لقاء حواري: اعترافات حسام الدين درويش

فئة :  حوارات

لقاء حواري: اعترافات حسام الدين درويش

لقاء حواري: اعترافات حسام الدين درويش[1]

حاورته د. ميادة كيالي

د. ميادة كيالي:

كان لقائي بالدكتور حسام الدين درويش في معرض تونس الدولي للكتاب عام 2023، بعد عامٍ من تواصلي معه عبر وسائل التواصل الاجتماعي. كان ذلك اللقاء الأوّل المباشر، وقد بدا حضوره لافتًا وحيويًّا؛ إذ يجمع بين الجدية والمرح، وبين فضول الباحث وتواضع المفكر، فلا يكاد يغيب عن ندوة أو محاضرة إلا ويحضرها بروح متوثبةٍ ونشاطٍ وصفته – عن قرب – بأنه "فرط نشاط إيجابي".

منذ ذلك اللقاء، تلاقت خبراته الأكاديمية وبراعته في الحوار مع رغبتي في تفعيل حوارات حول الإصدارات الفكرية التي أشرفت عليها في مؤمنون بلا حدود. فكانت الفكرة أن نبتدع مساحة للنقاش، تسلط الضوء على مشاريع فكرية كبرى، وتتيح للقارئ والمتابع التفاعل مع الأسئلة العميقة التي تطرحها هذه المشاريع. ولعلّ أهم ما ميّز هذه التجربة هو أن الدكتور حسام الدين درويش لم يكن مجرد ضيفٍ، بل بدا وكأنه واحد من "أهل البيت"، مشاركًا في بناء الفكرة وإنجاحها.

وقد مثّل صدور كتابه "في فلسفة الاعتراف وسياسات الهوية" لحظة مفصلية؛ إذ أثار موجة واسعة من النقاش على وسائل التواصل الاجتماعي، عرّفت القارئ العربي أكثر بشخصيته الأكاديمية وبمشروعه الفكري. لهذا الحوار إذن بُعدٌ يتجاوز التناول النظري للفلسفة، ليغدو فرصة للتقاطع بين الشخصي والفكري، بين مسارات الاعتراف في حياتنا اليومية وتجلياته في النظرية.

لذا، سأحاول هنا أن أضع شخصية الدكتور حسام الدين درويش في سياق كتابه، وأن أربط بين ما يعكسه حضوره في الواقع، وبين ما يطرحه من أفكار في الفلسفة.

د. حسام، الاعتراف له أبعادٌ فلسفية وفردية: فهو قد يكون اعترافًا بالآخر، أو بما يتركه فينا من أثر. انطلاقًا من هذا المعنى، بماذا تعترف أنت على المستوى الشخصي والفكري؟ وبمن تعترف أنهم شكّلوا أثرًا حاسمًا في مسارك؟

د. حسام الدين درويش:

شكرًا جزيلًا على الاستضافة والدعوة. وأودّ أن أشير إلى أنك صاحبة المبادرة إلى التفكير والتفاكر في إقامة هذه النشاطات والفعاليات، وهي مبادرةٌ رائعةٌ، وأثارت اهتمامي إلى حد أنني كنت مستعدًّا لاختطافها واختطافك معها، لكن بعد أن حصل التعاون، لم تعد هناك حاجة لأيّ اختطاف.

قبل أن أبدأ بالاعتراف ببعض الشخصيات أو الأشخاص وإبراز أثرهم في حياتي، وكذلك الاعتراف ببعض السلبيات أو الأخطاء وما شابه، أودّ التعليق على وصفك لحضوري أو نشاطي بأنه يتسم ﺑ "فرط نشاط إيجابي". ومؤقتًا، سأضع صفة "الإيجابي" جانبًا، وقد أناقشها لاحقًا.

هل لديّ فرط نشاط؟ نعم، على الأرجح، وهذا رأي كلّ من لديه اطلاع على الحد الأدنى من نشاطاتي والتزاماتي العملية ومخططاتي النظرية المبدئية، ونمط حياتي عمومًا. فعلى الرغم من استمتاعي بالنوم والكسل، فإنني غالبًا ما أراهما مضيعة لوقتٍ ثمينٍ أحتاجه للقيام بكثيرٍ من المهمات المؤجّلة إلى آجال مسمّاة أو غير مسمّاةٍ والتي تنتظر في طوابير طويلةٍ. وأسباب أو دوافع وحوافز وغايات هذا "النشاط المفرط" عديدة ومتنوعة، ولا أزعم أنني أعرفها جميعها، لكن يمكن أن أحاول التخمين في هذا الصدد.

من ناحيةٍ أولى، أمضيت عمري وأنا (أشعر أنني) أعيش حالة طوارئٍ دائمة أو حالات طوارئ متعاقبة، وأنني ينبغي أن أقوم بما هو استثنائي للتكيف مع هذه الحالات الطارئة والدائمة في الوقت نفسه. وإذا اقتصرت على مرحلة ما بعد عودتي إلى الدراسة لتقديم امتحانات البكالوريا بعد انقطاعٍ دامَ سبع سنواتٍ تقريبًا، يمكن القول إنني منذ تلك المرحلة وحتى حصولي على الدكتوراه بعد ستة عشر عامًا كنت غالبًا، إما في حالة طوارئ دراسية ومعسكرات (شبه) مغلقة، وإمّا في حالة طوارئ اقتصادية لتأمين مصاريف الدراسة ومصاريفي الحياتية عمومًا.

من ناحيةٍ ثانيةٍ، أشعر أنني محظوظٌ؛ لأنني أعمل في مهنةٍ أحبّها، بل أعشقها، من حيث إنها تتضمن القراءة والكتابة، بالدرجة الأولى. وأنا "مهووسٌ" بالقراءة منذ صغري، وأكرِّس معظم وقتي للكتابة أو للتحضير لها، لأعبر فيها عن أفكاري وقيمي وتوجهاتي منذ 2011 تقريبًا.

من ناحيةٍ ثالثةٍ، الأوضاع العامة في سوريا والعالم العربي، مثل أوضاعي الخاصة، أشبه بحالة طوارئ دائمة، وهذا يجعل معظمنا يتصرف بطريقةٍ استثنائيةٍ للتكيف مع هذه الحالة العامة. والإفراط في النشاط يمكن أن يكون ردّ فعلٍ استثنائيٍّ دائمٍ للتفاعل مع الأوضاع العامة الاستثنائية دائمًا. وهذا هو حالي منذ عقودٍ.

من ناحيةٍ رابعةٍ، منذ سنواتٍ وأنا أعيش حياتي (اليومية) بطريقة من سيموت غدًا. لذا، أحاول إنجاز ما أستطيع إنجازه قبل الرحيل المرتقب. صحيحٌ أنه لديّ مشاريع تحتاج إلى عشرات وربما مئات السنوات لإنجازها، لكن لديّ، كل يومٍ، شعور عميق ودائم بأن هذا اليوم قد يكون اليوم الأخير لي، وأن هناك احتمالًا معقولًا لأن لا أشهد اليوم التالي.

إضافةً إلى هذه النواحي الأربع، فإن نشاطي يكون مفرطًا (أكثر) في البيئة التي أشعر بالارتياح فيها وبالودّ والتقدير المتبادلين مع القائمين عليها والمسؤولين فيها. ويزداد فرط نشاطي عندما أشعر أن لنشاطي قيمة ومعنى، وأنه يمكن أن تكون له آثار إيجابية مهمة بالنسبة إلى أطرافٍ أخرى يهمني أمرها. وأزعم أن ذلك كان عاملًا من عوامل نشاطي (المفرط) مع وفي مؤسسة مؤمنون بلا حدود.

د. ميادة كيالي:

شكرًا لك على هذا النشاط، وعلى الودّ والتقدير اللذين نبادلك إياهما بالتأكيد. كما أشكرك على هذه الاعترافات التي سبقت الاعترافات التي تودّ القيام بها. ماذا عن الاعترافات الأخيرة؟

د. حسام الدين درويش:

سأبدأ بذكر بعض الشخصيات أو الأشخاص الذين أسهموا في حياتي، سواء بالفضل الذي قدّموه إليّ أو بالقيم التي جسدوها في سلوكهم وحضورهم. ويمكنني توزيع هؤلاء إلى أربع فئات:

أولًا: الشخصيات المتعلقة بالأساتذة الذين درسوني أو المفكرين الذين تأثرت بهم.

ثانيًا: الأهل، الذين كان لهم أثرٌ عليّ، وأعترف بفضلهم وبقيمتهم.

ثالثًا: الأصدقاء؛ أي علاقات الصداقة.

رابعًا: المعارف بشكل عام.

إذا بدأنا بالأساتذة، فمن الطريف أن أوّل شخص يمكنني الاعتراف بفضله وتقديره في نفسي هو شخص نسيت اسمه أصلًا. بعد عودتي إلى مقاعد الدراسة، كنت أنوي أن أدرس القانون أو الحقوق، أو ما شابه، فقد استهواني فرع "الحقوق" أو القانون وجذبتني مسألة التوازن والعدالة. وفي دورات الشبيبة للطلبة الأحرار كان الأستاذ الذي درّسني الفلسفة لطيفًا جدًّا، وجيّدًا للغاية، وقدم المادة بطريقة محببة للدراسة، حتى أصبح اختياري واضحًا: لن أدرس إلا الفلسفة. وأنا هنا لا أعترف بقيمة العمل التدريسي، وبأهمية دور الأستاذ، وكيف يمكن أن يلعب دورًا مصيريًّا في خيارات الشخص. وقبل ذلك وبعده، أثر في حياتي واختياراتي أشخاص كثيرون، ومنهم أساتذة، بسبب لطفهم أو عدمه.

أما الشخص الثاني، في مجال الفلسفة، الذي يمكن أن أقول إنه أثر فيّ فهو الفيلسوف السوري الراحل بديع الكسم. فهو من القلائل الذين اشتغلوا على ما يسمى بالفلسفة المحضة؛ وهي، بالنسبة إليه، البحث في أهم المسائل الأساسية في حياة الناس الروحية، مثل مسائل خلود النفس، والمسائل الأخلاقية الأساسية، ومسائل أصل الكون إلى آخره. وقد تأثرت به كثيرًا، ووجدت كتابه "البرهان في الفلسفة"، مثيرًا جدًّا بكل المعاني، فقد أثار تفكيري واستفزني معرفيًّا، وأعجبتني فيه أمورٌ جميلةٌ كثيرةٌ.

الشخص الثالث أو الباحث الثالث الذي يمكنني الاعتراف بتأثيره فيّ هو الدكتور صادق جلال العظم الذي تُختزل نصوصه أحيانًا في سمتها النقدية. ففكرة النقد حاضرة ومهيمنة كل في كتبه تقريبًا. وأنا لا أرى أن ذلك يقلل ممّا قدمه، بل على العكس، أرى أنه قدم إضافة كبيرة ومهمة في ممارسة النقد وتقبّل النقد؛ فنحن غالبًا ما نستسهل ممارسة النقد، لكن يصعب علينا ونستصعب تقبّل أو حتى قبول ممارسة الآخرين للنقد حيالنا أو حيال أفكارنا. وفي مسألة ممارسة النقد وتقبّله، أظن أنني تأثرت به، وأزعم أنني في كتاباتي، حتى الآن، متجه كثيرًا في هذا الاتجاه، اتجاه ممارسة النقد.

الشخص الثالث الذي يمكنني الإشارة إليه - وكان يمكن أن يكون معنا في هذه الجلسة، لكن لحسن الحظ أو لسوء الحظ، هو غير موجود الآن - هو الدكتور أحمد برقاوي الذي يتميز بقوة الحضور، فهو شخص ذكيٌّ، واثق بنفسه إلى درجة مفرطة، أحيانًا. ويمكنه، في أيّ سياقٍ، أن يكون ويبدو قويًّا، ويذهب إلى الحد الأقصى دون أن يتجاوز الخط الأحمر، وهذه مسألة تنم عن ذكاء، لكنها أيضًا تنم عن أنه لا يتراجع كثيرًا كما يفعل الآخرون. هذه مسألة مهمة. وهناك أمور يمكن الاستفادة من منظوره النظري و/ أو العملي فيها، وهناك أمور تقتضي (إعلان) الاختلاف معه فيها.

أما من الأهل، وبسبب ضيق الوقت، سأقتصر على ذكر بعض الأسماء. لن أذكر الأب أو الأم أو الإخوة والأخوات، بل سأذكر عمّي، شقيق والدي، أحمد درويش. فبعد وفاة والدي، وكان عمري حينها 14 سنة، تركت المدرسة وحاولت أن أعمل ليكون لي ولإخوتي مصدر دخلٍ ماديٍّ. لكن كانت هناك رعاية مادية على الأقل من العمّ، فهو الذي وفّر البيت والمصاريف وما يلزم، لإخوتي ولي، بعد وفاة أبي.

أما اللحظة الأكثر أهمية في تأثيره في حياتي، فهي عندما حصلت على البكالوريا، وذهبت للدراسة في الجامعة. فلم يكن لديّ دخلٌ مادّي يسمح لي بالعيش في اللاذقية، حيث جامعتي الجديدة. لذا، كنت أفكر وأخطط أن أعمل في مطعمٍ ما، أو عامل تنظيفات بالليل، على غرار بعض أبطال الأفلام المصرية القديمة. لكن بعد شهرين أو ثلاثة، طلب لقائي وسألني ببساطة ووضوح وصراحة: كم تحتاج في الشهر لتكون قادرًا على تغطية مصاريف دراستك وإقامتك في اللاذقية؟ فخصّص لي راتبًا شهريًّا طوال سنوات دراستي الجامعية في (جامعة) اللاذقية وبعدها في (جامعة) دمشق. ودام دعمه الحيوي لي لمدة خمس سنواتٍ، وقد حصلت بعدها على دبلوم الدراسات العلي، وتوفي عمي أثناء عامي الدراس الأخير في دمشق. وأشير هنا إلى أن الثقافة في حلب لا تقدّر كثيرًا من ينتقل من سوق العمل ليكون طالبًا في الجامعة. وقبل التحاقي بدراستي الجامعية، كنت أعمل نجّارًا، أحصل على 15 ألف شهريًّا، بينما لو عينت أستاذًا، كنت سأحصل على 4000-5000. والموظَّف أو العامل في الدوائر الحكومية هو وفقًا للتعريف الشائع في البيئة الحلبية، ووفقًا لاعتقاد أبي المصرح به هو شحاذ بكرافة/ ربطة عنق. لهذا ولغيره، أشعر تجاه عمّي، أحمد درويش، بالكثير من الشكر والامتنان والودّ والتقدير.

في المنحى نفسه، يمكنني أن أذكر صديقي، صديق عمري، أحمد اليوسف الذي قضيت معه أوقاتًا طويلةً وكثيرةً من السرّاء والضرّاء. وكان الشخص الأقرب لي لأسباب كثيرةٍ. وكان هناك دائمًا تعاون وتعاضد مادّي كبير بيننا، من دون حسابٍ. فحتى مع أخي كانت هناك حسابات مالية، لكن مع أحمد لم تكن هناك حسابات مالية، بل كان هناك قدر كبير من الأريحية والثقة.

وعندما سافرت إلى فرنسا للحصول على الماستر والدكتوراه، لم يكن لديّ دخل مادي، فعملت بسطاتيًّا وفي كروم العنب، في فرنسا، وفي أعمال البناء، في إنكلترا. ووقف معي شخصان، ما كان بإمكاني إتمام دراستي والحصول على الدكتوراه، من دون وقوفهما معي: زوجتي عنان، التي كانت موفدة، وتعطيني جزءًا من راتبها الشهري، وثانيًا أحمد اليوسف، الذي كان، لعدة أشهر، يعمل في مطعم، ولم يكن لديه مكان خاص للإقامة أو حتى النوم، فكان يقيم وينام في سيارته، ومع ذلك دفع لي آلاف اليوروهات، لأستطيع التفرغ لكتابة بحث الماستر والتحضير لامتحاناته. قد تكون شهادة كلّ شخص في أصدقائه مجروحة، لكنني أعتقد بالفعل أن شخصية صديقي أحمد استثنائية ونادرة وفريدةٌ بالفعل.

أما من المعارف عمومًا، سأذكر شخصيتين، من خارج العالم العربي والإسلامي. الأولى هي صديقة فرنسية (Christiane Teytaut) أسَّست مع بعض المتقاعدات والمتقاعدين مؤسسة/ جمعية صغيرة لمساعدة الطلاب الأجانب على تنقيح وتصحيح وتدقيق اللغة الأجنبية لأبحاث الماجستير والدكتوراه، ولا سيما للأشخاص الذين لا يملكون القدرة على الدفع للمدقق المأجور. فهؤلاء الأشخاص كانوا يعملون "لوجه الله تعالى" أو "لوجه الإنسانية"، وليس لوجه أيّ شخص معين. قد لا تكون القيمة المادية للمساعدة كبيرة، لكن قيمتها المعنوية والأخلاقية والإنسانية كانت عظيمةً، وتركت أثرًا إيجابيًّا كبيرًا في نفسي.

الشخصية الثانية هي صديقة عزيزة من ألمانيا، اسمها كورنيليا زِنغ، وقد أسست، مع أخريات وآخرين، مؤسسة كانت جزءًا من ثقافة الترحيب باللاجئين في ألمانيا. فعملت على تقديم يد العون لكثير من اللاجئات واللاجئين، وكان الدافع إنسانيًّا راقيًا، رغم وجود تسويغات وأبعاد دينية/ مسيحية له. لكن المؤسسة المذكورة – أهلًا وسهلًا بكم في فِرمِلسكيرشِن – كانت تضم أشخاصًا مؤمنين وغير مؤمنين. والدافع المشترك والأساسي كان قيمًا إنسانيةً. وقد تأثرت كثيرًا بهذه المبادرة وما زالت لي علاقات وثيقة ببعض أعضائها، ومنهن صديقات عزيزات. وسأقتصر على ما سبق، على الرغم من أن القائمة طويلة.

د. ميادة كيالي:

من الجميل أن يعترف المرء بفضل الآخرين عليه، أو بأولئك الذين تركوا أثرًا إيجابيًا في حياته، لكن يظلّ الوجه الآخر من الاعتراف حاضرًا أيضًا؛ ذاك الذي يتعلّق بمواجهة الذات وكشف الجوانب السلبية أو المظلمة في التجربة الإنسانية. فالاعتراف ليس مجرد تمجيدٍ للآخرين أو شكرٍ لهم، بل هو أيضًا مواجهة مع الذات ونقد لها. فهل يمكن أن تضعنا أمام بعض هذه الاعترافات الشخصية التي تراها سلبية في حياتك أو مسارك الفكري؟ بمعنى آخر هل هناك جانب سلبي أو مظلم تحتاج أنت أيضًا إلى الاعتراف به؟

د. حسام الدين درويش:

دعيني أبدأ باعترافين: الأول أنني لن أقدّم اعترافات "فضائحية"؛ أي اعترافات تتضمن كشفًا صادمًا لفضائح وأمور حساسةٍ جدًّا وجدلية اجتماعيًّا. والثاني أنني لن أقدِّم الاعترافات على طريقة جان جاك روسو، الذي قدم اعترافاته ليحظى بالتقدير، وليس لإقرارٍ بالخطأ أو الذنب، أو لتحمل المسؤولية. فالاعترافات التي سأقدّمها تتعلق بجانب سلبي سأختصره، ولن أذكر مسوغات أو مبررات له، حتى لا يصبح الأمر تسويغًا وتبريرًا، بدلًا من أن يكون اعترافًا وإقرارًا، وسأذكر على الأقل خمس نقاط أساسية.

بوصفي شخصًا يعمل في ميدان الفكر، سأبدأ بهذه النقطة: بعد عام 2011 وحتى وقت قريب، وربما حتى الآن، كانت الأيديولوجيا حاضرة جدًّا في حياتي: تقسيم العالم على الطريقة المانوية إلى خيرٍ وشرٍّ، جيد وسيءٍ، ... إلخ. وبسبب الوضع السياسي في سوريا، لم تكن عندي القدرة على، أو بالأحرى الرغبة في الاقتصار على المعرفة الموجودة دائمًا في المنطقة الرمادية، لا في منطقة الخير المطلق، ولا في منطقة الشر المطلق. فنظَّرت للمسألة من حيث إن الثورة تمثل خيرًا مطلقًا؛ بمعنى أنني كنت معها بالكامل، على الرغم من إدراكي لعيوبها أو سلبياتها. وربما كان ذلك انطلاقًا من قناعتي بأن النظام الأسدي كان يمثل الشر المطلق، وأنه لا خلاص لسوريا، وللسوريات والسوريين، إلا بالخلاص منه، بغض النظر عن أيّ أشياء أخرى.

البعد الأيديولوجي، يؤثر معرفيًّا، بطريقة أو بأخرى. وقد يكون هذا التأثير إيجابيًّا؛ إذ يوجّه معرفتنا وأبحاثنا واتجاهاتنا وقيمنا، لكنه قد يكون سلبيًّا؛ لأنه يحد من رؤيتنا للأمور في أبعادها المختلفة، بتنوعاتها وجزئياتها. وقد خصَّصت لهذا الموضوع؛ أي العلاقة بين المعرفي والأيديولوجي، كتابًا بعنوان "المعرفة والأيديولوجيا في الفكر السوري المعاصر". وحتى في قراءاتي لبعض أعمال المفكرين العرب، تناولت هذه المسألة: إلى أيّ حد تكون المعرفة لدى الفرد في علاقة جدلية، بنّاءة أو غير بنّاءة، إيجابية أو سلبية، مع الأيديولوجيا أو التوجه الأيديولوجي. فقد يكون الشخص صاحب توجّهٍ عروبيٍّ. فإلى أيّ حد يكون لذلك التوجه أثر سلبي أو إيجابي؟

المسألة الثانية، وأزعم أنها منتشرة كثيرًا في ثقافتنا، والتي أنا جزء منها، هي الأخلاقوية المفرطة؛ فنحن كثيرًا ما نحكم على الآخرين بسرعة. سأقتصر على هذا الجانب، دون أن أحمّل المجتمع اللوم. أرى أنني شخصيًّا أفرطت في محاكمة الآخرين، وإصدار الأحكام في حقهم. وعلى أساس هذه المحاكمات، كان الناس يتحولون إلى ملائكة أو شياطين: هذا جيد أقترب منه، وهذا سيء أبتعد عنه، على الرغم من قناعتي بعدم وجود شخصٍ مثاليٍّ. وفي مقابل هذه النزعة الأخلاقوية، وبغرض التخلص منها، أرى ضرورة ألا نحاكم الأخرين ونطلق الأحكام في حقهم إلا في حالات نادرة. ففي ثقافتنا عمومًا، هناك أخلاقوية مفرطة، في مسألة محاكمة الآخرين، هناك محاكمات كثيرة، ومحاولة التصرف على أساسها.

المسألة الثالثة، يمكنني أن أطرحها معرفيًّا بطريقة لطيفة، وهي أنني أجمع، في نفسي وفكري، بين أمرين، يبدوان متناقضين: الريبية والدوغمائية أو الوثوقية. فمن ناحية، لديّ شكوك وتشكيك كبير في المعارف المطلقة والموضوعية الموثوقة والجازمة والمجزومة. ومن ناحيةٍ أخرى، بدا لي أحيانًا أن الحقيقة المطلقة والمؤكدة أن ليس هناك حقيقة مطلقة ...! وقد كنت مقتنعًا وواثقًا بهذه الحقيقة – حقيقة أنه لا توجد حقيقة – ولم أكن أقبل أي تشكيكٍ فيها أو مراجعةٍ نقديّةٍ لها. وحتى إنني فكرت بأن يكون موضوع/ عنوان رسالة الماجستير هو "الريبية هي الفلسفة الحقيقية"! وواضح التناقض الذاتي لهذا العنوان الذي يشبه الحديث عن ملحدٍ سنّي أو كاثوليكي!

المفارقة هنا تبيِّن أنه حتى الشخص الريبي الذي يزعم أنه لا يؤمن بالحقائق المطلقة، قد ينقلب اعتقاده الريبي إلى اعتقاد دوغمائي، ولا يقبل مراجعته الجدية النقدية فيه. فأحيانًا، الحقائق أحيانًا تفرض نفسها علينا، وتتحكم فينا. فإذا لم نضبطها نحن؛ ونبقيها تحت سلطة المراجعة النقدية، يمكن أن تحدث أشياء كثيرة دون أن ندركها، وقد ينزلق إلى الدوغمائية. وهذا ما حصل معي، أحيانًا على الأقل.

المسألة الثالثة هي أنني، في الشأن العام الفكري، والمجال العام، أتبنّى ما يمكن تسميته بالوسطيّة التوفيقية، حيث أمتنع عن التعبير عن رأيي الخاص في المسألة المطروحة، بل أسعى إلى إيجاد أرضية مشتركة بين الأطراف المختلفة. فعلى سبيل المثال، عند تناول مسألة الحجاب، أدافع بالقوة نفسها عن طرفين: الطرف الذي يدافع عن الحق والحرية في ارتداء النقاب أو الحجاب، والطرف الذي يدافع عن الحق والحرية في عدم ارتدائه، دون أن يُفرض على أيّ طرفٍ ما لا يرغب فيه. ولا أصرح عادةً بتفضيلي أو رأيي الخاص في هذا الخصوص.

ففي مثل هذه السياقات، لا أكون منشغلًا بالتعبير عن وجهة نظري في المسألة المطروحة، بل أكون منشغلًا بأن أضمن، نظريًّا على الأقل، حق الطرفين في ذلك. وأنا أتبنّى ذلك الموقف؛ لأنني أخشى كل أحادية، بغض النظر عن مضمونها، وأخشى هيمنة طرفٍ واحد وفرض سطوته ورؤيته الأحادية على الآخرين، واستبعاد أو إقصاء الرؤى المختلفة عن رؤيته. وفيما يخصّ الحجاب، وغيره من المسائل، أرى أن الصراع الذي يتخذ صيغة ديني/إسلامي مقابل علماني/ غير ديني هو صراع غير صحيٍّ وغير ضروري، وقد تترتب عليه نتائج سلبية في كثير من السياقات. لذلك، أحاول إظهار إمكانية تجاوز هذا الصراع للتركيز على مسائل أكثر أهمية. إن غضّ النظر عن موقفي ليس بالأمر الإيجابي؛ لأنه يعني أنني لا أعبر عن رؤيتي التي قد تميل إلى هذا الاتجاه أو ذاك. هذه الوسطيّة توفيقية، وأنا حريص على ألا تكون تلفيقية، رغم أنها قد تكون كذلك في بعض المواضيع والسياقات.

المسألة الأخيرة التي سأختم بها هنا، هي أن كل ما كتبته حتى الآن، كان ردّ فعلٍ أكثر من كونه فعلًا.

د. ميادة كيالي:

تقول إنَّ ما كتبته حتى الآن كان في معظمه "ردّ فعل أكثر من كونه فعلًا". هل يمكن أن توضّح أكثر ما تقصده بهذا التوصيف؟ وكيف ترى انعكاس ذلك على مسارك الفكري وكتاباتك.

د. حسام الدين درويش:

أعني بذلك أنني لا أكتب إلا مستفزًّا تجاه فكرة أو واقع أو شيء حصل، وقيل فيه ما قيل. إذا أخذنا عنوان الكتاب الأخير، صحيح أن "فلسفة الاعتراف وسياسات الهوية"، يتضمن جانبًا بنائيًّا، لكن العنوان الفرعي "نقد المقاربة الثقافوية"، يبين أنني أخصص مساحة كبيرة للرد على وجهات نظر أخرى. فتأثرًا بالعظم، ولأسباب أخرى، تهتم كتبي أساسًا بنقد ما أرفضه؛ أي نقد الأشياء التي لا أراها سيئة، أراها تأثير غير جيد، وأرى أنه يجب الرد عليها؛ لأنها مسيئة ومهينة.

إذن أنا منشغل جدًّا بالنقد، وبالرد على الأشياء السلبية، وبالتفاعل مع أشياء حصلت، أكثر من انشغالي بالتعبير عن أفكارٍ بنائيةٍ أو عن فكري أو توجهي الخاص. وأرى وجوب أن أنهي هذا الأمر، أو أخفف من حضوره، في وقت قريبٍ. ولهذا أرى أن كل ما كتبته، حتى الآن، هو مرحلة تمهيدية لما سأكتبه لاحقًا. ولا أعلم متى سيكون ذلك. لكن في كل الأحوال، أنا أرى أن هذه الأمور سلبية ينبغي الانتباه إليها. ويمكن، إذا أراد أحد أن ينتقدني، أن أقول له: معك حق؛ إذ يمكن تصنيفي حتى الآن أكثر في خانة ردّ الفعل لا الفعل. وطبعًا، في ردّ الفعل محاولات بنائية وإضافات، لكن ربما كانت الهيمنة لردّ الفعل أكبر من الفعل. وأكتفي بهذا.

د. ميادة كيالي:

في سياق فلسفة الاعتراف، يظلّ السؤال قائمًا: هل الاعتراف لا يكتمل إلا إذا قيل بصوت عالٍ وأُعلن أمام الآخرين، أم يمكن أن يكون مجرّد مواجهة داخلية بين الإنسان ونفسه؟ وهل يمكننا اعتبار الاعتراف الصامت مع الذات خطوة صحية كافية، حتى إن لم يتحوّل إلى بوحٍ علني؟

د. حسام الدين درويش:

دعيني آخذ الاعتراف بالمعنيين هنا. أمس، كنت جالسًا هنا، وكان الدكتور أحمد على هذا الكرسي، وعندما قال: "لديكم كتبٌ عظيمة، وأنتم قمتم بعمل ممتاز، وتستحقون أن تنالوا جائزة وما إلى ذلك ..."، فأنا شكرتُه فورًا، وقلت له: شكرًا جزيلًا؛ لأنك عبّرت عن هذا الكلام. فهذا الاعتراف العلني له قيمة، وقد يكون له أثر إيجابي عند آخرين، فيساعدهم ذلك على إدراك قيمة "مؤمنون بلا حدود" وعلى الاعتراف النظري والعملي بهذا القيمة.

وعندما يكون الاعتراف غير منتظرٍ، فإن مضمونه يكون أكثر مصداقية وتأثيرًا غالبًا. وهذا هو حال اعتراف برقاوي واعترافي بصديقي أحمد اليوسف، وإعرابي عن تقديري له. فالعلنية ضرورية للاعتراف أحيانًا، ويكون للاعتراف معنى أكبر وقيمة أوثق، كلما كان عنصر الاضطرار فيه أضعف. لذلك، ينبغي أن نحرص دائمًا على أن نقدّم اعترافاتنا، ولا سيما عندما تكون غير متوقَّعة، وعندما لا تكون في مقابل منفعةٍ ما. ومثل هذه الاعترافات العلنية تكون مفيدة وجميلة وضرورية ليس فقط لتأثيرها الفردي أو الشخصي، بل أيضًا لقيمتها العامة؛ إذ تشجّع الآخرين وتؤكّد لهم أن لهم ولأفعالهم قيمة مدركة ومعترف بها. ومن هذا المنطلق، لا يصح القول: «لا شكر على واجب»، بل على العكس، فالشكر على الواجب أمر محمود، حتى إن كان الشخص يقوم بواجبه.

د. ميادة كيالي:

هنا نتحدث عن الاعتراف في جانبه الإيجابي. ولكن ماذا عن جانبه السلبي أو الإشكالي؟ كيف ترى هذه الجهة من الاعتراف؟

د. حسام الدين درويش:

في الجانب السلبي، عندما أقترف خطأً في حقّ شخصٍ ما، فلا يكفي أن أعترف بارتكابي لذلك الخطأ بيني وبين نفسي، بل ينبغي أن يكون ذلك الاعتراف مصرّحًا به للشخص المعني على الأقل. فهنا أيضًا العلنية مؤسسة لماهية الاعتراف.

وفي الاعترافات جانب إشكالي؛ إذ غالبًا ما تتعلق بشخص آخر. فعندما أقدّم اعترافًا، كأن أقول إنني على علاقة بسين من الناس، وحدث بيننا كذا، فإنني أفصح عن أمور تخصّ آخرين، وقد لا يكون لي حقّ الإفصاح عنها. وبطبيعة الحال، لا يمكن الذهاب إلى الحد الأقصى، والقول إن لا حقّ لي مطلقًا هنا. فهناك منطقة رمادية تجعل المسألة معقدة.

والاعتراف، بوصفه إقرارًا بالذنب، لا يمنح صاحبة الحق في مسامحة الآخرين المعنيين له. ولا يصح أن يُقدَّم الاعتراف بالطريقة التجارية، حيث يكون من اعترف بخطئه كمن لا خطأ له. ولكي يكون الاعتراف اعترافًا فعلًا، ينبغي ألا يكون بغرض نيل تقديرٍ أو منفعة ما، بل ينبغي أن يكون لتحمل المسؤولية واللوم وربما العقوبة. فالاعتراف يفترض أنّي أتحدث عن شيء سلبي. ومن هنا ضرورة البحث الجدي في الغرض من الاعتراف. هل أعترف لأوفّي دينًا لأشخاص، ولأقر بأنني أخطأت في حقهم؟ فهذا فيه شيء إيجابي لتسوية الوضع، أو أنا أعترف كقيمة عامة. وعندما اعترفت بفضل أستاذٍ ما أو تأثيره الإيجابي في فكري، فالقصد هو التشديد على قيمة هذا الشخص وما فعله، وعلى أهمية دور الأستاذ في حياة تلاميذه، وفي تحديد مصيرهم المهني والمعرفي المستقبلي. فمن الضروري جدًّا أن نعرف لماذا نعترف، وما الذي نريد تحقيقه من الاعتراف؛ لأن الاعتراف أحيانًا يكون الغرض منه الفضائحية، وليس القيام بوظيفة إيجابية معينة.

د. ميادة كيالي:

يمكن القول إنَّ الاعتراف، شأنه شأن أي قيمة، يحتاج إلى توازن: فالإفراط في الاعتراف الإيجابي قد يتحول أحيانًا إلى نوع من التملّق، بينما الإفراط في الاعتراف بالجانب السلبي قد ينقلب إلى فضائحية أو يلحق الأذى بالآخرين. كيف ترى هذا التوازن الدقيق؟

د. حسام الدين درويش:

فكرة جميلة ومتوازنة وأتفق معك فيها عمومًا، مع إقراري أنني ممن يفرطون في التعبير عن الشكر والتقدير، للتأكد من وصول الرسالة. وأظن أنه في ثقافتنا الشرقية ثمة إفراط ومبالغة في هذا الاتجاه، حيث نقول مثلًا: «الله يعطيك ألف عافية»، وليس عافية أو عافيتين ...! برأيي، نحن نفرط أولًا لأسباب ثقافية، وثانيًا لنتأكد من أن مشاعرنا وأفكارنا قد وصلت. لكن، قد يؤدي الإفراط في الشكر إلى إعطاء انطباع مغلوط للشخص الآخر بأنه فعل شيئًا عظيمًا أو أعظم مما فعله حقيقة. فالتقدير هنا يحتاج إلى توازنٍ بين طرفين، حيث يقدّر الشخص حقه في التقدير، ويقدر الشخص الآخر ذلك التقدير بموضوعية. هذا التوازن ضروري جدًّا. والعلاقة الاعترافية علاقة بينذاتية تحتاج إلى طرفين ليكون هناك تناغم حتى تكتمل العملية. ولا يمكن لأي ذات أن تكتفي بذاتها وتستغني، مطلقًا، عن رؤية الآخر لها.

د. ميادة كيالي:

مع كامل احترامنا لأستاذنا الدكتور أحمد برقاوي، الذي ذكرتَ أثره في مسارك، أشرتَ إلى اختلافك معه في قوله إن الذات الممتلئة والمكتفية بذاتها يمكن أن تستغني عن اعتراف الآخر.

د. حسام الدين درويش:

بسبب احترامنا، نذكر الآخرين ونختلف معهم.

د. ميادة كيالي:

ولا شك أنه لا يرى في هذا الاختلاف أيّ مانع. وأودّ بدوري أن أقدّم لك اعترافي الشخصي: لقد كنتُ سعيدة جدًّا بلقائي بك في تونس، وممتنّة لحضورك ودعمك لتجربة بسيطة حلمت أن تتحقق، فكنتَ أنت من جعلها ممكنة. لذلك أشكرك وأعترف لك بفضل هذه اللحظة. وآمل أن تتكرّر لقاءاتنا في المستقبل، وأن نفتح صفحات جديدة في برنامج خاص بالاعترافات.

د. حسام الدين درويش:

على الرغم من ريبيتي، أجزم أننا سنفعل ذلك. وبدوري، أعرب بكلّ صدق عن ودّي وتقديري لك، وارتياحي للتعامل المهني والإنساني معك. وأتطلع إلى الاستمرار في ذلك، وتعميقه مستقبلًا.

د. ميادة كيالي:

شكرًا جزيلًا.

[1] جرى اللقاء في 25 أيار/ مايوه 2023، في معرض أبو ظبي الدولي للكتاب في إطار نشاطات مؤسسة مؤمنون بلا حدود في المعرض.