التجربة الدينية وسؤال التعددية


فئة :  حوارات

التجربة الدينية وسؤال التعددية

التجربة الدينية وسؤال التعددية:

حوار مع أستاذ التربية المفكر الجزائري "العربي فرحاتي"

الحاج دواق

الدكتور "العربي فرحاتي" مفكر وعالم تربية، وأستاذ التعليم العالي بقسم علم النفس وعلوم التربية بجامعة الحاج لخضر، باتنة بالجزائر، نرحب به في هذا الحوار حول التعددية الدينية، ونحاول معه تلمس طريق التجربة الدينية المتنوعة، ومسلكية الحقيقة المفتوحة، وقراءة الممكن الديني لتحقيق التعايش الحضاري، وتلافي مهلكات العنف والإرهاب تحت قبّة الديني واستخدامه التبريري.

الحاج دواق: أنت ممّن قرأ الدين بوسيلة المعرفة الحديثة، فكيف تعرّف الدين؟

العربي فرحاتي: بسم الله الرحمن الرحيم، وبه أستعين.

بداية أحييكم وأشكركم على اهتمامكم بالدين كسؤال قيمي في واجهة أسئلة العصر، وعن سؤالكم في الحقيقة إنني لم أقرأ الدين بكل تجلياته بالوسائل المنهجية والمعرفية الحديثة ـ رغم أنني أعترف بمشروعيتها دون تقديسها ـ بقدر ما أعتبر نفسي مطلعاً على تلك القراءات، فوجدتها ملتبسة وحبيسة الصراع العلماني الكنسي، تكاد تكون كلها ردود أفعال متبادلة حتى في أعمق المقاربات الفلسفية وأدق المناهج العلمية، ولا يتسع المقام لبيان ذلك، ممّا جعلني أنحاز لدعوات قراءة الدين باستنباط الوسائل من الدين ذاته، أي من النص بوصفه وحياً إلهياً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، أو من التجربة التاريخية من حيث هي تجربة إيمانية (نسبية) تتجلى في ترجمة النص المقدس (المطلق) في سلوكيات ومشاريع وعلوم (تدين) وتجارب امتدت في التاريخ إلى سيدنا آدم، حيث وضعت موضع التفاعل الوظيفي، تتجدد بنبي مع كل دين منزل في الزمان والمكان؛ فالتجربة الإيمانية إن هي إلا تلك التجربة التاريخية للمؤمن أو للطائفة المؤمنة، المتولدة من نشاط العقل المتدين في حيز المسافات الثلاث؛ بين النص وفهمه وترجمته في الواقع، وهي تجربة تندرج ضمن تفاعل الإنسان مع الطبيعة وأخيه الإنسان في الزمان والمكان في علاقات رباعية، حيث يتدخل الدين في العلاقات بشكل بنيوي مهيمن، لإنتاج التاريخ، أو هوـ أي التفاعل ـ التاريخ ذاته، تتفاعل عناصره في نطاق فلسفة إلحاق النسبي الجزئي بالمطلق الكلي، أو هو ناتج المزج والتركيب لما سُمّي بـ "القراءتين" الوحي والكون في القراءة التوحيدية.

أمّا تعريفي للدين، فلن يخرج عن صيرورة التجربة النبوية في تبليغ ما احتواه النص الديني ذاته ـ المكتمل في القرآن ـ ولن يخرج عمّا استطاع العقل (التجربة العقلية أو التدين) ضمن البراديغم العقلي السائد أن يستكشفه كإبداع في الزمان والمكان (أعني تجربة التدين)، وألخصه في التالي: "الدين ليس مجرد ظاهرة وجدانية سيكولوجية رغم تلبسها بالذات، ولا هي سوسيولوجية رغم ارتباطها بالثقافة، ولا هي بعقلية رغم منطقيتها وتجردها، ولا هي بكهنوتية رغم طقسيتها... إلخ، بقدر ما هي كلمة منزهة عن خصائص الظاهرة، تطلق فقط على كلمة الله (باعتبارها وحياً منزلاً) موجهة إلى عباده عبر نبي، ثابتة في الكون المنظور والمقروء، وباتت كما لو أنها معرفة موضوعية خارج نطاق الذوات، قابلة للاستكشاف العقلي والاستثمار المستمر واللامتناهي، بقدر فهم الإنسان وبما أتاه الله من أدوات (السمع والبصر والفؤاد) من حيث أنّ ذلك كله هو التدين.

فالتعريف يتجاوز المفهوم الكنسي للدين القابع في الدوغمائية الكهنوتية ومصادرة العقل، ويتجاوز المفهوم المروج له ـ بعد التبشير بغروب الدين ـ وقراءته خارج نسقه المعرفي من مواقع العقل بوصفه حصيلة التجربة، حيث يصبح الدين من تلك المواقع ملحقاً بالمصدر العقلي وتحديداً من غريزة الخوف عند أكثر العلماء، (أنسنة الدين) ويضعه أي تعريفنا في نطاق تجربة التجديد نحو إنتاج صيغ الحق، كفريضة بموجب أدوات السمع والبصر والفؤاد المانعة للتلقي السلبي السلفي أو الحداثي. وبهذا المعنى يكون الإسلام قد فصل مفهوم كلمة الدين (كمنظومة وحي مؤلفة من المعاملات والعبادات ترجمتها سنّة) عن كل ما هو من أصل أرضي ووثني، أو كهنوتي ميتافيزيقي، أو اختلط بما هو سيكولوجي أو سوسيولوجي، وعن كل اجتهاد وتأويل وتفسير لنصوصه...إلخ، وهي مفاهيم خلطت المقدس بغيره من أعمال العقل، كانت لها تداعيات سلبية قاتلة للدين والعباد في حروب دعيت بالحروب الدينية كان لها ويلاتها على حياة البشرية جمعاء.

الحاج دواق: أجدك تغلب التجربة التاريخية والواقعية على النظر والمفاهيم المجردة، ألا يؤثر ذلك في فهمك للدين؟

العربي فرحاتي: إنّ فهمي للتجربة التاريخية لا يخرج عن نطاق "الاستخلاف، والتسخير"، فلن يكون الدين إلا جوهرها وجوهر التاريخ، من حيث أنّ التجربة التاريخية هي موقف الإنسان السلبي أو الإيجابي حيال الطبيعة، فيكون في حالة الإيجاب كلما كانت طاقته روحية والعكس صحيح، والطبيعة المسخرة هي مجال الإرادة الحرة ضمن المسافة التي تفصل الوحي والفهم وصياغة الواقع (التاريخ)، وهي مسافات متمددة تتيح للعقل إنتاج ما لا نهاية من الفهومات والصيغ الحياتية بوعي ما هو أفضل لفلاح الإنسان، وتمددها يجعل من العقل مجدداً للصيغ والقيم بما في ذلك مفهوم الحق، ومنه تشتق القيم ثباتها النسبي وديمومتها النسبية عبر الزمن، وبالتالي فهو مفهوم يتأسس منهجياً على معقولية التجربة ومنطقية النظر في نطاق عالم من النظام والانتظام، وغير مختزل في المفهوم البرجماتي للتجربة كما يعتقد ولا المفهوم الحسي الوضعاني ولا المفهوم العقلاني الخالص؛ فالتجربة التاريخية هي كالتجربة الفيزيائية تتسع لتشمل اللامتوقع، ويتأسس كذلك على اكتساب (تعلم) المعرفة كشرط لحرية العقل وإطلاق الإرادة، تتسع باتساع معرفته بمفردات الكون وسننه ـ من حيث هو مجال التجربة ـ وفك مجاهيل النص المقدس؛ أي يتوغل العقل بلا حدود في مجاهيل الكون والنص، وينتج عدداً لا نهائياً من الصيغ، فهو في حالة ما يشبه البحث الديداكتيكي.

ولعل ما اهتدى إليه العقل من التعلم بالكفايات أو بالمحاولة والخطأ يشير إلى بعض هذا الفهم المعرفي للتجربة التاريخية، وعليه فالتجربة التاريخية لا تكتسب شرعيتها ومعقوليتها ومنطقيتها إلا من المعيارية الدينية كما يدركها ويعيها العقل في الزمان والمكان، وبالتالي فالتجربة التاريخية أو الفعالية الحضارية لا تنفصل عن المعيارية الدينية المشروطة لأمن العقل وخيريته.

الحاج دواق: هل منشأ الدين فعلاً منبثق عن حالة عجز أنطولوجي وخوف تاريخي عند الإنسان؟

العربي فرحاتي: تصر العلوم الإنسانية الحديثة بصفة عامة إصراراًـ على الأقل عند تأسيسها ـ وكذلك العقل الفلسفي المتساوق مع العلمنة الصلبة كما يسميها المسيري، على أنّ الدين هو حالة تأويل إنساني بعد اغترابه عن طبيعته في العقل وتساميه؛ أي عند اكتشاف ما قيل عن عجزه الأنطولوجي بالتعبير الفلسفي، حيث هيمنة الخوف والارتياب من المجهول على تصرفاته وتجاربه، فابتدع ما يُسمى بالطوطم. وقصة هذه الهرطقة معروفة ونتائجها على الواقع والمجتمع والسياسة مستمرة، وتبدو هذه الفرضية أصغر من أن تصمد أمام حقائق الدين من حيث هو كلمة الله المعبود أزلية ثابتة نافذة في التاريخ كقانون سابقة عن الحالة الأنطولوجية للإنسان ومستمرة، إذ لم تستطع الثورية العلمية ولا التراكمية تجاوز حقيقة الدين كظاهرة كونية، فحالة العجز الإبستمولوجي لما سُمي بـ "العقل السيد" هي الآن تدفع باتجاه إعادة قراءة مسلمة العجز الأنطولوجي والخوف التاريخي للإنسان كمنشأ للدين كما تفضلت؛ أي عجز العقل ذاته، فما برز إلى سطح التداول الإبستمولوجي لتقابل أو تقارب ما كان من الطابوهات الإبستمولوجية (الفلسفة، والدين) في صيغة (فلسفة الدين) إن هو إلا أحد تجليات مراجعة مسلمات العقل السيد، وإن هو إلا تركيب يشير إلى عقلنة الدين وإخراجه من الكهنوتية واستكشاف ميتافيزيقيته وعقلانيته، إلا أنه أيضاً قد يقود إلى أدينة العقل الفلسفي واكتشاف حكمته وبصيرته الكليّة بإدراج الغيب في عالم الشهادة.

الحاج دواق: هل تعتقد أنّ اختلافات الأديان جوهرية، أم مردها لتأويلات منسجمة مع السقف التاريخي لكل حضارة، في حين القيم المركزية واحدة فيها جميعاً؟

العربي فرحاتي: الديانات بصيغة الجمع لها ما يعضدها إن في القول وإن في العمل والصيغ، فهو تعبير عن ظاهرة تعددية للدين واقعية لا غبار عليها، ولها في القرآن الكريم بإقراره بحقيقة تعدد الأنبياء والرسل برسالاتهم المتعددة سندها الديني والتجريبي، حيث تحدث عن تواتر الأنبياء عبر الزمن، تحدث عن المسيح وعن موسى وإبراهيم وصحفهما... إلخ، إلا أنّ منطق التوحيد يجعلنا بالضرورة نقرأ حقيقة تعدد الديانات تعدداً لواحد يتجدد، ونقرأها كما لو أنها جميعها "إسلام"، من حيث إنّ كلمة الإسلام في تأويلات الإسلاميين كلمة جامعة لكل الشرائع السماوية وتضمنها القرآن، من حيث هو الدين المتمم لمكارم الأخلاق، ومفهوم لا دين غير الإسلام بالتالي، يعني من هذا المنظور لا دين غير دين الله، فكل الديانات الثابتة التي أنزلها الله تُسمى في المنظومة المعرفية القرآنية بـ "الإسلام"، وهو المعنى المقصود في الآية الكريمة "إنّ الدين عند الله الإسلام ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه، وهو في الآخرة من الخاسرين"، وما تفسير آية "لكم دينكم ولي ديني" بحسب هذا التأويل إلا خطاب موجه للكفار، من حيث إنّ دينهم ليس بدين الحق، بل إنهم من غير دين، ولو ادعوا أنهم على دين، فالأديان الأرضية والكلم المحرف ليس كل ذلك بـ "دين" مهما استمدت طقوسها من الدين.

الحاج دواق: التعددية الدينية، هل مردها لطبيعة الأديان أم لتعدد التأويلات والفهوم؟

العربي فرحاتي: بالنظر إلى مصدر الدين من حيث هو الله الواحد وفي نطاق الرؤية التوحيدية لا يكون الدين إلا واحداً، وما تعدد الأنبياء إلا تعدد فرضته الأزمنة كتجربة للتلقي في الزمان والمكان (محدودية السقف الحضاري)، وتلك هي صورة التعددية الدينية التي رصدها العقل بالملاحظة، ومن الطبيعي أن يقرها كتجربة واقعية تعددت بتعدد المشاهدات والملاحظات، إلا أنّ إدراجها في نطاق الوحي الموحد في مصدره سيعيده كما لو أنه واحد وتعدد في تجربة التدين.

الحاج دواق: هل تتعارض التعددية الدينية مع التعايش؟ وهل الحوار الديني بينها أو بين الأديان ممكن؟

العربي فرحاتي: تأسيساً على المنطق التوحيدي للأديان والرجوع بها جميعها إلى الأصل الواحد، واستحضاراً لتجربة الأنبياء المتعددة في الزمان والمكان، يتبين أنه لا تعارض بين التجربة المتعددة وأصلها الواحد؛ فتجربة الأنبياء لترجمة الدين بوصفها مرجعيات تجريبية عليا كفيلة بتسجير الأطروحات المختلفة للتدين الفكرية والصيغ الحياتية، وبالتالي إنتاج وضعية التعايش بين التجارب ما دامت تعود كلها إلى الأصل الواحد مشدودة إلى غاية كبرى تتعلق بتحقيق العبودية لله وحده.

الحاج دواق: ماذا تقترح لتتكرس ثقافة التعدد الإيجابي؟ وما الأدوات التربوية والثقافية التي ترى مدخليتها في تجنب الصراع والاحتراب بين المختلفين دينياً؟

العربي فرحاتي: لعل صيغة الحوار والتذاوت أو التثاقف هي ما انتبه إليها الفكر الحديث للتعايش وتفادي الصدامات الناتجة عن الدوغمائية، وهي ما أعيد اقتراحها، وإذا كان ما يُسمى بالديمقراطية كصيغة مثلى ابتكرها الإنسان النخبوي للتعايش والمواطنة الوطنية، يبدأ استنباتها في العقول بالتربية، قبل أن تكون شكلاً من أشكال الحكومات والبرلمانات، فإنّ الدين في التجربة النبوية (السنّة) حرّية، مما يدعونا إلى إعادة صياغة التربية كما لو أنها حرّية؛ فالحرّية هي ضمان تعايش تجربة التدين من حيث هي متعددة، إذ بإطلاق حرّية الوعي وفقه الوجود لن تتباعد الأفكار والصيغ. وبالحوار سوف تتأهل العقول للتخلص من أوثانها التي شكلها الاستقراء القابع في منهج النقل، أو الاستنباط القابع فيما يستنبطه العقل السيد، على حد سواء.

الحاج دواق: في الأخير نتقدم بجزيل الشكر لمفكرنا الأستاذ الدكتور العربي فرحاتي على سعة صدره وتحمله لأسئلتنا، فكل رؤاه تندرج ضمن التأسيس للوعي الإنساني المفتوح، وتمكن للتواصل الحضاري المحتفظ بقيمة الأديان وأهميتها في توجيه دفة البشرية في مسيرتها الوجودية والتاريخية.