الابن البكر في الفكر الديني اليهودي، وأحقية وراثة العهد


فئة :  مقالات

الابن البكر في الفكر الديني اليهودي، وأحقية وراثة العهد

في الفكر الديني اليهودي هناك خلاف ونزاع قديم ضارب في القدم بين بني إسماعيل وبني إسرائيل حول قضية الابن البكر ووراثته للحكم والعهد عن أبيه؛ أي عن إبراهيم ـ عليه السلام ـ الذي يحتل مكانة جد مهمة في الديانات الثلاث: اليهودية والمسيحية والإسلام.

ودون الدخول في الحديث عن شخصية إبراهيم عليه السلام، نبدأ حديثنا عن موضوعنا كما هو محدد في عنوان المقال، قصد الجواب على هذا الإشكال: هل إسماعيل هومن استحق شرف البكورية أم أنه إسحاق؟.

تحدث سفر التكوين عن قصة زواج إبراهيم ـ عليه السلام ـ من هاجر الجارية المصرية الفقيرة ـ رضي الله عنها ـ، وجاء ذلك بطلب من زوجه سارة التي بلغت الخامسة والسبعين من عمرها، وهي امرأة عاقر، فقبل إبراهيم عليه السلام الزواج من هاجر، ونقرأ ذلك في سفر التكوين([1]):

"وَأَمَّا سَارَايُ زَوْجَةُ أَبْرَامَ فَقَدْ كَانَتْ عَاقِراً، وَكَانَتْ لَهَا جَارِيَةٌ مِصْرِيَّةٌ تُدْعَى هَاجَرَ. 2 فَقَالَتْ سَارَايُ لأَبْرَامَ: "هُوَذَا الرَّبُّ قَدْ حَرَمَنِي مِنَ الْوِلاَدَةِ، فَادْخُلْ عَلَيْهَا لَعَلَّنِي أُرْزَقُ مِنْهَا بَنِينَ". فَسَمِعَ أَبْرَامُ لِكَلاَمِ زَوْجَتِهِ. 3 وَهَكَذَا بَعْدَ إِقَامَةِ عَشْرِ سَنَوَاتٍ فِي أَرْضِ كَنْعَانَ، أَخَذَتْ سَارَايُ جَارِيَتَهَا الْمِصْرِيَّةَ هَاجَرَ وَأَعْطَتْهَا لِرَجُلِهَا أَبْرَامَ لِتَكُونَ زَوْجَةً لَهُ .4 فَعَاشَرَ هَاجَرَ فَحَبِلَتْ مِنْهُ. وَلَمَّا أَدْرَكَتْ أَنَّهَا حَامِلٌ هَانَتْ مَوْلاَتُهَا فِي عَيْنَيْهَا، 5 فَقَالَتْ سَارَايُ لأَبْرَامَ: "لِيَقَعْ ظُلْمِي عَلَيْكَ، فَأَنَا قَدْ زَوَّجْتُكَ مِنْ جَارِيَتِي وَحِينَ أَدْرَ كَتْ أَنَّهَا حَامِلٌ هِنْتُ فِي عَيْنَيْهَا. لِيَقْضِ الرَّبُّ بَيْنِي وَبَيْنَكَ". 6 فَأَجَابَهَا أَبْرَامُ: "هَا هِيَ جَارِيَتُكِ تَحْتَ تَصَرُّفِكِ، فَافْعَلِي بِهَا مَا يَحْلُو لَكِ". فَأَذَلَّتْهَا سَارَايُ حَتَّى هَرَبَتْ مِنْهَا. 7 فَوَجَدَهَا مَلاَكُ الرَّبِّ بِالْقُرْبِ مِنْ عَيْنِ الْمَاءِ فِي الطَّرِيقِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلَى شُورٍ. 8 فَقَالَ: "يَاهَاجَرُ جَارِيَةَ سَارَايَ، مِنْ أَيْنَ جِئْتِ؟ وَإِلَى أَيْنَ تَذْهَبِينَ؟". فَأَجَابَتْ: "إِنَّنِي هَارِبَةٌ مِنْ وَجْهِ سَيِّدَتِي سَارَايَ". 9 فَقَالَ لَهَا مَلاَكُ الرَّبِّ: "عُودِي إِلَى مَوْلاَتِكِ وَاخْضَعِي لَهَا".

وبهذا الزواج من هاجر رزق إبراهيم ـ عليه السلام ـ ابناً سماه إسماعيل، وكان عمره ـ عليه السلام ـ ستاً وثمانين سنة، حسب سفر التكوين([2]): "ثُمَّ وَلَدَتْ هَاجَرُ لأَبْرَامَ ابْناً، فَدَعَا أَبْرَامُ ابْنَهُ الَّذِي أَنْجَبَتْهُ لَهُ هَاجَرُ إِسْمَاعِيلَ. 16 وَكَانَ أَبْرَامُ فِي السَّادِسَةِ وَالثَّمَانِينَ مِنْ عُمْرِهِ عِنْدَمَا وَلَدَتْ لَهُ هَاجَرُ إِسْمَاعِيلَ".

ولما بلغ إبراهيم ـ عليه السلام ـ التاسعة والتسعين من عمره عقد معه الله ميثاقاً- عهداً- أبدياً وعلامة هذا العهد هو الختان، وهذا ما يقصه علينا سفر التكوين([3]):

"وَعِنْدَمَا كَانَ أَبْرَامُ فِي التَّاسِعَةِ وَالتِّسْعِينَ مِنْ عُمْرِهِ، ظَهَرَ لَهُ الرَّبُّ قَائِلاً: "أَنَا هُوَ اللهُ الْقَدِيرُ. سِرْ أَمَامِي وَكُنْ كَامِلاً، 2 فَأَجْعَلَ عَهْدِي بَيْنِي وَبَيْنَكَ وَأُكَثِّرَ نَسْلَكَ جِدّاً". 3 فَسَقَطَ أَبْرَامُ عَلَى وَجْهِهِ، فَخَاطَبَهُ اللهُ قَائِلاً: 4 "هَا أَنَا أَقْطَعُ لَكَ عَهْدِي، فَتَكُونُ أَباً لأُمَمٍ كَثِيرَةٍ. 5 وَلَنْ يُدْعَى اسْمُكَ بَعْدَ الآنَ أَبْرَامَ (وَمَعْنَاهُ الأَبُ الرَّفِيعُ) بَلْ يَكُونُ اسْمُكَ إِبْرَاهِيمَ (وَمَعْنَاهُ أَبٌ لِجُمْهُورٍ) لأَنِّي أَجْعَلُكَ أَباً لِجُمْهُورٍ مِنَ الأُمَمِ؛ 6 وَأُصَيِّرُكَ مُثْمِراً جِدّاً، وَأَجْعَلُ أُمَماً تَتَفَرَّعُ مِنْكَ، وَيَخْرُجُ مِنْ نَسْلِكَ مُلُوكٌ. 7 وَأُقِيمُ عَهْدِي الأَبَدِيَّ بَيْنِي وَبَيْنَكَ، وَبَيْنَ نَسْلِكَ مِنْ بَعْدِكَ جِيلاً بَعْدَ جِيلٍ، فَأَكُونُ إِلَهاً لَكَ وَلِنَسْلِكَ مِنْ بَعْدِكَ. 8 وَأَهَبُكَ أَنْتَ وَذُرِّيَّتَكَ مِنْ بَعْدِكَ جَمِيعَ أَرْضِ كَنْعَانَ، الَّتِي نَزَلْتَ فِيهَا غَرِيباً، مُلْكاً أَبَدِيّاً. وَأَكُونُ لَهُمْ إِلَهاً". 9 وَقَالَ الرَّبُّ لإِبْرَاهِيمَ: "أَمَّا أَنْتَ فَاحْفَظْ عَهْدِي، أَنْتَ وَذُرِّيَّتُكَ مِنْ بَعْدِكَ مَدَى أَجْيَالِهِمْ. 10هَذَا هُوَ عَهْدِي الَّذِي بَيْنِي وَبَيْنَكَ وَبَيْنَ ذُرِّيَّتِكَ مِنْ بَعْدِكَ الَّذِي عَلَيْكُمْ أَنْ تَحْفَظُوهُ: أَنْ يُخْتَتَنَ كُلُّ ذَكَرٍ مِنْكُمْ 11 تَخْتِنُونَ رَأْسَ قُلْفَةِ غُرْلَتِكُمْ فَتَكُونُ عَلاَمَةَ الْعَهْدِ الَّذِي بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ 12 تَخْتِنُونَ عَلَى مَدَى أَجْيَالِكُمْ كُلَّ ذَكَرٍ فِيكُمُ ابْنَ ثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ سَوَاءٌ كَانَ الْمَوْلُودُ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ أَمْ كَانَ ابْناً لِغَرِيبٍ مُشْتَرًى بِمَالِكَ مِمَّنْ لَيْسَ مِنْ نَسْلِكَ. 13 فَعَلَى كُلِّ وَلِيدٍ سَوَاءٌ وُلِدَ فِي بَيْتِكَ أَمِ اشْتُرِيَ بِمَالٍ أَنْ يُخْتَنَ، فَيَكُونُ عَهْدِي فِي لَحْمِكُمْ عَهْداً أَبَدِيّاً. 14 أَمَّا الذَّكَرُ الأَغْلَفُ الَّذِي لَمْ يُخْتَنْ، يُسْتَأْصَلُ مِنْ بَيْنِ قَوْمِهِ لأَنَّهُ نَكَثَ عَهْدِي".

وقد قام إبراهيم ـ عليه السلام ـ بتنفيذ الأمر الإلهي كي يكتمل الميثاق الأبدي عن طريق القيام بعملية الختان - علامة العهد - كما يحدثنا سفر التكوين([4]):

"وَفِي ذَلِكَ الْيَوْمِ بِعَيْنِهِ أَخَذَ إِبْرَاهِيمُ إِسْمَاعِيلَ وَجَمِيعَ الْمَوْلُودِينَ فِي بَيْتِهِ وَكُلَّ مَنِ اشْتُرِيَ بِمَالٍ، كُلَّ ذَكَرٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ وَخَتَنَ لَحْمَ غُرْلَتِهِمْ كَمَا أَمَرَهُ الرَّبُّ. 24 وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ فِي التَّاسِعَةِ وَالتِّسْعِينَ مِنْ عُمْرِهِ عِنْدَمَا خُتِنَ فِي لَحْمِ غُرْلَتِهِ، 25 أَمَّا إِسْمَاعِيلُ ابْنُهُ فَقَدْ كَانَ ابْنَ ثَلاَثَ عَشْرَةَ سَنَةً حِينَ خُتِنَ فِي لَحْمِ غُرْلَتِهِ. 26 وَهَكَذَا خُتِنَ إِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ ابْنُهُ فِي الْيَوْمِ نَفْسِهِ. 27 وَكَذَلِكَ خُتِنَ مَعَهُ كُلُّ رِجَالِ بَيْتِهِ الْمَوْلُودِينَ فِيهِ وَالْمُبْتَاعِينَ بِمَالٍ مِنَ الْغَرِيبِ".

بهذا العمل وامتثالاً لأمر الله يكون إبراهيم قد دخل فعلاً في ميثاق مع الله، وإسماعيل ـ عليه السلام ـ داخل في هذا العهد أو الميثاق بحكم أنه ختن وكان عمره ثلاث عشرة سنة؛ لأن من شروط هذا العهد: الختان.

وبعد أن أكرم الله إبراهيم بابن ثانٍ لكن هذه المرة من سارة - المرأة الحرة حسب الفكر اليهودي المسيحي- وكان عمره عليه السلام مئة سنة.

جاء في سفر التكوين([5]) مبيناً ذلك: "وَافْتَقَدَ الرَّبُّ سَارَةَ كَمَا قَالَ، وَأَنْجَزَ لَهَا مَا وَعَدَ بِهِ. 2 فَحَبِلَتْ سَارَةُ وَوَلَدَتْ لإِبْرَاهِيمَ فِي شَيْخُوخَتِهِ ابْناً، فِي الْوَقْتِ الَّذِي عَيَّنَهُ اللهُ لَهُ. 3 فَدَعَا إِبْرَاهِيمُ ابْنَهُ الَّذِي أَنْجَبَتْهُ لَهُ سَارَةُ "إِسْحقَ". 4 وَخَتَنَهُ فِي الْيَوْمِ الثَّامِنِ بِمُوجِبِ أَمْرِ اللهِ. 5 وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ قَدْ بَلَغَ الْمِئَةَ مِنْ عُمْرِهِ عِنْدَمَا وُلِدَ لَهُ إِسْحقُ. 6 وَقَالَتْ سَارَةُ "لَقَدْ أَضْحَكَنِي الرَّبُّ. كُلُّ مَنْ يَسْمَعُ هَذَا الأَمْرَ يَضْحَكُ مَعِي". 7 وَأَضَافَتْ أَيْضاً: "مَنْ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يَقُولَ لإِبْرَاهِيمَ إِنَّ سَارَةَ سَتُرْضِعُ بَنِينَ؟ فَهَا أَنَا قَدْ أَنْجَبْتُ لَهُ ابْناً فِي شَيْخُوخَتِهِ". 8 وَكَبُرَ إِسْحقُ وَفُطِمَ. فَأَقَامَ إِبْرَاهِيمُ فِي يَوْمِ فِطَامِهِ مَأْدُبَةً عَظِيمَةً".

وبهذه الولادة، بدأ الصراع الحقيقي حول من هو الابن الأحق بالبكورية. وكانت سارة هي الدافع لبداية هذا الصراع، إذ تروي التوراة على لسانها أمرها لإبراهيم ـ عليه السلام ـ بطرد هاجر، والسبب في ذلك هو أن إسماعيل ـ عليه السلام ـ رأته سارة يسخر من إسحاق، يقص علينا سفر التكوين([6]) ذلك بقوله:

وَرَأَتْ سَارَةُ أَنَّ ابْنَ هَاجَرَ الْمِصْرِيَّةِ الَّذِي أَنْجَبَتْهُ لإِبْرَاهِيمَ يَسْخَرُ مِنِ ابْنِهَا إِسْحقَ، 10 فَقَالَتْ لإِبْرَاهِيمَ: "اطْرُدْ هَذِهِ الْجَارِيَةَ وَابْنَهَا، فَإِنَّ ابْنَ الْجَارِيَةِ لَنْ يَرِثَ مَعَ ابْنِي إِسْحقَ". 11فَقَبُحَ هَذَا الْقَوْلُ فِي نَفْسِ إِبْرَ اهِيمَ مِنْ أَجْلِ ابْنِهِ. 12 فَقَال اللهُ لَهُ: "لاَ يَسُوءُ فِي نَفْسِكَ أَمْرُ الصَّبِيِّ أَوْ أَمْرُ جَارِيَتِكَ، وَاسْمَعْ لِكَلاَمِ سَارَةَ فِي كُلِّ مَا تُشِيرُ بِهِ عَلَيْكَ لأَنَّهُ بِإِسْحقَ يُدْعَى لَكَ نَسْلٌ. 13 وَسَأُقِيمُ مِنِ ابْنِ الْجَارِيَةِ أُمَّةً أَيْضاً لأَنَّهُ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ".

لكن إبراهيم ـ عليه السلام ـ لم يعجبه أمر سارة إلا أن الإله التوراتي طلب منه تنفيذ أمر سارة. جاء في سفر التكوين([7]):

14 فَنَهَضَ إِبْرَاهِيمُ فِي الصَّبَاحِ الْبَاكِرِ وَأَخَذَ خُبْزاً وَقِرْبَةَ مَاءٍ وَدَفَعَهُمَا إِلَى هَاجَرَ، وَوَضَعَهُمَا عَلَى كَتِفَيْهَا، ثُمَّ صَرَفَهَا مَعَ الصَّبِيِّ. فَهَامَتْ عَلَى وَجْهِهَا فِي بَرِّيَّةِ بِئْرِ سَبْعٍ. 15 وَعِنْدَمَا فَرَغَ الْمَاءُ مِنَ الْقِرْبَةِ طَرَحَتِ الصَّبِيَّ تَحْتَ إِحْدَى الأَشْجَارِ، 16 وَمَضَتْ وَجَلَسَتْ مُقَابِلَهُ، عَلَى بُعْدِ نَحْوِ مِئَةِ مِتْرٍ، لأَنَّهَا قَالَتْ: "لاَ أَشْهَدُ مَوْتَ الصَّبِيِّ". فَجَلَسَتْ مُقَابِلَهُ وَرَفَعَتْ صَوْتَهَا وَبَكَتْ. 17 وَسَمِعَ اللهُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ، فَنَادَى مَلاَكُ اللهِ هَاجَرَ مِنَ السَّمَاءِ وَقَالَ لَهَا: "مَا الَّذِي يُزْعِجُكِ يَا هَاجَرُ؟ لاَ تَخَافِي، لأَنَّ اللهَ قَدْ سَمِعَ بُكَاءَ الصَّبِيِّ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُلْقًى. 18 قُومِي وَاحْمِلِي الصَّبِيَّ، وَتَشَبَّثِي بِهِ لأَنَّنِي سَأَجْعَلُهُ أُمَّةً عَظِيمَةً". 19 ثُمَّ فَتَحَ عَيْنَيْهَا فَأَبْصَرَتْ بِئْرَ مَاءٍ، فَذَهَبَتْ وَمَلأَتِ الْقِرْبَةَ وَسَقَتِ الصَّبِيَّ. 20 وَكَانَ اللهُ مَعَ الصَّبِيِّ فَكَبُرَ، وَسَكَنَ فِي صَحْراءَ فَارَانَ".

من خلال هذه النصوص، نجد اليهود قد فعلوا كل ما في وسعهم قصد إبعاد إسماعيل عن أبيه، وأن الابن البكر هو إسحاق ومن ثم له الحق في وراثة أبيه؛ لأنه هو ابن سارة الحرة وليس كإسماعيل ابن هاجر الجارية كما يعتقدون، وهذا الفكر التوراتي تبناه بولس، إذ يقول في رسالته إلى أهل غلاطية([8]) "أطرد الجارية وابنها، لأنه لا يرث ابن الجارية مع ابن الحرة، إذن أيها الإخوة لسنا أولاد جارية، بل أولاد الحرة".

لكن الأمر غير ذلك، ولبيان أن العهد كان من نصيب إسماعيل ـ عليه السلام ـ وليس إسحاق ـ عليه السلام ـ نذكر:

- أن إسماعيل هو الابن البكر الشرعي لأبيه، واعتماداً على هذا الأساس، فإن حقه في ميراث عهد وحكم أبيه هو حق شرعي وعادل.

- أن العهد المبرم بين الله وإبراهيم كان في الوقت نفسه بين الله وإسماعيل، ذلك لأن العهد قد أبرم قبل ميلاد إسحاق.

- التوراة أوردت أن إسماعيل بن إبراهيم ولم تنعته بابن هاجر، نقرأ في سفر التكوين([9]) "وَهَذَا سِجِلُّ مَوَالِيدِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ".

- أن قول بولس أن ابن الجارية لا يرث مع ابن الحرة يناقضه النص الوارد، ففي سفر التثنية([10]) "إِنْ كَانَ رَجُلٌ مُتَزَوِّجاً مِنِ امْرَأَتَيْنِ، يُؤْثِرُ إِحْدَاهُمَا وَيَنْفُرُ مِنَ الأُخْرَى، فَوَلَدَتْ كِلْتَاهُمَا لَهُ أَبْنَاءً، وَكَانَ الابْنُ الْبِكْرُ مِنْ إِنْجَابِ الْمَكْرُوهَةِ، 16 فَحِينَ يُوَزِّعُ مِيرَاثَهُ عَلَى أَبْنَائِهِ، لاَ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُقَدِّمَ ابْنَ الزَّوْجَةِ الأَثِيرَةِ لِيَجْعَلَهُ بِكْرَهُ فِي الْمِيرَاثِ عَلَى بِكْرِهِ ابْنِ الزَّوْجَةِ الْمَكْرُوهَةِ. 17 بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَعْتَرِفَ بِبَكُورِيَّةِ ابْنِ الْمَكْرُوهَةِ، وَيُعْطِيَهُ نَصِيبَ اثْنَيْنِ مِنْ كُلِّ مَا يَمْلِكُهُ، لأَنَّهُ هُوَ أَوَّلُ مَظْهَرِ قُدْرَتِهِ، وَلَهُ حَقُّ الْبَكُورِيَّةِ".

- قصة طرد هاجر فيها نظر أيضاً اعتباراً لما يلي:

- إن إرسال هاجر ورضيعها إسماعيل إلى برية فاران، إما أن يكون سابقاً على ولادة إسحاق بما لا يقل عن ثلاثة عشر عاماً، وهو ما يعني عدم صحة القول بغيرة سارة من إسماعيل على ابنها إسحاق، أو أن طرد إسماعيل وأمه كان بعد ولادة إسحاق، إذ كان عمر إسماعيل عند ولادة إسحاق أربعة عشر عاماً، ولو صح هذا الادعاء لكان إسماعيل هو الذي يبحث عن الماء لأمه لا أن تبحث له هي وتحمله على ظهرها، وهكذا يتبين تلاعب اليهود بأخبار التوراة عن إسماعيل ـ عليه السلام ـ.

والطرح الأول صحيح؛ أي أنّهجرة إبراهيم ـ عليه السلام ـ رفقة هاجر وابنها إسماعيل كان قبل ولادة إسحاق ـ عليه السلام ـ، وهذا ما يؤكده الحديث الشريف، فقد ثبت في صحيح البخاري عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ أن إسماعيل كان رضيعاً يوم أن هاجر به أبوه إبراهيم ـ عليه السلام ـ مع أمه هاجر، وهذا نص الرواية[11]:

"حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ أَيُّوبَ السَّخْتِيَانِيِّ، وَكَثِيرِ بْنِ كَثِيرِ بْنِ المُطَّلِبِ بْنِ أَبِي وَدَاعَةَ، يَزِيدُ أَحَدُهُمَا عَلَى الآخَرِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَوَّلَ مَا اتَّخَذَ النِّسَاءُ المِنْطَقَ مِنْ قِبَلِ أُمِّ إِسْمَاعِيلَ، اتَّخَذَتْ مِنْطَقًا لِتُعَفِّيَ أَثَرَهَا عَلَى سَارَةَ، ثُمَّ جَاءَ بِهَا إِبْرَاهِيمُ وَبِابْنِهَا إِسْمَاعِيلَ وَهِيَ تُرْضِعُهُ، حَتَّى وَضَعَهُمَا عِنْدَ البَيْتِ عِنْدَ دَوْحَةٍ، فَوْقَ زَمْزَمَ فِي أَعْلَى المَسْجِدِ، وَلَيْسَ بِمَكَّةَ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ، وَلَيْسَ بِهَا مَاءٌ، فَوَضَعَهُمَا هُنَالِكَ، وَوَضَعَ عِنْدَهُمَا جِرَابًا فِيهِ تَمْرٌ، وَسِقَاءً فِيهِ مَاءٌ، ثُمَّ قَفَّى إِبْرَاهِيمُ مُنْطَلِقًا، فَتَبِعَتْهُ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ فَقَالَتْ: يَا إِبْرَاهِيمُ، أَيْنَ تَذْهَبُ وَتَتْرُكُنَا بِهَذَا الوَادِي، الَّذِي لَيْسَ فِيهِ إِنْسٌ وَلاَ شَيْءٌ؟ فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ مِرَارًا، وَجَعَلَ لاَ يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا، فَقَالَتْ لَهُ: آللَّهُ الَّذِي أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ نَعَمْ، قَالَتْ: إِذَنْ لاَ يُضَيِّعُنَا، ثُمَّ رَجَعَتْ، فَانْطَلَقَ إِبْرَاهِيمُ حَتَّى إِذَا كَانَ عِنْدَ الثَّنِيَّةِ حَيْثُ لاَ يَرَوْنَهُ، اسْتَقْبَلَ بِوَجْهِهِ البَيْتَ، ثُمَّ دَعَا بِهَؤُلاَءِ الكَلِمَاتِ، وَرَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ: رَبِّ {إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ}([12]) - حَتَّى بَلَغَ - {يَشْكُرُونَ} "وَجَعَلَتْ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ تُرْضِعُ إِسْمَاعِيلَ وَتَشْرَبُ مِنْ ذَلِكَ المَاءِ، حَتَّى إِذَا نَفِدَ مَا فِي السِّقَاءِ عَطِشَتْ وَعَطِشَ ابْنُهَا، وَجَعَلَتْ تَنْظُرُ إِلَيْهِ يَتَلَوَّى، أَوْ قَالَ يَتَلَبَّطُ، فَانْطَلَقَتْ كَرَاهِيَةَ أَنْ تَنْظُرَ إِلَيْهِ، فَوَجَدَتِ الصَّفَا أَقْرَبَ جَبَلٍ فِي الأَرْضِ يَلِيهَا، فَقَامَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَتِ الوَادِيَ تَنْظُرُ هَلْ تَرَى أَحَدًا فَلَمْ تَرَ أَحَدًا، فَهَبَطَتْ مِنَ الصَّفَا حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الوَادِيَ رَفَعَتْ طَرَفَ دِرْعِهَا، ثُمَّ سَعَتْ سَعْيَ الإِنْسَانِ المَجْهُودِ حَتَّى جَاوَزَتِ الوَادِيَ، ثُمَّ أَتَتِ المَرْوَةَ فَقَامَتْ عَلَيْهَا وَنَظَرَتْ هَلْ تَرَى أَحَدًا فَلَمْ تَرَ أَحَدًا، فَفَعَلَتْ ذَلِكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: "فَذَلِكَ سَعْيُ النَّاسِ بَيْنَهُمَا"، فَلَمَّا أَشْرَفَتْ عَلَى المَرْوَةِ سَمِعَتْ صَوْتاً، فَقَالَتْ صَهٍ - تُرِيدُ نَفْسَهَا -، ثُمَّ تَسَمَّعَتْ، فَسَمِعَتْ أَيْضاً، فَقَالَتْ: قَدْ أَسْمَعْتَ إِنْ كَانَ عِنْدَكَ غِوَاثٌ، فَإِذَا هِيَ بِالْمَلَكِ عِنْدَ مَوْضِعِ زَمْزَمَ، فَبَحَثَ بِعَقِبِهِ، أَوْ قَالَ بِجَنَاحِهِ، حَتَّى ظَهَرَ المَاءُ، فَجَعَلَتْ تُحَوِّضُهُ وَتَقُولُ بِيَدِهَا هَكَذَا، وَجَعَلَتْ تَغْرِفُ مِنَ المَاءِ فِي سِقَائِهَا وَهُوَ يَفُورُ بَعْدَ مَا تَغْرِفُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: "يَرْحَمُ اللَّهُ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ، لَوْ تَرَكَتْ زَمْزَمَ - أَوْ قَالَ: لَوْ لَمْ تَغْرِفْ مِنَ المَاءِ -، لَكَانَتْ زَمْزَمُ عَيْنًا مَعِينًا "قَالَ: فَشَرِبَتْ وَأَرْضَعَتْ وَلَدَهَا، فَقَالَ لَهَا المَلَكُ: لاَ تَخَافُوا الضَّيْعَةَ، فَإِنَّ هَا هُنَا بَيْتَ اللَّهِ".

إذن، فهجرة هاجر وابنها إسماعيل كانت قبل ولادة إسحاق، وعليه فلا يصح القول إن إسماعيل كان يمزح مع إسحاق الأمر الذي لم يعجب سارة.

إلا أن أهل الكتاب لا يعترفون بالمصادر الإسلامية - النص الحديثي- لذلك وجب الاعتماد على ما يؤمنون به. وبالرجوع إلى الترجمة العربية المشتركة، نجد ما يؤكد أنه فعلاً كانت هجرة هاجر بإسماعيل، وهو صبي بدليل حملها إياه على ظهرها والنص في ذلك حسب سفر التكوين([13]):

"فبكَّرَ إبراهيمُ في الغدِ وأخذَ خبزًا وقِربةَ ماءٍ، فأعطاهُما لهاجرَ ووضَعَ الصَّبيَ على كتِفِها وصرفَها، فمضَت تَهيمُ على وجهِها في صحراءِ بئرَ سَبْعَ. ونفدَ الماءُ مِنَ القِربةِ، فألقت هاجرُ الصَّبيَ تَحتَ إحدى الأشجارِ 16 ومضَت فجلسَت قُبَالتَهُ على بُعْدِ رميَتَي قوسٍ وهيَ تقولُ في نفْسِها: "لا أُريدُ أنْ أرى الولدَ يموتُ". وفيما هيَ جالسةٌ رفعت صوتَها بالبُكاءِ. وسَمِعَ اللهُ صوتَ الصَّبيِّ، فنادى ملاكُ اللهِ هاجرَ مِنَ السَّماءِ وقالَ لها: "ما لكِ يا هاجرُ؟ لا تخافي. سَمِعَ اللهُ صوتَ الصَّبيِّ حَيثُ هوَ. 18 قُومي اَحملي الصَّبيَ وخذي بيدهِ، فسأجعَلُهُ أمَّةً عظيمةً". 19 وفتحَ اللهُ بصيرتَها فرأت بئرَ ماءٍ، فمضَت إلى البئرِ وملأتِ القِربةَ ماءً وسقتِ الصَّبيَ".

وعليه يكون إسماعيل هو الابن البكر الذيله الحق في وراثة أبيه إبراهيم ـ عليه السلام ـ، ومن إسماعيل سيكون خير البشرية محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ.

أخيراً، إن معالجة مسألة البكورية في الفكر الديني اليهودي ليست من باب العرض، وإنما المراد منها أن يعلم القارئمدى تلاعب اليهود بنصوص التوراة لصالحهم؛ فنفيهم لبكورية إسماعيل ـ عليه السلام ـ هو محاولة منهم لإنكار نبوة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأنهم كانوا يعلمون أن النبي محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ سيكون من نسل إسماعيل، باعتبار أن العهد الذي عقده الله مع ابراهيم كان من جهة إسماعيل جد العرب، لا من جهة إسحاق ـ عليه السلام ـ جد بني اسرائيل؛ لذلك قاموا بتحريف تلك النصوص قصد ربط العهد الإلهي بإسحاق ـ عليه السلام ـ، وهذا راجع إلى غيرتهم من إسماعيل الذي انحدر من نسله سيدنا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ.


([1]) سفر التكوين، 1/16-9

([2]) سفر التكوين 15/16-16

([3]) سفر التكوين 1/17-14

([4]) سفر التكوين 23/17-27

([5]) سفر التكوين 1/21-8

([6]) سفر التكوين 9/21-13

([7]) سفر التكوين 14/21-20

([8]) رسالة بولس إلى أهل غلاطية 30/4-31

([9]) سفر التكوين 12/25-12

([10]) سفر التثنية 15/21 -17

(11) صحيح البخاري، كتاب: أحاديث الأنبياء، باب: "يزفون" سورة الصافات الآية 94: النسلان في المشي.

([12]) سورة ابراهيم الآية 37

([13]) سفر التكوين 14/21-16