ياسر قانصوه: الإسلام والغرب: قضايا الحداثة، والأقليَّات، ومأزق الهويَّات


فئة :  حوارات

ياسر قانصوه: الإسلام والغرب: قضايا الحداثة، والأقليَّات، ومأزق الهويَّات

يوسف هريمة: في ظلّ الصراع القائم بين الشرق والغرب، تبرز ظاهرة الإسلاموفوبيا بوصفها نتاجاً حضارياً لهذا الصدام. كيف تفهمون الإسلاموفوبيا؟ وهل هو صناعة غربيَّة في سياق هجمة تقودها إيديولوجيات تبشر بنهايات كلّ شيء، بما فيه التاريخ والأيديولوجيا والثقافة؟ أم هو صناعة ذاتيَّة لتراث حابل بحتميَّة الصدام؟

ـ د. ياسر قانصوه: ثمَّة مشكلة فكريَّة مزمنة نعاني منها دائماً، وتتعلق بتقرير أو توكيد فكرة الصراع القائم بين الشرق والغرب، كما لو كنَّا نؤمن عن يقين بمقولة الشاعر الإنجليزي "رد يارد كبلنج": "الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا أبداً". وفي المقابل، لا يمكن الإقرار بأنَّه لا يوجد صراع بين الشرق والغرب، كما لا يمكننا نفي أو إقصاء فكرة الصراع الداخلي الدائر بين شرقيات "الشرق" المبعثرة المتناثرة من الشرق الأدنى إلى الأقصى، ومن ثمَّ ليس بوسعنا وضع خط فاصل بين الشرق والغرب كي نؤكد حتمية الصراع وبواعثه الضروريَّة.

ويجب علينا أن نحدّد أيَّ صراع نقصد؟ كما يتوجب أن نطرح سؤالنا الأكثر جدوى: أيّ حوار يمكن أن يكون؟ حتى لو كانت فرضياتنا لهذا الحوار متخيَّلة، ولا تستند على واقع معاش. إنَّنا نندفع بشهيَّة وولع وقابليَّة مستمرَّة لمضغ كلّ العبارات الغربيَّة التي تضعنا في دائرة الصراع المحتوم، وهذا الصراع يعيدنا إلى فخر ومجد النديَّة في هذا الصراع غير المتسق فكرياً، إذ إنَّنا عبر الأفكار والنظريات والمناهج العلميَّة نعاني وطأة الخضوع اليومي للمستحدثات الغربيَّة، ويخرجنا هذا من إطار التكافؤ اللازم لاستمراريَّة الصراع على مستوى الواقع. ولعلنا نعود فنكرّر السؤال بطريقة مختلفة: أيّ شرق نقصد؟ هل هو الشرق الذي ننتمي إليه أي العالم العربي/ الإسلامي، أم هو الشرق الأقصى الذي يضمُّ الصين واليابان، أم أنَّه الشرق الذي يحتوي روسيا وإيران؟ وعندما نتطلع إلى ظاهرة "الإسلاموفوبيا" أو الخوف من الإسلام فإنَّ السؤال الجدير بإثارته حقاً هو: من يقود مركبة الظاهرة؟ أو بتعبير تراثي: من يمتطي صهوة فرس المفهوم الجامح؟ بداية، اختصرت الكتابات الغربيَّة -معظمها- الدين الإسلامي بصورته الحديثة في ظاهرة سياسيَّة أطلق عليها اسم "الإسلام السياسي"، ومن ثمَّ انبثق مصطلح "الإسلاموفوبيا"، هذا المصطلح الذي تمَّ إحلاله محلَّ مصطلح "إمبراطوريَّة الشر" الذي أطلق على الاتحاد السوفييتي، والمعسكر الشرقي ـ شرق أوروبا ـ وأشياعه في كلّ أنحاء العالم في ثمانينات القرن العشرين، ولكي يتمَّ انتقاد الوجه التطبيقي المتمثل في ممارسات الحركات الأصوليَّة الإسلاميَّة، ليصل هذا التوجُّه إلى أقصى حالاته تطرُّفاً بعد هجمات 11 سبتمبر 2001 م في أمريكا، ليتحوَّل مصطلح الإسلاموفوبيا إلى واقعة يؤرَّخ لها بهجمات الحادي عشر من سبتمبر، ويطرح معها السؤال المثار دائماً في العالم الغربي: لماذا يكرهوننا؟ ومع السؤال تتعمَّق حالة الخوف من الإسلام وتزداد تماسكاً وصلابة وتحدياً لكلّ حوار ممكن بين العالم الإسلامي والغرب.

وفي المقابل، تتساقط الدفاعات الفكريَّة في العالم الإسلامي في ظلّ عبارات رنَّانة، وأحاديث مرسلة عن التسامح ودعاوى السلم في الإسلام دون فهم لطبيعة العقل الغربي، وكيفيَّة التعامل معه، فتكون إجابة سؤال "لماذا يكرهوننا؟" هي: "إنَّهم يتآمرون على الإسلام". ويلاحظ هذا الأمر "إدوارد سعيد" عندما يقول: كان بودي القول إنَّ ثمَّة تحسناً في الفهم العام للعرب والإسلام بعد 11/9، لكن على العكس امتلأت أرفف المكتبات الأمريكيَّة بعد 11/9 بعناوين كتب تتحدَّث عن الإسلام والإرهاب والخطر الإسلامي.

ومنذ تصاعد حركات الإسلام السياسي أو الأصوليَّة منذ سبعينيات القرن العشرين تمَّ تدشين المصطلح في سياق مؤلفات جمَّة عن الحركات الأصوليَّة أو الإسلام الأصولي، لكنَّ مصطلح الإسلام السياسي ورد للمرَّة الأولى تحت مُسمَّى "الإسلام الأصولي" في سبتمبر 1994م بمؤتمر عالمي عقد في واشنطن تحت مُسمَّى "خطر الإسلام الأصولي" على شمال أفريقيا، وقُصد بالخطر محاولة إيران نشر "الثورة الإسلاميَّة" في أفريقيا عن طريق السودان، ومع الأحداث الداخليَّة في الجزائر منذ مطلع التسعينيات في القرن العشرين، يتمُّ تغيير المصطلح ليصبح "الإسلاميين المتطرفين"، وبعد أحداث 11 سبتمبر تمَّ الاستقرار على "الإسلام السياسي"، لتتصاعد وتيرة الخوف مع أحداث ما يُسمَّى "الربيع العربي"، وما تلاها من وقائع متفرقة أو عمليات إرهابيَّة نُسبت إلى الحركات الإسلاميَّة المتطرفة، ليتمَّ استغلالها من قبل الغرب كدعاية ضدَّ الخطر الذي لا يتهدَّد المصالح الغربيَّة فحسب، بل يشكّل تهديداً مباشراً للحضارة المعاصرة، هذا ما استطاع الغرب أن يصنعه تجاه العالم الإسلامي/ العربي مستغلاً قابليتنا لمصطلحاته، وردَّة فعلنا المتباطئة والمتخاذلة لتأكيد ذاتيتنا عبر رؤى وممارسات عقلانيَّة واعية بالعصر الذي نعيش. لكنَّ صفة العنف أو الإرهاب التي ألصقها الغرب بالإسلام السياسي ليست صناعة غربيَّة خالصة، كما أنَّها ليست نتاجاً وحيداً لتخاذلنا المتفاقم، بل يمكن النظر إليها بوصفها مفهوماً يكرّس واقعاً، ويتبدَّى هذا الواقع في الإحساس بعقدة المؤامرة التاريخيَّة، هذه العقدة التي حوَّلت عقول بعض المسلمين إلى عقول منكمشة ومنغلقة على الذات، تتوجَّس من كلّ حادث أو طارئ، وتنظر بشكٍّ وريبة إلى تصرفات الآخرين أو تصنفها في خانة التآمر والخيانة. وتاريخياً ثمَّة وقائع عنف، وممارسات فاحشة الظلم اعتمدت على نوايا الآخر أكثر من كونها أفعالاً عدوانيَّة تستدعي ردَّة العنف. إنَّ صورة الصراع تمثل في جانبها الأكثر تأثيراً توقعات تبحث في نوايا الآخر، وتقف متأهبة سلفاً للصدام دون دلائل واقعيَّة على العدوانيَّة أو إلحاق الأذى والضرر بالآخر، فمن خطر الإسلام السياسي يتولد اصطناعاً صدام الحضارات كما دشَّنه صامويل هنتجنتون. ومن المواقف السياسيَّة الغربيَّة المريبة يتولد إحساس بالغبن والقهر يتكشَّف في ممارسات عنف وإرهاب مضاد. وللأسف ننجرف في هذا التيار دون إدراك لما تعنيه "كارين آرمسترونج" في مقولتها إنَّ الأصوليَّة ليست حكراً على الإسلام، بل برزت في غالبيَّة الأديان، ويبدو أنَّها تمثل ردَّة فعل عالميَّة على طبيعة الحياة أو أسلوب الحياة في نهايات القرن العشرين؛ فالهندوس، واليهود الأصوليون، واليمين المسيحي في أمريكا، كلُّ هؤلاء يندرجون في خانة ممارسة الاضطهاد الديني وأعمال العنف، ويزيد الطين بلة مصادرة المستقبل على الطريقة الغربيَّة، كما حاول فرنسيس فوكوياما في "نهاية التاريخ"، وآخرون يتحدثون عن عصر النهايات، ومعهم تتَّضح آفاق غير نهائيَّة لردود أفعال أقلّ ما توصف به الحماقة والتهوُّر.

يوسف هريمة: استكمالاً للسؤال السالف، نرى أنَّه لا يمكن أن نتحدَّث عن الشرق والغرب، إلا وتبرز قضيَّة أخرى لها ارتباط وثيق بسابقيها، ألا وهي الصراع بين الإسلام والحداثة. وهنا نجد أنفسنا بين تيَّار توفيقي يرى أنَّ الإسلام لا يتنافى مع الحداثة بوصفها منتوجاً غربياً، وبين تيَّار يرى أنَّ الحداثة هي تعبير عن حالة لا يمكن أن نطبقها في عالم له خصوصياته الحضاريَّة والثقافيَّة. كيف تقرؤون هذا المسار؟ وهل نحن بإزاء عقل لم يستوعب بعدُ طبيعة هذه المفاهيم؟

ـ د. ياسر قانصوه: لنذهب أولاً إلى معالجة صدمة الحداثة التي باغتتنا ذات يوم، ليس بوصفه مصطلحاً دالاً على شيء بعينه، لكن كتاريخ دالٍّ على اندراجنا في المعاصرة أو غيابنا عن الحاضر، إمَّا بالجمود عند مواقف ثابتة أو بالهرولة إلي ماضٍ ننشد فيه الحنين والراحة والسكينة، فنحن جامدون في أماكننا نتطلع ونستمع إلى مناقشات مستفيضة ومحتدمة حول الحداثة غير عابئين بوجودنا الزمني والمكاني، أو هاربون من فكرة الحداثة نفسها تحت دعاوى الخصوصيَّة الحضاريَّة والثقافيَّة، ومن ثمَّ فاستنكارها جائز شرعاً، والمهمُّ أنَّنا في الحالين لم نحدّد بعدُ ماذا تعني الحداثة؟

يمكن القول إنَّ النهضة العربيَّة/الإسلاميَّة الحديثة وليدة الصدمة مع حضور قوَّة خارجيَّة ومهدّدة، إنَّها قوَّة الغرب، وتوسُّعه الرأسمالي الذي أبانت عنه الحملة الفرنسيَّة على مصر في نهاية القرن الثامن عشر، لكنَّنا نخلط ما بين نتاجات الحداثة ومفهوم الحداثة ذاتها. فما هي الحداثة؟ إنَّ القراءة الأولى تكشف عن لفظ "الحداثة" Modernity للدلالة على المصدر من لفظ حديث الدال تاريخياً على عصر ما بعد العصور الوسطى (أو نهاية القرن الخامس عشر)، وتتميز الحداثة في الغرب بتطوير طرائق وأساليب معرفيَّة جديدة. غير أنَّ حالة الخوف التي سيطرت على مشاعرنا عقب الصدمة استدعت تصوُّرات أو قراءات تفسيريَّة توجز حال القوة أو الخطر الداهم من تقدُّم الغرب وتأخرنا الحضاري، لكن لم تهتم القراءات في ظلّ موقف يتردَّد ما بين القبول والرفض أو محاولات التوفيق، بالحال الفكري، أي كيف نشأت الحداثة في بيئتها الغربيَّة، وتعمَّقت جذورها الفكريَّة لتعكس تقنية تؤكد حال القوة، وقد حاولت قراءات تفسيريَّة للحداثة أن تضعها في قالب الأخذ بالمعرفة العلميَّة، ومن ثمَّ فإنَّ ترجمة العلوم الدنيويَّة هي سبيلنا إلى الولوج مباشرة في الحداثة، بمعنى معرفة الجديد والمستحدث على صورته الغربيَّة وتعريبه نظرياً وعملياً لمواجهة الغرب وإحراز التقدُّم، ومن رحم الحداثة كما يعرف ولد "التحديث" كدلالة على إمكانيَّة وجود صياغة عقلانيَّة لأسلوب الإنتاج المعتمد على التقنية الحديثة أو تنظيم منهجي للأعمال الاقتصاديَّة بصورة واعية كأساس للرأسماليَّة الحديثة كما يرى "ماكس فيبر"، غير أنَّنا لم نبحث في صياغة عقلانيَّة تلائمنا أو تتماشى مع خصوصياتنا الحضاريَّة والثقافيَّة، بل حاولنا محاكاة الغرب في علومه وتقدُّمه ليسفر الأمر عن تجارب فاشلة، ومع تكرار الفشل اتخذنا الغرب خصماً تاريخياً يروم انكسارنا، ومن ثمَّ سيطرت النزعة الاستهلاكيَّة للمنتج الحداثي بكافة أشكاله دون وعي بمنظومتنا العقلانيَّة المؤهلة للتقدُّم، وتمَّ القطع مع السؤال النهضوي بالكشف الدؤوب عن أكذوبة التقدُّم الغربي، أي أكذوبة التقدُّم العلمي والتقني والسقوط الأخلاقي والإنساني أيضاً، ولأنَّ عقلنا لم يستوعب الموقف من الحداثة من زاوية فكريَّة وعقلانيَّة تستهدف التقدُّم بطرائقنا المميزة لسماتنا الحضاريَّة والثقافيَّة، فإنَّ العلاج الشافي لا يتجاوز أمرين: الأول: الانغماس الآني في الحداثة أيَّاً كانت وجهات النظر المختلفة والمتباينة في التعرُّف عليها، الثاني: قطع الصلة تماماً مع تلك المفاهيم المستحدثة التي رسخت لمجتمع الجاهليَّة، بتعبير "سيد قطب" الذي نظر إلى الحداثة وانعكاساتها في المجتمعات غير الإسلاميَّة بوصفها تعبيراً عن مجتمعات متخلفة أو غير متحضرة، وبمقياس خط التقدُّم الإنساني، ولم يزل المجتمع العربي/الإسلامي حتى يومنا هذا، مع كلّ الأحاديث المطوَّلة عن الحداثة، إلا أنَّه لم يدخل شريكاً حقيقياً في البحث عن دلالاتها ومحتواها المعرفي والإنساني، وما يمكن أن يناسبه، بل مازال أسيراً لصدمة الحداثة، لتغيب فكرة الانفتاح على الآخر رغم كلّ المحاولات المضنية المبذولة من قبل روَّاد النهضة وتابعيهم من المفكرين، ليحلَّ محلَّ الوعي بالحداثة، الارتداد إلى الخلف بحثاً عن حداثة ماضٍ ولَّى زمنه.

يوسف هريمة: الكثير من الرافضين لفكرة الحوار الثقافي يتشبَّثون بمبدأ الهويَّة، في حين يعتبرها آخرون مجرَّد وهم، على حدّ تعبير داريوش شايغان. من وجهة نظركم هل الهويَّة الإسلاميَّة حقيقة أم وهم؟ وكيف نسعى لنقنع العقل الإسلامي بخطأ وهم المطابقة، وثبات الهويَّات؟

ـ د. ياسر قانصوه: بداية، إذا استحكمت فكرة الصراع، وسيطرت نظريَّة المؤامرة، أصبح التشبث بالهويَّة دفاعاً مستميتاً عن الذات أكثر من كونه وعياً بالذات. وتاريخياً، ترتبط الهويَّة بأمر التسييس، ومسألة الخطر الداهم إمَّا على الإسلام أو العروبة، ومن هنا تبقى الهويَّة أسيرة المشروع القومي (القوميَّة العربيَّة)، أو الأَّمَّة الإسلاميَّة (إضفاء الطابع السياسي بمعنى الدولة الإسلاميَّة)، لتتحوَّل الروابط الثقافيَّة والاجتماعيَّة والتاريخيَّة إلى رابطة المصير المشترك، ومن هذا المنطلق يأتي خطاب الهويَّة متأثراً بفكرة أو نظريَّة المؤامرة، وتصبح إمكانيَّة الحوار الثقافي مهدَّدة بفشل المشروع القومي أو الحيلولة دون قيام الدولة الإسلاميَّة، لتزداد إشكاليَّة الهويَّة تفاقماً، ومعها يتمُّ طرح سؤال الهويَّة من جديد، وتزداد حدَّة "أفعل التفضيل العربيَّة": أكثر عروبة أم أعظم إسلاماً؟

إنَّنا في بحثنا عن الهويَّة لسنا بصدد مناقشة حقيقة هويَّة معينة أو كونها وهماً يتمُّ الترويج له لأغراض سياسيَّة في المقام الأول، فالسياسي يبدو فاعلاً أو لاعباً أساسياً في تكريس وإبراز هويَّة بعينها، في لحظة تاريخيَّة محدَّدة وتحت ضغوط واقع معيَّن، وعندما نناقش فكرة الهويَّة الإسلاميَّة ومدى إمكاناتها، أي إمكانيَّة تحققها ومدى مطابقة ما هو روحاني وخاص لما هو دنيوي وعام، لكي تتشكَّل هويَّة مميَّزة تفرض طابعها الخاص على ساحة الهويَّات المتباينة. إنَّنا عندما نتحدث في الهويَّة فإنَّ إشكاليَّة الخاص والعام تفرض نفسها، عندما يتعلق الانتماء الفردي بمجموعة الروابط المشتركة التي تميّز أبناء قوميَّة واحدة، وأيضاً تلك المعايير الأخلاقيَّة أو قواعد السلوك الملزمة لكلّ أصحاب ديانة معيَّنة، وهنا تبدو القوميَّة مجالاً خاصَّاً، بينما يتجاوز الدين حدود القوميَّة ليمثل مجالاً عامَّاً، لكن تبقى المسألة الشائكة في الهويَّة، هي من يملك السيطرة على الفرد المنتمي إليه ليحدد هويَّة الفرد في إطار خاص أو عام، وتبدو النقلة من المحليَّة والإقليميَّة إلى العالميَّة مصدر الخطر القائم في تحديد الهويَّة. فشعار "نحن" و"الآخرون" قد يستخدم بمعناه القومي كما يمكن استعماله في السياق الديني لخدمة الأغراض والمصالح نفسها، وبالنسبة إلينا فإنَّ مشكلة القول بهويَّة إسلاميَّة تتضح سماتها في دلالة مفرد الأمَّة في القرآن والحديث بمعنى الجماعة السياسيَّة والاجتماعيَّة لا الدينيَّة، لكنَّ غالبيَّة المفسّرين يرون الأمَّة (أمَّة النبي) حصيلة للجماعة الواحدة التي تعتنق ديناً واحداً، إنَّ هويتنا مازالت عالقة بين الدين والقوميَّة، حيث يتماهى الخاص في العام، والعكس صحيح.

وعندما يجدُّ الفرد في البحث عن هويته، فيطرح سؤاله: عربيٌ أوَّلاً أم مسلمٌ أوَّلاً؟ ويتطلع إلى تلك الروابط الاجتماعيَّة أو القواسم المشتركة بينه وبين أبناء عروبته، والتي تشكّل جميعها وحدة المصير المشترك،

ويسأل نفسه ما الذي يربطه بالماليزي والأندونيسي أو البوسني غير وحدة الدين، وهل ثمَّة مصير مشترك عابر للقارات يجمعه كونه عربياً مسلماً بإخوانه المسلمين؟ فإنَّ الحيرة والقلق سوف يستبدَّان به، ويجعلانه غير مؤهل لتحديد هويته على الوجه الأفضل. والمشكلة أنَّه في ظلّ الدولة القطريَّة ونظمها السياسيَّة في العالم العربي تركت العنان للفرد أن يختار هويته الدينيَّة، ويضعها في المقام الأول حتى لو وصل الأمر إلى حدود التطرُّف، ولعلَّ المسألة تتعلق بالخوف السياسي من فكرة أمَّة عربيَّة واحدة أو الوحدة العربيَّة، لما تشكّله من مخاطرة حقيقيَّة على وجود الدولة القطريَّة ذاتها، ومن هنا يمكن القول إنَّ المساحات الشاغرة التي تركت عمداً للجماعات الأصوليَّة جاءت من منطلقات سياسيَّة صرفة، فلا هي دينيَّة ولا هي توكيد لهويَّة معيَّنة. فالأمر لا يعدو كونه تبريراً سياسياً أضاف إشكاليَّة جديدة إلى إشكاليَّة الهويَّة.

يوسف هريمة: في قراءة للمشهد الغربي والإسلامي نجد مشتركاً بدا يلوح في الأفق، وهو خطر الأصوليَّات الدينيَّة وعولمة العنف، كيف استطاع الأصوليون أن يخترقوا مجتمعات غربيَّة ضاربة في جذور التاريخ؟ وكيف تحوَّلت الأصوليَّات الدينيَّة من لاعب داخلي إلى تحدٍّ للمجتمعات الغربيَّة؟

ـ د. ياسر قانصوه: منذ سنوات والأصوليَّة في العالم الغربي والإسلامي تتقدَّم إلى الأمام تاركة الأيديولوجيات التقليديَّة تواجه مصيرها في التلاشي تدريجياً، فاليمين الجديد يحرز نجاحات مدويَّة في الغرب، وفي العالم الإسلامي تبسط الأصوليَّة نفوذها، حتى وإن لم تحكم قبضتها على السُّلطة منذ الثورة الإيرانيَّة عام 1979، لكنَّ السؤال الجدير بالاهتمام: هل الأصوليَّة عودة إلى القديم أم تُعدُّ طوراً حداثياً؟ عندما نطالع سيناريو المشهد الأصولي، فإنَّ متوالية اللقطات أو المواقف تتَّسم بسمتين: الأولى استدعاء القديم بوصفه إطاراً نظريَّاً تبريريَّاً، والثانية استخدام وسائل مستحدثه على تنوُّعها لتطبيقات عمليَّة تصل إلى ممارسة العنف لفرض القوة، إنَّها ليست محاولة لإحلال القديم في المستجدات الحياتيَّة ولا سيادة الأصالة على المعاصرة، إنَّها خروج على المألوف التقليدي، وهي أيضاً إقصاء للممارسة المعاصرة، ولذلك تعمل جاهدة على تشكيل وعي حداثي خاص يأخذ طريقة في التشكُّل، غير أنَّه لم يسفر عن صورته النهائيَّة بعدُ، ومن هذه الزاوية يمكن إدراك عولمة العنف كدلالة على صورة التشكُّل العنيف لعالم يخضع لوعي حداثي جديد، أو يمكن القول طور حداثي جديد، كما يمكن القول إنَّ المجتمعات الغربيَّة بجذورها الأصيلة فكريَّاً وعمليَّاً لديها قابليَّة لبلوغ هذا الطور بعد سأم طال مداه. أيديولوجيات متصارعة أفرغت محتواها على حلبة الصراع، ولم يصبح لديها جديد لتقديمه، كما استطاعت المستحدثات المعلوماتيَّة وشبكات التواصل الاجتماعي أن تنقل اللعب "الأصولي" من إطار المحليَّة إلى العالميَّة، وما التحدي القائم الآن لدى الأصوليَّة إلا ترويض لعالم يُعاند ويُقاوم هذا الطَّور الحداثي الأصولي.

ولكن عندما نتحدث عن مقاومة العالم لهذا المدّ الحداثي الأصولي، فإنَّنا نتحدث عن فئات مجتمعيَّة لديها وعي ثقافي أو توجُّهات علمانيَّة أو مدنيَّة بالأساس، لكنَّ القاعدة الجماهيريَّة العريضة في العالم سواء الغربي أو الإسلامي والعربي تبحث عن خلاصها الدنيوي في ظلّ قهر الظروف السياسيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة، ممَّا يجعلها فريسة للخلاص على الطريقة الأصوليَّة، ومن ثمَّ لم يجد الأصوليون عبر حضورهم الجماهيري وحماسهم التقليدي، ونبذهم لنتائج التقدُّم ووسائله التي أبعدت الإنسان عن روحانيته أو تلك القيم الدينية العظمى، لم يجدوا مواجهة تذكر، بل يبدو اليمين الجديد في أمريكا والغرب في حالة من التوهُّج، والرغبة في تولي مقاليد السُّلطة التي دانت له جماهيرياً، وتحتاج إلى ترجمة سياسيَّة بالسيطرة على نظم الحكم، فقد صارت التعاليم الإنجيليَّة وبشارتها بديلاً عن البرنامج السياسي الذي عافته الجماهير من تكرار وعوده، والفشل في تحقيقها. وفي عالمنا الإسلامي، العالم العربي تحديداً، وبعد أن فشلت تجارب "التحديث"، وانحدر الحال بالمواطن العربي إلى الدرجات الدنيا من الحياة بمستوياتها المختلفة، ممَّا جعل الطريق ممهَّداً لدعاوى الأصوليَّة بأنَّ طريق الله، والعودة إلى الجذور والمنابع الدينيَّة النقيَّة، هي سبيل الفلاح والنجاح. ويمكن إيجاز الأمر أنَّه متى فشل الإنسان في صنع جنَّته على الأرض، وأحال الأمر إلى جحيم، فإنَّ هناك من يدعوه إلى التطلع إلى جنَّة السماء بدلاً من وضعيَّة الحياة على الأرض، هكذا تتبدَّى الملامح الظاهرة لفلسفة الأصوليَّة، غير أنَّ المحتوى العميق يحمل أغراضاً دنيويَّة تتخفى وراء حجب الإيمان.

يوسف هريمة: الأقليَّات الدينيَّة لم تعد بمأمن من الصراع العالمي في ظلّ هذا التسابق على كسب الشرعيَّات الدينيَّة من هذا الطرف أو ذاك. هل سيندثر مفهوم الأقليَّات ويختفي في عالم متوحش كما اندثرت بعضها في العالم العربي والإسلامي، أم أنَّ الأمر لا يعدو أن يكون صراعاً بضوابط يتحكم فيه صاحب القرار العالمي؟

ـ د. ياسر قانصوه: الأصوليَّة لا تعترف "بداروين" بالنسبة إلى أصل الأنواع، لكنَّها تطبّق عمليَّاً "البقاء للأقوى" وفقاً لفهم الداروينيَّة الاجتماعيَّة. إنَّ نظريَّة اللعب العالميَّة الآن تطرح مبدأ المحصلة الصفريَّة، فإمَّا غلبة حاسمة وسيادة تامَّة أو لا شيء، ومن "داروين" إلى المكارثيَّة أو من ليس معنا فهو ضدنا، فالطور الحداثي الذي تنشده الأصوليَّة لا يضع "خانة" "للحياد"، أو يسمح باستقلاليَّة المواقف العقلانيَّة، فأنت إمَّا مؤمن أو كافر وتستحق اندثارك، إذ لا توجد منطقة وسطى أو منزلة بين المنزلتين بالتعبير المعتزلي.

وليس بمستغرب أن ينتقل المشهد العالمي الحالي من صراع الأيديولوجَّيات أو الأفكار التي سادت العالم بعد الحرب العالمية الثانيَّة وبداية الحرب الباردة إلى حروب ساخنة وطاحنة تصل إلى حدّ الإبادة للأقليَّات، فالمشهد الاقتصادي العالمي كان يمهّد الطريق لحروب من نوع مختلف؛ فالفقراء الذين لا أمل في شفائهم الاقتصادي والآخرون الذين لا يدينون بدين الأغلبيَّة كلاهما يستحق نهايته في هذه الحروب المختلفة، فلما لم تعد فكرة "الإقصاء" كافية لإعطاء الانطباع بالقوَّة والسيادة بالنسبة إلى الأغلبيَّة الدينيَّة، وبديلاً عنها تكون فكرة الاندثار عند الأغلبيَّة للأقليات الدينيَّة ملائمة للقوَّة والهيمنة، وإذا جادل العقلاء بإمكانيَّة وجود ضوابط تحكم هذا الصراع أو الاقتتال يديرها صاحب القرار العالمي، فإنَّ الخبرات الإنسانيَّة وتجاربنا الحياتيَّة تؤكد أنَّ أساليب التسوية والتفاوض وطلب الهدنة جائزة عند اللعب السياسي، أمَّا بالنسبة إلى المسألة الدينيَّة وما يرتبط بها من معتقدات مطلقة، والشعور بمؤازرة السماء للمؤمنين الأكثريَّة، تدفع أولئك المؤمنين بدين معين إلى سحق مخالفيهم من الأقليات، فهم أقليات لأنَّ السماء غير راضية عنهم، وكما أنَّ الفقراء ليسوا نتاجاً لظروف اقتصادية قاسية، بل هم أسرى كسلهم وقلة حيلتهم، فإنَّ الأقليات الدينيَّة لا تستحق من وجهة نظر الصراع العالمي الدائر أن تمارس طقوسها أو شعائرها الدينيَّة غير المعترف بها من قبل الأغلبيَّة الدينيَّة، بل يصل الأمر متى استحكم الهوس الديني أنَّها لا تستحق الحياة.

يوسف هريمة: كثيراً ما يتعامل الإنسان المسلم مع الصورة النمطيَّة التي تشكَّلت حوله باعتبارها أحد المظاهر السلبيَّة التي يحملها الآخر عنه، دون أن يطرح السؤال حول الدوافع والأسباب التي جعلت منه متَّهماً، تتقاذفه تهم الإرهاب والإقصاء والعنف والتخلف، وبدل أن تستوقفه هذه الصورة ليعيد قراءة الذات من منظور معرفي يسعى إلى تنقية هذا التراث والتاريخ والثقافة ـ بعيداً عن الرغبة في الحفاظ على صفاء الذات -، اختار خطاب المظلوميَّة ليتوارى خلف جرحه النرجسي، ويقرأ صورته في سياقات المؤامرة، ويضيع على نفسه من جديد اكتشاف ذاته. ما قراءتكم لهذا العناد والمكابرة في عقل المسلم؟

ـ د. ياسر قانصوه: عبر محتويات التراث الفقهي تمَّ تكريس صورة للمسلم الحق الذي لا يدع نفسه للجدل والنقاش الذي لا يجلب سوى الشك والارتباك، هذه الصورة النموذجيَّة للإيمان باعدت الهوَّة بين إيمان المسلم وعقله، فالعقل في معظم التراث الفقهي محدود بالتسليم والطاعة كدالتين للإيمان، أمَّا إعمال العقل فقد يدفع إلى الزيغ والضلال أكثر من كونه دافعاً للتفكير والفهم، فالاشتقاق اللغوي للفظ "عقل" يدلُّ على التقييد والتوقيف، كما يقال فلان عقل بعيره، أي قيَّده وربطه. ومن هنا فإنَّ الممارسة العقلانَّية وما يلحق بها من تفكير ناقد، وإيراد للحجج، ومعرفة الأسباب لم تلقَ ترحيباً لائقاً من الفقه الإسلامي على امتداد تاريخه، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى ثمَّة دوافع سياسيَّة دعمها الفقهاء لصالح الحكام من وجهة نظر فقهيَّة لتبرير مظالم الحكام ووجوب إطاعتهم كفرض ديني وتقرباً من الله ورسوله، وعبر الإلحاح على إقصاء العقل من نطاق الاستفهام والفهم فيما يتعلق بالمسائل الدينيَّة المهمَّة والشائكة، كان لا بُدَّ للمسلم أن يبحث عن ثوابت يلوذ بها، فكانت جاهزيته للإقرار بصحَّة تفسير فقهائه، وعدم القدرة على الطعن في تفسيراتهم وقراءاتهم حتى وصل الأمر إلى إضفاء قداسة على بعض المؤلفات، ومواجهة أيّ محاولة لقراءة جديدة أو نقد لما ورد فيها، ومن صورة المسلم الحق الذي يسلم ويطيع دون شك إلى تكريس تفسيرات معيَّنة والإقرار بها دون تعليق أو نقد، بات الأمر جاهزاً لتسويق فكرة النيل من الإسلام متى حدث اجتهاد معاصر أو محاولة للتجديد أيضاً، متى تمَّ توجيه سهام النقد لبعض ما ورد في كتب التراث أو تصحيح بعض المفاهيم المغلوطة، وعندما يضيق بك المقام العقلاني فإمَّا أن تركب صهوة عنادك منطلقاً إلى المجهول، أو تجمد في مكانك مكابراً حتى نهايتك.

وتاريخياً، استطاعت أوروبا أن تجتاز نفق العناد والمكابرة المظلم إلى عصر التنوير، حيث انفتح العقل على مصراعيه للمعرفة والتقدُّم والقوَّة، غير أنَّنا في مواجهة التقدُّم الغربي اصطنعنا رداءً من الكبر والعناد لا يكشف عورة تأخرنا وعرينا الحضاري المعاصر، وذهبنا بكلّ ثقة الجمود وغرور الجهل إلى التعويل فقط على فكرة المؤامرة التي تريد العبث بمبادئنا وتعاليمنا الدينيَّة وإخراجنا من سكينة الإيمان إلى جحيم الشك والسؤال بينما إجاباتنا عن أسئلة الحاضر المؤرقة تكفل بها خير سلف من فقهائنا العظام، وصرنا نردّد أحياء عند كلّ مواجهة فكريَّة معاصرة، لا ليس مطلوب منا التفكير والرد بإجابات شافية، فقد تكفل بها أناس عظام أموات.

وتكمن المشكلة الحقة في كيفيَّة رؤية زمننا بعيون أسلافنا ونحاجج باجتهاداتهم في عصورهم دون أن ندرك الطبيعة الزمنيَّة ولا حتى المكانيَّة التي شكَّلت بيئة ملائمة لاجتهاد معيَّن أو تقديم تصوٌّرات مناسبة لحالات ليست مدرجة على قائمة حياتنا الآن، وحينما نختار أن نعود القهقرى إلى الوراء، فإنَّنا نبحث عن السهولة والراحة، فالاجتهاد المعاصر يستلزم معرفة مدعمة بالعلم والوعي، وهذا ما لم نتعوَّد عليه نتاج ظروف الجهل والفقر والمرض، والاستسلام لهذه الظروف التي تبعث على خطاب المظلوميَّة، بينما العمل الجاد وتكوين الوعي عبر تدابير فكريَّة وترتيبات نظاميَّة تبدو عبئاً ثقيلاً على أعناق مجتمعنا، ممَّا يجعله يفر من متطلبات الحاضر، وطموحات المستقبل إلى سكينة الماضي وسكونه المريح، إنَّه ليس العناد والمكابرة، بقدر الاستسلام والشعور بالدونيَّة، هذا هو الوجه الآخر للعملة النفسيَّة.

يوسف هريمة: يؤكّد علي حرب، في سياق نقده للإنسان في كتابه "الإنسان الأدنى"، أنَّ هذا الأخير يحتاج إلى مساءلة مفهوم الإنسان، سواء عند الغرب أو الشرق، والذي تتقاذفه رؤيتان اثنتان: الأولى يمثلها التيار اللاهوتي، والثانية يمثلها الشكل العلماني السافر على حدّ تعبيره. هل تتفقون مع مضمون هذا النقد؟ وكيف نتجاوز حالة الاستقطاب الحاد الذي يعاني منه مفهوم الإنسان، الذي يُعدُّ سبباً رئيساً في حالة التضاد التي يعرفها العالمان الغربي والإسلامي؟

ـ د. ياسر قانصوه: يعتريني القلق الفكري بإزاء هذا النوع من الرؤى الثنائيَّة التي تشطر العالم الإنساني إلى نصفين، وأقدّم دليلاً تاريخيَّاً ينقض هذه الرؤية، عندما تخلصت أوروبا من سُلطة الكنيسة؛ هل كان يعني هذا التخلص من الكنيسة دلالة على الإيمان؟ ثمَّ أتوقف عند هذه الصورة من الحسم الفكري لدى الأستاذ "علي حرب" دون إدراك أنَّ العلماني هو صورة الإنسان العادي المتميز عن "اللاهوتي" أو رجل الدين، فهل نخرج التيار اللاهوتي من ممارسات الإنسان العادي في حياته الدنيويَّة، أم أنَّ فصل السُّلطة الدينيَّة عن السُّلطة الدنيويَّة (السياسيَّة) كما يراها العلماني تُعدُّ فصلاً بين الحياة الدنيويَّة للعلماني وحياته الروحانيَّة في الدنيا أيضاً؟ ألم نعد ندرك أنَّ العلمانيَّة ليست عدائيَّة ضدَّ الدين، بل هي "حياديَّة" لا تفرض الإيمان بدين معيَّن؟ وعندما أتأمَّل حالة الاستقطاب الحاد لدى الإنسان، فإنّي أتوقع أنَّه ليس استقطاباً بالمعنى الحرفي للكلمة، بقدر ما هو حالة من الحيرة والقلق تنتاب إنسان اليوم جرَّاء ظروف اقتصاديَّة وسياسيَّة واجتماعيَّة، إنَّه لم يحدّد بعدُ مكانه، كما أنَّ استقطابه ليس نهائياً، وإنَّما في مفترق طرق، بمعنى محاولة الجسّ واختبار مجال الحياة الملائم، مع رغبة عميقة لدى هذا الإنسان للخروج على منطق الاعتياد والمألوف لتشكيل صورة جديدة لإنسانيَّته وسط ضبابيَّة الرؤى، وغياب خرائط فكريَّة توضيحيَّة، وانعدام الثقة في النظم الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والسياسيَّة، وأرى أنَّه ليس تضادَّاً بقدر ما هو بحث عن يقين إنساني جديد، لكنَّ هذا اليقين الإنساني تشوبه محاذير عدة، منها:

- اعتقاد الإنسان في معرفته الشاملة المعاصرة دون أن يكون قادراً على الاعتراف بجهله وقصوره الإنساني، فعلى سبيل المثال، يتصوَّر البعض في عالمنا أنَّ تراثهم يُعدُّ حاوياً كلَّ حلول المشكلات المعاصرة، فقط نحن متقاعسون عن البحث وإيجاد هذه الحلول.

- التعويل على اليقين الديني كمدخل لحلّ ما هو وضعي، أي أنَّ الثقة بالله تعالى تجعلنا في حالة انتظار الفرج الذي لن يأتي إلا بالتفكير والعمل. إنَّنا في عالمنا المعاصر نبحث عن يقين، وعن خلاص من حالة التضاد، لكن يغيب عنَّا فكرتا التسامح والاعتراف كفرصة واقعيَّة متاحة لإقرار نظم عادلة وشفافيَّة وتقارب وتعاون بين البشر، وهي أمور تعزّز إيماننا بأنفسنا، وتجعلنا متأهبين لبلوغ حالة اليقين، بديلاً عن الهشاشة والعجز الذي يعاني منه الإنسان المعاصر.

يوسف هريمة: في الكتاب السابق نفسه يدعو علي حرب إلى الخروج من ثقافة التسامح إلى ثقافة الاعتراف. هل تمثل العلمانيَّة المدخل الأساسي للحدّ من حالة اللَّاتسامح التي يعانيها العالمان؟

ـ د. ياسر قانصوه: كما ذكرت سابقاً "تمثل العلمانيَّة" حالة "حياديَّة" تؤكد التسامح، حيث لا تفرض شيئاً معيَّناً على الإنسان الذي يتحرَّك وفق دوافعه ومصالحه ورغباته فحسب، كما أنَّ التسامح هو خطوة أولى أساسيَّة تجاه الاعتراف، وما على الإنسان سوى أن يؤكد ذاتيته عبر الاعتراف المتبادل. فهذا الكمُّ من الحقوق والواجبات، والمفاهيم والنظريات، وأساليب الحياة المختلفة، والمصالح المتعارضة، قد يكون دافعاً للحروب والصراعات ما لم يتمّ إقرار التسامح كصيغة عالميَّة للحياة على هذا الكوكب، وافتراضاً، يمكن القول إنَّ التسامح يمثل عقداً اجتماعياً متجدّداً، لا يستمرُّ سريان مفعوله على نحو مستديم ما لم يتمّ توكيد الاعتراف كتوقيع أخير على العقد الاجتماعي المفترض تجديده عالمياً.

إنَّ شعارات "التسامح" التي يرفعها العالم الآن تقابلها على الجهة الأخرى شعارات "الأصوليَّة"، وأرى أنَّه لا يمكن أن تسود روح "التسامح" والأصوليون في الديانات المتعددة يبحثون عن الحقيقة المطلقة التي يدَّعونها، إنَّهم في بحثهم ينطق لسان حالهم بإقصاء الآخر في ظلّ توكيد هويَّة دينيَّة معيَّنة وبسط نفوذها بكلّ الوسائل، ويمثل الآخر لدى "الأصولي" الضدَّ أو العدو، ومن ثمَّ من أجل إعلاء كلمة الدين لا بُدَّ من سحقه، وكلُّ الصراعات والحروب المثارة على الساحة العالميَّة الآن تؤكّد غياب التسامح، هذا الغياب الذي يطول مداه مع كلّ خطوة تخطوها الأصوليَّة باتجاه السيطرة والهيمنة. ليست العلمانيَّة هي المدخل الأساسي للحدّ من حالة اللَّاتسامح لكن تستبقها الخطوة الأكثر أهميَّة، وهي الوعي الإنساني بالإنسان الذي يمثل أخوَّة الأرض، ورفقة الحياة على هذا الكوكب.

ونحن نحتاج في عالمنا الإسلامي/ الغربي ألَّا نسرف كثيراً في الشعور بالمظلوميَّة أو الإحساس بمكائد ومؤامرات تحاك لنا، أنا لا أتحدث في إنكار وجود المؤامرة، أو أنَّنا نحصل على حقوقنا العالميَّة دون الكيل بمكيالين، لكنّي أعني عدم السقوط في هوَّة ردَّة الفعل دون القيام بالمبادرة التي نحتاجها على مستويين: الأول ما يتعلق بحياتنا في مجتمعاتنا من أجل إيجاد صيغ وبدائل مبتكرة وجديدة لطبيعة حراكنا على مستويات متعدّدة، ممَّا يتيح الفرصة لحياة كريمة لمواطنينا، والثاني يترتَّب على مبادراتنا المحليَّة انفتاح آفاق جديدة على الصعيد العالمي تقوّي أواصر العلاقة والمشاركة والإسهام مع الآخر في تحسين الظروف العالميَّة لصالح الإنسان أيَّاً كان انتماؤه.

يوسف هريمة: شكراً الأستاذ العزيز ياسر قانصوه.