمرين كبير جداً، ويجد أساسه في ميتافيزيقا سبينوزا نفسها، ففي عالم لا يكون فيه من خير أو شر في ذاتهما؛ في عالم متواطئ لا يعتمد مرجعية له أيّ عنصر متعالٍ على الطبيعة سابق على الحياة، يصير كلّ ما نستند إليه في النهاية "توافقياً"، الغاية منه تزكية الحياة نفسها، بعيداً عن كلّ محاولة لصياغة هذه الحياة على نماذج تتعالى عليها؛ فالناس وحدهم هنا، والعالم الذي يحيون فيه أصم، لا مكان للحديث فيه عن "دليل عناية" أو "تدبير حكيم"، وحين تكون الأمور هكذا، تصير الحكمة في ترك الناس يحيون حياتهم بأقوى ما يستطيعون، شريطة أن يكون هذا الترك عاماً بأقصى ما يمكن، وهنا فقط تتدخل القوانين، وهنا فقط يتخذ الحق معنى[27].

وأول شرط في الحرية هو الحق في الاعتقاد أو عدمه، فالاعتقاد اختيار فردي لا سلطة لأحد على الأفراد فيه، ففي دولة أفقها الحرية، من حق أيٍّ كان أن يعتقد فيما يرى، بل وأن يقول كلّ ما يعتقد[28] لهذا فخصم مجتمع الحق، بهذا المعنى، هو نظام الاستبداد الذي يجعل من الدين مبرراً لضبط الناس، وجعلهم عمياناً عن حقيقة حريتهم، بل ويستلبهم بحيث يجعلهم، من حيث لا يشعرون، مستعدين للتضحية بأنفسهم لأجل الإبقاء على حالة الاستعباد هذه. وبما أنّه لا أحد، "بحسب ما يمليه القانون الطبيعي، ملزم بأن يحيا رهين إرادة أخرى، بل كلّ واحد هو الحافظ الفطري لحريته"[29] فمن غير المقبول أن نسلم السلطة لحاكم واحد وإن كان ملكاً، فالملوك لا يقاتلون لأجل الحرية، بل لأجل مجدهم الشخصي واستدامته، والتاريخ دائماً هو الشاهد في هذا[30].

هل يعني هذا أنّ سبينوزا ينتصر للنظام الديمقراطي؟

من الصعب الجواب عن هذا السؤال، فهو لم يستعمل هذه العبارة إلا لماماً، وفي سياقات غير واضحة، ولعل من الدالّ هنا أنّ الرجل مات وهو بصدد الإعداد لتحرير فصل الديمقراطية في كتابه الأخير "الرسالة السياسية"، لكن يمكن أن نقول إنّ الرجل يعتقد أنّ النظام الديمقراطي، على عيوبه الكثيرة، يبدو مرحلياً الأقدر على حفظ الحريات الفردية، إذ هو الوسيلة التي تجعل الناس "يظلون متساوين أكثر، كما كان عليه الحال في وضعية الطبيعة"[31].


[1]- نشر هذا المقال في مجلة يتفكرون، العدد الثامن، 2016، إصدارات مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث.

[2]. Martin Heidegger; chemins qui ne mènent nulle part; traduit de l’allemand par wolfgang brokmeir; Gallimard, tel paris 1980, pp. 99- 102 ـ 116.

[3]. Ibid, p 101.

[4]ـ سنعتمد في هذا البحث على الترجمة العربية خصوصاً التي قام بها الخور يوسف يوحنا الحلو في ثلاثة مجلدات، دار الشروق بيروت، الطبعة الثانية 2006، تحت عنوان مدينة الله للقديس أوغسطينوس، وهو ترجمة عن الفرنسية لنص:

De Civitate Dei contra paganos: La Cité de Dieu contre les païens، والإحالات ستكون هي نفسها بالأرقام مستعملة في كلّ الترجمات إحالة على الفقرات والفصول أو الكتب.

[5]ـ نعتمد هنا الترجمة الفرنسية التي صدرت ضمن سلسلة لابلياد:

Spinoza; œuvres complètes, textes traduit présenté et annoté par Roland Caillois; Madeleine Frances et Robert Misrahi, Gallimard 1954; impression 2012.

وسنعتمد الترقيم المعتمد في الإحالة على الفصول والفقرات كذلك.

[6]- للقديس أغسطينوس كتاب مستقل عن النظام باللاتينية تحت عنوان de ordine وهو كتاب يعتبر أكثر كتبه "أفلاطونية"، ويعتبر الأساس الميتافيزيقي لكل تصوراته، انظر كذلك:

Jean pépin, Saint Augustin et la patristique occidentale pp .243- 250. In La philosophie; tome I, de Platon a St Thomas; ouvrage collectifs sous la direction de François Châtelet; librairie hachette; paris 1972;

[7]ـ مدينة الله (الكتاب الثاني، 3)

[8]ـ نفسه (الكتاب الثاني، 18- 19)

[9]ـ نفسه (الكتاب الرابع، 26-30)

[10]. Platon, la république, traduction et Commentaire de Robert Baccou, édition G, Flammarion (1966).

[11]ـ مدينة الله، الكتاب الأول الأول 4 و5

[12]ـ الكتب الأولى كلها مبنية على هذه التقابلات.

[13]ـ نفسه، أنظر الكتاب الخامس: 9- 10

[14]. Hannah Arendt, La crise de la culture, Paris, folio essais,‎1989.Chap III, qu’est ce que l’autorité ?

[15]ـ موقف أوغسطينوس من الزمان شهير جداً، وقد تناوله جلّ الفلاسفة عبر التاريخ، وخصوصاً النص الذي ورد في نص الاعترافات: les Confessions, Livre XI.

[16]ـ نفسه، الكتاب الحادي عشر، الفصل 14 و20.

[17]ـ مدينة الله، مذكور سابقاً، الكتاب الرابع عشر، 28

[18]ـ ومعناه كما ورد عند بعض المؤرخين: "مذهب حكم الإله للعالم بوساطة ممثله الأسمى، وخليفته الأجل على الأرض: البابا، وباقي السلط لا تكتسب شرعيتها إلا من حيث هي حائزة على القبول والرضى من هذه السلطة الأسمى".

H.-X. Arquillière, L’Augustinisme politique, Paris, 1955. p. 36.

[19]. Jonathan I. Israël, Les Lumières radicales. La philosophie, Spinoza et la naissance de la modernité (1650-1750) Paris, Éditions Amsterdam, 2005.

ونعتمد هنا على قراءة الكتاب التي قام بها كلٌّ من Bélissa Marc ضمن مجلة:

Annales historiques de la Révolution française, Année 2006, N 1. Volume 345.

ثم قراءةFrançois La planche الصادرة ضمن:

 Revue de l'histoire de religions, 2007, (Tome I).

[20]. Traité ... Op. Cit, Chapitre XIII.

[21]ـ نفسه، VI

[22]ـ انظر مقدمة الكتاب مثلاً.

[23]ـ نفسه VI

[24]ـ نفسه VII

[25]ـ نفسه، VII حيث يصرّح مثلاً ومن البداية أنّ الخرافة "هي الوسيلة الأنجع لحكم الحشود".

[26]ـ نفسه، II

[27]. Gilles Deleuze, Spinoza, philosophie pratique, éditions de minuit; paris; 1981; V chapitre, société.

[28]. Traité Théologico-politique, Chap. XV, Chap. XX.

[29]ـ نفسه، الفصل نفسه.

[30]ـ نفسه XVI

[31]ـ نفسه، المقدمة.