الشعبويَّة: موضة سياسيَّة أم قلق هويّاتي؟


فئة :  مقالات

الشعبويَّة: موضة سياسيَّة أم قلق هويّاتي؟

الشعبويَّة: موضة سياسيَّة أم قلق هويّاتي؟(1)

1 ـ الشعبويَّة بين صعوبة التعريف وسهولة الاستعمال:

بعيداً عن المغزى العميق -إن وجد- لما تختزله عبارة الشعبويَّة، تجدر الإشارة إلى أنَّها أضحت كلمة عابرة للدلالات، ليس لرحابة في استعمالها ولا لغزارة في معناها، وإنَّما لسحر في ما تحيل إليه من متخيّلات اجتماعيَّة وثقافيَّة وسياسيَّة، وما تختزله من شعارات رنّانة تلعب على وتر الانتماء إلى القبيلة والجماعة والفئة. وبين سحر اللغة والكلمة وأثر الفعل والممارسة يخوض الإنسان وتخوض المجتمعات البشريَّة مغامرات غير مضمونة النتائج ولا محسوبة العواقب.

فإذا كانت الكلمة تحيل، لغة على الأقل، على الشعب، فإنَّها غدت مع ذلك، بسبب الاستعمال المفرط لها، مفرغة من المعنى أو قلْ محمّلة بما لا تطيقه من معنى. وإنَّ الاستعمال المفرط لأيَّة كلمة يحرمها من بريقها وراهنيتها، ويحوّلها إلى مجرّد لغو أحياناً وإلى لغم قد يحدث بانفجاره أضراراً بالغة أحياناً أخر. وأكثر من ذلك، إنَّ الاستخدام المفرط لأيَّة كلمة قد يحرمنا من الإمكانيّات المفهوميَّة التي تحبل بها، والتي يمكن أن تمكّننا من فهم أفضل لوضعنا في هذا العالم وللظواهر العارضة لوجودنا المشترك فيه. لقد غدت كلمة الشعبويَّة اليوم من أكثر الكلمات مدعاة للسخرية وللإحساس بالقلق في الوقت نفسه؛ لما أمست تحيل إليه من خطر يتهدّد وحدة الدول واستقرارها (أوروبا على وجه الخصوص)، وينذر بوضع جديد تعود فيه الهيمنة للعرق والجنس والدين والانتماء لهويَّة ما على حساب قيم الإنسانيَّة المشتركة والكونيَّة.

يكاد يجمع الباحثون في حقل الفكر السياسي عموماً (وخصوصاً في العلوم السياسيَّة) على أنَّ هذه العبارة غير دقيقة المعنى وغامضة وملتبسة. هكذا نجد "إرنيستو لاكلو" (Ernesto Laclau) (1935-2014) يعترف بضبابيَّة الكلمة وامتدادات استعمالها اللّانهائيَّة. يقول: "الشعبويَّة مفهوم لا يمكن القبض على معناه رغم حضوره الكثيف. قليلة هي المفاهيم من هذا النوع التي نجدها في التحليل السياسي المعاصر، ورغم ذلك قليلون من استطاعوا تعريفها بدقة. يمكن أن نحدس ما نعنيه عندما نشير إلى حركة أو أيديولوجيَّة ما بأنَّها شعبويَّة، لكنَّنا نجد صعوبة بالغة في ترجمة تلك الحدوس إلى مفاهيم. ويستمرّ استعمال الكلمة بشكل تلميحي خالص، وكلّ محاولة للتحقق من حقيقة محتواها تبوء بالفشل"[2]. بل أكثر من ذلك حتى الإقرار بوجود حدس بمعنى الشعبويَّة هو ربَّما تفاؤل كبير؛ إذ يمكن القول إنَّ أهمّ ما يميز من يتحدّثون عن الشعبويَّة ـخاصَّة من داخل المجال السياسي- أنَّهم لا يدركون عمّا يتحدثون. بل يمكن القول إنَّ لكلّ واحد منهم تعريفاً خاصَّاً به للشعبويَّة. حتى صرنا نسمع عن "انحراف شعبوي" و"إغراء شعبوي" و"خطر شعبوي" بل "منتوج شعبوي"...إلخ.

لكن رغم ذلك يبقى المشتغل في حقل الفكر السياسي، في أيامنا بالخصوص، في حاجة ماسّة إلى تحديد معنى، ولو بالتقريب، للشعبويَّة، من خلال التركيز على بعض مميّزاتها وتكوين نموذج نظري على الأقلّ لهذه الظاهرة التي تنتشر اليوم في حقل الممارسة السياسيَّة انتشار النّار في الهشيم. وهي حاجة تعبّر عن ضرورة نقل التفكير في الشعبويَّة من مستوى تسوده الدوغمائيَّة والضوضاء المفهوميَّة والهرطقة السياسيَّة إلى مستوى تفكير نقدي في ظاهرة سياسيَّة لصيقة بالفعل السياسي الذي هو من صميم الفاعليَّة الإنسانيَّة، تفكير نقدي يستند إلى النتائج المهمَّة التي باتت تحققها العلوم الاجتماعيَّة وخاصَّة علم النفس السياسي. إنَّنا في حاجة إلى الكشف عن أبعاد هذه الظاهرة ليس في مستواها السياسي الظاهر للعيان كموضة سياسيَّة بل في بعدها الأنطولوجي والأخلاقي والسوسيولوجي كتعبير عن قلق هويّاتي ما انفكّ يخالج البشر ويعكّر صفو عيشهم المشترك.

2 ـ الشعبويَّة: موضة سياسيَّة

تحيل الشعبويَّة في المجال السياسي إلى تيّار مناوئ للنخبة أو النخبويَّة السياسيَّة، حيث توجّه انتقادات كبيرة من الشعبويين إلى النخب الحاكمة التي يعتبرونها فاسدة ولم تعد "تمثل الشعب" الذي ينبغي أن يكون سيّد نفسه ومالكاً لإرادته السياسيَّة. ويمكننا الاستعانة بالتعريف الذي قدّمه الباحث الألماني أستاذ السياسة في جامعة برنستون "يان فيرنر مولر" (Muller, Jan-Werner) (1970-) في كتابه المميز: "ما الشعبويَّة؟" حيث نجده يعرّفها باعتبارها "موقفاً مناهضاً للمؤسّسة؛ يصل إلى حدّ معاداة التعدديَّة السياسيَّة، التي تتجلّى في المطالبة الأساسيَّة باحتكار أخلاقي للتمثيل"، تمثيل الشعب. ويضيف مولر: "إنَّ ما يمثل جوهر كلّ الشعبويين في نظري يكمن في التعبير عنه تقريباً كالآتي: "نحن، ونحن فقط، من يمثل الشعب الحقيقي". إنَّ الشعبويَّة بهذا المعنى لا تحيل فقط على الشعب، بل على موقف سياسي من المشهد السياسي السائد الذي تنسج خيوطه "النخبة" التي يراها "ممثلو الشعب الحقيقيون" فاسدة. هكذا ستغدو الشعبويَّة تعبيراً عن موقف سياسي وعن تيّار سياسي بعينه[3].

تحيل الشعبويَّة في المجال السياسي إلى تيّار مناوئ للنخبة أو النخبويَّة السياسيَّة، حيث توجّه انتقادات كبيرة من الشعبويين إلى النخب الحاكمة التي يعتبرونها فاسدة ولم تعد "تمثل الشعب"

تستمدّ الشعبويَّة قوَّتها في هذه الحالة من خطابات تثير العواطف وتعزف على وتر الخصوصيَّة والهويَّة مرتكزة في ذلك على نظريَّة المؤامرة والدعوة إلى نبذ قيم النخبة الانتهازيَّة وسلطويتها، وتدافع في المقابل عن ضرورة تكريس نظام أخلاقي وسياسي نابع من الشعب، وتدّعي أنَّها تدافع عن الوطنيَّة وعن المواطن العادي البسيط والمقهور جرَّاء السياسات اللّاشعبَّية التي تنتهجها النخبة السياسيَّة. تدّعي الشعبويَّة هنا أنَّها صوت الشعب. وهي في ذلك تعبّر عن نمط سياسي يقوم على توظيف أدوات رمزيَّة قوامها الخطابة، حيث تستعمل خطاباً مبسّطاً ومختزلاً لا تهمّه الحقيقة بقدر ما يهمّه الأثر الذي يحدثه في المتلقي، كما أنَّه خطاب يتمترس خلف مواقع أيديولوجيَّة بالأساس. فما حقيقة هذه الادّعاءات؟

إنَّ الناظر في أحوال السياسة اليوم في العديد من دول العالم (الحديث هنا عن دول العالم الغربي) يرى أنَّ تلك الأحوال ليست على ما يرام؛ فأوروبا مثلاً تجتاحها موجة صعود للتيّارات اليمينيَّة (واليساريَّة) المتطرّفة، بل خروج عن تلك القطبيّة "الصحيّة" التي تميّز الفعل السياسي وتجعل منه فعلاً خاضعاً لقواعد ديمقراطيَّة قوامها التعدّديَّة والتمثيليَّة والتداول على السلطة والاحتكام لإرادة الناخبين، وفي المقابل بروز نقد لهذا النظام وعدم قدرته على الاستمرار في ظلّ تغوّل السوق واستفحال المشاكل وعلى رأسها تهديد أمن وسلامة المواطنين بسبب بلوغ الهجرة معدّلات قياسيَّة في المجتمعات الغربيَّة وما أثاره ذلك من مشكلات خاصَّة في مجال الشغل والأمن. أمست الدول الغربيَّة الديمقراطيَّة عاجزة عن مواجهة مشكلاتها الاقتصاديَّة وانعكاساتها على الأوضاع الاجتماعيَّة والسياسيَّة، وقاد ذلك طبعاً إلى بروز الخطاب الشعبوي كخطاب بديل يدّعي امتلاكه للحلّ السحري الذي سيمكّن من تطهير الشعب من الملوّثات التي لحقت به وإنقاذه من خطر الآخر غير المنتمي إليه الذي يهدّده.

ظاهر الشعبويَّة أنَّها نقد للوضع السائد، نقد للنخبويَّة وتسلّطها، وللأوضاع وتدهورها. ولذلك تكتسب زخماً جماهيريّاً بمجرَّد إعلانها الوقوف في وجه النخبة وتعاليها عن واقع الحال وعجزها عن تدبير المجال. ففي أبريل/ نيسان 2016 كتب الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب مقالة في صحيفة وول ستريت جورنال قال فيها: إنَّ "الترياق الوحيد لعقود من الحكم المدمّر من قبل حفنة صغيرة من النخب هو فرض الإرادة الشعبيَّة في كلّ قضيَّة رئيسة تؤثر على هذا البلد. إنَّ الناس على حق والنخبة الحاكمة على خطأ"[4]. تدّعي الشعبويَّة تفضيل الشعب الذي أضحى مختزلاً في الجماهير والحشود وغير متمايز، وبالتالي فهو في حاجة إلى طرف واحد يمثله ويحقق له مطالبه العاجلة. تتكثف الشعبويَّة كمفهوم لا عقلاني (بالنظر إلى تركيزه على لغة العواطف وتسويقه لصور خياليَّة تنهل أحياناً من أطلال تاريخ الشعب المجيد) في العداء تجاه ما هو عقلاني من النخب والحراك السياسي، والقفز على هذه الكيانات المؤثرة، والاتجاه صوب الفرد العادي غير المسيس، وتحشيده عبر شعارات جاذبة لأغراض انتخابيَّة. إنَّها بهذا المعنى موضة سياسيَّة تجد من يتبعها بسهولة، لكنَّها موضة تجد مسوّغات شيوعها في إفلاس الخطاب السياسي السائد والنخبة السياسيَّة التي ما فتئت تبتعد يوماً بعد يوم عن هموم المواطنين وتتركهم يواجهون مصيرهم بأنفسهم.

3 ـ الشعبويَّة: قلق هوياتي

إنَّ صعود الشعبويَّة في العالم الغربي المعاصر لا يعكس أزمة النخبة السياسيَّة وعجزها عن تقديم حلول مقبولة للمشكلات التي باتت مجتمعاتها تتخبط فيها فقط، إنَّما يعكس أيضاً أزمة مجتمعيَّة عميقة تتعدّى معالمها ما هو سياسي إلى ما هو أنطولوجي وأخلاقي. إنَّ الشعبويَّة، بصفتها ظاهرة سياسيَّة، تعبّر عن وجود قلق هوّياتي وانسداد في الأفق الأخلاقي يعيشه الإنسان الغربي المعاصر الذي لم يعد يستطيع قبول الآخر المختلف والعيش معه، ولم يستطع التأقلم مع متطلبات عالم معولم ومفتوح ليس فقط في وجه المعاملات الاقتصاديَّة والماليَّة وإنَّما أيضاً في وجه حركات الهجرة الواسعة والتلاقي الثقافي.

فمن بين الأوتار الحسّاسة التي يلعب عليها الشعبويّون وتر الهجرة التي يعتبرونها شبحاً أمسى يهدّد الغرب (أوروبا والولايات المتحدة)، لنستحضر أنَّ من بين أهمّ وأخطر الوعود التي قدّمها ترامب مثلاً خلال حملته الانتخابيَّة إقامة جدار عازل على الحدود الأمريكيَّة المكسيكيَّة لمنع تدفق المهاجرين المكسيكيين السرّيين. مثل هذه المواقف نابعة من أيديولوجيّات قوميَّة لم يعد الشعبويون يخفونها، وهي أيديولوجيّات لا ترغب في أن تمنح الآخرين الذين لا ينتمون إليها الحقوق الكاملة (العدالة والمساواة والديمقراطيَّة والمشاركة السياسيَّة)، لأنَّهم يمثلون من منظور قومي عنصراً سلبيّاً بإمكانه تهديد تلك البنية الأيديولوجيَّة القوميَّة وتهديد الهويَّة المشكّلة منها. وقد تساءلت سيلا بن حبيب في هذا الصدد: هل إعطاء الأجانب والمقيمين الحقوق نفسها التي للمواطنين يمكن أن يسهم في تفكيك الدولة القوميَّة؟ أليس ينبغي على العكس من ذلك الاعتراف بأنَّ البشر شخصيّات أخلاقيَّة لها الحقّ في الحماية من طرف القانون، وليس ذلك انطلاقاً من الحقوق التي يتمتعون بها كمواطنين أو كأعضاء في مجموعة إثنيَّة ولكن ببساطة كبشر؟ وتشير في هذا الصدد إلى ما كتبه مارك أوريل في تأمّلاته الذاتيَّة: "إذا كنا نشترك في ملكة التفكير، فإنَّ ذلك يعني أنَّنا نشترك في العقل. وإذا كان الأمر كذلك، فهذا يعني أنَّنا نشترك في القوانين، وإذا كان الأمر على هذه الحال، فذلك يعني أنَّنا كمواطنين نشارك في إدارة دولة، وإذا كان الأمر كذلك، فإنَّ العالم هو في الآن نفسه دولة"[5].

إنَّ وهم الهويَّة الذي يغذّي النزعة الشعبويَّة يقوم على تصنيف الناس أو قلْ تقسيمهم بحسب انتماءاتهم المختلفة، إنَّه تقسيم يتمّ وفق "مقاربة انعزاليَّة". يرى أمارتيا صن في كتابه القيّم "الهويَّة والعنف" أنَّها: "طريقة جيّدة لإساءة فهم كلّ شخص تقريباً في العالم"[6]. وهو ما لا يتماشى وإنسانيتنا المشتركة التي أضحت تتعرّض، بحسب قول صن، "لِتحدّيات وحشيَّة عندما يتمّ تصنيف العالم إلى نظام واحد مهيمن مزعوم يعتمد على الدين أو الجالية أو الثقافة أو الأمَّة أو الحضارة"[7]. ويقوم هذا التصنيف في الغالب الأعمّ على تصوّر لوجود هويَّة محدّدة تحديداً دقيقاً ومعدّة سلفاً بشكل ثابت للفرد أو الجماعة لا مجال إلى الخروج أو الانفصال عنه. بل إنَّ الانفصال قد يعني فقدان ذلك الفرد أو تلك الجماعة مقوّمات وجوده أو وجودها التاريخي إن لم يكن الأنطولوجي؛ ذلك أنَّ الكثيرين يعتبرون أنَّ قضيَّة الهويَّة هي قضيَّة مصيريَّة بالنسبة إلى وعي الذات بذاتها مهما كان الثمن.

إنَّ وهم الهويَّة الذي يغذّي النزعة الشعبويَّة يقوم على تصنيف الناس أو قلْ تقسيمهم بحسب انتماءاتهم المختلفة، إنَّه تقسيم يتمّ وفق "مقاربة انعزاليَّة

إنَّ مواجهة القلق الذي يسبّبه وهم الهويَّة القوميَّة العزيز على قلوب الشعبويين لا يمكن أن تنجح إلّا من خلال بذل مجهود نقدي يعمل على تكريس تحوّل من منطق الهويَّة القوميَّة والدولة الأمَّة التي رافقت نشوء الديمقراطيَّات الحديثة إلى منطق هويَّة كونيَّة ذات بُعد إنساني. وفي هذا نقد لا بدَّ منه للديمقراطيَّة وحدودها التي انكشفت في العالم المعاصر. إنَّ الخوف اليوم ليس على الديمقراطيَّة وإنَّما على تهديد الديمقراطيَّة للحقوق الإنسانيَّة الأساسيَّة والكونيَّة، وهو الخوف الذي عبّر عنه أليكسيس طوكيفيل بـ "مخاطر ديكتاتوريَّة الأغلبيَّة". وقد عبّر عن هذا القلق خير تعبير مولر الذي رأى أنَّ استخدام "الشعبويَّة" كرديف لمصطلح "الديمقراطيَّة" في مناسبات عدّة أثر سلباً على الأخيرة. وإن بدا أنَّ الشعبويين يمثلون الشعب، وبالتالي إنَّ أيّ خيار يقدمون عليه يعتبر ديمقراطيّاً، ففي الحقيقة إنَّ الشعبويَّة "يمكن أن تظهر غالباً كحركة ديمقراطيَّة أو كديمقراطيَّة راديكاليَّة، لكنَّها في صميمها تقف على النقيض من الديمقراطيَّة"[8]. لكنَّ ذلك لا يعني أنَّها لا ترتبط بالديمقراطيَّة، لأنَّها في نهاية المطاف، وهذا ما ينبغي الانتباه إليه حسب مولر، "نظريَّة في الديمقراطيَّة". لكن ما ينبغي الانتباه إليه أيضاً أنَّها تشكّل المسار الخطأ لتصحيح مسار الديمقراطيَّة المعطوب[9].

فإذا كانت السياسة تقوم على التعدّد، فإنَّ من شأنها: "أن تكون مرغوبة فيها، لأنَّها تؤهلنا إلى أن نتمتّع بالتعدّد دون أن نعاني من الفوضى أو من طغيان الحقائق الوحيدة"[10]. وهذا ما عبّر عنه برنارد كريك في مؤلفه اللامع "في الدفاع عن السياسة"، إذ اعتبر أنَّ الديمقراطيَّة اليوم في العالم الغربي المعاصر تعاني من تشويش خطير حيث: "يمكن أن تعني كلّ شيء لكلّ الرجال ولكلّ النساء". وإنَّ مثل هذا التشويش نتج عنه ذلك الربط التعسفي للشعبويَّة بالديمقراطيَّة، في حين أنَّ تلك ليست سوى إحدى أهم نقط ضعف هذه وهشاشتها[11].

ولذلك ينبغي الاعتراف أوّلاً بأنَّ الشعبويَّة ليست سوى تعبير واضح عن أزمة وجود نظريَّة ديمقراطيَّة تمثل فعلاً "الشعب"، ليس بمعناه القومي أو الثقافي الضيق والخطير، إنَّما بمعناه السياسي والإنساني. إنَّ على عاتقنا اليوم جميعاً الإيمان بأنَّ في إمكاننا وضع حدود جديدة لوجودنا الاجتماعي والسياسي، حدود تقبل التعدديَّة كعلامة وشرط لأيَّة ممارسة سياسيَّة، وحينها لن يجد الشعبويون ما يطالبون بتمثيله لأنَّه ممثل فعلاً.


 

[1] نشر هذا المقال في مجلة يتفكرون الصادرة عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود، عدد 13

[2]- Ernesto Laclau, Politics and Ideology in Marxist Theory. (Capitalism- Fascism - Populism), Londres: New Left Books, 1ére éd, 1977, p. 14.

[3]- يان فيرنر مولر، ما الشعبوية؟ ترجمة رشيد بوطيب، الدوحة، منتدى العلاقات العربيَّة والدوليَّة، 2017. ص 26 و27.

[4] - نقلاً عن موسوعة موقع الجزيرة:

http://www.aljazeera.net/encyclopedia/conceptsandterminology/2016/12/6/%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%B9%D8%A8%D9%88%D9%8A%D8%A9-%D8%AA%D9%8A%D8%A7%D8%B1-%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D9%8A-%D9%8A%D8%B1%D8%B3%D9%85-%D9%85%D9%84%D8%A7%D9%85%D8%AD-%D9%85%D8%B3%D8%AA%D9%82%D8%A8%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%BA%D8%B1%D8%A8 /

تاريخ الزيارة: 22/5/2018.

[5]- سيلا بن حبيب، محاضرة ألقتها الكاتبة في مؤتمر حزب الخضر الألماني في إطار فعاليَّة: "الذكرى الستوّن للدستور الألماني ـ دعم أسس الحريَّة". ونشر النصّ لأوّل مرَّة في مجلة Blätter für deutsche und internationale Politik, 6/2009، ترجمة: رشيد بوطيب عن موقع: http: //www.goethe.de/ges/phi/prj/ffs/the/a97/ar9507770.htm تاريخ الزيارة: 23/05/2018.

تمثل سيلا بن حبيب خطاً فكريّاً تمتدّ جذوره إلى الرواقيين وتمرّ في الثقافة الغربيَّة الحديثة عبر كنت وهابرماس ضمن ما يُسمّى المواطنة الكوسموبوليتانيّة، وهي مواطنة تختلف جذريّاً عن المواطنة التي يدافع عنها الشعبويون. وقد شكّل الدفاع عنها جوهر المشروع الفكري لهذه الباحثة الأمريكيّة من أصول تركيَّة وتلميذة هابرماس. ويعكس هذا المشروع انشغالاً عميقاً بالتحدّي الذي باتت تواجهه الدولة ـالأمَّة، أو الدولة القوميَّة في الغرب.

[6]- أمارتيا صن، الهويَّة والعنف: وهم المصير المحتوم، ترجمة: سحر توفيق (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، سلسلة عالم المعرفة، عدد 352، 2008)، ص8.

[7]- المصدر نفسه، ص9.

[8]- مولر، ما الشعبويَّة؟ مصدر سابق، ص 14.

[9]- المصدر نفسه، ص 29.

[10]- محمَّد الشيخ، الديمقراطيَّة والنزعة الشعبويَّة، الرباط، مجلة النهضة، عدد 5 و6، 2013، ص 117. نقلاً.

[11]- المصدر نفسه، ص 120.