أنور مغيث: الترجمة في البلدان العربية؛ الواقع والمآل


فئة :  حوارات

أنور مغيث: الترجمة في البلدان العربية؛ الواقع والمآل

حوار مع الدكتور أنور مغيث

الترجمة في البلدان العربية:

الواقع والمآل


يوسف هريمة: بما أنّنا في لقاء خاص مع رئيس المركز القومي للترجمة. حبذا لو يضعنا الدكتور أنور مغيث في سياق تعريفي لمساره العلمي والفكري، ليتعرف قراء موقع مؤسسة مؤمنون بلا حدود للنشر والترجمة بشكل أكبر عليكم. كما نستهل حوارنا بالتساؤل حول واقع الترجمة في عالمنا العربي المعاصر؟

الدكتور أنور مغيث: ولدت عام ١٩٥٦ في إحدى المدن الريفية الصغيرة، وهي مدينة الباجور بمحافظة المنوفية جنوب دلتا النيل. وقد نشأت في بيت كان الجميع فيه يقرأون، وكان أبي معلماً ومشتركًا في كثير من الدوريات الثقافية التي يحملها ساعي البريد إلى بيتنا تباعاً. أنهيت في المنوفية دراستي الابتدائية، وانتقلت بعد ذلك الأسرة بكاملها إلى بني سويف بصعيد مصر، حيث أنهيت المرحلة الإعدادية، وكانت المرحلة الثانوية بشارع الأهرام بمدينة القاهرة، وطوال هذا الوقت كانت القراءة هوايتي المفضلة، بل وأيضاً سبباً لتوفقي الدراسي. 

والتحقت بكلية الآداب فى قسم اللغة اليابانية الذي كان أول افتتاح له في هذا العام ١٩٧٤، ولكن انخراطي في النشاط السياسي اليساري بالجامعة جعل من الصعب المواظبة في قسم اللغة اليابانية فعالجت الأمر بأن التحقت بقسم الفلسفة التى كانت في نظر رفاقي لا تحتاج الكثير من المواظبة. اهتمامي بالعمل السياسي بالجامعة جعل لي مصدرًا آخر للمعرفة غير تلك التي نتلقاها في الجامعة وهي الفلسفة الماركسية. وكان إعداد المناضل السياسي يتطلب أن يكون ملماً بشيء من العلوم السياسية والاقتصاد والأدب والفن، وأنا أعتبر ذلك فرصة عظيمة جعلتني غير مقيد بالفلسفة الأكاديمية الجامعية، ونجحت بتفوق في الليسانس.

لكنني كنت أحلم بالسفر إلى فرنسا لإعداد الدكتوراه، وسافرت إلى فرنسا بدون منحة أو بعثة، وبدأت في إعداد الجزء الأول من الدكتوراه مع الفيلسوف الفرنسي جان لوك نانسي في جامعة ستراسبورج. وكان الموضوع عن البراكسيس أو "الممارسة العملية" عند ماركس الشاب. وكان دافعي وراء ذلك هو التعرف على ماركسية جديدة ونقد الماركسية التقليدية الستالينية التي تربينا عليها. وبعد سفر المشرف نانسي إلى أمريكا للتدريس بها، انتقلت إلى جامعة نانتير بباريس تحت إشراف الفيلسوف جورج لابيكا الذي أقنعني بإنجاز رسالة عن التلقي المصري للفلسفة الماركسية. حصلت على الدكتوراه عام ١٩٩٢ وعدت إلى القاهرة لتدريس الفلسفة بجامعة حلوان عام ١٩٩٥، وإلى جانب التدريس لازمني نشاطان آخران: أولهما الترجمة عن الفرنسية، وثانيهما المشاركة النظرية فى الجدل السياسي العام منحازاً إلى قضيتين أساسيتين وهما الديمقراطية والعلمانية.

أما فيما يخص موضوع الترجمة فى عالمنا العربى المعاصر، فإنّ إيقاعها ينتظم مع إيقاع التطور الفكري العام فى المجتمع. ففي فترة النهضة والبحث عن سبل التحديث، كان هناك احتفاء بالترجمة، وفي فترة الليبرالية اهتمت دور النشر الخاصة بترجمة الأدب سعياً إلى الربح، وكان لهذا الاهتمام دور كبير فى تنشيط الحياة الأدبية العربية المعاصرة، كذلك في مرحلة بناء الدولة الوطنية. وفي عصر سيطرة الدولة على النشاط الثقافي كان هناك أيضاً اهتمام بالترجمة، ولكن بتوجيه مباشر من الدولة، أما في عهد الهيمنة الفكرية للإسلام السياسي فقد أُهملت الترجمة إهمالاً تاماً بمباركة وتأييد من رجال الدين السلفيين، وبمباركة للأسف من بعض المثقفين الذين تعاملوا مع الترجمة باعتبارها استلاباً وتبعية فكرية. واستمرت هذه الروح عقوداً طويلة، ولم ينتبه العرب إلى غفوتهم فى مجال الترجمة إلا بعد ظهور الإحصائيات المهينة التى تقارن حصيلة الترجمة الضئيلة في العالم العربى بالمقارنة بإسبانيا أو اليونان أو إسرائيل، فانطلقت مبادرات دعم الترجمة وتشجيعها في العالم العربى، وعلى رأسها المشروع القومي للترجمة بالمجلس الأعلى للثقافة بمصر. ولكن على الرغم من نهوض حركة الترجمة إلا أنّ الواقع أقل كثيراً من المأمول.

يوسف هريمة: أكد جورج طرابيشي في كتابه هرطقات أنّ بدايات الترجمة في الإسلام كانت مع دولة العباسيين بشكل خاص. هل تتوافقون مع هذا الطرح الفكري؟ وكيف قتلت حركة الترجمة في الإسلام، لتفسح المجال أمام تراث قضى على كل ما هو فلسفي تنويري في تاريخنا؟

الدكتور أنور مغيث: بالنسبة إلى بدايات الترجمة، علينا أن نميز بين انتقال المعارف والترجمة، وكانت آراء أرسطو وأفلاطون معروفة في الشام وفي الإسكندرية، وبعضها متداول في اللاهوت المسيحي، ولكن ترجمة الأعمال بدأت في العصر العباسي بتشجيع من الخلفاء، وكانت موجهة بشكل عام إلى الرياضيات والعلوم والفلسفة، بالإضافة إلى ترجمات أخرى كانت تتم بمبادرات فردية. فلقد طلب الفيلسوف الكندي من أحد المترجمين السريان أن يترجم له محاورة طيماوس لأفلاطون. ولقد فتحت هذه الترجمات المجال للإسهام العربي الحقيقي في تاريخ الإنسانية، فأغلب الإسهامات العربية فى الرياضيات والبصريات بل وحتى اختراعات العدسات والمرايا الحارقة كانت عبارة عن تعليقات وهوامش على كتب العلماء اليونان المترجمة من اليونان أو من مدرسة الإسكندرية. وبالمثل في الفلسفة التى دخلت فى طور جديد عندما اقترنت بمفهوم للكون يتبنى فكرة الإله الخالق. أما نكوص حركة الترجمة، فقد حدث بسبب حملة الفقهاء على العلم وعلى الفلسفة وميل الحكام إلى أخذ جانب الفقهاء بحثاً عن شرعية دينية لحكمهم، وبالطبع كان لهذا أثر كارثي في التطور الفكري داخل الثقافة الإسلامية.

يوسف هريمة: في سياق الحديث عن التثاقف acculturation بوصفه منتوجًا حضاريًّا يسعى إلى الهيمنة والدمج. هل يمكن أن نقول بأنّ الترجمة هي وسيلة من وسائل استيعاب الثقافات الضعيفة واستلابها؟

الدكتور أنور مغيث: التثاقف ظاهرة قديمة وليست حديثة، بدأت حتى في عصور ما قبل التاريخ كما يبين لنا علم الأساطير المقارن، وهى حركة لا تسعى إلى الهيمنة والدمج. فلا أظن أنّ هناك قوى كبرى تجبر قوى صغرى على الترجمة. الترجمة تتم غالبًا بمبادرة من المترجم وحصيلتها دائماً إيجابية. الترجمة تحول الثقافات الضعيفة إلى ثقافات قوية وتقلل من فرص الثقافات المهيمنة فى تهميشها، باختصار الترجمة هي أحد وسائل المقاومة وليست مظهرًا من مظاهر التبعية. 

وألاحظ أنّ هناك تضاربًا في الموقف من الترجمة بين سؤالك السابق والذي ترى فيه أنّ قتل حركة الترجمة في الإسلام أفسح المجال أمام تراث قضى على كل ما هو فلسفي وتنويري في تاريخنا، وهو ما أوافق عليه تمامًا. أما سؤالك الحالي فيرى أنّه ربما تكون الترجمة وسيلة من وسائل استلاب الثقافات الضعيفة. وهو افتراض يجعل الترجمة ضحية حلقة فاسدة. فعلى أساس أنّنا ثقافة ضعيفة هل علينا ألا نترجم إلا بعد أن نصير أقوياء. أم هل علينا أن نبدأ بالترجمة حتى نصير أقوياء؟. وأنا أعتقد أنّ وضع الترجمة في سياق مواجهة ومنطق هيمنة هو وضع خاطئ، لأنّ مثل هذا السياق يكون استثنائيًّا في التاريخ. كما يتعلق بثقافة واحدة والترجمة تتعلق بجميع الثقافات. والخطأ الثاني اعتبار الترجمة هي كل التلقي، في حين أنّ الترجمة هي مجرد عتبة للتلقي يبقى بعد ذلك مسار طويل للتفاعل مع الفكر واستخدامه. ولقد بين إدوارد سعيد في كتابه الإمبريالية والثورة كيف أنّ ماركس ونيتشه وفرويد هم وسائل في يد الثقافات المقهورة للتحرر من المركزية الأوربية.

يوسف هريمة: ونحن نتحدث عن أزمة الحداثة في واقعنا العربي المعاصر، نذكر ما كتبه المفكر الإيراني داريوش شايغان حول أوهام الهوية. كيف عجزنا أن نستدمج فكرة الحداثة الفكرية بالرغم من وجود كتابات مترجمة إلى اللغة العربية تستقي تجربة التنوير الأوروبي؟ ولماذا تقبلنا فكرة الحداثة في شقها المادي والتكنولوجي، دون أن نستوعبها على مستوى البنيات الفكرية؟

الدكتور أنور مغيث: فيما يتعلق بأزمة الحداثة وتجليها فى أزمة التنوير العربي، أعتقد أنّ رواد النهضة فى القرن التاسع عشر كانوا أصحاب نظرة صائبة. ولكن الخلل أتى من ضعف البرجوازيات العربية حيث كانت القوى المهيمنة في أغلب البلاد العربية من ملاك الأراضي، وكذلك الحكام الطامحين إلى التحديث والاستبداد فى آن، ومن هنا لم تجد أفكار التنوير القوى الاجتماعية التي تتبناها وتقاتل فى سبيلها كما كان الحال فى أوروبا واليابان، أمّا عن الجانب التكنولوجي في الحداثة فقد تصورنا أنّ جوهرها هو التقدم العلمي والمادي وكان هذا تصوراً خاطئاً، لأنّ جوهر الحداثة هو تحرر الفرد، أما المفكرون من أنصار الحفاظ على الهوية الإسلامية، والعداء للغرب، فقد حاولوا أن يصوروا لنا أنّ اليابان نجحت فى مشروعها التحديثي مع استمرارها فى قمع المرأة، وهذا غير صحيح على الإطلاق، ولذا فأنا أعتبر أنّ منظري الإسلام السياسي في الفكر العربي المعاصر لم يكونوا إلا مبررين للاستبداد. ويمكن إجمال كل جهدهم الفكري في صيغة "البحث عن كيفية التحديث المادي مع الاستمرار فى قمع النساء والعمال ومنع الأفراد من الحصول على حريتهم".

كاد الخطاب العربي المعاصر يدين عملية الترجمة بعد أن أدخلها في هواجسه عن الهوية والأصالة والهيمنة والابتكار والتقليد والتبعية وما إلى ذلك. وأنا أرى أنّه كي نحكم حكمًا سليمًا على الترجمة علينا أن نعود إلى براءة الأطفال. فالطفل الياباني أو البرازيلي حينما يسمع حكاية علي بابا ويكرر بمرح عبارة افتح يا سمسم، هو يستمتع وكفى، ولا يدور في ذهنه أي تحفظات متعلقة بالهوية والهيمنة والتبعية، ولا تستبد به عقدة الذنب لأنّه معجب بحكاية وافدة على ثقافته.

يوسف هريمة: يقال بأنّ الترجمة خيانة في مستوى من مستوياتها. هل الترجمة هنا نص مواز للنص الأصلي؟ أم مختلف؟ كيف تقرؤون هذا الأمر من منظور فلسفي؟

الدكتور أنور مغيث: الترجمة ليست خيانة.. ولكن من الطبيعي أنّ المعنى لا ينتقل بكامله. ولدى المترجم شعور بأنّ هناك بالضرورة ترجمة ممكنة أفضل من تلك التي أنجزها. وهو شعور ينتاب المترجمين الذين يقدمون على ترجمة الشعر والنصوص المقدسة. أمّا بخصوص النص الناتج عن الترجمة فلا أتصور أنّه نص مواز، فمن المعروف أنّ التوازي معناه أنّ النصين لا يتلاقيان مهما امتدا. ولكن نقاط التلاقي كثيرة بين النص المترجم والنص الأصلي. وعلى الرغم من ذلك فهما ليسا متاطبقين. فالترجمة ليست استنساخًا ولا إعادة انتاج ولا صورة طبق الأصل. إنّها بمثابة حياة جديدة. إنّها تعطي النص حياة جديدة في سياق جديد. فالترجمة هي أكثر آليات انتقال الأفكار فعالية. فالبيان الشيوعي مترجمًا إلى العربية ليس نًّصا موازيًا للبيان الشيوعي بالألمانية، وليس صورة طبق الأصل منه وليس نصًّا مختلفًا. ولكن الترجمة أعطت للنص مهمة جديدة. إذ تحول بعد ترجمته إلى صيحة لتحرر الشعوب من الاستعمار بعد أن كانت مهمته تحرر الطبقة العاملة من البرجوازية. وكذلك الحال مع برجسون الذي كان فيلسوفًا لليمين الرجعي في فرنسا فإذا به يصبح بعد ترجمته إلى الألمانية فيلسوفًا لليسار غير الماركسي في ألمانيا. أمّا عن الآفاق المعرفية التي تفتحها عملية الترجمة فيكفينا أن نتذكر السؤال الذي طرحه شلايرماخر وهو بصدد ترجمة محاورات أفلاطون إلى الألمانية، فكان يتساءل: أيهما أفضل، أن يصطحب القارئ ليعيش في عصر أفلاطون، أم يأتي بأفلاطون ليعيش في ألمانيا في القرن التاسع عشر؟ وانتهى بأن فضل الاختيار الأول. ولكن هما على أيّ حال استراتيجيتان في الترجمة، فالمترجم ينقل النص إلى لغته وهو مهموم بمشكلات عصره. والترجمة بهذا المعنى تسمح بتجاوز حدود التاريخ والجغرافيا.

يوسف هريمة: ربط الكثيرون ازدهار حركة الترجمة بالفكرة الاعتزالية وما شهده عصر الخليفة المأمون. هل يمكن أن نقول بأنّ حركة الترجمة هي رهينة إعادة إرث العقلانية العربية؟

الدكتور أنور مغيث: الترجمة تحتاج قبل العقلانية إلى مجموعة من المشاعر هي التواضع والمحبة والشوق إلى الحرية. ولكن إذا كنا بصدد البحث عن دوافع حركة تاريخية مقصودة ومنهجية وعقلانية بمعنى أنّها كانت تريد تحقيق أهداف معينة، فلا شك أنّ طرح الأسئلة التي تهدف إلى تعقل العقائد التي جاء بها الوحي وهو أساس ظهور علم الكلام وقصور هذا العلم، بمعنى وقوفه عند حدود تبرير عقلي للعقائد الدينية، وعجزه عن تقديم رؤية كوزمولوجية متجانسة كان دافعًا إلى ترجمة الفلسفة اليونانية وإلى بناء أنساق فلسفية إسلامية جديدة، كما كانت ترجمة العلوم عنصرًا أساسيًّا في تكوين تصور عقلاني عن العالم. ومن هنا فالعقلانية عنصر ضروري في بعث حركة الترجمة المغرضة أي التي تتوخى تحقيق أهداف معينة أو الترجمة الأداتية إن جاز التعبير. ولكن المفروض أن تتجاوز مبررات الترجمة حدود العقل وحده إذ أنّ مبررها من وجهة نظر تحررية هو الرغبة في الاستمتاع.

إنّ أسئلة من نوع لماذا نترجم وماذا نترجم؟ هي أسئلة مشروعة لكنها تحتاج إلى أن نبذل جهدًا في التنسيق بين العمل المؤسسي والعمل الفردي. فحركات الترجمة الكبرى مرتبطة بمؤسسات تدعمها وتحدد سلفًا ما تحتاجه. هكذا كان الحال في عصر المأمون وفي عصر محمد علي مع الطهطاوي والألف كتاب الأولى والمركز القومي للترجمة. ولكن المؤسسات التي تنفق عليها الحكومات عادة ما تستهين بالأدب وتتجنب ترجمة الكتب ذات النزعة النقدية الجذرية. كما نلاحظ أيضًا أنّ أفضل الترجمات هي التي يقوم بها المترجم بعد أن يقع في غرام النص الأجنبي، وتحولت الترجمة عنده إلى رسالة وليست تكليفًا. نريد إذن أن نصل إلى هذا التوافق الذي يفتح المجال أمام الاختيار الحر للأفراد وفي الوقت نفسه يتمكن من سد حاجة الجامعات ومعاهد البحث.

يوسف هريمة: في عصر العولمة أصبح المنتوج الثقافي قابلاً للتشييء كما الإنسان نفسه. من وجهة نظركم ألا تساعد الترجمة في صناعة البراديغمات الجاهزة؟ وبالتالي عوض أن نتحدث عن أصالة إنساننا العربي، فإنّنا نتحدث عن نماذج مستنسخة، تكون في نهاية المطاف لصالح الثقافة المهيمنة؟

الدكتور أنور مغيث: نحن بالفعل فى عصر سيطرة السلعة، وكذلك نحن فى عصر ضياع قيمة القيم وتفشي النزعة الاستهلاكية. وقد ترك ذلك أثره في الثقافة بوجه عام، فلم يعد المنتج الثقافي يخاطب الأبدية وغير مهموم بالغوص فى عمق الإنسان. ولا شكّ أنّ الترجمة تتأثر بهذا المناخ العام وربما تتأثر بذلك أيضاً اختيارات المترجمين، ولكن ذلك لا ينفي ضرورة الترجمة وأهميتها. فحتى في ظل هيمنة السلعة والنزعة الاستهلاكية ينبغي أن نقف على طبيعة المشكلات التي يتعرض لها العالم، وأن نتجادل مع ما ينتجه من أفكار، أما افتراض أنّ الترجمة سوف تساعد فى صناعة البراديجمات الجاهزة فهذا أمر لا يساور خاطر إلا من يتصور أنّ ثقافته الخاصة يمكنها أن تكتفي بذاتها وعندها حلول لكل الأزمات، وهى نسخة علمانية من دعوى الأصوليين الذين يرون أنّ الإسلام خلق لنا نظاماً اقتصادياً وسياسياً صالحاً لكل زمان ومكان. الخوف من فكرة نماذج مستنسخة هو نوع من الوسواس القهري في العلاقة بما هو غريب. فالإبداع فى جوهره حوار مع الآخر. وأصالة الإنسان العربي لا تتأكد من انغلاقها على ذاتها ولكن بانفتاحها على غيرها. وأنا أظن أنّه لكي نحسم هذا الأمر علينا بدلاً من أن نفكر انطلاقاً من مصطلحات مبهمة المعنى مثل الأصالة والهوية والذات الحضارية، يحسن بنا أن نفكر انطلاقاً من الهموم الواقعية للمواطن العربي أي الاستغلال والقمع، وأظن أنّنا إذا أعطينا الأولوية للنضال ضد هذه الظروف الواقعية دونما نظر إلى اعتبارات أخرى، مثل وافد وموروث وما إلى ذلك، فإنّنا نزيد من حظنا فى إيجاد حلول لهذه المشكلات. 

لقد دأب الفكر المحافظ على أن يصور دعاة التحديث العربي وكأنّهم يفرطون فى الهوية لصالح ثقافة الأجنبي المهيمنة. وكان المحافظون كثيراً ما يضربون مثلاً بالتحديث الناجح، في نظرهم وهو اليابان، على اعتبارها حافظت على تراثها وثقافاتها واستطاعت تحقيق التقدم. ولكن ما حدث كان هو العكس، لقد تهاون اليابانيون لحسن حظهم كثيراً فى كل ما ورثوه عن أسلافهم فيما يتعلق بعلاقة الدين بالسياسة، وبالنظام السياسي وبوضع المرأة، وهذا ما أدى إلى نجاحهم. حتى إنّ قاسم أمين كتب معقبًا على انتصار اليابان على الصين عام 1905 أنّ انتصار اليابان تم بفضل أنّها أمة تخلصت من ماضيها وألقت به وراء ظهرها، في حين أنّ الصين لاقت الهزيمة بسبب تمسكها بماضيها. ولو نظرنا إلى وضعنا الآن بوصفنا شعوبًا عربيةً وإسلاميةً لوجدنا أنّ هوس الأصالة جعلنا مازلنا نتخبط فى تخلفنا. نعود إذن لنقول بأنّ كل الشبهات التى يثيرها الأصوليون العرب ضد الترجمة ما هى إلا إيديولوجية تستهدف إعادة إنتاج الاستبداد. 

يوسف هريمة: ما يعيشه اليوم عالمنا العربي من انحطاط وتخلف، ناتج عن توقف في فكرة الإبداع والنهضة والتجديد. ما هي أسباب هذا الركود والجمود في العقل العربي؟ هل نحن بإزاء ضمور فكرة العروبة والدولة القومية؟ أم أنّ الثقافة المزورة لا يمكن أن تتقن إلا صناعة الموت؟

الدكتور أنور مغيث: في البداية أعلن تحفظي على مصطلح العقل العربى، فأنا لا أدري بالضبط ما هو، وأفضل استخدام الفكر العربي. ويمكن أن نقف على مضمون هذا الفكر من خلال استعراض ما تنتجه ثقافتنا في مجالات العلوم والفلسفة والدين والفنون. أما ملاحظة أنّ هناك ركودًا أو جمودًا فهي ملاحظة صائبة، وما يجعلها واضحة وبادية للعيان هو المقارنة بأحوال المجتمعات الأخرى، وحياة المواطنين فيها. كما يمكن أيضاً معرفتها من خلال ملاحظة الفارق الهائل بين حاضر الشعوب وماضيها. فكلما ازداد هذا الفارق كان ذلك دليلاً على الحركة والتقدم. أما نحن فلا نريد أن نفارق ماضينا وننظر إلى النزر اليسير الذي استجد في حياتنا سواء من حيث الزي أو أشكال الممارسة السياسية أو تعليم المرأة وخروجها للعمل أو تعلق الأفراد بحرياتهم الشخصية، كل هذا ننظر إليه على أنّه خطر يهدد وجودنا. ولهذا يظل الفارق ضئيلاً بين حاضرنا وماضينا. وإذا كان هناك تغيير قد تم فإنّ ذلك حدث على الرغم منّا. أعتقد أنّه لاسبيل إلى أن يكون التغيير بإرادتنا إلا بإتاحة حرية الفكر والتعبير. وهذه الحرية بالفعل تعاني نقصاً كبيراً في مجتمعاتنا العربية المعاصرة. وإصلاح الأمر لن يكون بمجرد إضافة مواد في الدساتير وإنّما من خلال البدء بإصلاح التعليم، وممارسة النقد بجرأة وحرية مهما كانت الموضوعات التي يتعرض لها هذا النقد. ويكفي أن ننظر في الثقافة العربية في الثلاثة عقود الأخيرة لنجد مصطلحات من نوع الثوابت أو الخطوط الحمراء لندرك كيف أنّ ثقافتنا المعاصرة تمتلك فى جعبتها الكثير من الذرائع لمنع هذه الحرية. 

أما بخصوص ضمور فكرة العروبة فإنّني أفضل أن أراها نهاية لتصور معين عن العروبة. تصور كان يربطها بفكرة الرسالة الخالدة والزعيم الملهم والدولة القوية وهي كلها أمور عفى عليها الزمان. ولكن أعتقد أنّ الوصول إلى مرحلة تاريخية جديدة تتسم بحرية انتقال السلع والأفراد والأفكار بين البلاد العربية بعضها ببعض بدون حواجز سوف يعطي لفكرة العروبة ازدهاراً من نوع جديد. يتم نتيجة للتآلف الحر بين الأفراد والتيارات الفكرية والفنية فى عالمنا العربي. وربما يكون ذلك المخرج من ثقافة صناعة الموت لأنّ تاريخنا الحديث يبيّن أنّ الحرص على الثقافة الأصيلة كان هو المبرر الأكبر للموت وليس الحرص على التجديد. والترجمة سلاح ضروري لمواجهة وهم الأصالة ومعارف السلف، وهي ضرورية للوعي باللحظة التاريخية التي نعيشها فهي التي تجعلنا ندرك إلى أين تتجه البشرية. فهناك، كما يقول توكفيل، مسار عام للتاريخ تسير فيه البشرية. فلقد توافقت جميع ثقافات البشر على عدم تعليم البنات، وحينما بدأ تعليم البنات فإنّه انطلق في جميع الثقافات على اختلافها في الوقت نفسه. وكانت البشرية تعاقب المجرمين بعقوبات بدنية كالرجم والجلد والبتر، وحينما تبنت البشرية فكرة المنع من الحرية، أي السجن بدلاً من إيذاء البدن، سارت مختلف الثقافات البشرية في هذا المسار. وحينما قررت نظم الحكم أن تتخلى عن الشرعية الدينية وتجعل شرعيتها قائمة ًعلى رضا الشعب، سارت ثقافات البشر في هذا المسار. تريد الثقافة الأصولية أن تقنعنا بأنّه يمكننا بل يجب علينا السير عكس المسار الذي تسير فيه البشرية، ومهمة الترجمة أن تبين لنا عبثية هذه المعاندات التاريخية والتي تأتي في النهاية ضد مصلحة المواطنين وضد حريتهم.

يوسف هريمة: شكرا الأستاذ أنور مغيث.